جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج20 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


83 سورة المطففين - 1 - 21

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطفِّفِينَ (1) الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلى النّاسِ يَستَوْفُونَ (2) وَ إِذَا كالُوهُمْ أَو وّزَنُوهُمْ يخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظنّ أُولَئك أَنهُم مّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النّاس لِرَب الْعَلَمِينَ (6) َكلا إِنّ كِتَب الفُجّارِ لَفِى سِجِّينٍ (7) وَ مَا أَدْرَاك مَا سجِّينٌ (8) كِتَبٌ مّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ مَا يُكَذِّب بِهِ إِلا كلّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلى عَلَيْهِ ءَايَتُنَا قَالَ أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (13) َكلا بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبهِم مّا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) َكلا إِنهُمْ عَن رّبهِمْ يَوْمَئذٍ لمَّحْجُوبُونَ (15) ثمّ إِنهُمْ لَصالُوا الجَْحِيمِ (16) ثمّ يُقَالُ هَذَا الّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) َكلا إِنّ كِتَب الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ (18) وَ مَا أَدْرَاك مَا عِلِّيّونَ (19) كِتَبٌ مّرْقُومٌ (20) يَشهَدُهُ المُْقَرّبُونَ (21)

بيان


تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل و الوزن و تنذرهم بأنهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم و هو يوم القيامة ثم تتخلص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجار و الأبرار.

و الأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون أول السورة المشتمل على وعيد المطففين نازلا بالمدينة و أما ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكية و المدينة.

قوله تعالى: "ويل للمطففين" دعاء على المطففين و التطفيف نقص المكيال و الميزان، و قد نهى الله تعالى عنه و سماه إفسادا في الأرض كما فيما حكاه من قول شعيب: "و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين": هود: 84، و قد تقدم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفسادا في الأرض.

قوله تعالى: "الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" الاكتيال من الناس الأخذ منهم بالكيل، و تعديته بعلى لإفادة معنى الضرر، و الكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه و وزنه و كال له طعامه و وزن له و الأول لغة أهل الحجاز و عليه التنزيل و الثاني لغة غيرهم كما في المجمع، و الاستيفاء أخذ الحق تاما كاملا، و الإخسار الإيقاع في الخسارة.

و المعنى: الذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقهم تاما كاملا، و إذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران.

فمضمون الآيتين جميعا ذم واحد و هو أنهم يراعون الحق لأنفسهم و لا يراعونه لغيرهم و بعبارة أخرى لا يراعون لغيرهم من الحق مثل ما يراعونه لأنفسهم و فيه إفساد الاجتماع الإنساني المبني على تعادل الحقوق المتقابلة و في إفساده كل الفساد.

و لم يذكر الاتزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال: "و إذا كالوهم أو وزنوهم" قيل: لأن المطففين كانوا باعة و هم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب و البقول و نحوهما من الأمتعة ثم يكسبون بها فيبيعونها يسيرا يسيرا تدريجا، و كان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ و يعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبني على الغالب.

و قيل: لم يذكر الاتزان لأن الكيل و الوزن بهما البيع و الشراء فذكر أحدهما يدل على الآخر.

و فيه أن ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضا و قد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكم.

و قيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط و يبيعون بالكيل و الوزن جميعا، و هذا الوجه دعوى من غير دليل.

إلى غير ذلك مما ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، و لا يخلو شيء منها من ضعف.

قوله تعالى: "أ لا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم" الاستفهام للإنكار و التعجيب، و الظن بمعناه المعروف و الإشارة إلى المطففين بأولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، و اليوم العظيم يوم القيامة الذي يجازون فيه بعملهم.

و الاكتفاء بظن البعث و حسبانه - مع أن من الواجب الاعتقاد العلمي بالمعاد - لأن مجرد حسبان الخطر و الضرر في عمل يوجب التجنب عنه و التحرز عن اقترافه و إن لم يكن هناك علم فالظن بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الذي يستتبع العذاب الأليم.

و قيل: الظن في الآية بمعنى العلم.

قوله تعالى: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" المراد به قيامهم من قبورهم - كناية عن تلبسهم بالحياة بعد الممات - لحكمه تعالى و قضائه بينهم.

قوله تعالى: "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين و ما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين" ردع - كما قيل - عما كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث و الحساب.

و قوله: "إن كتاب الفجار لفي سجين" إلخ الذي يعطيه التدبر في سياق الآيات الأربع بقياس بعضها إلى بعض و قياس المجموع إلى مجموع قوله: "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين" إلى تمام أربع آيات أن المراد بسجين ما يقابل عليين و معناه علو على علو مضاعف ففيه شيء من معنى السفل و الانحباس فيه كما يشير إليه قوله: "ثم رددناه أسفل سافلين": التين: 5 فالأقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكير و شريب من السكر و الشرب فمعناه الذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.

و الكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم و المراد بكتاب الفجار ما قدره الله لهم من الجزاء و أثبته بقضائه المحتوم.

فمحصل الآية أن الذي أثبته الله من جزائهم أو عده لهم لفي سجين الذي هو سجن يحبس من دخله حبسا طويلا أو خالدا.

و قوله: "و ما أدراك ما سجين" مسوق للتهويل.

و قوله: "كتاب مرقوم" خبر لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى سجين و الجملة بيان لسجين و "كتاب" أيضا بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء و الإثبات، و "مرقوم" من الرقم، قال الراغب: الرقم الخط الغليظ، و قيل: هو تعجيم الكتاب، و قوله تعالى: "كتاب مرقوم" حمل على الوجهين.

انتهي.

و المعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبينا لا إبهام فيه أي إن القضاء حتم لا يتخلف.

و المحصل أن سجين مقضي عليهم مثبت لهم متبين متميز لا إبهام فيه.

و لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفا للكتاب على هذا المعنى لأن ذلك من ظرفية الكل للجزء و هي مما لا ضير فيه فيكون سجين كتابا جامعا فيه ما قضي على الفجار و غيرهم من مستحقي العذاب.

و قوله: "ويل يومئذ للمكذبين" نعي و دعاء على الفجار و فيه تفسيرهم بالمكذبين، و "يومئذ" ظرف لقوله: "إن كتاب الفجار لفي سجين" بحسب المعنى أي ليهلك الفجار - و هم المكذبون - يومئذ تحقق ما كتب الله لهم و قضى عليهم من الجزاء و حل بهم ما أعد لهم من العذاب.

هذا ما يفيده التدبر في هذه الآيات الأربع، و هي ذات سياق واحد متصل متلائم الأجزاء.

و للقوم في تفسير مفردات الآيات الأربع و جملها أقوال متفرقة كقولهم: إن الكتاب في قوله: "إن كتاب الفجار" بمعنى المكتوب و المراد به صحيفة أعمالهم، و قيل: مصدر بمعنى الكتابة و في الكلام مضاف محذوف و التقدير كتابة عمل الفجار لفي سجين.

و قولهم: إن الفجار أعم من المكذبين فيشمل الكفار و الفسقة جميعا.

و قولهم: إن المراد بسجين الأرض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجار و قيل: واد في جهنم، و قيل: جب فيها، و قيل: سجين اسم لكتابهم، و قيل: سجين الأول اسم الموضع الذي يوضع فيه كتابهم و الثاني اسم كتابهم، و قيل: هو اسم كتاب جامع هو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين، و قيل: المراد به الخسار و الهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، و قيل: هو السجيل بدل لامه نونا كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك مما قيل.



و قولهم: إن قوله: "كتاب مرقوم" ليس بيانا و تفسيرا لسجين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله: "إن كتاب الفجار".

و قولهم: إن قوله: "ويل يومئذ للمكذبين" متصل بقوله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" و الآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض.

و أنت إن تأملت هذه الأقاويل وجدت كثيرا منها تحكما محضا لا دليل عليه.

على أنها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتصل الذي يحاذي به ما في الآيات الأربع الآتية في صفة كتاب الأبرار من السياق الواحد المتصل فلا نطيل الكلام بالتعرض لواحد واحد منها و المناقشة فيها.

قوله تعالى: "الذين يكذبون بيوم الدين" تفسير للمكذبين و ظاهر الآية - و يؤيده الآيات التالية - أن المراد بالتكذيب هو التكذيب القولي الصريح فيختص الذم بالكفار و لا يشمل الفسقة من أهل الإيمان فلا يشمل مطلق المطففين بل الكفار منهم.

اللهم إلا أن يراد بالتكذيب ما يعم التكذيب العملي كما ربما أيده قوله السابق: "أ لا يظن أولئك أنهم مبعوثون" فيشمل الفجار من المؤمنين كالكفار.

قوله تعالى: "و ما يكذب به إلا كل معتد أثيم" المعتدي اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز و المراد به المتجاوز عن حدود العبودية، و الأثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الأهواء.

و من المعلوم أن المانع الوحيد الذي يردع عن المعصية هو الإيمان بالبعث و الجزاء، و المنهمك في الأهواء المتعلق قلبه بالاعتداء و الآثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها و التزهد عن المعاصي و ينتهي إلى تكذيب البعث و الجزاء قال تعالى: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون": الروم: 10.

قوله تعالى: "إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين" المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله "تتلى" و الأساطير ما سطروه و كتبوه و المراد بها أباطيل الأمم الماضين و المعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن مما يحذرهم المعصية و ينذرهم بالبعث و الجزاء قال: هي أباطيل.

قوله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" ردع عما قاله المكذبون: "أساطير الأولين" قال الراغب: الرين صدا يعلو الشيء الجليل قال تعالى: "بل ران على قلوبهم" أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، انتهى.

فكون ما كانوا يكسبون و هو الذنوب رينا على قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحق على ما هو عليه.

و يظهر من الآية: أولا: أن للأعمال السيئة نقوشا و صورا في النفس تنتقش و تتصور بها.

و ثانيا: أن هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو و تحول بينها و بينه.

و ثالثا: أن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء و جلاء تدرك به الحق كما هو و تميز بينه و بين الباطل و تفرق بين التقوى و الفجور قال تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8.

قوله تعالى: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب و إدراك الحق، و المراد بكونهم محجوبين عن ربهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب و المنزلة و لعله مراد من قال: إن المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربهم.

و أما ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الأسباب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه و المعرفة التامة به تعالى فهو حاصل لكل أحد قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": المؤمن: 16 و قال: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين": النور: 25.

قوله تعالى: "ثم إنهم لصالوا الجحيم" أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرها على ما فسره بعضهم و "ثم" في الآية و ما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: "ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون" هو توبيخ و تقريع و القائل خزنة النار أو أهل الجنة.

قوله تعالى: "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم" ردع في معنى الردع الذي في قوله: "كلا إن كتاب الفجار" و عليون - كما تقدم - علو على علو مضاعف، و ينطبق على الدرجات العالية و منازل القرب من الله تعالى كما أن السجين بخلافه.

و الكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدمة التي تحاذيها من قوله: "إن كتاب الفجار لفي سجين و ما أدراك ما سجين كتاب مرقوم".

فالمعنى أن الذي كتب للأبرار و قضي جزاء لبرهم لفي عليين و ما أدراك ما عليون هو أمر مكتوب و مقضي قضاء حتما لازما متبين لا إبهام فيه.

و للقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أن من أقوالهم في عليين أنه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، و قيل سدرة المنتهى التي إليها تنتهي الأعمال، و قيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلق مكتوب فيه أعمالهم، و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، و الكلام فيها كالكلام فيما تقدم من أقوالهم.

قوله تعالى: "يشهده المقربون" الأنسب لما تقدم من معنى الآيات السابقة أن يكون "يشهده" من الشهود بمعنى المعاينة و المقربون قوم من أهل الجنة هم أعلى درجة من عامة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله: "عينا يشرب بها المقربون" فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إياه لهم و قد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم": التكاثر: 6 و منه يظهر أن المقربين هم أهل اليقين.

و قيل: الشهادة هي الحضور و المقربون الملائكة، و المراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.

و قيل: المقربون هم الأبرار و الملائكة جميعا.

و القولان مبنيان على أن المراد بالكتاب صحيفة الأعمال و قد تقدم ضعفه.

بحث روائي


في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت يعني سورة المطففين على نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قدم المدينة و هم يومئذ أسوأ الناس كيلا فأحسنوا الكيل.

و في أصول الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله عز و جل خلقنا من أعلى عليين و خلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا ثم تلا هذه الآية "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين - و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون". و خلق قلوب عدونا من سجين و خلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه و أبدانهم من دون ذلك، قلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين - و ما أدراك ما سجين كتاب مرقوم - ويل يومئذ للمكذبين".

أقول: و روي مثله في أصول الكافي، بطريق آخر عن الثمالي عنه (عليه السلام)، و رواه في علل الشرائع، بإسناد فيه رفع عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله، و الأحاديث - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في معنى الآيات.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين" قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجين.



و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السجين الأرض السابعة و عليون السماء السابعة.

أقول: الرواية لو صحت مبنية على انتساب الجنة و النار إلى جهتي العلو و السفل بنوع من العناية و لذلك نظائر في الروايات كعد القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و عد وادي برهوت مكانا لجهنم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال: التقى سلمان و عبد الله بن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي فالقني فأخبرني بما صنع ربك بك و إن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبد الله: كيف يكون هذا؟ قال: نعم إن أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت و نفس الكافر في سجين و الله أعلم.

و في أصول الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبد إلا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول الله عز و جل: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون":. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تذاكروا و تلاقوا و تحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب إن القلوب لترين كما يرين السيف و جلاؤه الحديث.

و عن روضة الواعظين، قال الباقر (عليه السلام): ما شيء أفسد للقلب من الخطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون".

83 سورة المطففين - 22 - 36

إِنّالأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ (22) عَلى الأَرَائكِ يَنظرُونَ (23) تَعْرِف فى وُجُوهِهِمْ نَضرَةَ النّعِيمِ (24) يُسقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ (25) خِتَمُهُ مِسكٌ وَ فى ذَلِك فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَفِسونَ (26) وَ مِزَاجُهُ مِن تَسنِيمٍ (27) عَيْناً يَشرَب بهَا الْمُقَرّبُونَ (28) إِنّ الّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ (29) وَ إِذَا مَرّوا بهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَ إِذَا انقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنّ هَؤُلاءِ لَضالّونَ (32) وَ مَا أُرْسِلُوا عَلَيهِمْ حَفِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفّارِ يَضحَكُونَ (34) عَلى الأَرَائكِ يَنظرُونَ (35) هَلْ ثُوِّب الْكُفّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

بيان


بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنة، و أنهم على كونهم يستهزىء بهم الكفار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.

قوله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم" النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى أن الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.

قوله تعالى: "على الأرائك ينظرون" الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير في الجملة و هي البيت المزين للعروس و إطلاق قوله: "ينظرون" من غير تقييد يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفار و ليس بذاك.

قوله تعالى: "تعرف في وجوههم نضرة النعيم" النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار أن له أن ينظر فيعرف فالحكم عام و المعنى كل من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه.

قوله تعالى: "يسقون من رحيق مختوم" الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغش، و يناسبه وصفه بأنه مختوم فإنه إنما يختم على الشيء النفيس الخالص ليسلم من الغش و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.

قوله تعالى: "ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون" قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إن الذي يختم به مسك بدلا من الطين و نحوه الذي يختم به في الدنيا، و قيل: أي آخر طعمه الذي يجده شاربه رائحة المسك.

و قوله: "و في ذلك فليتنافس المتنافسون" التنافس التغالب على الشيء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة": الحديد: 21، و قال: "فاستبقوا الخيرات": المائدة: 48، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.

و استشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ و أجيب بأن الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدم الظرف ليكون عوضا عن الشرط و التقدير و إن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.

و يمكن أن يقال: إن قوله: "و في ذلك" معطوف على ظرف آخر محذوف متعلق بقوله: "فليتنافس" يدل عليه المقام فإن الكلام في وصف نعيم الجنة فيفيد قوله: "و في ذلك" ترغيبا مؤكدا بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة و في الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصة، و لا تكن عيابا و للعلماء خاصة.

قوله تعالى: "و مزاجه من تسنيم" المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسره الآية التالية عين في الجنة سماه الله تسنيما و في لفظه معنى الرفع و الملء يقال: سنمه أي رفعه و منه سنام الإبل، و يقال: سنم الإناء أي ملأه.

قوله تعالى: "عينا يشرب بها المقربون" يقال: شربه و شرب به بمعنى و "عينا" منصوب على المدح أو الاختصاص و "يشرب بها المقربون" وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.

و مفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله: "و مزاجه من تسنيم" أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها، و ثانيا أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين يصفهم الآيات.

قوله تعالى: "إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون" يعطي السياق أن المراد بالذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنما عبر عنهم بالذين آمنوا لأن سبب ضحك الكفار منهم و استهزائهم بهم إنما هو إيمانهم كما أن التعبير عن الكفار بالذين أجرموا للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين.

قوله تعالى: "و إذا مروا بهم يتغامزون" عطف على قوله: "يضحكون" أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا يغمز بعضهم بعضا و يشيرون بأعينهم استهزاء بهم.

قوله تعالى: "و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين" الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الإنس و المعنى انقلبوا و هم يحدثون بما فعلوا تفكها.

قوله تعالى: "و إذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون" على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.

قوله تعالى: "و ما أرسلوا عليهم حافظين" أي و ما أرسل هؤلاء الذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقهم بما شاءوا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكم بالمستهزئين.

قوله تعالى: "فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون" المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الذين أجرموا بالكفار رجوع إلى حقيقة صفتهم.

قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني "من الكفار" على "يضحكون "لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.

قوله تعالى: "على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون" الثواب في الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله "على الأرائك" خبر بعد خبر للذين آمنوا و "ينظرون" خبر آخر، و قوله: "هل ثوب" إلخ متعلق بقوله: "ينظرون "قائم مقام المفعول.

و المعنى: الذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الأجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مروا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إن هؤلاء لضالون.

بحث روائي


في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و في ذلك فليتنافس المتنافسون" قال: فيما ذكرناه من الثواب الذي يطلبه المؤمن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و إذا مروا بهم يتغامزون" قيل نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل علي و أصحابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عن مقاتل و الكلبي.

أقول: و قد أورده في الكشاف،. و فيه ذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "إن الذين أجرموا" منافقو قريش و "الذين آمنوا" علي بن أبي طالب و أصحابه.

و في تفسير القمي،: "أن الذين أجرموا إلى قوله فكهين" قال: يسخرون.

84 سورة الانشقاق - 1 - 25

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إِذَا السمَاءُ انشقّت (1) وَ أَذِنَت لِرَبهَا وَ حُقّت (2) وَ إِذَا الأَرْض مُدّت (3) وَ أَلْقَت مَا فِيهَا وَ تخَلّت (4) وَ أَذِنَت لِرَبهَا وَ حُقّت (5) يَأَيّهَا الانسنُ إِنّك كادِحٌ إِلى رَبِّك كَدْحاً فَمُلَقِيهِ (6) فَأَمّا مَنْ أُوتىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسوْف يحَاسب حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنقَلِب إِلى أَهْلِهِ مَسرُوراً (9) وَ أَمّا مَنْ أُوتىَ كِتَبَهُ وَرَاءَ ظهْرِهِ (10) فَسوْف يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصلى سعِيراً (12) إِنّهُ كانَ فى أَهْلِهِ مَسرُوراً (13) إِنّهُ ظنّ أَن لّن يحُورَ (14) بَلى إِنّ رَبّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشفَقِ (16) وَ الّيْلِ وَ مَا وَسقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتّسقَ (18) لَترْكَبنّ طبَقاً عَن طبَقٍ (19) فَمَا لهَُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذَا قُرِئَ عَلَيهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسجُدُونَ (21) بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُمْ أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ (25)

بيان


تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أن للإنسان سيرا إلى ربه حتى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير.

و سياق آياتها سياق مكي.

قوله تعالى: "إذا السماء انشقت" شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" و التقدير: لاقى الإنسان ربه فحاسبه و جازاه على ما عمل.

و انشقاق السماء و هو تصدعه و انفراجه من أشراط الساعة كمد الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.

قوله تعالى: "و أذنت لربها و حقت" الإذن الاستماع و منه الأذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و "حقت" أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.

قوله تعالى: "و إذا الأرض مدت" الظاهر أن المراد به اتساع الأرض، و قد قال تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض": إبراهيم: 48.

قوله تعالى: "و ألقت ما فيها و تخلت" أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلو مما فيها منهم.

و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى: "و أخرجت الأرض أثقالها": الزلزال: 2 و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلت مما على ظهرها من الجبال و البحار، و لعل أول الوجوه أقربها.

قوله تعالى: "و أذنت لربها و حقت" ضمائر التأنيث للأرض كما أنها في نظيرتها المتقدمة للسماء، و قد تقدم معنى الآية.

قوله تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" قال الراغب،: الكدح السعي و العناء.

انتهى.

ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى.

و على هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال.

و قوله: "فملاقيه" عطف على "كادح" و قد بين به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الإنسان بما أنه عبد مربوب و مملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه و مالكه المدبر لأمره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملا فعليه أن يريد و لا يعمل إلا ما أراده ربه و مولاه و أمره به فهو مسئول عن إرادته و عمله.

و من هنا يظهر أولا أن قوله: "إنك كادح إلى ربك" يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية و لا تتم العبودية إلا مع مسئولية و لا تتم مسئولية إلا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتم حساب إلا بجزاء.

و ثانيا: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب.

و ثالثا: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان.

قوله تعالى: "فأما من أوتي كتابه بيمينه" تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله: "إنك كادح إلى ربك" أن هناك رجوعا و سؤالا عن الأعمال و حسابا، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقة.

قوله تعالى: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.

قوله تعالى: "و ينقلب إلى أهله مسرورا" المراد بالأهل من أعده الله له في الجنة من الحور و الغلمان و غيرهم و هذا هو الذي يفيده السياق، و قيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممن يدخل الجنة، و قيل المراد فريق المؤمنين و إن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة.

و الوجهان لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: "و أما من أوتي كتابه وراء ظهره" الظرف منصوب بنزع الخافض و التقدير من وراء ظهره، و لعلهم إنما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى: "من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها": النساء: 47.

و لا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم و بين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى: "و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه": الحاقة: 25 و سيأتي في البحث الروائي التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم.

قوله تعالى: "فسوف يدعوا ثبورا" الثبور كالويل الهلاك و دعاؤهم الثبور قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: "و يصلى سعيرا" أي يدخل نارا مؤججة لا يوصف عذابها، أو يقاسي حرها.

قوله تعالى: "إنه كان في أهله مسرورا" يسره ما يناله من متاع الدنيا و تنجذب نفسه إلى زينتها و ينسيه ذلك أمر الآخرة و قد ذم تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا و سماه فرحا بغير حق قال تعالى بعد ذكر النار و عذابها: "ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون": المؤمن: 75.

قوله تعالى: "إنه ظن أن لن يحور" أي لن يرجع و المراد الرجوع إلى ربه للحساب و الجزاء، و لا سبب يوجبه عليهم إلا التوغل في الذنوب و الآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث.

قوله تعالى: "بلى إن ربه كان به بصيرا" رد لظنه أي ليس الأمر كما ظنه بل يحور و يرجع، و قوله: "إن ربه كان به بصيرا" تعليل للرد المذكور فإن الله سبحانه كان ربه المالك له المدبر لأمره و كان يحيط به علما و يرى ما كان من أعماله و قد كلفه بما كلف و لأعماله جزاء خيرا أو شرا فلا بد أن يرجع إليه و يجزي بما يستحقه بعمله.

و بذلك يظهر أن قوله: "إن ربه كان به بصيرا" من إعطاء الحجة على وجوب المعاد نظير ما تقدم في قوله: "إنك كادح إلى ربك" الآية.

و يظهر أيضا من مجموع هذه الآيات التسع أن إيتاء الكتب و نشر الصحف قبل الحساب كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا": إسراء: 14.

ثم الآيات كما ترى تخص إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثم يخرج منها بالشفاعة على ما في الأخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفار و لا بيمينهم لظهور الآيات في أن أصحاب اليمين يحاسبون حسابا يسيرا و يدخلون الجنة، و لا سبيل إلى القول بأنهم لا يؤتون كتابا لمكان قوله تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" الآية المفيد للعموم.

و قد تخلص بعضهم عن الإشكال بأنهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار.

و فيه أن ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أن دخول النار أو الجنة فرع مترتب على القضاء المترتب على الحساب المترتب على إيتاء الكتب و نشر الصحف فلا معنى لإيتاء الكتاب بعد الخروج من النار.

و احتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم و يكون الإيتاء من وراء الظهر مخصوصا بالكفار كما تفيده الآيات.



و فيه أن الآيات التي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - و هي التي في سورة الواقعة و الحاقة و في معناها ما في سورة الإسراء أيضا - تخص إيتاء الكتاب بالشمال بالكفار و يظهر من مجموع الآيات أن الذين يؤتون كتابهم بشمالهم هم الذين يؤتونه من وراء ظهورهم.

و قال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم و يكون قوله: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" من قبيل وصف الكل بصفة بعض أجزائه.

و فيه أن المقام لا يساعد على هذا التجوز فإن المقام مقام تمييز السعداء من الأشقياء و تشخيص كل بجزائه الخاص به فلا مجوز لإدغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنة.

على أن قوله: "فسوف يحاسب" إلخ وعد جميل إلهي و لا معنى لشموله لغير مستحقيه و لو بظاهر من القول.

نعم يمكن أن يقال: إن اليسر و العسر معنيان إضافيان و حساب العصاة من أهل الإيمان يسير بالإضافة إلى حساب الكفار المخلدين في النار و لو كان عسيرا بالإضافة إلى حساب المتقين.

و يمكن أيضا أن يقال إن قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال غير حاصرة كما يدل عليه قوله تعالى: "و كنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة و السابقون السابقون أولئك المقربون": الواقعة: 11 فمدلول الآيات خروج المقربين من الفريقين، و مثلهم المستضعفون كما ربما يستفاد من قوله تعالى: "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم": التوبة: 106.

فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال تقسيما حاصرا لجميعهم بل تخصيصا لأهل الجنة من المتقين و أهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين و بالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان و التقوى و نظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثم بيان حال المتقين و المكذبين فحسب و ليس ينحصر الناس في القبيلين، و نظيره ما في سورة النبإ و النازعات و عبس و الانفطار، و المطففين و غيرها فالغرض فيها ذكر أنموذج من أهل الإيمان و الطاعة و أهل الكفر و التكذيب و السكوت عمن سواهم ليتذكر أن السعادة في جانب التقوى و الشقاء في جانب التمرد و الطغوى.

قوله تعالى: "فلا أقسم بالشفق" الشفق الحمرة ثم الصفرة ثم البياض التي تحدث بالمغرب أول الليل.

قوله تعالى: "و الليل و ما وسق" أي ضم و جمع ما تفرق و انتشر في النهار من الإنسان و الحيوان فإنها تتفرق و تنتشر بالطبع في النهار و ترجع إلى مأواها في الليل فتسكن.

و فسر بعضهم "وسق" بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور.

قوله تعالى: "و القمر إذا اتسق" أي اجتمع و انضم بعض نوره إلى بعض فاكتمل نوره و تبدر.

قوله تعالى: "لتركبن طبقا عن طبق" جواب القسم و الخطاب للناس و الطبق هو الشيء أو الحال الذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا و المراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الآخرة ثم الحساب و الجزاء.

و في هذا الإقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله: "يا أيها الإنسان إنك كادح" الآية و ما بعده من نبإ البعث و توطئة و تمهيد لما في قوله: "فما لهم لا يؤمنون" من التعجيب و التوبيخ و ما في قوله: "فبشرهم بعذاب" إلخ من الإنذار و التبشير.

و في الآية إشارة إلى أن المراحل التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه مترتبة متطابقة.

قوله تعالى: "فما لهم لا يؤمنون و إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون" الاستفهام للتعجيب و التوبيخ و لذا ناسب الالتفات الذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنه لما رأى أنهم لا يتذكرون بتذكيره و لا يتعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخاطبه بقوله: "فما لهم لا يؤمنون" إلخ.

قوله تعالى: "بل الذين كفروا يكذبون و الله أعلم بما يوعون" "يكذبون" يفيد الاستمرار، و التعبير عنهم بالذين كفروا للدلالة على علة التكذيب، و الإيعاء كما قيل جعل الشيء في وعاء.

و المعنى: أنهم لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم اتبعوا أسلافهم و رؤساءهم فرسخوا في الكفر و استمروا على التكذيب و الله يعلم بما جمعوا في صدورهم و أضمروا في قلوبهم من الكفر و الشرك.

و قيل: المراد بقوله: "و الله أعلم بما يوعون" أن لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة و لا يعلمها إلا الله، و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: "فبشرهم بعذاب أليم" التعبير عن الإخبار بالعذاب بالتبشير مبني على التهكم، و الجملة متفرعة على التكذيب.

قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون" استثناء منقطع من ضمير "فبشرهم" و المراد بكون أجرهم غير ممنون خلوه من قول يثقل على المأجور.

بحث روائي


في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إذا السماء انشقت" قال: يوم القيامة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال تنشق السماء من المجرة.

و في تفسير القمي،: في قوله: "و إذا الأرض مدت و ألقت ما فيها و تخلت" قال: تمد الأرض فتنشق فيخرج الناس منها.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه.

و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث قال و الناس يومئذ على صفات و منازل فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا و ينقلب إلى أهله مسرورا، و منهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يلبثوا من أمر الدنيا بشيء و إنما الحساب هناك على من يلبس بها هاهنا، و منهم من يحاسب على النقير و القطمير و يصير إلى عذاب السعير.

و في المعاني، بإسناده عن ابن سنان عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل محاسب معذب فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عز و جل: "فسوف يحاسب حسابا يسيرا" قال: ذلك العرض يعني التصفح.

أقول: و روي في الدر المنثور، عن البخاري و مسلم و الترمذي و غيرهم عن عائشة: مثله.

و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: "فأما من أوتي كتابه بيمينه" فهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسود بن هلال المخزومي و هو من بني مخزوم، "و أما من أوتي كتابه وراء ظهره" فهو أخوه الأسود بن عبد الأسود المخزومي فقتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "لتركبن طبقا عن طبق" و قيل: معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء: و روي ذلك مرفوعا.

و عن جوامع الجامع، في الآية عن أبي عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين و أحوالهم: و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

85 سورة البروج - 1 - 22

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ السمَاءِ ذَاتِ الْبرُوج (1) وَ الْيَوْمِ المَْوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشهُودٍ (3) قُتِلَ أَصحَب الأُخْدُودِ (4) النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيهَا قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شهُودٌ (7) وَ مَا نَقَمُوا مِنهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَْمِيدِ (8) الّذِى لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيدٌ (9) إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا المُْؤْمِنِينَ وَ المُْؤْمِنَتِ ثمّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَاب جَهَنّمَ وَ لهَُمْ عَذَاب الحَْرِيقِ (10) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُمْ جَنّتٌ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ ذَلِك الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنّ بَطش رَبِّك لَشدِيدٌ (12) إِنّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ المَْجِيدُ (15) فَعّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاك حَدِيث الجُْنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فى تَكْذِيبٍ (19) وَ اللّهُ مِن وَرَائهِم محِيط (20) بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مجِيدٌ (21) فى لَوْحٍ محْفُوظِ (22)

بيان


سورة إنذار و تبشير فيها وعيد شديد للذين يفتنون المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكة يفعلون ذلك بالذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعذبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر و لا يرجع بلغ الأمر ما بلغ، و منهم من رجع و ارتد و هم ضعفاء الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: "و من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله": العنكبوت: 10، و قوله: "و من الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته فتنة انقلب على وجهه": الحج: 11.

و قد قدم سبحانه على ذلك الإشارة إلى قصة أصحاب الأخدود، و فيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، و أتبعها بالإشارة إلى حديث الجنود فرعون و ثمود و فيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوعد النصر و تهديد للمشركين.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "و السماء ذات البروج" البروج جمع برج و هو الأمر الظاهر و يغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين و يسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجا و هو المراد في الآية لقوله تعالى: "و لقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين و حفظناها من كل شيطان رجيم": الحجر: 17، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء.

و بذلك يظهر أن تفسير البروج بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد و في الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، و لا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصة ثم الوعيد و الوعد و سنشير إليه.

قوله تعالى: "و اليوم الموعود" عطف على السماء و إقسام باليوم الموعود و هو يوم القيامة الذي وعد الله القضاء فيه بين عباده.

قوله تعالى: "و شاهد و مشهود" معطوفان على السماء و الجميع قسم بعد قسم على ما أريد بيانه في السورة و هو - كما تقدمت الإشارة إليه - الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين و المؤمنات لإيمانهم و الوعد الجميل لمن آمن و عمل صالحا.

فكأنه قيل: أقسم بالسماء ذات البروج التي يدفع الله بها عنها الشياطين أن الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين و أوليائهم من الكافرين، و أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيه الناس بأعمالهم، و أقسم بشاهد يشهد و يعاين أعمال أولئك الكفار و ما يفعلونه بالمؤمنين لإيمانهم بالله و أقسم بمشهود سيشهده الكل و يعاينونه إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات، إلى آخر الآيتين.

و من هنا يظهر أن الشهادة في "شاهد" و "مشهود" بمعنى واحد و هو المعاينة بالحضور، على أنها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حق التعبير "و مشهود عليه" لأنها بهذا المعنى إنما تتعدى بعلى.



و على هذا يقبل "شاهد" الانطباق على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لشهادته أعمال أمته ثم يشهد عليها يوم القيامة، و يقبل "مشهود" الانطباق على تعذيب الكفار لهؤلاء المؤمنين و ما فعلوا بهم من الفتنة و إن شئت فقل: على جزائه و إن شئت فقل على ما يقع يوم القيامة من العقاب و الثواب لهؤلاء الظالمين و المظلومين، و تنكير "مشهود" و "و شاهد" على أي حال للتفخيم.

و لهم في تفسير شاهد و مشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إن الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، و القول بأن الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة، و القول بأن الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم القيامة، و القول بأن الشاهد الملك يشهد على بني آدم و المشهود يوم القيامة، و القول بأن الشاهد الذين يشهدون على الناس و المشهود الذين يشهد عليهم.

و القول بأن الشاهد هذه الأمة و المشهود سائر الأمم، و القول بأن الشاهد أعضاء بني آدم و المشهود أنفسهم و القول بأن الشاهد الحجر الأسود و المشهود الحاج و القول بأن الشاهد الأيام و الليالي و المشهود بنو آدم، و القول بأن الشاهد الأنبياء و المشهود محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و القول بأن الشاهد هو الله و المشهود لا إله إلا الله.

و القول بأن الشاهد الخلق و المشهود الحق، و القول بأن الشاهد هو الله و المشهود يوم القيامة، و القول بأن الشاهد آدم و ذريته و المشهود يوم القيامة، و القول بأن الشاهد يوم التروية و المشهود يوم عرفة، و القول بأنها يوم الإثنين و يوم الجمعة، و القول بأن الشاهد: المقربون و المشهود عليون، و القول بأن الشاهد هو الطفل الذي قال لأمه في قصة الأخدود: اصبري فإنك على الحق و المشهود الواقعة، و القول بأن الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الأعمال و المشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم.

و أكثر هذه الأقوال - كما ترى - مبني على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمل من الشهادة و بعضها على تفريق بين الشاهد و المشهود في معنى الشهادة و قد عرفت ضعفه، و أن الأنسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة و إن استلزم الشهادة بمعنى الأداء يوم القيامة، و أن الشاهد يقبل الانطباق على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

كيف لا؟ و قد سماه الله تعالى شاهدا إذ قال: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا": الأحزاب: 45، و سماه شهيدا إذ قال: "ليكون الرسول شهيدا عليكم": الحج - 78، و قد عرفت معنى شهادة الأعمال من شهدائها فيما مر.

ثم إن جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: "إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات" إلى تمام آيتين، و يشعر به أيضا قوله: "قتل أصحاب الأخدود" إلخ و هو وعيد الفاتنين و وعد المؤمنين الصالحين و أن الله يوفقهم على الصبر و يؤيدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين أن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصة الأخدود.

قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود" إشارة إلى قصة الأخدود لتكون توطئة و تمهيدا لما سيجيء من قوله: "إن الذين فتنوا" إلخ و ليس جوابا للقسم البتة.

و الأخدود الشق العظيم في الأرض، و أصحاب الأخدود هم الجبابرة الذين خدوا أخدودا و أضرموا فيها النار و أمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم نقما منهم لإيمانهم فقوله: "قتل" إلخ دعاء عليهم و المراد بالقتل اللعن و الطرد.

و قيل: المراد بأصحاب الأخدود المؤمنون و المؤمنات الذين أحرقوا فيه، و قوله: "قتل" إخبار عن قتلهم بالإحراق و ليس من الدعاء في شيء.



و يضعفه ظهور رجوع الضمائر في قوله: "إذ هم عليها" و "هم على ما يفعلون" و "ما نقموا" إلى أصحاب الأخدود، و المراد بها و خاصة بالثاني و الثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذبين.

قوله تعالى: "النار ذات الوقود" بدل من الأخدود، و الوقود ما يشعل به النار من حطب و غيره، و في توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار و شدة اشتعالها و أجيجها.

قوله تعالى: "إذ هم عليها قعود" أي في حال أولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.

قوله تعالى: "و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود" أي حضور ينظرون و يشاهدون إحراقهم و احتراقهم.

قوله تعالى: "و ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله" النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.

قوله تعالى: "العزيز الحميد الذي له ملك السموات و الأرض و الله على كل شيء شهيد" أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجة على أن أولئك المؤمنين كانوا على الحق في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله و سيجزيهم خير الجزاء، و على أن أولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا و سيذوقون وبال أمرهم و ذلك أنه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الإطلاق و الجميل في فعله على الإطلاق فله وحده كل الجلال و الجمال فمن الواجب أن يخضع له و أن لا يتعرض لجانبه، و إذ كان له ملك السماوات و الأرض فهو المليك على الإطلاق له الأمر و له الحكم فهو رب العالمين فمن الواجب أن يتخذ إلها معبودا و لا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحق و الكافرون في ضلال.

ثم إن الله - و هو الموجد لكل شيء - على كل شيء شهيد لا يخفى عليه شيء من خلقه و لا عمل من أعمال خلقه و لا يحتجب عنه إحسان محسن و لا إساءة مسيء فسيجزي كلا بما عمل.

و بالجملة إذ كان تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به و لم يكن لأولئك الجبابرة أن يتعرضوا لحالهم و لا أن يمسوهم بسوء.

و قال بعض المفسرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: إن القوم إن كانوا مشركين فالذي كانوا ينقمونه من المؤمنين و ينكرونه عليهم لم يكن هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، و إن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحق الموصوف بصفات الجلال و الإكرام عبر بما عبر بإجراء الصفات عليه تعالى.

و فيه غفلة عن أن المشركين و هم الوثنية ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلا الصنع و الإيجاد.

و أما الربوبية التي تستتبع التدبير و الألوهية التي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم و آلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة لا غير.

قوله تعالى: "إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق" الفتنة المحنة و التعذيب، و الذين فتنوا "إلخ" عام يشمل أصحاب الأخدود و مشركي قريش الذين كانوا يفتنون من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين و المؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.



قال في المجمع،: يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم و عذاب الحريق و هما واحد؟ أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق مثل الزقوم و الغسلين و المقامع و لهم مع ذلك الإحراق بالنار انتهى.

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" وعد جميل للمؤمنين يطيب به نفوسهم كما أن ما قبله وعيد شديد للكفار الفاتنين المعذبين.

قوله تعالى: "إن بطش ربك لشديد" الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق و تأكيد لما تقدم من الوعيد و الوعد، و البطش - كما ذكره الراغب - تناول الشيء بصولة.

و في إضافة البطش إلى الرب و إضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتأييد و النصر، و إشارة إلى أن لجبابرة أمته نصيبا من الوعيد المتقدم.

قوله تعالى: "إنه هو يبدىء و يعيد" المقابلة بين المبدىء و المعيد يعطي أن المراد بالإبداء البدء، و الافتتاح بالشيء، قالوا: و لم يسمع من العرب الإبداء لكن القراءة ذلك و في بعض القراءات الشاذة يبدأ بفتح الياء و الدال.

و على أي حال فالآية تعليل لشدة بطشه تعالى و ذلك أنه تعالى مبدىء يوجد ما يريده من شيء إيجادا ابتدائيا من غير أن يستمد على ذلك من شيء غير نفسه، و هو تعالى يعيد كل ما كان إلى ما كان و كل حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد و لا يفوته فائت زائل و إذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدي حده، من العذاب ما هو فوق حده و وراء طاقته و يحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى: "و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها": فاطر: 36.

و هو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الأولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى: "إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب": النساء: 56.

و بهذا البيان يتضح: أولا: أن سياق قوله: "إنه هو" إلخ يفيد القصر أي إن إبداع الوجود و إعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى وحده.

و ثانيا: أن حدود الأشياء إليه تعالى و لو شاء أن لا يحد لم يحدا و بدل حدا من آخر فهو الذي حد العذاب و الفتنة في الدنيا بالموت و الزوال و لو لم يشأ لم يحد كما في عذاب الآخرة.

و ثالثا: أن المراد من شدة البطش - و هو الأخذ بعنف - أن لا دافع لأخذه و لا راد لحكمه كيفما حكم إلا أن يحول بين حكمه و متعلقه حكم آخر منه يقيد الأول.

قوله تعالى: "و هو الغفور الودود" أي كثير المغفرة و المودة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أن قوله: "إن بطش ربك" إلخ ناظر إلى وعيد الكافرين.

قوله تعالى: "ذو العرش المجيد فعال لما يريد" العرش عرش الملك، و ذو العرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرف في مملكته كيفما تصرف و يحكم بما شاء و المجيد صفة من المجد و هو العظمة المعنوية و هي كمال الذات و الصفات، و قوله: "فعال لما يريد" أي لا يصرفه عما أراده صارف لا من داخل لضجر و كسل و ملل و تغير إرادة و غيرها و لا من خارج لمانع يحول بينه و بين ما أراد.



فله تعالى أن يوعد الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات بالنار و يعد الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالجنة لأنه ذو العرش المجيد و لن يخلف وعده لأنه فعال لما يريد.

قوله تعالى: "هل أتاك حديث الجنود فرعون و ثمود" تقرير لما تقدم من شدة بطشه تعالى و كونه ملكا مجيدا فعالا لما يريد، و فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه الشريفة بالإشارة إلى حديثهم، و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: "بل الذين كفروا في تكذيب" لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالذين كفروا هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الآية إضراب عما تقدم من الموعظة و الحجة من حيث الأثر، و المعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الإيمان بهذه الآيات البينات فإن الذين كفروا مصرون على تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجة.

و من هنا ظهر أن المراد بكون الذين كفروا في تكذيب أي بظرفية التكذيب لهم إصرارهم عليه.

قوله تعالى: "و الله من ورائهم محيط" وراء الشيء الجهات الخارجة منه المحيطة به.

إشارة إلى أنهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كل جهة، و فيه أيضا تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و عن بعضهم أن في قوله: "من ورائهم" تلويحا إلى أنهم اتخذوا الله وراءهم ظهريا، و هو مبني على أخذ وراء بمعنى خلف.

قوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" إضراب عن إصرارهم على تكذيب القرآن، و المعنى ليس الأمر كما يدعون بل القرآن كتاب مقرو عظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب و الباطل مصون من مس الشياطين.

بحث روائي


في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن "السماء ذات البروج" فقال: الكواكب، و سئل عن "الذي جعل في السماء بروجا" فقال: الكواكب. قيل: "فبروج مشيدة" فقال: قصور.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن أبي الدنيا في الأصول و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اليوم الموعود يوم القيامة و اليوم المشهود يوم عرفة و الشاهد يوم الجمعة.

الحديث.

أقول: و روي مثله بطرق أخرى عن أبي مالك و سعيد بن المسيب و جبير بن مطعم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لفظ الأخير: الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة:. و روي هذا اللفظ عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن علي بن أبي طالب.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن علي قال: اليوم الموعود يوم القيامة، و الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم النحر.



و في المجمع، روي: أن رجلا دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا رجل يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فسألته عن الشاهد و المشهود فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألته عن ذلك فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم النحر. فجزتهما إلى غلام كان وجهه الدينار و هو يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: أخبرني عن شاهد و مشهود فقال: نعم أما الشاهد فمحمد و أما المشهود فيوم القيامة أ ما سمعت الله سبحانه يقول: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا" و قال: "ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود". فسألت عن الأول فقالوا: ابن عباس، و سألت عن الثاني فقالوا: ابن عمرو، و سألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي.

أقول: و الحديث مروي بطرق مختلفة و ألفاظ متقاربة و قد تقدم في تفسير الآية أن ما ذكره (عليه السلام) أظهر بالنظر إلى سياق الآيات، و إن كان لفظ الشاهد و المشهود لا يأبى الانطباق على غيره أيضا بوجه.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود" قال: كان سببه أن الذي هيج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس و هو آخر من ملك من حمير تهود و اجتمعت معه حمير على اليهودية و سمى نفسه يوسف و أقام على ذلك حينا من الدهر. ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية و كانوا على دين عيسى و حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد الله بن بريامن فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهودية و يدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم دين اليهودية و الدخول فيها فأبوا عليه فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص كله فأبوا عليه و امتنعوا من اليهودية و الدخول فيها و اختاروا القتل. فاتخذ لهم أخدودا و جمع فيه الحطب و أشعل فيه النار فمنهم من أحرق بالنار و منهم من قتل بالسيف و مثل بهم كل مثلة فبلغ عدد من قتل و أحرق بالنار عشرين ألفا و أفلت منهم رجل يدعى دوش ذو ثعلبان على فرس له ركضة، و اتبعوه حتى أعجزهم في الرمل، و رجع ذو نواس إلى صنيعه في جنوده فقال الله: "قتل أصحاب الأخدود إلى قوله العزيز الحميد".

و في المجمع، و روى سعيد بن جبير قال: لما انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطاب: ما هم يهود و لا نصارى و لا لهم كتاب و كانوا مجوسا فقال علي بن أبي طالب: بلى قد كان لهم كتاب رفع. و ذلك أن ملكا لهم سكر فوقع على ابنته أو قال: على أخته فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه؟ قالت: تجمع أهل مملكتك و تخبرهم أنك ترى نكاح البنات و تأمرهم أن يحلوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخد لهم أخدودا في الأرض، و أوقد فيه النيران و عرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، و من أجاب خلى سبيله:. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد بن حميد عنه (عليه السلام).

و عن تفسير العياشي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أرسل علي (عليه السلام) إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء فقال (عليه السلام): ليس كما ذكرت و لكن سأخبرك عنهم: إن الله بعث رجلا حبشيا نبيا و هم حبشية فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه فأسروه و أسروا أصحابه ثم بنوا له حيرا ثم ملئوه نارا ثم جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلما هجمت هابت و رقت على ابنها فنادى الصبي: لا تهابي و ارميني و نفسك في النار فإن هذا و الله في الله قليل، فرمت بنفسها في النار و صبيها، و كان ممن تكلم في المهد.



أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عبد الله بن نجي عنه (عليه السلام)، و روي أيضا عن ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن نجي عنه (عليه السلام) قال: كان نبي أصحاب الأخدود حبشيا.

و روي أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن المنذر من طريق الحسن عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: "أصحاب الأخدود" قال: هم الحبشة.

و لا يبعد أن يستفاد أن حديث أصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة و اليمن و العجم و الإشارة في الآية إلى جميعها و هناك روايات تقص القصة مع السكوت عن محل وقوعها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" قال: اللوح المحفوظ له طرفان طرف على يمين العرش على جبين إسرافيل فإذا تكلم الرب جل ذكره بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر في اللوح فيوحي بما في اللوح إلى جبرئيل.

و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلق الله لوحا من درة بيضاء دفتاه من زبرجدة خضراء كتابه من نور يلحظ إليه في كل يوم ثلاث مائة و ستين لحظة يحيي و يميت و يخلق و يرزق و يعز و يذل و يفعل ما يشاء.

أقول: و الروايات في صفة اللوح كثيرة مختلفة و هي على نوع من التمثيل.

86 سورة الطارق - 1 - 17

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ السمَاءِ وَ الطارِقِ (1) وَ مَا أَدْرَاك مَا الطارِقُ (2) النّجْمُ الثّاقِب (3) إِن كلّ نَفْسٍ لمّّا عَلَيهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظرِ الانسنُ مِمّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مّاءٍ دَافِقٍ (6) يخْرُجُ مِن بَينِ الصلْبِ وَ الترَائبِ (7) إِنّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلى السرَائرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَ لا نَاصِرٍ (10) وَ السمَاءِ ذَاتِ الرّجْع (11) وَ الأَرْضِ ذَاتِ الصدْع (12) إِنّهُ لَقَوْلٌ فَصلٌ (13) وَ مَا هُوَ بِالهَْزْلِ (14) إِنهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَا (17)

بيان


في السورة إنذار بالمعاد و تستدل عليه بإطلاق القدرة و تؤكد القول في ذلك، و فيها إشارة إلى حقيقة اليوم، و تختتم بوعيد الكفار.

و السورة ذات سياق مكي.

قوله تعالى: "و السماء و الطارق و ما أدراك ما الطارق النجم الثاقب" الطرق في الأصل - على ما قيل - هو الضرب بشدة يسمع له صوت و منه المطرقة و الطريق لأن السابلة تطرقها بأقدامها ثم شاع استعماله في سلوك الطريق ثم اختص بالإتيان ليلا لأن الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها و يدقها ثم شاع الطارق في كل ما يظهر ليلا، و المراد بالطارق في الآية النجم الذي يطلع بالليل.

و الثقب في الأصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى النير المضيء لأنه يثقب الظلام بنوره و يأتي بمعنى العلو و الارتفاع و منه ثقب الطائر أي ارتفع و علا كأنه يثقب الجو بطيرانه.

فقوله: "و السماء و الطارق" إقسام بالسماء و بالنجم الطالع ليلا، و قوله: "و ما أدراك ما الطارق" تفخيم لشأن المقسم به و هو الطارق، و قوله: "النجم الثاقب" بيان للطارق و الجملة في معنى جواب استفهام مقدر كأنه لما قيل: و ما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فأجيب، و قيل: النجم الثاقب.

قوله تعالى: "إن كل نفس لما عليها حافظ" جواب للقسم و لما بمعنى إلا و المعنى ما من نفس إلا عليها حافظ، و المراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة و السيئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة و يجزي بها فالحافظ هو الملك و المحفوظ العمل كما قال تعالى: "و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون": الانفطار: 12.

و لا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها و أعمالها، و المراد بالحافظ جنسه فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت و لا تفسد حتى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإنسان هو الإنسان الدنيوي بعينه و شخصه ثم يجزيه بما يقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شر.

و يؤيد ذلك كثير من الآيات الدالة على حفظ الأشياء كقوله تعالى: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": الم السجدة: 11، و قوله: "الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت": الزمر: 42.

و لا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أن حفظ الملائكة هو الكتابة فإن حفظ نفس الإنسان أيضا من الكتابة على ما يستفاد من قوله: "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون": الجاثية: 29 و قد تقدمت الإشارة إليه.

و يندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدل به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجيء، و محصله أن إطلاق القدرة إنما ينفع فيما كان ممكنا لكن إعادة الإنسان بعينه محال فإن الإنسان المخلوق ثانيا مثل الإنسان الدنيوي المخلوق أولا لا شخصه الذي خلق أولا و مثل الشيء غير الشيء لا عينه.

وجه الاندفاع أن شخصية الشخص من الإنسان بنفسه لا ببدنه و النفس محفوظة فإذا خلق البدن و تعلقت به النفس كان هو الإنسان الدنيوي بشخصه و إن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغض عن النفس، مثلا لا عينا.

قوله تعالى: "فلينظر الإنسان مم خلق" أي ما هو مبدأ خلقه؟ و ما هو الذي صيره الله إنسانا؟ و الجملة متفرعة على الآية السابقة و ما تدل عليه بفحواها بحسب السياق و محصل المعنى و إذ كانت كل نفس محفوظة بذاتها و عملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإنسان أن سيرجع إلى ربه و يجزي بما عمل و لا يستبعد ذلك و لينظر لتحصيل هذا الإذعان إلى مبدإ خلقه و يتذكر أنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب و الترائب.

فالذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه و إحيائه بعد الموت.

و في الإتيان بقوله: "خلق" مبنيا للمفعول و ترك ذكر الفاعل و هو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، و نظيره قوله: "خلق من ماء" إلخ.

قوله تعالى: "خلق من ماء دافق" الدفق تصبب الماء و سيلانه بدفع و سرعة و الماء الدافق هو المني و الجملة جواب عن استفهام مقدر يهدي إليه قوله: "مم خلق".

قوله تعالى: "يخرج من بين الصلب و الترائب" الصلب الظهر، و الترائب جمع تريبة و هي عظم الصدر.

و قد اختلفت كلماتهم في الآية و ما قبلها اختلافا عجيبا، و الظاهر أن المراد بقوله: "بين الصلب و الترائب" البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر و عظام الصدر.

قوله تعالى: "إنه على رجعه لقادر" الرجع الإعادة، و ضمير "إنه" له تعالى و اكتفى بالإضمار مع أن المقام مقام الإظهار لظهوره نظير قوله: "خلق" مبنيا للمفعول.

و المعنى أن الذي خلق الإنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته و إحيائه بعد الموت - و إعادته مثل بدئه - لقادر لأن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

قوله تعالى: "يوم تبلى السرائر" ظرف للرجع، و السريرة ما أسره الإنسان و أخفاه في نفسه، و البلاء الاختبار و التعرف و التصفح.

فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإنسان و أسره من العقائد و آثار الأعمال خيرها و شرها فيميز خيرها من شرها و يجزي الإنسان به فالآية في معنى قوله تعالى: "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة: 284.

قوله تعالى: "فما له من قوة و لا ناصر" أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله و لا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشر لا من نفسه و لا من غيره.

قوله تعالى: "و السماء ذات الرجع و الأرض ذات الصدع" إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة و الرجوع إلى الله.

و المراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها و غروبها بعد طلوعها، و قيل: رجعها أمطارها، و المراد بكون الأرض ذات صدع تصدعها و انشقاقها بالنبات، و مناسبة القسمين لما أقسم عليه من الرجوع بعد الموت و الخروج من القبور ظاهرة.

قوله تعالى: "إنه لقول فصل و ما هو بالهزل" الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، و التعبير بالفصل - و المراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل و الهزل خلاف الجد.

و الآيتان جواب القسم، و ضمير "إنه" للقرآن و المعنى أقسم بكذا و كذا أن القرآن لقول فاصل بين الحق و الباطل و ليس هو كلاما لا جد فيه فما يحقه حق لا ريب فيه و ما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث و الرجوع حق لا ريب فيه.

و قيل: الضمير لما تقدم من خبر الرجوع و المعاد، و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: "إنهم يكيدون كيدا و أكيد كيدا" أي الكفار يحتالون بكفرهم و إنكارهم المعاد احتيالا يريدون به إطفاء نور الله و إبطال دعوتك، و احتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج و الإملاء و الإضلال بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و أبصارهم احتيالا أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.



قوله تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم رويدا" التمهيل و الإمهال بمعنى واحد غير أن باب التفعيل يفيد التدريج و الإفعال يفيد الدفعة، و الرويد القليل.

و المعنى: إذا كان منهم كيد و مني كيد عليهم بعين ما يكيدون به و الله غالب على أمره، فانتظر بهم و لا تعاجلهم انتظر بهم قليلا فسيأتيهم ما أوعدهم به فكل ما هو آت قريب.

و في التعبير أولا بمهل الظاهر في التدريج و ثانيا مع التقييد برويدا بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.

بحث روائي


في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن كل نفس لما عليها حافظ" قال: الملائكة.

و فيه،: في قوله تعالى: "خلق من ماء دافق" قال: النطفة التي تخرج بقوة.

و فيه،: في قوله تعالى: "يخرج من بين الصلب و الترائب" قال: الصلب الرجل و الترائب المرأة، و هو صدرها.

أقول: الرواية على إضمارها و إرسالها لا تخلو من شيء.

و فيه،: في قوله تعالى: "يوم تبلى السرائر" قال: يكشف عنها.

و في المجمع، روي مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، و الزكاة، و صوم شهر رمضان، و الغسل من الجنابة، و هي السرائر التي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر.

أقول: و لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيده الرواية التالية.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال: سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء الرجل قال: صليت و لم يصل و إن شاء قال: توضيت و لم يتوض فذلك قوله: "يوم تبلى السرائر".

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "فما له من قوة و لا ناصر" قال: ما له من قوة يهوي بها على خالقه، و لا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوءا.

و فيه،: في قوله تعالى: "و السماء ذات الرجع" قال: ذات المطر "و الأرض ذات الصدع" أي ذات النبات.

و في المجمع،: "أنه لقول فصل" يعني أن القرآن يفصل بين الحق و الباطل بالبيان عن كل واحد منهما:، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الدارمي و الترمذي و محمد بن نصر و ابن الأنباري في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت عليا فأخبرته فقال: أ و قد فعلوها؟ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضله الله، و هو حبل الله المتين، و هو الذكر الحكيم، و هو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا يشبع منه العلماء، و لا تلتبس منه الألسن، و لا يخلق من الرد، و لا تنقضي عجائبه هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق، و من حكم به عدل، و من عمل به أجر، و من دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أقول: و روي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و رواه مختصرا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام).

87 سورة الأعلى - 1 - 19

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سبِّح اسمَ رَبِّك الأَعْلى (1) الّذِى خَلَقَ فَسوّى (2) وَ الّذِى قَدّرَ فَهَدَى (3) وَ الّذِى أَخْرَجَ المَْرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سنُقْرِئُك فَلا تَنسى (6) إِلا مَا شاءَ اللّهُ إِنّهُ يَعْلَمُ الجَْهْرَ وَ مَا يخْفَى (7) وَ نُيَسرُك لِلْيُسرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سيَذّكّرُ مَن يخْشى (10) وَ يَتَجَنّبهَا الأَشقَى (11) الّذِى يَصلى النّارَ الْكُبرَى (12) ثمّ لا يَمُوت فِيهَا وَ لا يحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكى (14) وَ ذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصلى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدّنْيَا (16) وَ الاَخِرَةُ خَيرٌ وَ أَبْقَى (17) إِنّ هَذَا لَفِى الصحُفِ الأُولى (18) صحُفِ إِبْرَهِيمَ وَ مُوسى (19)

بيان


أمر بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدسة و تنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق و التدبير و الرزق و وعد له (صلى الله عليه وآله وسلم) بتأييده بالعلم و الحفظ و تمكينه من الطريقة التي هي أسهل و أيسر للتبليغ و أنسب للدعوة.

و سياق الآيات في صدر السورة سياق مكي و أما ذيلها أعني قوله: "قد أفلح من تزكى" إلخ فقد ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا من طريق أهل السنة أن المراد به زكاة الفطرة و صلاة العيد و من المعلوم أن الصوم و ما يتبعه من زكاة الفطرة و صلاة العيد إنما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.

فالسورة صدرها مكي و ذيلها مدني، و لا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أن السورة مكية فإنه لا يأبى الحمل على صدر السورة.

قوله تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى" أمر بتنزيه اسمه تعالى و تقديسه، و إذ علق التنزيه على الاسم - و ظاهر اللفظ الدال على المسمى - و الاسم إنما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزه عنه كذكر الآلهة و الشركاء و الشفعاء و نسبة الربوبية إليهم و كذكر بعض ما يختص به تعالى كالخلق و الإيجاد و الرزق و الإحياء و الإماتة و نحوها و نسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز و الجهل و الظلم و الغفلة و ما يشبهها من صفات النقص و الشين و نسبته إليه تعالى.

و بالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى و هو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.

و هو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجلي كما في قوله: "و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون": الزمر 45" و قوله: "و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا": إسراء 46.

و في إضافة الاسم إلى الرب و الرب إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدمناه فإن المعنى سبح اسم ربك الذي اتخذته ربا و أنت تدعو إلى أنه الرب الإله فلا يقعن في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبية ذكر من غيره بحيث ينافي تسميه بالربوبية على ما عرف نفسه لك.

و قوله: "الأعلى" و هو الذي يعلو كل عال و يقهر كل شيء صفة "ربك" دون الاسم و يعلل بمعناه الحكم أي سبح اسمه لأنه أعلى.

و قيل: معنى "سبح اسم ربك الأعلى" قل: سبحان ربي الأعلى كما عن ابن عباس و نسب إليه أيضا أن المعنى صل.

و قيل: المراد بالاسم المسمى و المعنى نزهه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات و الأفعال.

و قيل: إنه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمى و استشهد عليه بقول لبيد، إلى الحول ثم اسم السلام عليكما.

فالمعنى سبح ربك الأعلى.

و قيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عما لا يليق بأن لا يئول مما ورد منها اسم من غير مقتض، و لا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصح له تعالى، و لا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصا كاسم الجلالة و لا يتلفظ به في محل لا يناسبه كبيت الخلاء، و على هذا القياس و ما قدمناه من المعنى أوسع و أشمل و أنسب لسياق قوله الآتي "سنقرئك فلا تنسى" "و نيسرك لليسرى فذكر" فإن السياق سياق البعث إلى التذكرة و التبليغ فبدأ أولا بإصلاح كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تجريده عن كل ما يشعر بجلي الشرك و خفيه بأمره بتنزيه اسم ربه، و وعد ثانيا بإقرائه بحيث لا ينسى شيئا مما أوحي إليه و تسهيل طريقة التبليغ عليه ثم أمر بالتذكير و التبليغ فافهم.

قوله تعالى: "الذي خلق فسوى" خلق الشيء جمع أجزائه، و تسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كل في موضعه الذي يليق به و يعطى حقه كوضع كل عضو من أعضاء الإنسان فيما يناسبه من الموضع.

و الخلق و التسوية و إن كانا مطلقين لكنهما إنما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

و الآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإلهي و هي برهان على ربوبيته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: "و الذي قدر فهدى" أي جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة و حدود معينة في ذواتها و صفاتها و أفعالها لا تتعداها و جهزها بما يناسب ما قدر لها فهداها إلى ما قدر فكل يسلك نحو ما قدر له بهداية ربانية تكوينية كالطفل يهتدي إلى ثدي أمه و الفرخ إلى زق أمه و أبيه، و الذكر إلى الأنثى و ذي النفع إلى نفعه و على هذا القياس.

قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21، و قال: "ثم السبيل يسره": عبس: 20 و قال: "لكل وجهة هو موليها": البقرة: 148.

قوله تعالى: "و الذي أخرج المرعى" المرعى ما ترعاه الدواب فالله تعالى هو الذي أخرجها أي أنبتها.

قوله تعالى: "فجعله غثاء أحوى" الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات، و المراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، و الأحوى الأسود.

و إخراج المرعى لتغذي الحيوان ثم جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبي و دلائله كما أن الخلق و التسوية و التقدير و الهداية كذلك.

قوله تعالى: "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر و ما يخفى" قال في المفردات،: و القراءة ضم الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكل جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة،

انتهي.

و قال في المجمع،: و الإقراء أخذ القراءة على القارىء بالاستماع لتقويم الزلل، و القارىء التالي.

انتهى.

و ليس إقراؤه تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن مثل إقراء بعضنا بعضا باستماع المقري لما يقرؤه القارىء و إصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقرأ شيئا من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثم يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما أنزل من غير أن يغيره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.

فقوله: "سنقرئك فلا تنسى" وعد منه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمكنه من العلم بالقرآن و حفظه على ما أنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرؤه كما أنزل و هو الملاك في تبليغ الوحي كما أوحي إليه.

و قوله: "إلا ما شاء الله" استثناء مفيد لبقاء القدرة الإلهية على إطلاقها و أن هذه العطية و هي الإقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء إنساءك متى شاء و إن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الذي في قوله: "و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ": هود: 108 و قد تقدم توضيحه.



و ليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي و المعنى سنقرئك فلا تنسى شيئا إلا ما شاء الله أن تنساه و ذلك أن كل إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء و ينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن الامتنان مع كونه مشتركا بينه و بين غيره فالوجه ما قدمناه.

و الآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنه كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئا.

و يقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله: "سنقرئك فلا تنسى" نازلة أولا ثم قوله: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه": القيامة: 19 ثم قوله: "و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه و قل رب زدني علما": طه: 114.

و قوله: "إنه يعلم الجهر و ما يخفى" الجهر كمال ظهور الشيء لحاسة البصر كقوله.

"فقالوا أرنا الله جهرة": النساء: 153، أو لحاسة السمع كقوله: "إنه يعلم الجهر من القول": الأنبياء: 110، و المراد بالجهر الظاهر للإدراك بقرينة مقابلته لقوله: "و ما يخفى" من غير تقييده بسمع أو بصر.

و الجملة في مقام التعليل لقوله.

"سنقرئك فلا تنسى" و المعنى سنصلح لك بالك في تلقي الوحي و حفظه لأنا نعلم ظاهر الأشياء و باطنها فنعلم ظاهر حالك و باطنها و ما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي و الحرص على طاعته فيما أمر به.

و في قوله: "إلا ما شاء الله إنه يعلم" إلخ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه الإشارة إلى حجة الاستثناء فإفاضة العلم و الحفظ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما لا يسلب القدرة على خلافه و لا يحدها منه تعالى لأنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال و منها القدرة المطلقة ثم جرى الالتفات في قوله: "إنه يعلم" إلخ لمثل النكتة.

قوله تعالى: "و نيسرك لليسرى" اليسرى - مؤنث أيسر - و هو وصف قائم مقام موصوفة المحذوف أي الطريقة اليسرى و التيسير التسهيل أي و نجعلك بحيث تتخذ دائما أسهل الطرق للدعوة و التبليغ قولا و فعلا فتهدي قوما و تتم الحجة على آخرين و تصبر على أذاهم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و نيسر لك اليسرى كما قال: "و يسر لي أمري": طه: 26 و إنما عدل عن ذلك إلى قوله: "و نيسرك لليسرى" لأن الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبي الشريفة و جعله إياها صالحة لتأدية الرسالة و نشر الدعوة.

على ما في نيسر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.

فالمراد جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) صافي الفطرة حقيقا على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى: "حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق": الأعراف: 105.

قوله تعالى: "فذكر إن نفعت الذكرى" تفريع على ما تقدم من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتنزيه اسم ربه و وعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى و تيسيره لليسرى و هي الشرائط الضرورية التي يتوقف عليها نجاح الدعوة الدينية.

و المعنى إذ تم لك الأمر بامتثال ما أمرناك به و إقرائك فلا تنسى و تيسيرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى.

و قد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة و هو شرط على حقيقته فإنها إذا لم تنفع كانت لغوا و هو تعالى يجل عن أن يأمر باللغو فالتذكرة لمن يخشى لأول مرة تفيد ميلا من نفسه إلى الحق و هو نفعها و كذا التذكرة بعد التذكرة كما قال: "سيذكر من يخشى" و التذكرة للأشقى الذي لا خشية في قلبه لأول مرة تفيد تمام الحجة عليه و هو نفعها و يلازمها تجنبه و توليه عن الحق كما قال: "و يتجنبها الأشقى" و التذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئا و لذا أمر بالإعراض عن ذلك قال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا": النجم: 29.

و قيل: الشرط شرط صوري غير حقيقي و إنما هو إخبار عن أن الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال و لذا قال بعضهم "إن" "إن" في الآية بمعنى قد، و قال آخرون: إنها بمعنى إذ.

و فيه أن كون الذكرى نافعة مفيدة دائما حتى فيمن يعاند الحق - و قد تمت عليه الحجة - ممنوع كيف؟ و قد قيل فيهم: "سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة": البقرة: 7.

و قيل: إن في الكلام إيجازا بالحذف، و التقدير فذكر إن نفعت الذكرى و إن لم تنفع و ذلك لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأس للتذكرة و الإعذار فعليه أن يذكر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله: "و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر": النحل: 81 أي و البرد.

و فيه أن وجوب التذكرة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فيما لا يترتب عليها أثرا أصلا ممنوع.

و قيل: إن الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعيا عليهم كأنه قيل: افعل ما أمرت به لتوجر و إن لم ينتفعوا به.

و فيه أنه يرده قوله تعالى بعده بلا فصل: "سيذكر من يخشى".

قوله تعالى: "سيذكر من يخشى" أي سيتذكر و يتعظ بالقرآن من في قلبه شيء من خشية الله و خوف عقابه.

قوله تعالى: "و يتجنبها الأشقى" الضمير للذكرى و المراد بالأشقى بقرينة المقابلة من ليس في قلبه شيء من خشية الله تعالى، و تجنب الشيء التباعد عنه، و المعنى و سيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.

قوله تعالى: "الذي يصلى النار الكبرى" الظاهر أن المراد بالنار الكبرى نار جهنم و هي نار كبرى بالقياس إلى نار الدنيا، و قيل: المراد بها أسفل دركات جهنم و هي أشدها عذابا.

قوله تعالى: "ثم لا يموت فيها و لا يحيى" ثم للتراخي بحسب رتبة الكلام، و المراد من نفي الموت و الحياة عنه معا نفي النجاة نفيا مؤبدا فإن النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إما بالموت حتى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده و إما يتبدل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة و من العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيبة على حد قولهم في الحرض: لا حي فيرجى و لا ميت فينسى.

قوله تعالى: "قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى" التزكي هو التطهر و المراد به التطهر من ألواث التعلقات الدنيوية الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد "بل تؤثرون الحياة الدنيا" إلخ، و الرجوع إلى الله بالتوجه إليه تطهر من الإخلاد إلى الأرض، و الإنفاق في سبيل الله تطهر من لوث التعلق المالي حتى أن وضوء الصلاة تمثيل للتطهر عما كسبته الوجوه و الأيدي و الأقدام.

و قوله: "و ذكر اسم ربه فصلى" الظاهر أن المراد بالذكر الذكر اللفظي، و بالصلاة التوجه الخاص المشروع في الإسلام.

و الآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهما نزلتا في زكاة الفطر و صلاة العيد و كذا من طرق أهل السنة.

قوله تعالى: "بل تؤثرون الحياة الدنيا" إضراب بالخطاب لعامة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري من التعلق التام بالدنيا و الاشتغال بتعميرها، و الإيثار الاختيار، و قيل: الخطاب للكفار، و الكلام على أي حال مسوق للعتاب و الالتفات لتأكيده.



قوله تعالى: "و الآخرة خير و أبقى" عد الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنها باقية أبدية في نفسها لأن المقام مقام الترجيح بين الدنيا و الآخرة و يكفي في الترجيح مجرد كون الآخرة خيرا و أبقى بالنسبة إلى الدنيا و إن قطع النظر عن كونها باقية أبدية.

قوله تعالى: "إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى" الإشارة بهذا إلى ما بين في قوله: "قد أفلح من تزكى" إلى تمام أربع آيات، و قيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله: "و الآخرة خير و أبقى".

قيل: و في إبهام الصحف و وصفها بالتقدم أولا ثم بيانها و تفسيرها بصحف إبراهيم و موسى ثانيا ما لا يخفى من تفخيم شأنها و تعظيم أمرها.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: "فسبح باسم ربك العظيم" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اجعلوها في ركوعكم، و لما نزل "سبح اسم ربك الأعلى" قال: اجعلوها في سجودكم:. أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور، عن أحمد و أبي داود و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عقبة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: "سبح اسم ربك الأعلى" قال: قل سبحان ربي الأعلى "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى" قال: قدر الأشياء بالتقدير الأول ثم هدى إليها من يشاء.

و فيه،: في قوله تعالى: "و الذي أخرج المرعى" قال: أي النبات. و في قوله: "غثاء أحوى" قال: يصير هشيما بعد بلوغه و يسود.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك و نزلت: "سنقرئك فلا تنسى".

و في الفقيه،: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "قد أفلح من تزكى" قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و "ذكر اسم ربه فصلى" قال: خرج إلى الجبانة فصلى:. أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حماد عن جرير عن أبي بصير و زرارة عنه (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "قد أفلح من تزكى - و ذكر اسم ربه فصلى" ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر.

أقول: و روي أيضا نزول الآيتين في زكاة الفطرة و صلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفا، و كذا بطريقين عن ابن عمر و بطريق عن نائلة بن الأصقع و بطريقين عن أبي العالية و بطريق عن عطاء و بطريق عن محمد بن سيرين و بطريق عن إبراهيم النخعي و كذا عن عمرو بن عوف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الخصال، عن عتبة بن عمرو الليثي عن أبي ذر في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا مما أنزل الله عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم و موسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ "قد أفلح من تزكى - و ذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا - و الآخرة خير و أبقى - إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى".

أقول: يؤيد الحديث كون الإشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدم.

و في البصائر، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): عندنا الصحف التي قال الله: "صحف إبراهيم و موسى" قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم:. أقول: و رواه أيضا بطريق آخر عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و الظاهر أن المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى: "و كتبنا له في الألواح من كل شيء": الأعراف: 145 و قوله: "و ألقى الألواح": الأعراف: 150 و قوله: "أخذ الألواح": الأعراف: 154.

و في المجمع، روي عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبي و أربعة و عشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة و ثلاثة عشر و بقيتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبيا؟ قال: نعم كلمة الله و خلقه بيده. يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب: هود و صالح و شعيب و نبيك. قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة و أربعة كتب أنزل منها على آدم عشرة صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أول من خط بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

أقول: و روي ذلك في الدر المنثور، عن عبد بن حميد و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي ذر غير أنه لم يذكر صحف آدم و ذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.

88 سورة الغاشية - 1 - 26

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَلْ أَتَاك حَدِيث الْغَشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ خَشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ (3) تَصلى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسقَى مِنْ عَينٍ ءَانِيَةٍ (5) لّيْس لهَُمْ طعَامٌ إِلا مِن ضرِيعٍ (6) لا يُسمِنُ وَ لا يُغْنى مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نّاعِمَةٌ (8) لِّسعْيهَا رَاضِيَةٌ (9) فى جَنّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسمَعُ فِيهَا لَغِيَةً (11) فِيهَا عَينٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سرُرٌ مّرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوَابٌ مّوْضوعَةٌ (14) وَ نمَارِقُ مَصفُوفَةٌ (15) وَ زَرَابىّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنظرُونَ إِلى الابِلِ كيْف خُلِقَت (17) وَ إِلى السمَاءِ كَيْف رُفِعَت (18) وَ إِلى الجِْبَالِ كَيْف نُصِبَت (19) وَ إِلى الأَرْضِ كَيْف سطِحَت (20) فَذَكِّرْ إِنّمَا أَنت مُذَكرٌ (21) لّست عَلَيْهِم بِمُصيْطِرٍ (22) إِلا مَن تَوَلى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللّهُ الْعَذَاب الأَكْبرَ (24) إِنّ إِلَيْنَا إِيَابهُمْ (25) ثمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسابهُم (26)

بيان


سورة إنذار و تبشير تصف الغاشية و هي يوم القيامة الذي يحيط بالناس تصفه بحال الناس فيه من حيث انقسامهم فريقين: السعداء و الأشقياء و استقرارهم فيما أعد لهم من الجنة و النار و تنتهي إلى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكر الناس بفنون من التدبير الربوبي في العالم الدالة على ربوبيته تعالى لهم و رجوعهم إليه لحساب أعمالهم.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "هل أتاك حديث الغاشية" استفهام بداعي التفخيم و الإعظام، و المراد بالغاشية يوم القيامة سميت بذلك لأنها تغشى الناس و تحيط بهم كما قال: "و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا": الكهف: 47، أو لأنها تغشى الناس بأهوالها بغتة كما قيل، أو لأنها تغشى وجوه الكفار بالعذاب.

قوله تعالى: "وجوه يومئذ خاشعة" أي مذللة بالغم و العذاب يغشاها، و الخشوع إنما هو لأرباب الوجوه و إنما نسب إلى الوجوه لأن الخشوع و المذلة يظهر فيها.

قوله تعالى: "عاملة ناصبة" النصب التعب و "عاملة" خبر بعد خبر لوجوه، و كذا قوله: "ناصبة" و "تصلى" و "تسقى" و "ليس لهم" و المراد من عملها و نصبها بقرينة مقابلتهما في صفة أهل الجنة الآتية بقوله: "لسعيها راضية" عملها في الدنيا و نصبها في الآخرة فإن الإنسان إنما يعمل ما يعمل في الدنيا ليسعد به و يظفر بالمطلوب لكن عملهم خبط باطل لا ينفعهم شيئا كما قال تعالى: "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا": الفرقان: 23 فلا يعود إليهم من عملهم إلا النصب و التعب بخلاف أهل الجنة فإنهم لسعيهم الذي سعوه في الدنيا راضون لما ساقهم إلى الجنة و الراحة.

و قيل: المراد أنها عاملة في النار ناصبة فيها فهي تعالج أنواع العذاب الذي تعذب به و تتعب لذلك.

و قيل: المراد أنها عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة.

قوله تعالى: "تصلى نارا حامية" أي تلزم نارا في نهاية الحرارة.

قوله تعالى: "تسقى من عين آنية" أي حارة بالغة في حرارتها.

قوله تعالى: "ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع" قيل: الضريع نوع من الشوك يقال له: الشبرق و أهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابة، و لعل تسمية ما في النار به لمجرد المشابهة شكلا و خاصة.

قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناعمة" من النعومة فيكون كناية عن البهجة و السرور الظاهر على البشرة كما قال: "تعرف في وجوههم نضرة النعيم": المطففين: 24، أو من النعمة أي متنعمة.

قيل: و لم يعطف على قوله: "وجوه يومئذ خاشعة" إشارة إلى كمال البينونة بين حالي الفريقين.

قوله تعالى: "لسعيها راضية" اللام للتقوية، و المراد بالسعي سعيها في الدنيا بالعمل الصالح، و المعنى رضيت سعيها و هو عملها الصالح حيث جوزيت به جزاء حسنا.

قوله تعالى: "في جنة عالية - إلى قوله - و زرابي مبثوثة" المراد بعلوها ارتفاع درجاتها و شرفها و جلالتها و غزارة عيشها فإن فيها حياة لا موت معها، و لذة لا ألم يشوبها و سرورا لا غم و لا حزن يداخله لهم فيها فوق ما يشاءون.

و قوله: "لا تسمع فيها لاغية" أي لا تسمع تلك الوجوه في الجنة كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

و قوله: "فيها عين جارية" المراد بالعين جنسها فقد عد تعالى فيها عيونا في كلامه كالسلسبيل و الشراب الطهور و غيرهما.

و قوله: "فيها سرر مرفوعة" السرر جمع سرير و في ارتفاعها جلالة القاعد عليها، "و أكواب موضوعة" الأكواب جمع كوب و هو الإبريق لا خرطوم له و لا عروة يتخذ فيه الشراب "و نمارق مصفوفة" النمارق جمع نمرقة و هي الوسادة و كونها مصفوفة وضعها في المجلس بحيث يتصل بعضها ببعض على هيئة المجالس الفاخرة في الدنيا "و زرابي مبثوثة" الزرابي جمع زريبة مثلثة الزاي و هي البساط الفاخر و بثها بسطها للقعود عليها.

قوله تعالى: "أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" بعد ما فرغ من وصف الغاشية و بيان حال الفريقين، المؤمنين و الكفار عقبه بإشارة إجمالية إلى التدبير الربوبي الذي يفصح عن ربوبيته تعالى المقتضية لوجوب عبادته و لازم ذلك حساب الأعمال و جزاء المؤمن بإيمانه و الكافر بكفره و الظرف الذي فيه ذلك هو الغاشية.

و قد دعاهم أولا أن ينظروا إلى الإبل كيف خلقت؟ و كيف صور الله سبحانه أرضا عادمة للحياة فاقدة للشعور بهذه الصورة العجيبة في أعضائها و قواها و أفاعيلها فسخرها لهم ينتفعون من ركوبها و حملها و لحمها و ضرعها و جلدها و وبرها حتى بولها و بعرتها فهل هذا كله توافق اتفاقي غير مطلوب بحياله؟.

و تخصيص الإبل بالذكر من جهة أن السورة مكية و أول من تتلى عليهم الإعراب و اتخاذ الآبال من أركان عيشتهم.

قوله تعالى: "و إلى السماء كيف رفعت" و زينت بالشمس و القمر و سائر النجوم الزواهر بما فيها من المنافع لأهل الأرض و قد جعل دونها الهواء الذي يضطر إليه الحيوان في تنفسه.

قوله تعالى: "و إلى الجبال كيف نصبت" و هي أوتاد الأرض المانعة من مورها و مخازن الماء التي تتفجر منها العيون و الأنهار و محافظ للمعادن.

قوله تعالى: "و إلى الأرض كيف سطحت" أي بسطت و سويت فصلحت لسكنى الإنسان و سهل فيها النقل و الانتقال و أغلب التصرفات الصناعية التي للإنسان.

فهذه تدبيرات كلية مستندة إليه تعالى بلا ريب فيه فهو رب السماء و الأرض ما بينهما فهو رب العالم الإنساني يجب عليهم أن يتخذوه ربا و يوحدوه و يعبدوه و أمامهم الغاشية و هو يوم الحساب و الجزاء.

قوله تعالى: "فذكر إنما أنت مذكر" تفريع على ما تقدم و المعنى إذا كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه و أمامهم يوم الحساب و الجزاء لمن آمن منهم أو كفر فذكرهم بذلك.

و قوله: "إنما أنت مذكر" بيان أن وظيفته - و هو رسول - التذكرة رجاء أن يستجيبوا و يؤمنوا من غير إكراه و إلجاء.

قوله تعالى: "لست عليهم بمصيطر" المصيطر - و أصله المسيطر - المتسلط، و الجملة بيان و تفسير لقوله: "إنما أنت مذكر".

قوله تعالى: "إلا من تولى و كفر" استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق: "فذكر" و التقدير فذكر الناس إلا من تولى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أن التولي و الكفر إنما يكون بعد التذكرة فالمنفي بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنه قيل: ذكرهم و أدم التذكرة إلا لمن ذكرته فتولى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذبه الله العذاب الأكبر.

فقوله: "فذكر - إلى أن قال - إلا من تولى و كفر فيعذبه الله العذاب الأكبر" في معنى قوله: "فذكر إن نفعت الذكرى - إلى أن قال - و يتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى": الأعلى: 12 و قد تقدم بيانه.



و قيل: الاستثناء من ضمير "عليهم" في قوله: "لست عليهم بمصيطر" و المعنى لست عليهم بمتسلط إلا على من تولى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيسلطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلط لكن من تولى و كفر منهم يعذبه الله العذاب الأكبر، و ما قدمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: "فيعذبه الله العذاب الأكبر" هو عذاب جهنم فالآية كما تقدم محاذية لقوله في سورة الأعلى "الذي يصلى النار الكبرى".

قوله تعالى: "إن إلينا إيابهم" الإياب الرجوع و "إلينا" خبر إن و إنما قدم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: "ثم إن علينا حسابهم" الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

بحث روائي


في المجمع، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): كل ناصب و إن تعبد و اجتهد يصير إلى هذه الآية "عاملة ناصبة تصلى نارا حامية".

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسندا و لفظه: كل ناصب و إن تعبد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية "عاملة ناصبة تصلى نارا حامية".

و فيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمر من الصبر و أنتن من الجيفة و أشد حرا من النار سماه الله الضريع.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لا تسمع فيها لاغية" قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى: "لست عليهم بمصيطر" قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ثم قرأ "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر".

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير "عليهم" و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "إلا من تولى و كفر" يريد من لم يتعظ و لم يصدقك و جحد ربوبيتي و كفر نعمتي "فيعذبه الله العذاب الأكبر" يريد الغليظ الشديد الدائم "إن إلينا إيابهم" يريد مصيرهم "ثم إن علينا حسابهم" يريد جزاءهم.

و في النهج،: و سئل (عليه السلام): كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

و فيه، قال الصادق (عليه السلام): كل أمة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله: "و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم" الحديث.

أقول: قد تقدم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادق (عليه السلام) مسندا و في الكافي، عن الباقر و الكاظم (عليهما السلام) و في الفقيه، عن الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة.

89 سورة الفجر - 1 - 30

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيَالٍ عَشرٍ (2) وَ الشفْع وَ الْوَتْرِ (3) وَ الّيْلِ إِذَا يَسرِ (4) هَلْ فى ذَلِك قَسمٌ لِّذِى حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْف فَعَلَ رَبّك بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الّتى لَمْ يخْلَقْ مِثْلُهَا فى الْبِلَدِ (8) وَ ثَمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصخْرَ بِالْوَادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ (10) الّذِينَ طغَوْا فى الْبِلَدِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصب عَلَيْهِمْ رَبّك سوْط عَذَابٍ (13) إِنّ رَبّك لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمّا الانسنُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعّمَهُ فَيَقُولُ رَبى أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبى أَهَنَنِ (16) َكلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لا تحَضونَ عَلى طعَامِ الْمِسكِينِ (18) وَ تَأْكلُونَ الترَاث أَكلاً لّمّا (19) وَ تحِبّونَ الْمَالَ حُبّا جَمّا (20) َكلا إِذَا دُكّتِ الأَرْض دَكّا دَكّا (21) وَ جَاءَ رَبّك وَ الْمَلَك صفّا صفّا (22) وَ جِاىءَ يَوْمَئذِ بجَهَنّمَ يَوْمَئذٍ يَتَذَكرُ الانسنُ وَ أَنى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَلَيْتَنى قَدّمْت لحَِيَاتى (24) فَيَوْمَئذٍ لا يُعَذِّب عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَأَيّتهَا النّفْس الْمُطمَئنّةُ (27) ارْجِعِى إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً (28) فَادْخُلى فى عِبَدِى (29) وَ ادْخُلى جَنّتى (30)

بيان


في السورة ذم التعلق بالدنيا المتعقب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشد عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبين أن الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أن ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أن ما يتلبس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهي ليظهر به ما ذا يقدم من دنياه لأخراه.

فليس الأمر على ما يتوهمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أن ما أصابه من فقر أو غنى أو قوة أو ضعف كان امتحانا إلهيا و كان يمكنه أن يقدم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلا النفس المطمئنة إلى ربها المسلمة لأمره التي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: "و الفجر و ليال عشر و الشفع و الوتر و الليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر" الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضم الشيء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع.

انتهى.

و سري الليل مضيه و إدباره، و الحجر العقل فقوله: "و الفجر" إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و الليل.

و لعل ظاهر قوله: "و الفجر" أن المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضا أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجة، و قيل: فجر المحرم أول السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كله و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه ردية.

و قوله: "و ليال عشر" لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوله، و قيل الليالي العشر من أول المحرم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله "و الشفع و الوتر" يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجة و العشر الأول من لياليها.

و قيل: المراد صلاتا الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنه قال: "و خلقناكم أزواجا": النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.



و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأن الأشياء إما زوج و إما فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيام و الليالي و الوتر اليوم الذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنهاها بعضهم إلى ستة و ثلاثين قولا و لا يخلو أكثرها من تحكم.

و قوله: "و الليل إذا يسر" أي يمضي فهو كقوله: "و الليل إذ أدبر": المدثر: 33 و ظاهره أن اللام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر التي يسري فيها الحاج من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثم يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصة على القول بكون المراد بليال عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله: "هل في ذلك قسم لذي حجر" الإشارة بذلك إلى ما تقدم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أن في ذلك الذي قدمناه قسما كافيا لمن له عقل يفقه به القول و يميز الحق من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحق المؤكد الذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدل عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنة، و أن إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: "أ لم تر كيف فعل ربك بعاد" هم عاد الأولى قوم هود تكررت قصتهم في القرآن الكريم و أشير إلى أنهم كانوا بالأحقاف، و قد قدمنا ما يتحصل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: "إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد" العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أن إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممددة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئن إليها النفس إلا ما قصة القرآن الكريم من إجمال قصتهم أنهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق أولي قوة و بطش شديد، و كان لهم تقدم و رقي في المدنية و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدمت القصة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سموا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم أولي قوة و سطوة.

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربك بقوم عاد الذين هم قوم إرم ذوو القوة و الشدة الذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إن المراد بكونهم ذات العماد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصة جنة إرم المشهورة المروية عن وهب بن منبه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: "و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد" الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتا فهو في معنى قوله: "و تنحتون من الجبال بيوتا": الشعراء: 149.



قوله تعالى: "و فرعون ذي الأوتاد" هو فرعون موسى، و سمي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنه كان إذا أراد أن يعذب رجلا بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيده ما حكاه الله من قوله يهدد السحرة إذ آمنوا بموسى: "و لأصلبنكم في جذوع النخل": طه: 71 فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: "الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد" صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "فصب عليهم ربك سوط عذاب" صب الماء معروف و صب سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربك على كل من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذابا شديدا متتابعا متواليا لا يوصف.

قوله تعالى: "إن ربك لبالمرصاد" المرصاد المكان الذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيلية شبه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمر به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشد العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله: "ربك" بإضافة الرب إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أن سنة العذاب جارية في أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما جرت عليه في الأمم الماضين.

قوله تعالى: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن" متفرع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا أوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنه قيل: إن الإنسان تحت رقوب إلهي يرصده ربه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أما الإنسان فإنه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أن ذلك إكرام إلهي له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنه إهانة إلهية فيكفر و يجزع.

فقوله: "فأما الإنسان" المراد به النوع بحسب الطبع الأولي فاللام للجنس دون الاستغراق.

و قوله: "إذا ما ابتلاه ربه" أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا "إلخ" و قيل: العامل فيه "فيقول".

و قوله: "فأكرمه و نعمه" تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثا لا بقاء أي أنه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله: "فيقول ربي أكرمن" أي جعلني على كرامة منه بالنعم التي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثا و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله: "فيقول ربي أكرمن" حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان: "ربي أكرمن" الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه - و لا يقول به الوثنية و المنكرون للصانع - مبني على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لسانا، و أيضا لرعاية المقابلة مع قوله: "إذا ما ابتلاه ربه".

قوله تعالى: "و أما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن" أي و أما إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربي أذلني و استخف بي.



و يظهر من مجموع الآيتين أولا حيث كرر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أن إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعا من الابتلاء و الامتحان الإلهي كما قال: "و نبلوكم بالشر و الخير فتنة": الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانيا أن إيتاء النعم بما أنه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثا أن الآيتين معا تفيدان أن الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أن الكرامة هي في التقرب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه أخر تركنا التعرض لها لقلة الجدوى.

قوله تعالى: "كلا بل لا تكرمون اليتيم و لا تحاضون على طعام المسكين" ردع لقولهم: إن الكرامة هي في الغنى و التنعم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلة، و المعنى ليس كما تقولون و إنما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كل ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديته.

و في قوله: "بل لا تكرمون اليتيم" إلخ إضراب يؤكد الردع بذكر بعض التنعم الذي لا يجامع الكرامة البتة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبا للمال فالفطرة الإنسانية لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافا إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

فقوله: "بل لا تكرمون اليتيم" عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكف بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيده الآية التالية "و تأكلون التراث" إلخ.

و قوله: "و لا تحاضون على طعام المسكين" أصله و لا تتحاضون، و هو تحريض بعضهم بعضا على التصدق على المساكين المعدمين، و منشؤه حب المال كما في الآية الآتية "و تحبون المال" إلخ.

قوله تعالى: "و تأكلون التراث أكلا لما" اللم أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميز الطيب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدم.

قوله تعالى: "و تحبون المال حبا جما" الجم الكثير العظيم، و الآية تفسر عدم تحاضهم على طعام المسكين كما تقدم.

قوله تعالى: "كلا إذا دكت الأرض دكا دكا" الدك هو الدق الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عما يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله: "إذا دكت الأرض" إلخ في مقام التعليل للردع، و محصل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنه سيتذكر إذا قامت القيامة إن الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحانا من الله تعالى يميز به السعيد من الشقي و يهيىء الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدم لحياته الآخرة شيئا فيتمنى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدمت لحياتي و لن يصرف التمني عنه شيئا من العذاب.



قوله تعالى: "و جاء ربك و الملك صفا صفا" نسبة المجيء إليه تعالى من المتشابه الذي يحكمه قوله تعالى: "ليس كمثله شيء": الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواص اليوم كتقطع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أن الله هو الحق المبين.

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أن المراد بمجيئه تعالى مجيء أمره قال تعالى: "و الأمر يومئذ لله": الانفطار: 19، و يؤيد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر": البقرة: 210 إذا انضم إلى قوله: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك": النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربك أو نسبة المجيء إليه تعالى من المجاز العقلي.

و الكلام في نسبة المجيء إلى الملائكة و كونهم صفا صفا كما مر.

قوله تعالى: "و جيء يومئذ بجهنم" إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجيء بجهنم إبرازها لهم كما في قوله تعالى: "و برزت الجحيم لمن يرى": النازعات: 36 و قوله: "و برزت الجحيم للغاوين": الشعراء: 91، و قوله: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22.

و قوله: "يومئذ يتذكر الإنسان" أي يتذكر أجلى التذكر أن ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شر كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله: "و أنى له الذكرى" أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإن الذكرى إنما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: "يقول يا ليتني قدمت لحياتي" أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقية و هي الحياة الآخرة على ما نبه تعالى عليه بقوله: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون": العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمن يتمناه الإنسان عند ما يتذكر يوم القيامة و يشاهد أنه لا ينفعه.

قوله تعالى: "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد" ضميرا عذابه و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إن عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرىء "لا يعذب" بفتح الذال و "و لا يوثق" بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميرا عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.



قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة" الذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عين لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما أوعد من سوء المصير هو أن النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو شر أو نفع أو ضر و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع و ضر ابتلاء و امتحانا إلهيا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلو و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: "ارجعي إلى ربك راضية مرضية" خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد و ليس خطابا واقعا بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأن اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدر و قضى تكوينا أو حكم به تشريعا فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه و لذا عقب قوله "راضية" بقوله "مرضية".

قوله تعالى: "فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي" تفريع على قوله "ارجعي إلى ربك" و فيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.

و ذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحق من ربه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكا طلقا لربه فلم يرد فيما قدر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلا ما أراده ربه، و هذا ظهور العبودية التامة في العبد ففي قوله: "فادخلي في عبادي" تقرير لمقام عبوديتها.

و في قوله: "و ادخلي جنتي" تعيين لمستقرها، و في إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى و تقدس إلا في هذه الآية.

بحث روائي


في المجمع،: في قوله تعالى: "و الشفع و الوتر"، و قيل: الشفع الخلق لأنه قال: "و خلقناكم أزواجا" و الوتر الله تعالى:، عن عطية العوفي و أبي صالح و ابن عباس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عباس و عكرمة و الضحاك، و هي رواية جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده و يتفرد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة و يمكن الجمع بينها بأن المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمي،: "و ليال عشر" قال: عشر ذي الحجة "و الشفع و الوتر" قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير المؤمنين (عليه السلام) "و الليل إذا يسر" قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: "لذي حجر" يقول: لذي عقل.



و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و فرعون ذي الأوتاد" لأي شيء سمي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنه كان إذا عذب رجلا بسطه على الأرض على وجهه و مد يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربما بسطه على خشب منبسط فوتد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت فسماه الله عز و جل فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "إن ربك لبالمرصاد" و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: إن معناه إن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيلية.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث في تفسير قوله تعالى: "و ذا النون إذ ذهب مغاضبا - فظن أن لن نقدر عليه" إنما ظن بمعنى استيقن إن الله تعالى لن يضيق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى: "و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه" أي ضيق عليه.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: "كلا إذا دكت الأرض دكا دكا" قال: هي الزلزلة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل تدرون ما تفسير هذه الآية "كلا إذا دكت الأرض إلى قوله و جيء يومئذ بجهنم" قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أن الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض:. أقول: و هو مروي أيضا عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و جاء ربك و الملك صفا صفا" فقال: إن الله سبحانه لا يوصف بالمجيء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنما يعني بذلك و جاء أمر ربك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمدا لأني أبر بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر. قال: و يمثل له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم (عليهم السلام) فيقال له: هذا رسول الله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة (عليهم السلام) رفقاؤك. قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد و أهل بيته ارجعي إلى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمدا و أهل بيته و ادخلي جنتي فما من شيء أحب إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره و البرقي في المحاسن،.

90 سورة البلد - 1 - 20

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ لا أُقْسِمُ بهَذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنت حِلّ بهَذَا الْبَلَدِ (2) وَ وَالِدٍ وَ مَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الانسنَ فى كَبَدٍ (4) أَ يحْسب أَن لّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْت مَالاً لّبَداً (6) أَ يحْسب أَن لّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نجْعَل لّهُ عَيْنَينِ (8) وَ لِساناً وَ شفَتَينِ (9) وَ هَدَيْنَهُ النّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ مَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ (12) فَك رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطعَمٌ فى يَوْمٍ ذِى مَسغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسكِيناً ذَا مَترَبَةٍ (16) ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ تَوَاصوْا بِالصبرِ وَ تَوَاصوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئك أَصحَب المَْيْمَنَةِ (18) وَ الّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِنَا هُمْ أَصحَب الْمَشئَمَةِ (19) عَلَيهِمْ نَارٌ مّؤْصدَةُ (20)

بيان


تذكر السورة أن خلقة الإنسان مبنية على التعب و المشقة فلا تجد شأنا من شئون الحياة إلا مقرونا بمرارة الكد و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمل ثقل التكاليف الإلهية بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجد في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتى يكون من أصحاب الميمنة و إلا فآخرته كأولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكي فيؤيد به كون السورة مكية و قد ادعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنية و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنية إلا أربع آيات من أولها و سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "لا أقسم بهذا البلد" ذكروا أن المراد بهذا البلد مكة و تؤيده مكية سياق السورة و قوله: "و والد و ما ولد" خاصة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيم (عليه السلام) على ما سيجيء.

قوله تعالى: "و أنت حل بهذا البلد" حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: "بهذا البلد" للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحل مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى أقسم بهذا البلد و الحال أنك حال به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحل المستحل الذي لا حرمة له قال في الكشاف،: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله: "و أنت حل بهذا البلد" يعني و من المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرمون أن يقتلوا بها صيدا و يعضدوا بها شجرة و يستحلون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثم قال: أو سلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقسم ببلده أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية و التنفيس عنه فقال: "و أنت حل بهذا البلد" يعني و أنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصله تفسير الحل بمعنى المحل ضد المحرم، و المعنى و سنحل لك يوم فتح مكة حينا فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

قوله تعالى: "و والد و ما ولد" لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيل (عليه السلام) و هما السببان الأصليان لبناء بلدة مكة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى: "و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل": البقرة: 127 و إبراهيم (عليه السلام) هو الذي سأل الله أن يجعل مكة بلدا آمنا قال تعالى: "و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا": إبراهيم: 35.

و تنكير "والد" للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله "و ما ولد" دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحا كما في قوله: "و الله أعلم بما وضعت": آل عمران: 36.

و المعنى و أقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكة المشرفة و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو حل فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أن من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إبراهيم (عليه السلام) و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمة الكفر فيقسم بهم جميعا في سياق، و قد تبرأ إبراهيم (عليه السلام) ممن لم يتبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله: "و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم": إبراهيم: 36.

فعلى من يفسر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصهم بالمسلمين من ذريته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله: "ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا": البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدم (عليه السلام) و ذريته جميعا بتقريب أن المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سن الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنة و هو الوالد و ما ولد على أن الإنسان في كد و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكة و بين والد و كل مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذريته، و كان الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفار و الفساق.

و قيل: المراد بهما كل والد و كل مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ "ما" في "ما ولد" نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بما ولد أمته لأنه بمنزلة الأب لأمته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد" الكبد الكد و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكد و التعب به في جميع شئون حياته مما لا يخفى على ذي لب فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئا منها إلا مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: "أ يحسب أن لن يقدر عليه أحد" بمنزلة النتيجة لحجة الآية السابقة تقريرها أن الإنسان لما كانت خلقته مبنية على كبد مظروفة له لا ينال قط شيئا مما يريد إلا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدر له من الأمر و الذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبس بما قدر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كل جهة فله أن يتصرف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتن به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملا لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالا لبدا.



قوله تعالى: "يقول أهلكت مالا لبدا" اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه فقد أنفق بعض ماله و امتن به مستكثرا له بقوله: "أهلكت مالا لبدا" فنزلت الآيات و رد الله عليه بأن الفوز بميمنة الحياة لا يتم إلا باقتحام عقبة الإنفاق في سبيل الله و الدخول في زمرة الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة، و يتأيد به ما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "أ يحسب أن لم يره أحد" إنكار لما هو لازم قول الإنسان "أهلكت مالا لبدا" على طريق التكنية و محصل المعنى أن لازم إخبار الإنسان بإهلاكه مالا لبدا أنه يحسب أنا في غفلة و جهل بما أنفق و قد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكن هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بد له من أن يتحمل ما هو أزيد من ذلك من مشاق العبودية فيقتحم العقبة و يكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه.

قوله تعالى: "أ لم نجعل له عينين و لسانا و شفتين و هديناه النجدين" النجد الطريق المرتفع، و المراد بالنجدين طريق الخير و طريق الشر و سميا النجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد و الكدح، و فسرا بثديي الأم و هو بعيد.

و قوله: "أ لم نجعل له عينين" أي جهزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، و قوله: "و لسانا و شفتين" أي أ و لم نجعل له لسانا و شفتين يستعين بها على التكلم و الدلالة على ما في ضميره من العلم و يهتدي بذلك غيره على العلم بالأمور الغائبة عن البصر.

و قوله: "و هديناه النجدين" أي علمناه طريق الخير و طريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير و يميزه من الشر فالآية في معنى قوله تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8.

و في الآيات الثلاث حجة على قوله: "أ يحسب أن لم يره أحد" أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده و يعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال و يميز الخير من الشر و الحسنة من السيئة.

محصلها أن الله سبحانه هو الذي يعرف المرئيات للإنسان بوسيلة عينيه و كيف يتصور أن يعرفه أمرا و هو لا يعرفه؟ و هو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام و هل يعقل أن يكشف له عما هو في حجاب عنه؟ و هو الذي يعلم الإنسان و يميز له الخير و الشر بالإلهام و هل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به و لا يميزه؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان و يعلم ما ينويه بعمله و يميز كونه خيرا أو شرا و حسنة أو سيئة.

قوله تعالى: "فلا اقتحم العقبة" الاقتحام الدخول بسرعة و ضغط و شدة، و العقبة الطريق الصعب الوعر الذي فيه صعود من الجبل، و اقتحام العقبة إشارة إلى الإنفاق الذي يشق على منفقه كما سيصرح به.

و قيل: الجملة دعاء على الإنسان القائل: أهلكت مالا لبدا، و ليس بشيء.

قوله تعالى: "و ما أدراك ما العقبة" تفخيم لشأنها كما مر في نظائره.

قوله تعالى: "فك رقبة" أي عتقها و تحريرها أو التقدير هي أي العقبة فك رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفك الذي هو العمل و اقتحامه الإتيان به، و الإتيان بالعمل نفس العمل.

و به يظهر فساد قول بعضهم إن فك رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير و التقدير و ما أدراك ما اقتحام العقبة هو - أي الاقتحام - فك رقبة.

و ما ذكر في بيان العقبة من فك الرقبة و الإطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خص بالذكر لمكان الأهمية، و قدم فك الرقبة و ابتدىء به لكمال عناية الدين بفك الرقاب.

قوله تعالى: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة" المسغبة المجاعة، و المقربة القرابة بالنسب، و المتربة من التراب و معناها الالتصاق بالتراب من شدة الفقر، و المعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيما من ذي القربى أو مسكينا شديد الفقر.

قوله تعالى: "ثم كان من الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة" المرحمة مصدر ميمي من الرحمة، و التواصي بالصبر وصية بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله و التواصي بالمرحمة وصية بعضهم بعضا بالرحمة على ذوي الفقر و الفاقة و المسكنة.

و الجملة أعني قوله: "ثم كان" إلخ معطوفة على قول: "اقتحم" و التقدير فلا اقتحم العقبة و لا كان من الذين آمنوا "إلخ" و قيل فيها غير ذلك مما لا جدوى فيه.

قوله تعالى: "أولئك أصحاب الميمنة" بمعنى اليمن مقابل الشؤم، و الإشارة بأولئك إلى ما يدل عليه السياق السابق أي الذين اقتحموا العقبة و كانوا من الذين آمنوا و تواصوا بالصبر و المرحمة أصحاب اليمن لا يرون مما قدموه من الإيمان و عملهم الصالح إلا أمرا مباركا جميلا مرضيا.

و قيل: المراد بالميمنة جهة اليمين و أصحاب الميمنة هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم، و مقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه.

قوله تعالى: "و الذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة" الآيات الآفاقية و الأنفسية آيات و أدلة عليه تعالى تدل على توحده في الربوبية و الألوهية و سائر ما يتفرع عليه و ردها كفر بها و الكفر بها كفر بالله و كذا القرآن الكريم و آياته، و كذا ما نزل و بلغ من طريق الرسالة.

و الظاهر أن المراد بالآيات مطلقها، و المشأمة خلاف الميمنة.

قوله تعالى: "عليهم نار مؤصدة" أي مطبقة.

بحث روائي


في المجمع،: في قوله: "و أنت حل بهذا البلد" قيل: معناه و أنت محل بهذا البلد و هو ضد المحرم، و المراد أنت حلال لك قتل من رأيت من الكفار، و ذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلها الله له حتى قاتل و قتل، و قد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يحل لأحد قبلي و لا يحل لأحد بعدي و لم يحل لي إلا ساعة من نهار:. عن ابن عباس و مجاهد و عطاء.

و فيه،: في الآية و قيل: لا أقسم بهذا البلد و أنت حلال منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلا تبقى للبلد حرمة حيث هتكت: عن أبي مسلم و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). قال: كانت قريش تعظم البلد و تستحل محمدا فيه فقال: "لا أقسم بهذا البلد و أنت حل بهذا البلد" يريد أنهم استحلوك فيه و كذبوه و شتموك، و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه و يتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقلدهم إياه فاستحلوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يستحلوه من غيره فعاب الله ذلك عليهم.

و فيه،: في قوله تعالى: "و والد و ما ولد" قيل: آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم:. عن أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و المعاني السابقة مروية من طرق أهل السنة في أحاديث موقوفة، و روى القمي في تفسيره الأخيرتين بالإرسال و الإضمار.

و في تفسير القمي،: "يقول أهلكت مالا لبدا" قال: اللبد المجتمع و في المجمع،: في الآية قيل: هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره أن يكفر فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات و النفقات منذ دخلت في دين محمد:، عن مقاتل.

و في المجمع،: أنه قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): إن أناسا يقولون في قوله: "و هديناه النجدين": أنهما الثديان فقال: لا، هما الخير و الشر.



و في أصول الكافي، بإسناده عن حمزة بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: "و هديناه النجدين" قال: نجد الخير و الشر:. أقول: و روي في الدر المنثور، هذا المعنى بطرق عن علي (عليه السلام) و أنس و أبي أمامة و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواه القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا.

و في الكافي، بإسناده عن جعفر بن خلاد قال: كان أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إذا أكل أتي بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئا فيضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية "فلا اقتحم العقبة". ثم يقول: علم الله عز و جل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.

و في المجمع، و روي مرفوعا عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة و فك الرقبة، فقال أ و ليسا واحدا؟ قال: لا، عتق الرقبة أن يتفرد بعتقها و فك الرقبة أن يعين في ثمنها، و الفيء على ذي الرحم الظالم. فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "أو مسكينا ذا متربة" قال: لا يقيه من التراب شيء.

91 سورة الشمس - 1 - 15

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ الشمْسِ وَ ضحَاهَا (1) وَ الْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَ النهَارِ إِذَا جَلّاهَا (3) وَ الّيْلِ إِذَا يَغْشاهَا (4) وَ السمَاءِ وَ مَا بَنَاهَا (5) وَ الأَرْضِ وَ مَا طحَاهَا (6) وَ نَفْسٍ وَ مَا سوّاهَا (7) فَأَلهَْمَهَا فجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا (9) وَ قَدْ خَاب مَن دَساهَا (10) كَذّبَت ثَمُودُ بِطغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَث أَشقَاهَا (12) فَقَالَ لهَُمْ رَسولُ اللّهِ نَاقَةَ اللّهِ وَ سقْيَهَا (13) فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبّهُم بِذَنبِهِمْ فَسوّاهَا (14) وَ لا يخَاف عُقْبَهَا (15)

بيان


تذكر السورة أن فلاح الإنسان - و هو يعرف التقوى و الفجور بتعريف إلهي و إلهام باطني - أن يزكي نفسه و ينميها إنماء صالحا بتحليتها بالتقوى و تطهيرها من الفجور، و الخيبة و الحرمان من السعادة لمن يدسيها، و يستشهد لذلك بما جرى على ثمود من عذاب الاستئصال لما كذبوا رسولهم صالحا و عقروا الناقة، و في ذلك تعريض لأهل مكة، و السورة مكية بشهادة من سياقها.

قوله تعالى: "و الشمس و ضحاها" في المفردات،: الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار و سمي الوقت به انتهى.

و الضمير للشمس، و في الآية إقسام بالشمس و انبساط ضوئها على الأرض.

قوله تعالى: "و القمر إذا تلاها" عطف على الشمس و الضمير لها و إقسام بالقمر حال كونه تاليا للشمس، و المراد بتلوه لها إن كان كسبه النور منها فالحال حال دائمة و إن كان طلوعه بعد غروبها فالإقسام به من حال كونه هلالا إلى حال تبدره.

قوله تعالى: "و النهار إذا جلاها" التجلية الإظهار و الإبراز، و ضمير التأنيث للأرض، و المعنى و أقسم بالنهار إذا أظهر الأرض للأبصار.

و قيل: ضمير الفاعل في "جلاها" للنهار و ضمير المفعول للشمس، و المراد الإقسام بحال إظهار النهار للشمس فإنها تنجلي و تظهر إذا انبسط النهار، و فيه أنه لا يلائم ما تقدمه فإن الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس.

و قيل: الضمير المؤنث للدنيا، و قيل: للظلمة، و قيل: ضمير الفاعل لله تعالى و ضمير المفعول للشمس، و المعنى و أقسم بالنهار إذا أظهر الله الشمس، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: "و الليل إذا يغشاها" أي يغطي الأرض، فالضمير للأرض كما في "جلاها" و قيل: للشمس و هو بعيد فالليل لا يغطي الشمس و إنما يغطي الأرض و ما عليها.

و التعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل: "و النهار إذا جلاها و الليل إذا يغشاها" للدلالة على الحال ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرض في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية لما تقدم أن بين هذه الأقسام و بين المقسم بها نوع اتصال و ارتباط، هذا مضافا إلى رعاية الفواصل.

قوله تعالى: "و السماء و ما بناها و الأرض و ما طحاها" طحو الأرض و دحوها بسطها، و "ما" في "و ما بناها" و "ما طحاها" موصولة، و الذي بناها و طحاها هو الله تعالى و التعبير عنه تعالى بما دون من لإيثار الإبهام المفيد للتفخيم و التعجيب فالمعنى و أقسم بالسماء و الشيء القوي العجيب الذي بناها و أقسم بالأرض و الشيء القوي العجيب الذي بسطها.

و قيل: ما مصدرية و المعنى و أقسم بالسماء و بنائها و الأرض و طحوها، و السياق - و فيه قوله: "و نفس و ما سواها فألهمها" إلخ - لا يساعده.

قوله تعالى: "و نفس و ما سواها" أي و أقسم بنفس و الشيء ذي القدرة و العلم و الحكمة الذي سواها و رتب خلقتها و نظم أعضاءها و عدل بين قواها.

و تنكير "نفس" قيل: للتنكير، و قيل: للتفخيم و لا يبعد أن يكون التنكير للإشارة إلى أن لها وصفا و أن لها نبأ.

و المراد بالنفس النفس الإنسانية مطلقا و قيل: المراد بها نفس آدم (عليه السلام) و لا يلائمه السياق و خاصة قوله: "قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها" إلا بالاستخدام على أنه لا موجب للتخصيص.

قوله تعالى: "فألهمها فجورها و تقواها" الفجور - على ما ذكره الراغب - شق ستر الديانة فالنهي الإلهي عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الإنسان و بينه و اقتراف المنهي عنه شق للستر و خرق للحجاب.

و التقوى - على ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية مما يخاف، و المراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها و بين الفجور التجنب عن الفجور و التحرز عن المنافي و قد فسرت في الرواية بأنها الورع عن محارم الله.

و الإلهام الإلقاء في الروع و هو إفاضته تعالى الصور العملية من تصور أو تصديق على النفس.

و تعليق الإلهام على عنواني فجور النفس و تقواها للدلالة على أن المراد تعريفه تعالى للإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأولي المشترك بين التقوى و الفجور كأكل المال مثلا المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو فجور و بين أكل مال نفسه الذي هو من التقوى، و المباشرة المشتركة بين الزنا و هو فجور و النكاح و هو من التقوى و بالجملة المراد أنه تعالى عرف الإنسان كون ما يأتي به من فعل فجورا أو تقوى و ميز له ما هو تقوى مما هو فجور.

و تفريع الإلهام على التسوية في قوله: "و ما سواها فألهمها" إلخ للإشارة إلى أن إلهام الفجور و التقوى و هو العقل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت خلقتها كما قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم": الروم: 30.

و إضافة الفجور و التقوى إلى ضمير النفس للإشارة إلى أن المراد بالفجور و التقوى الملهمين الفجور و التقوى المختصين بهذه النفس المذكورة و هي النفس الإنسانية و نفوس الجن على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلفين بالإيمان و العمل الصالح.

قوله تعالى: "قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها" الفلاح هو الظفر بالمطلوب و إدراك البغية، و الخيبة خلافه، و الزكاة نمو النبات نموا صالحا ذا بركة و التزكية إنماؤه كذلك، و التدسي - و هو من الدس بقلب إحدى السينين ياء - إدخال الشيء في الشيء بضرب من الإخفاء، و المراد بها بقرينة مقابله التزكية: الإنماء على غير ما يقتضيه طبعها و ركبت عليه نفسها.

و الآية أعني قوله: "قد أفلح" إلخ جواب القسم، و قوله: "و قد خاب" إلخ معطوف عليه.

و التعبير بالتزكية و التدسي عن إصلاح النفس و إفسادها مبتن على ما يدل عليه قوله: "فألهمها فجورها و تقواها" على أن من كمال النفس الإنسانية أنها ملهمة مميزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي إن الدين و هو الإسلام لله فيما يريده فطري للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية و إنماء صالح و تزويد لها بما يمدها في بقائها قال تعالى: "و تزودوا فإن خير الزاد التقوى و اتقون يا أولي الألباب": البقرة: 197 و أمرها في الفجور على خلاف التقوى.

قوله تعالى: "كذبت ثمود بطغواها" الطغوى مصدر كالطغيان، و الباء للسببية.

و الآية و ما يتلوها إلى آخر السورة استشهاد و تقرير لما تقدم من قوله "قد أفلح من زكاها" إلخ.

قوله تعالى: "إذ انبعث أشقاها" ظرف لقوله: "كذبت" أو لقوله: "بطغواها" و المراد بأشقى ثمود هو الذي عقر الناقة و اسمه على ما في الروايات قدار بن سالف و قد كان انبعاثه ببعث القوم كما تدل عليه الآيات التالية بما فيها من ضمائر الجمع.

قوله تعالى: "فقال لهم رسول الله ناقة الله و سقياها" المراد برسول الله صالح (عليه السلام) نبي ثمود، و قوله: "ناقة الله" منصوب على التحذير، و قوله: "و سقياها" معطوف عليه.



و المعنى فقال لهم صالح برسالة من الله: احذروا ناقة الله و سقياها و لا تتعرضوا لها بقتلها أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، و قد فصل الله القصة في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: "فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها" العقر إصابة أصل الشيء و يطلق على نحر البعير و القتل، و الدمدمة على الشيء الإطباق عليه يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه عليه و المراد شمولهم بعذاب يقطع دابرهم و يمحو أثرهم بسبب ذنبهم.

و قوله: "فسواها" الظاهر أن الضمير لثمود باعتبار أنهم قبيلة أي فسواها بالأرض أو هو تسوية الأرض بمعنى تسطيحها و إعفاء ما فيها من ارتفاع و انخفاض.

و قيل: الضمير للدمدمة المفهومة من قوله: "فدمدم" و المعنى فسوى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قوي و لا ضعيف و لا كبير و لا صغير.

قوله تعالى: "و لا يخاف عقباها" الضمير للدمدمة أو التسوية، و الواو للاستئناف أو الحال.

و المعنى: و لا يخاف ربهم عاقبة الدمدمة عليهم و تسويتهم كما يخاف الملوك و الأقوياء عاقبة عقاب أعدائهم و تبعته، لأن عواقب الأمور هي ما يريده و على وفق ما يأذن فيه فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": الأنبياء: 23.

و قيل: ضمير "لا يخاف" للأشقى، و المعنى و لا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها.

و قيل: ضمير "لا يخاف" لصالح و ضمير "عقباها" للدمدمة و المعنى و لا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم لثقته بالنجاة و ضعف الوجهين ظاهر.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و نفس و ما سواها" قال: خلقها و صورها.

و في المجمع، و روى زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: "فألهمها فجورها و تقواها" قال: بين لها ما يأتي و ما يترك، و في قوله تعالى: "قد أفلح من زكاها" قال: قد أفلح من أطاع "و قد خاب من دساها" قال: قد خاب من عصى.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمران بن حصين أن رجلا قال: يا رسول الله أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه شيء قد قضي عليهم و مضى عليهم في قدر قد سبق؟ أو فيما يستقبلون به نبيهم و اتخذت عليهم به الحجة؟ قال: بل شيء قضي عليهم. قال: فلم يعملون إذا؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين هيأه لعملها و تصديق ذلك في كتاب الله "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها".

أقول: قوله: أو فيما يستقبلون إلخ الظاهر أن الهمزة فيه للاستفهام و الواو للعطف و المعنى و هل في طاعتهم لنبيهم قضاء من الله و قدر قد سبق؟ و قوله: فلم يعملون إذا، أي فما معنى عملهم و استناد الفعل إليهم؟.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كان الله إلخ معناه أن وجوب صدور الفعل حسنة أو سيئة منهم بالنظر إلى القضاء و القدر السابقين لا ينافي إمكان صدوره بالنظر إلى الإنسان و اختياره، و قد اتضح ذلك في الأبحاث السابقة من الكتاب مرارا.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "قد أفلح من زكاها" الآية أفلحت نفس زكاها الله و خابت نفس خيبها الله من كل خير.

أقول: انتساب التزكية و التخييب إليه تعالى بوجه لا ينافي انتسابهما بالطاعة و المعصية إلى الإنسان.

و إنما ينتسب إلى الله سبحانه من الإضلال ما كان على طريق المجازاة كما قال: "و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26.

و في المجمع، و قد صحت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب: من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت: لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه فأشار إلى يافوخة:. أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضا عن عمار بن ياسر.

و في تفسير البرهان،: و روى الثعلبي و الواحدي بإسنادهما عن عمار و عن عثمان بن صهيب و عن الضحاك و روى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة و عن عمار و عن ابن عدي أو عن الضحاك و روى الخطيب في التاريخ، عن جابر بن سمرة و روى الطبري و الموصلي و روى أحمد عن الضحاك عن عمار أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي أشقى الأولين عاقر الناقة و أشقى الآخرين قاتلك، و في رواية من يخضب هذه من هذا.

92 سورة الليل - 1 - 21

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ الّيْلِ إِذَا يَغْشى (1) وَ النهَارِ إِذَا تجَلى (2) وَ مَا خَلَقَ الذّكَرَ وَ الأُنثى (3) إِنّ سعْيَكمْ لَشتى (4) فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَ اتّقَى (5) وَ صدّقَ بِالحُْسنى (6) فَسنُيَسرُهُ لِلْيُسرَى (7) وَ أَمّا مَن بخِلَ وَ استَغْنى (8) وَ كَذّب بِالحُْسنى (9) فَسنُيَسرُهُ لِلْعُسرَى (10) وَ مَا يُغْنى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّى (11) إِنّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَ إِنّ لَنَا لَلاَخِرَةَ وَ الأُولى (13) فَأَنذَرْتُكمْ نَاراً تَلَظى (14) لا يَصلَاهَا إِلا الأَشقَى (15) الّذِى كَذّب وَ تَوَلى (16) وَ سيُجَنّبهَا الأَتْقَى (17) الّذِى يُؤْتى مَالَهُ يَتزَكى (18) وَ مَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلى (20) وَ لَسوْف يَرْضى (21)

بيان


غرض السورة الإنذار و تسلك إليه بالإشارة إلى اختلاف مساعي الناس و أن منهم من أنفق و اتقى و صدق بالحسنى فسيمكنه الله من حياة خالدة سعيدة و منهم من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، و في السورة اهتمام و عناية خاصة بأمر الإنفاق المالي.

و السورة تحتمل المكية و المدنية بحسب سياقها.

قوله تعالى: "و الليل إذا يغشى" إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حد قوله تعالى: "يغشى الليل النهار": الأعراف: 54، و يحتمل أن يكون المراد غشيانه الأرض أو الشمس.

قوله تعالى: "و النهار إذا تجلى" عطف على الليل، و التجلي ظهور الشيء بعد خفائه، و التعبير عن صفة الليل بالمضارع و عن صفة النهار بالماضي حيث قيل: "يغشى" و "تجلى" تقدم فيه وجه في تفسير أول السورة السابقة.

قوله تعالى: "و ما خلق الذكر و الأنثى" عطف على الليل كسابقه، و "ما" موصولة و المراد به الله سبحانه و إنما عبر بما، دون من، إيثارا للإبهام المشعر بالتعظيم و التفخيم و المعنى و أقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر و الأنثى المختلفين على كونهما من نوع واحد.

و قيل: ما مصدرية و المعنى و أقسم بخلق الذكر و الأنثى و هو ضعيف.

و المراد بالذكر و الأنثى مطلق الذكر و الأنثى أينما تحققا، و قيل: الذكر و الأنثى من الإنسان، و قيل: المراد بهما آدم و زوجته حواء، و أوجه الوجوه أولها.

قوله تعالى: "إن سعيكم لشتى" السعي هو المشي السريع، و المراد به العمل من حيث يهتم به، و هو في معنى الجمع، و شتى جمع شتيت بمعنى المتفرق كمرضى جمع مريض.

و الجملة جواب القسم و المعنى أقسم بهذه المتفرقات خلقا و أثرا أن مساعيكم لمتفرقات في نفسها و آثارها فمنها إعطاء و تقوى و تصديق و لها أثر خاص بها، و منها بخل و استغناء و تكذيب و لها أثر خاص بها.

قوله تعالى: "فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" تفصيل تفرق مساعيهم و اختلاف آثارها.

و المراد بالإعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال و قوله بعد: "و ما يغني عنه ماله إذا تردى".

و قوله: "و اتقى" كالمفسر للإعطاء يفيد أن المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينية.

و قوله: "و صدق بالحسنى" الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف و الظاهر أن التقدير بالعدة الحسنى و هي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم و هو تصديق البعث و الإيمان به و لازمه الإيمان بوحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و كذا الإيمان بالرسالة فإنها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب.

و محصل الآيتين أن يكون مؤمنا بالله و رسوله و اليوم الآخر و ينفق المال لوجه الله و ابتغاء ثوابه الذي وعده بلسان رسوله.

و قوله: "فسنيسره لليسرى" التيسير التهيئة و الإعداد و اليسرى الخصلة التي فيها يسر من غير عسر، و توصيفها باليسر بنوع من التجوز فالمراد من تيسيره لليسرى توفيقه للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدا للحياة السعيدة عند ربه و دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، و الوجه الثاني أقرب و أوضح انطباقا على ما هو المعهود من مواعد القرآن.

قوله تعالى: "و أما من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسنيسره للعسرى و ما يغني عنه ماله إذا تردى" البخل مقابل الإعطاء، و الاستغناء طلب الغنى و الثروة بالإمساك و الجمع، و المراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدة الحسنى و ثواب الله الذي بلغه الأنبياء و الرسل و يرجع إلى إنكار البعث.

و المراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه و عدم شرح صدره للإيمان أو إعداده للعذاب.

و قوله: "و ما يغني عنه ماله إذا تردى" التردي هو السقوط من مكان عال و يطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أو في جهنم أو هلاكه.

و "ما" استفهامية أو نافية أي أي شيء يغنيه ماله إذا مات و هلك أو ليس يغني عنه ماله إذا مات و هلك.

قوله تعالى: "إن علينا للهدى و إن لنا للآخرة و الأولى" تعليل لما تقدم من حديث تيسيره لليسرى و للعسرى أو الإخبار به بأوجز بيان، محصله أنا إنما نفعل هذا التيسير أو نبين هذا البيان لأنه من الهدى و الهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء و لا يمنعنا عنه مانع.

فقوله: "إن علينا للهدى" يفيد أن هدى الناس مما قضى سبحانه به و أوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة و ذلك أنه خلقهم ليعبدوه كما قال: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون": الذاريات: 56 فجعل عبادته غاية لخلقهم و جعلها صراطا مستقيما إليه كما قال: "إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم": آل عمران: 51، و قال: "و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله": الشورى: 53 و قضى على نفسه أن يبين لهم سبيله و يهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال: "و على الله قصد السبيل و منها جائر": النحل: 9، و قال: "و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل": الأحزاب: 4 و قال: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا": الإنسان: 3 و لا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالأنبياء كما قال تعالى: "و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم": الشورى: 52، و قال: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني": يوسف: 108.

و قد تقدم لهذه المسألة بيان عقلي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق و أما الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب - و المطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتب على الاهتداء بهدى الله و التلبس بالعبودية كالحياة الطيبة المعجلة في الدنيا و الحياة السعيدة الأبدية في الآخرة - فمن البين أنه من قبيل الصنع و الإيجاد الذي يختص به تعالى فهو مما قضى به الله و أوجبه على نفسه و سجله بوعده الحق قال تعالى: "فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى": طه: 123، و قال: "و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون": النحل: 97، و قال: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا": النساء: 122.

و لا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلل الأسباب بينه تعالى و بين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.

و معنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنا إنما نبين لكم ما نبين لأنه من إراءة طريق العبودية و إراءة الطريق علينا، و إن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب أنا إنما نيسر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبدية و دخول الجنة لأنه من إيصال الأشياء إلى غاياتها و علينا ذلك.



و أما التيسير للعسرى فهو مما يتوقف عليه التيسير لليسرى "ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعضه فيركمه جميعا فيجعله في جهنم": الأنفال: 37 و قد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا": إسراء: 82.

و يمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعم من الهداية التكوينية الحقيقية و التشريعية الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقية كما قال: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50، و الهداية الاعتبارية كما قال: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا": الإنسان: 3.

و قوله: "و إن لنا للآخرة و الأولى" أي عالم البدء و عالم العود فكل ما يصدق عليه أنه شيء فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الذي هو قيام وجوده بربه القيوم و يتفرع عليه الملك الاعتباري الذي من آثاره جواز التصرفات.

فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة فلا يملك شيء منه شيئا فلا معارض يعارضه و لا مانع يمنعه و لا شيء يغلبه كما قال: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41 و قال: "و الله غالب على أمره": يوسف: 21، و قال: "و يفعل الله ما يشاء": إبراهيم: 27.

قوله تعالى: "فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب و تولى" تفريع على ما تقدم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنم و بذلك يوجه ما في قوله: "فأنذرتكم" من الالتفات عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده أي إذا كان الهدى مقضية محتومة فالمنذر بالأصالة هو الله و إن كان بلسان رسوله.

و تلظى النار تلهبها و توهجها، و المراد بالنار التي تتلظى جهنم كما قال تعالى: "كلا إنها لظى": المعارج: 15.

و المراد بالأشقى مطلق الكافر الذي يكفر بالتكذيب و التولي فإنه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي و من أصيب في ماله أو ولده مثلا شقي و من خسر في أمر آخرته شقي و الشقي في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبدية لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شئون الدنيا فإنها مقطوعة لا محالة مرجوة الزوال عاجلا.

فالمراد بالأشقى هو الكافر المكذب بالدعوة الحقة المعرض عنها على ما يدل عليه توصيفه بقوله: "الذي كذب و تولى" و يؤيده إطلاق الإنذار، و أما الأشقى بمعنى أشقى الناس كلهم فمما لا يساعد عليه السياق البتة.

و المراد بصلي النار اتباعها و لزومها فيفيد معنى الخلود و هو مما قضى الله به في حق الكافر، قال تعالى: "و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": البقرة: 39.

و بذلك يندفع ما قيل: إن قوله: "لا يصلاها إلا الأشقى" ينفي عذاب النار عن فساق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أن الآية إنما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول.

قوله تعالى: "و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى" التجنيب التبعيد، و ضمير "سيجنبها" للنار، و المعنى سيبعد عن النار الأتقى.

و المراد بالأتقى من هو أتقى من غيره ممن يتقي المخاطر فهناك من يتقي ضيعة النفوس كالموت و القتل و من يتقي فساد الأموال و من يتقي العدم و الفقر فيمسك عن بذل المال و هكذا و منهم من يتقي الله فيبذل المال، و أتقى هؤلاء الطوائف من يتقي الله فيبذل المال لوجهه و إن شئت فقل يتقي خسران الآخرة فيتزكى بالإعطاء.

فالمفضل عليه للأتقى هو من لا يتقي بإعطاء المال و إن اتقى سائر المخاطر الدنيوية أو اتقى الله بسائر الأعمال الصالحة.

فالآية عامة بحسب مدلولها غير خاصة و يدل عليه توصيف الأتقى بقوله: "الذي يؤتي ماله" إلخ و هو وصف عام و كذا ما يتلوه، و لا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاص كما ورد في أسباب النزول.

و أما إطلاق المفضل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح و لازمه انحصار المفضل في واحد مطلقا أو واحد في كل عصر، و يكون المعنى و سيجنبها من هو أتقى الناس كلهم و كذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، و كذا الإنذار العام الذي في قوله: "فأنذرتكم نارا تلظى" فلا معنى لأن يقال: أنذرتكم جميعا نارا لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعا و لا ينجو منها إلا واحد منكم جميعا.

و قوله: "الذي يؤتي ماله يتزكى" صفة للأتقى أي الذي يعطي و ينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماء صالحا.

و قوله: "و ما لأحد عنده من نعمة تجزى" تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال و تكافأ و إنما يؤتيه لوجه الله و يؤيد هذا المعنى تعقيبه بقوله: "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى".

فالتقدير من نعمة تجزى به، و إنما حذف الظرف رعاية للفواصل، و يندفع بذلك ما قيل: إن بناء "تجزى" للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين.

قوله تعالى: "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" استثناء منقطع و المعنى و لكنه يؤتي ماله طلبا لوجه ربه الأعلى و قد تقدم كلام في معنى وجه الله تعالى و في معنى الاسم الأعلى.

قوله تعالى: "و لسوف يرضى" أي و لسوف يرضى هذا الأتقى بما يؤتيه ربه الأعلى من الأجر الجزيل و الجزاء الحسن الجميل.

و في ذكر صفتي الرب و الأعلى إشعار بأن ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء و أعلاه و هو المناسب لربوبيته تعالى و علوه، و من هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله: "وجه ربه الأعلى" من سياق التكلم وحده إلى الغيبة بالإشارة إلى الوصفين: ربه الأعلى.

بحث روائي


في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز و جل "و الليل إذا يغشى" "و النجم إذا هوى" و ما أشبه ذلك؟ فقال: إن لله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به:. أقول: و رواه في الفقيه، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام):.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و الليل إذا يغشى" قال: حين يغشى النهار و هو قسم.

و عن الحميري في قرب الإسناد، عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: في تفسير "و الليل إذا يغشى" إن رجلا كان لرجل في حائطه نخلة فكان يضر به فشكى ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه فقال: أعطني نخلتك بنخلة في الجنة فأبى فسمع ذلك رجل من الأنصار يكنى أبا الدحداح فجاء إلى صاحب النخلة فقال: بعني نخلتك بحائطي فباعه فجاءه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله قد اشتريت نخلة فلان بحائطي فقال رسول الله: لك بدلها نخلة في الجنة. فأنزل الله تعالى على نبيه "و ما خلق الذكر و الأنثى - إن سعيكم لشتى فأما من أعطى" يعني النخلة "و اتقى و صدق بالحسنى" هو ما عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسنيسره لليسرى إلى قوله تردى":. أقول: و رواه القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا:، و قوله: الزوجين تفسير منه (عليه السلام) للذكر و الأنثى.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و سيجنبها الأتقى" قال: أبو الدحداح.



أقول: هذا ما من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و روى الطبرسي في مجمع البيان، القصة عن الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس و فيه أن الأنصاري ساوم صاحب النخلة في نخلة في نخلته ثم اشتراها منه بأربعين نخلة ثم وهبها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوهبها النبي لصاحب الدار، ثم روى الطبرسي عن عطاء أن اسم الرجل أبو الدحداح:، و روى السيوطي في الدر المنثور، القصة عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس و ضعفه.

و قد ورد من طرق أهل السنة أن السورة نزلت في أبي بكر قال الرازي في التفسير الكبير،: أجمع المفسرون منا على أن المراد منه - يعني من الأتقى - أبو بكر، و اعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، و يقولون إنما نزلت في حق علي بن أبي طالب و الدليل عليه قوله تعالى: "و يؤتون الزكاة و هم راكعون" فقوله: "الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى" إشارة إلى ما في تلك الآية من قوله: "و يؤتون الزكاة و هم راكعون" ثم أخذ الأتقى بمعنى أفضل الخلق أي أتقى الناس جميعا و قد تقدم الكلام فيه.

أما ما نسب إلى الشيعة بأسرهم من القول فالمعتمد عليه من طرقهم صحيح الحميري المتقدم و ما في معناه من الروايات الدالة على نزولها في أبي الدحداح الأنصاري.

نعم ورد في رواية ضعيفة عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن أيمن بن محرز عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) و فيها، و أما قوله: "و سيجنبها الأتقى" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و من تبعه، و "الذي يؤتي ماله يتزكى" قال: ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو قوله: "و يؤتون الزكاة و هم راكعون" و قوله: "و ما لأحد عنده من نعمة تجزى" فهو رسول الله الذي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى و نعمته جارية على جميع الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الرواية على ضعف سندها من قبيل الجري و التطبيق دون التفسير و من واضح الدليل عليه تطبيقه الموصوف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصف على علي (عليه السلام) ثم الآية التالية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لو كانت من التفسير لفسد بذلك النظم قطعا.

هذا لو كانت الواو في قوله: "و الذي يؤتي ماله يتزكى" من الرواية و لو فرضت من الآية كانت الرواية من روايات التحريف المردودة.

و عن الحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال، قلت: قول الله تبارك و تعالى "إن علينا للهدى" قال: إن الله يهدي من يشاء و يضل من يشاء. فقلت له: أصلحك الله إن قوما من أصحابنا يزعمون أن المعرفة مكتسبة و أنهم إن ينظروا من وجه النظر أدركوه. فأنكر ذلك و قال: ما لهؤلاء القوم لا يكتسبون الخير لأنفسهم؟ ليس أحد من الناس إلا و يجب أن يكون خيرا ممن هو خير منه هؤلاء بنو هاشم موضعهم موضعهم و قرابتهم قرابتهم و هم أحق بهذا الأمر منكم أ فترى أنهم لا ينظرون لأنفسهم؟ و قد عرفتم و لم يعرفوا.

قال أبو جعفر: لو استطاع الناس لأحبونا.

أقول: أما الهداية - و المراد بها الإيصال إلى المطلوب - فهي لله تعالى لأنها من شئون الربوبية، و أما الإضلال و المراد به الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي الذي لا يضاف إليه تعالى فهو الله أيضا لكونه إمساكا عن إنزال الرحمة و عدما للهداية و إذا كانت الهداية له فالإمساك عنه أيضا منسوب إليه تعالى.

<<        الفهرس        >>