في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة281)

وموقف الإمام أو المأموم المتقدّم ذلك المقدار تكون صلاته باطلة(1) .
وفيه: أنّ هذا الاحتمال مستبعد جدّاً ، خصوصاً بعد كون الملحوظ من حالات الصلاة ، والعمدة منها هي حال القيام ، ويؤيّده قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ}(2)وقوله تعالى في صلاة الخوف: {فَلتَقُم طَائِفَةٌ مِنهُم مَعَكَ}(3) ، فاعتبار حال السجود مع عدم قرينة في الكلام في غاية البعد .
وكيف كان، فالظاهر أنّ المناط في اعتبار عدم كون الفصل بالغاً إلى ذلك المقدار في الصحّة أو الكمال هو اعتبار وحدة صلاة الجماعة، وكون صلاتهم صلاة واحدة ، وحيث يكون وجود الحائل من جدار أو سترة يمنع عن تحقق هذا المناط أيضاً ، فبهذا الاعتبار يمكن تصحيح التفريع ، وإن كان المراد بما لا يتخطّى هو المسافة فقط .
وبالجملة: فالذي يستفاد من قوله(عليه السلام) : «فإن كان بينهما سترة أو جدار . . .» ، إنّ وجود شيء من السترة أو الجدار يخلّ بتحقّق مطلوبهم وهو وقوع الصلاة جماعة ، ويقع الكلام حينئذ في أنّ مانعيّتهما هل تكون لأجل كونهما مانعين عن المشاهدة ، أو لأجل كونهما مانعين عن تحقق الوحدة التي بها تتقوّم صلاة الجماعة؟ ويترتّب على ذلك أنّه لو كان بينهم جدار من زجاج أو كان بينهم الشبابيك يكون ذلك مانعاً عن تحقق الجماعة بناءً على الثاني دون الأول ، وسيأتي الكلام فيه عن قريب .
وكيف كان، فقد حكم في الرواية بنفي الصلاة لهم إذا كان بينهم سترة أو جدار ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما لو كانت السترة أو الجدار بين الإمام

(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 476  .
(2) البقرة: 238 .
(3) النساء: 102  .

(الصفحة282)

والمأمومين ، أو بين الصفوف بعضها مع بعض ، أو بين أفراد المأمومين بعضهم مع بعض ، وقد استثنى فيها من ذلك من كان حيال الباب ، أو من كان بحيال الباب ، أو ما كان حيال الباب على اختلاف الكافي والفقيه وكذا نُسخهما .
والظاهر أنّ المراد بحيال الباب هو حذاؤه ومقابله ، ولكن مع ذلك يكون المراد من المستثنى مجملا ، وليس في كلام أحد من القدماء على ما تتبّعنا التعرّض لذلك والإشارة إليه .
نعم، ذكر الشيخ في المبسوط ما يظهر منه أنه كان بصدد بيان هذه الرواية وتفسير الاستثناء منها . حيث قال: الحائط وما يجري مجراه ممّا يمنع من مشاهدة الصفوف يمنع من صحة الصلاة والاقتداء بالامام ، وكذلك الشبابيك والمقاصير يمنع من الاقتداء بإمام الصلاة إلاّ إذا كانت مخرمة لا يمنع من مشاهدة الصفوف . الصلاة في السفينة جماعة جائزة ، وكذلك فرادى . ثمّ بيّن أقسام الصلاة في السفينة جماعة .
ثمّ قال: إذا كانت دار بجنب المسجد كان من يصلّي فيها لا يخلو من أن يشاهد من في المسجد والصفوف أو لا يشاهد ، فإن شاهد من هو داخل المسجد صحّت صلاته ، وإن لم يشاهد غير أنه اتّصلت الصفوف من داخل المسجد إلى خارج المسجد واتّصلت به صحّت صلاته أيضاً وإلاّ لم تصحّ ، وإن كان باب الدار بحذاء باب المسجد وباب المسجد عن يمينه أو عن يساره ، واتّصلت الصفوف من المسجد إلى داره صحّت صلاتهم .
فإن كان قدّام هذا الصفّ في داره صفّ لم تصحّ صلاة من كان قدّامه ، ومن صلّى خلفهم صحّت صلاتهم ، سواء كان على الأرض أو في غرفة منها ، لأنّهم مشاهدون الصفّ المتّصل بالإمام ، والصفّ الذي قدّامه لا يشاهدون الصفّ المتّصل بالإمام(1) ، انتهى  .


(1) المبسوط 1: 156 157  .

(الصفحة283)

وهذه العبارة كما ترى صريحة في أنّ المراد بالباب هو باب المسجد الذي كان عن يمينه أو عن يساره ، والمراد بحياله هو الصفّ الخارج عن المسجد المتّصل بالصفّ الواقع فيه ، سواء كان مشاهداً لمن هو داخل المسجد أو لم يكن مشاهداً ولكن كانت الصفوف بأجمعها متّصلة ، فلو لم يكن الصفّ الخارج مشاهداً ولا متّصلا كالصفّ الواقع قدّام الصفّ الطويل الواقع بعضه في المسجد وبعضه في خارجه ، لا تصحّ صلاة أهل ذلك الصفّ الواقع في خارجه أصلا .
هذا ، ولكن حكي عن الوحيد البهبهاني(قدس سره) أنّه صرّح بأنّه إن كانت السترة والجدار مستوعباً لما بين الصفّين فصلاة كلّ من الصفّ المتأخّر باطلة ، وإن لم يكن مستوعباً تصحّ صلاة خصوص من كان محاذياً للباب(1) . ومقتضاه بطلان صلاة من يصلّي إلى جانبي المأمومين المشاهدين الواقعين حيال الباب ، وقد نسب ذلك إلى النصّ وكلام الأصحاب .
واستظهر بعض الأعاظم من المعاصرين ـ بعد نقل ما صرح به الوحيد البهبهاني ـ أن قوله مطابق للنص وقال: الإنصاف أنّ النصّ ظاهر فيما أفتى به . وإن عدل عنه بعد ذلك وقال: التأمّل يقتضي صحة صلاة الواقفين إلى جانبي من يصلّي وهو يشاهد الصفّ المقدم أو الإمام وقد بيّن ذلك بكلام طويل(2) .
وكيف كان، فحمل الرواية على ما ذكره الوحيد يوجب الحكم باختصاص صحة صلاة من يصلّي خلف الإمام الواقف في المحراب الداخل بخصوص عدّة من المأمومين الذين يشاهدون الإمام ، والحكم ببطلان صلاة غير من يشاهده من الصفّ الأول ، مع أنّه حكم في الروايات بكراهة القيام في المحراب الداخل ، ولم يقع

(1) مصابيح الظلام 7 : 35 ـ 36 و 51 ـ 52 مفتاح 181  .
(2) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 473  .

(الصفحة284)

فيها تعرّض لهذه الجهة أصلا .
فالإنصاف انّه لا محيص عن حمل الرواية على ما ذكره الشيخ في عبارته المتقدّمة ، من أنّ المراد بالباب هو باب المسجد الذي كان عن يمينه أو يساره ، وبحياله هو الصفّ الخارج عن المسجد المتّصل بالصفّ الداخل أعمّ من المشاهد وغيره مع حفظ الإتّصال .
نعم، يبقى الكلام في قوله(عليه السلام) بعد ذلك: «وهذه المقاصير إنّما أحدثها الجبّارون . . .» ، والظاهر أنّ المقاصير كانت من بدع معاوية ، وكان غرضه من إحداثها التحفّظ لنفسه عمّن يريد قتله ، ومن هذه الجهة كان بابها مسدوداً في حال الصلاة أيضاً ، والظاهر أنّه كان لها باب من خارج المسجد ، وكان ذلك الباب مختصّاً بالإمام لأجل الدخول والخروج .
وحينئذ فإن كان مراد من خصّ الصحّة في السترة والجدار الواقع بين الصفّين المشتمل على الباب بخصوص من كان حياله ، أنّ المراد بالباب في قوله(عليه السلام): «إلاّ من كان حيال الباب» هو باب المقصورة بحيث كان غرضه تخصيص الحكم بالصحّة بالمأمومين الواقعين في مقابل باب المقصورة ، الذين لا يتجاوزون عن عدّة قليلة .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكر من أنّ الظاهر عدم كون باب المقصورة مفتوحاً بل كان مسدوداً  ، لأنّ الغرض من إحداثها لم يكن يتمّ إلاّ بذلك ـ أنّ الظاهر كون المراد بالباب هو باب المسجد لا باب المقصورة ، ويدور الأمر حينئذ بين أن يكون المراد هو الباب الواقع في الجدار الذي هو مقابل للإمام والمأمومين  ، وبين أن يكون المراد هو الباب الواقع في الجدار الذي كان في يمين المسجد أو يساره ، وبين أن يكون المراد هو الباب الواقع خلف المأمومين الذين يصلّون في داخل المسجد .
لامجال للإحتمال الأول، لعدم كون الجدارالمقابل حائلابوجه،فلامعنى لاستثناء من كان حيال الباب الواقع فيه ، كما أنّه لا مجال للاحتمال الأخير لعدم كون المتعارف

(الصفحة285)

في المساجد ، إشتمال الطرف الواقع خلف المأمومين على الجدار فضلا عن الباب .
ويؤيّده أنّه لم يتعرّض شيخ الطائفة(قدس سره) لهذا الفرع في عبارته المتقدّمة في المبسوط ، مع أنّه على هذا التقدير كان أولى بالتعرّض كما لا يخفى ، فينحصر حينئذ في أن يكون المراد هو الباب الواقع في الجدار في طرف اليمين أو اليسار ، كما عرفت في عبارة الشيخ(قدس سره) .
وحينئذ فقوله(عليه السلام): «وهذه المقاصير  . . .» ، كان مسوقاً لدفع توهّم ربما يمكن أن يتحقّق لزرارة ـ راوي الحديث ـ من أجل حكمه(عليه السلام) بنفي الصلاة مع السترة أو الجدار بين الإمام والمأمومين ، أو بينهم بعضهم مع بعض .
توضيحه إنّه حيث نفى الإمام الصلاة مع وجود السترة أو الجدار كان ذلك موجباً لتوهّم أنّه كيف يجتمع ذلك مع الصلاة خلف المقاصير مع وجود الساتر والحائل؟ فدفع هذا التوهّم بالحكم ببطلان الصلاة خلف تلك المقاصير أيضاً ، وأنّها كانت من بدع الجبّارين ، ولم يكن في زمان أحد من الناس يعني الخلفاء الثلاثة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لو فرض جدار واقع بين الصفوف بحيث كان في مقابل الصفّ المتأخّر  ، وخلف الصفّ المتقدّم ، وكان ذلك الجدار مشتملا على باب ، ففي هذه الصورة لا مجال لدعوى اختصاص الحكم بالصحّة في الصفّ المتأخّر بخصوص من وقع منهم حيال الباب ، بل الظاهر صحة صلاة جميعهم لأجل كونهم متّصلين(1) .


(1) وعليه فلا يبقى وجه للاحتياط اللزومي على ما في تعليقة سيّدنا الاستاذ «مدّ ظلّه العالي» على العروة الوثقى فضلا عن الجزم بالبطلان ، لأنّ ذلك كلّه مبنيّ على أن يكون المراد بالباب هو باب المقصورة ، وقد عرفت أنّ الظاهر كون المراد به هو الباب الواقع في يمين المسجد أو يساره ، وقد استظهر الأستاذ «دام ظلّه» من الرواية ذلك ، نظراً إلى عبارة الشيخ المتقدّمة ، وبذلك قد عدل عمّا في التعليقة فلا تغفل . «المقرّر» .

(الصفحة286)

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في رواية زرارة أنّها تشتمل على ثلاث عبارات:
1 ـ قوله(عليه السلام) : «ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة . . .» ، وقد عرفت أنّه لا ينبغي الارتياب في أنّ هذه الجملة لا تدلّ على أزيد من حكم استحبابيّ بملاحظة كلمة «ينبغي» وقيام الإجماع بل الضرورة على ذلك .
2 ـ قوله(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى  . . .» ، الذي يكون العبارة الثانية على ما في الفقيه ، والعبارة الاُولى على ما في الكافي ، وقد عرفت أنّ ظاهرها لا يجتمع مع العبارة الاُولى ، حيث إنّها تدلّ على استحباب كون الفصل أقلّ ممّا لا يتخطّى وهذه ظاهرة في بطلان الجماعة أو أصل الصلاة مع كون الفصل قدر ما لا يتخطّى .
ويمكن الجمع بينهما بوجوه:
أحدها: حمل هذه العبارة على شدّة تأكّد الاستحباب نظراً إلى أنّ الظاهر كون المراد بما لا يتخطّى في المقامين أمراً واحداً ، وهو المسافة والبعد الذي لا يمكن طيّه بخطوة .
ثانيها: حمل ما لا يتخطّى في العبارة الاُولى على البعد والمسافة ، وفي هذه العبارة على مقدار العلوّ بمعنى وجود حائل لا يمكن طيّه بخطوة ، بل يحتاج إلى خطوة لأجل الصعود ، واُخرى لأجل النزول ، نظراً إلى تفريع قوله(عليه السلام) : «فان كان بينهم سترة أو جدار . . .» .
ثالثها: حمل ما لا يتخطّى في هذه العبارة على البعد الذي لا يمكن طيّه بخطوات ، لا بخطوة واحدة فقط .
رابعها: حمله على البعد الذي لا يمكن طيّه بخطوة في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود كما عرفت . هذا ، وقد ظهر لك أنّ أحسن وجوه الجمع هو

(الصفحة287)

الوجه  الأول .
3 ـ قوله(عليه السلام) : «فإن كان بينهم سترة أو جدار . . .» ، وهو الدليل الفريد في اعتبار عدم الحائل في باب الجماعة ، لأنّ الروايات الواردة في هذا الباب التي جمعها في الوسائل في أبواب مختلفة ، وإن كانت كثيرة ربما تبلغ ثلاث عشرة رواية ، لكن بعضها لا يرتبط بهذا المقام . وبعضها قد تكرّر نقلها في تلك الأبواب وبعضها تدلّ على عدم مانعية الستر مطلقاً ، أو بالنسبة إلى خصوص النساء ، ولا بأس بإيراد جملة منها فنقول:
منها: رواية منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّي اُصلّي في الطاق يعني المحراب؟ فقال: «لا بأس إذا كنت تتوسّع به»(1) . ولم يظهر لنا ارتباط هذه الرواية بباب الجماعة ، كما أنّه لم يظهر لنا المراد من السؤال والجواب الواقعين فيها .
ومنها: رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز ، وأكثر ما يكون مربض فرس»(2) . وهذه الرواية أيضاً مجملة وليس فيها إشعار بكونها مرتبطة بباب الجماعة ، كما أنّه ليس المراد بالقبلة هي الكعبة ، بل المراد بها هو الجدار المقابل ، ولعلّ النهي عن الزيادة عن مربض فرس لأجل كونه مع الزيادة عليه يصير قدّام المصلّي مختلف الناس ، وبه يختلّ التوجّه الذي هو المقصود في الصلاة .
ومنها: رواية الحسن بن الجهم قال: سألت الرضا(عليه السلام) عن الرجل يصلّي بالقوم في مكان ضيّق ويكون بينهم وبينه ستراً ، أيجوز أن يصلّي بهم؟ قال: «نعم»(3) . ويحتمل قويّاً أن يكون الستر تصحيف الشبر ، وعليه فلا ربط لها بباب الحائل ، ولا

(1) التهذيب 3: 52 ح 181; الوسائل 8: 409 . أبواب صلاة الجماعة ب61 ح 1  .
(2) الفقيه 1: 253 ح 1145; الوسائل 8 : 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح3  .
(3) التهذيب 3: 276 ح 804 ; الوسائل 8 : 408 . أبواب صلاة الجماعة ب59 ح3  .

(الصفحة288)

معارضة بينها وبين رواية زرارة المتقدّمة الدالّة على أنّه إن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة .
ومنها: رواية عمّار الدالّة على نفي البأس فيما إذا كان بين النساء وبين إمام القوم حائط أو طريق ، وسيأتي نقلها والتكلّم في مدلولها .
بقي في المقام أمران:
الأمر الأول: هل الشبابيك والجدار من الزجاج مانع من الوحدة أم لا؟
التحقيق في حكمهما أنّه إن قلنا: بأنّ نفي الصلاة مع وجود السترة أو الجدار في رواية زرارة المتقدّمة متفرّع على الحكم بنفيها ، فيما إذا كان بين الصفوف قدر ما لا يتخطّى ، بأن كان الصادر «الفاء» دون «الواو» ، فالظاهر حينئذ بطلان الصلاة مع كون الحائل مشبّكاً أو جداراً من زجاج ، لأنّ الملاك حينئذ هو كون الفاصل قدراً لا يمكن طيّه بخطوة ، لا لأجل المسافة بل لأجل العلوّ والارتفاع ، فالملاك هو ارتفاع الفاصل بذلك المقدار ، ومن المعلوم تحقق هذا الملاك في مثل الشبابيك والجدار من الزجاج . وإن لم نقل بالتفريع أو شككنا فيه ، فالحكم بالصحّة أو البطلان متفرّع على ملاحظة أنّ مانعية الجدار والسترة هل هي لأجل كونهما مانعين عن المشاهدة أو لأجل كونهما مانعين عن تحقق الوحدة المعتبرة في الجماعة؟
ويمكن أن يستفاد من العبارات الواقعة في الرواية صدراً وذيلا ، أنّ المقصود من الجميع اعتبار الوحدة ، وأنّه لابدّ في صلاة الجماعة من ارتباط صلاة المأمومين مع الإمام ، وكذا المأمومين بعضهم مع بعض بحيث تعدّ صلاتهم كأنّه صلاة واحدة صادرة من شخص واحد ، وتحقق هذا الارتباط كما أنّه يتوقّف على ثبوت المقارنة المكانية من جهة عدم الفصل والبعد الكثير بين مواقفهم ، وعدم الحائل من الجدار أو السترة كذلك .


(الصفحة289)

فمانعية الحائل حينئذ تصير من جهة كونه يمنع عن تحقق الوحدة والارتباط بين الصلوات ، لا من جهة كونه مانعاً عن المشاهدة ، وقد عرفت اعتبار الوحدة في تحقق الجماعة عند العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين ، خلافاً لغيرهم حيث لا يعتبرون المقارنة من حيث المكان أصلا .
نعم، ذكر الشافعي على ما حكي عنه أنّه لابدّ أن لا يكون الفصل بين الإمام والمأموم وكذا بين المأمومين أزيد من ثلاثمائة ذراع(1) ، ومن الواضح أنّه مع رعاية ما ذكره أيضاً لا تحصل الوحدة في كثير من الموارد .
إذا ظهر لك ما ذكرناه ينقدح منه أنّ الشبابيك وكذا الجدار من الزجاج لا تجوز الصلاة خلفهما ، لإخلالهما بالوحدة المعتبرة على ما عرفت . هذا ، ولكن لابدّ مع ذلك من ملاحظة انطباق شيء من العنوانين المذكورين في الرواية ، وهما الجدار والسترة على الشبابيك ، والجدار من الزجاج ، فنقول:
أمّا السترة فلا تصدق على الشبابيك الذي يمكن أن يرى معه بعض أجزاء المصلّين الواقعين خلفه ، لعدم كونه ساتراً بوجه . وأمّا الجدار فالظاهر عدم صدقه عليه أيضاً فلا مانع من حيلولته ، ولذا كان الجدار المخرم مورداً لاستثناء جمع من القدماء كالشيخ في عبارة المبسوط المتقدّمة(2) .
وأمّا الجدار من الزجاج فهو وإن لم يكن في زمان صدور الرواية موجوداً ، وندرة وجوده في هذه الأزمنة أيضاً ، إلاّ أنّ الظاهر انطباق عنوان الجدار عليه ، اللّهم إلاّ أن يقال بانصرافه إلى الجدر الموجودة في تلك الأزمنة ممّا كانت مانعة عن المشاهدة ، ولكن هذا بعيد .
هذا ، ولو شككنا في ذلك وأنّ الجدار من الزجاج أو الشبابيك هل يكون

(1) المجموع 4 : 303 ـ 304; سنن البيهقي 3 : 257 ـ 259 ; تذكرة الفقهاء 4 : 252 مسألة 551  .
(2) راجع 3 : 282 .

(الصفحة290)

مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إلى الصفوف الواقعة خلفه أم لا؟ فهل القاعدة تقتضي في ذلك الاشتغال أو البراءة؟ قال بعض مشايخنا بإصبهان: إنّ مقتضى الأصل في مثل المقام وهو كلّ ما يشكّ في اعتباره في باب الجماعة الاشتغال ، نظراً إلى أنّ أصل التكليف معلوم ، والمكلّف مخيّر في امتثاله بين الإتيان بالصلاة فرادى وبين الإتيان بها مع الجماعة ، فإذا صلّى فرادى يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، لكون أجزائها وشرائطها معلومة ، وحصوله يستتبع سقوط التكليف ، وأمّا إذا أتى بها في جماعة مع عدم رعاية ما يشكّ في اعتباره  ، لا يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، والقاعدة مع الشكّ في حصوله تقتضي الاشتغال بلا إشكال .
ويرد عليه أنّا قد حقّقنا في محلّه أنّ الحقّ جريان البراءة عقلا ونقلا فيما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيّين ، وأنّه لا يختصّ جريان البراءة كذلك بما إذا كان المكلّف به بالتكليف التعييني مردّداً بين ذلك ، بل تجري فيما لو كان المكلّف به بالتكليف التخييري مردّداً بينهما أيضاً ، كما في المقام .
هذا ، وقد قرّر المحقّق الحائري(قدس سره) في كتاب صلاته عدم جريان البراءة في مثل المقام بوجه آخر ، وهو أنّ الرجوع إلى البراءة إنّما يصحّ فيما لم يكن هناك دليل اجتهاديّ، وأمّا إذا دلّ دليل اجتهاديّ على عدم صحة العمل مع فقدان القيد المشكوك اعتباره ، فكيف يتمسك بالبراءة؟ والمقام من هذا القبيل ، لأنّ عموم قوله(صلى الله عليه وآله) : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» يقتضي بطلان كلّ صلاة خالية عن فاتحة الكتاب خرج منه الجماعة الواقعية ، فإذا شكّ في اعتبار قيد فيها ولم يدلّ على ثبوته دليل ، ولا إطلاق لدليل الجماعة يدلّ على عدمه ، فالعموم المذكور يقتضي بطلان تلك الصلاة لو ترك القراءة فيها .
وبهذا العموم يستكشف عدم كونها من أفراد الجماعة الواقعية ، فإنّها لو كانت من أفرادها لكانت القراءة ساقطة منها ، ثمّ دفع توهّم جريان حديث الرفع ، بناءً

(الصفحة291)

على دلالته على رفع الأحكام الوضعية أيضاً ، ثمّ قال: وقد كنت أعتمد على ذلك سابقاً بحيث لم ينقدح لي وجه للتمسك بأصالة البراءة في باب الجماعة ، ولكن اطلعت على عبارة شيخنا المرتضى(قدس سره) في كتابه في صلاة الجماعة في البحث عن الحائل وهو متمسك بالبراءة(1) ، وكيف يخفى على مثله ـ وهو إمام الفنّ واُستاذ كلّ من تأخّر عنه ـ هذه الجهة التي ذكرناها ثمّ بيّن وجه جريان البراءة(2) .
وكيف كان فيرد على ما ذكره ممّا اعتمد عليه سابقاً :
أوّلا: انّ الخارج عن عموم قوله(صلى الله عليه وآله): «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»  ، بمقتضى لسان الروايات ليس هي الجماعة الواقعية ، بل الموجود فيها هو النهي عن القراءة خلف من يصلّي خلفه أو خلف من يقتدي به ، في مقابل من لا يكون قابلا للاقتداء لفساد مذهبه ، ومن الواضح وجود هذا العنوان في مثل المقام فتدبّر .
وثانياً: إنّه لو سلّم كون الخارج عنوان الجماعة الواقعية فنقول مع الشكّ في وجود هذا العنوان لا مجال للتمسّك بذلك العموم ، لأنّه يصير من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص ، وهو غير جائز على ما اختاره واخترناه ، فتدبّر .
الأمر الثاني: حكم النساء في باب الحائل
قال الشيخ في النهاية: وقد رخّص للنساء أن يصلّين إذا كان بينهنّ وبين الإمام حائط(3) . وظاهره العمل بما يدلّ على هذا الترخيص كما في التهذيب(4) ، ووافقه

(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : 284  .
(2) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 469 ـ 470  .
(3) النهاية : 117  .
(4) التهذيب 3: 53 ح 183  .

(الصفحة292)

على ذلك سلاّر وابن حمزة الطوسي(1) ، ولكنّه لم يقع التعرّض لحكم النساء في المبسوط والخلاف والمهذّب والكافي والغنية ، وقد اختار الحلّي عدم استثنائهنّ(2)وهو الذي يظهر من الصدوق ، حيث روى في ذيل حديث زرارة المتقدّمة الواردة في الحائل أنّه قال: «وقال أبو جعفر(عليه السلام): أيّما امرأة صلّت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطّى فليس لها تلك بصلاة»(3) ، اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه حمل ما لا يتخطّى على خصوص البعد ، لا الحائل ولا الأعمّ منهما .
ولعلّه الظاهر من العبارة ، حيث روى بعد ذلك بلا فصل قوله: قلت: فإن جاء إنسان يريد أن يصلّي كيف يصنع وهي إلى جانب الرجل؟ قال: «يدخل بينها وبين الرجل ، وتنحدر هي شيئاً» فإنّ الظاهر من ذلك أنّ المراد هو البعد والمسافة الواقعة بينهما .
وكيف كان، فالدليل في هذا الباب على ترخيص ذلك للنساء رواية عمّار ، قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصلّي بالقوم وخلفه دار وفيها نساء ، هل يجوز لهنّ أن يصلين خلفه؟ قال: «نعم ، إن كان الإمام أسفل منهنّ» . قلت: فإن بينهنّ وبينه حائطاً أو طريقاً؟ فقال: «لا بأس»(4) .
هذا ، وفي دلالة الرواية على جواز ذلك للنساء خاصّة وعدم كون السترة مانعة عن صحة صلاتهنّ إشكال ، حيث إنّه لا يظهر منها اختصاص ذلك بالنساء حتّى تخصص بها رواية زرارة المتقدّمة الدالّة على مانعية السترة أو الجدار مطلقاً ، بناءً على عدم اختصاص لفظ «القوم» الواقع فيها بالرجال ، كما ربما يدّعى .


(1) المراسم: 87 ; الوسيلة : 106  .
(2) السرائر 1: 283  .
(3) الفقيه 1: 253 ح1144; الوسائل 8 : 410  . أبواب صلاة الجماعة ب 62 ح 2  .
(4) التهذيب 3: 53 ح183; الوسائل 8: 409 . أبواب صلاة الجماعة ب60 ح1  .

(الصفحة293)

هذا، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ اعتبار عدم الحائل إنّما هو لأجل التحفّظ على الوحدة التي بها تتقوّم الجماعة ، فتخصيص ذلك بالرجال فقط في غاية البعد . وإلى أنّ الرواية تشتمل على نفي البأس عن فصل الطريق مع كونه بحسب الغالب قدر ما لا يتخطّى .
اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه لابدّ بملاحظة رواية الصدوق التي عرفت من حمل الطريق في هذه الرواية على الأقلّ ممّا لا يتخطّى من البعد والمسافة ، وأنّ التخصيص بالرجال مع كون اعتبار عدم الحائل لأجل حفظ الوحدة إنّما هو لأجل أنّ اجتماع النساء مع الرجال واختلاطهن بهم مشتمل على مفسدة عظيمة ، وهي التي لوحظت في الحكم بعدم قدح الحائل للنساء .
وكيف كان، فلا محيص عن موافقة الشيخ(رحمه الله)والحكم باختصاص النساء بعدم كون مثل الحائط مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إليهنّ .

الثالث من شرائط الجماعة : عدم علو الإمام على المأموم
من الأمور المعتبرة في الجماعة، عدم علو الإمام عن المأمومين في الجملة ، قال الشيخ في النهاية: ولا يجوز أن يكون الإمام على موضع مرتفع من الأرض ، مثل دكان أو سقف وما أشبه ذلك ، فإن كان أرضاً مستوياً لا بأس بوقوفه عليه ، وإن كان أعلى من موضع المأمومين بقليل ، ولا بأس للمأمومين أن يقفوا على موضع عال ، فيصلّوا خلف الإمام إذا كان الإمام أسفل منهم(1) ، انتهى .
ومستند هذا الحكم من طرق الإمامية حديث واحد مضطرب المتن ، رواه عمّار الساباطيّ الفطحي عن أبي عبدالله(عليه السلام) ، وأخرجه الكليني عن أحمد بن

(1) النهاية : 117  .

(الصفحة294)

إدريس وغيره ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدق ، عن عمّار . ورواه الصدوق بإسناده عنه ، والشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب الكليني .
ومتن الحديث هكذا: قال: سألته عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل (في الفقيه: سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الإمام يصلّي وخلفه قوم أسفل) من موضعه الذي يصلّي فيه؟ فقال: «إن كان الإمام على شبه الدكّان ، أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، فإن كان (في الفقيه: وإن كان) أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقل إذا كان الارتفاع ببطن مسيل(1) فإن كان أرضاً مبسوطة (في الفقيه: وإن كانت الأرض مبسوطة) ، أو كان في موضع منها ارتفاع ، (في الفقيه: وكذلك متن التهذيب: وكان) فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه ، والأرض مبسوطة إلاّ انّهم في موضع منحدر؟ قال: لا بأس» ، (في الفقيه: إلاّ أنّها موضع منحدر فلا بأس به) .
قال: وسئل: فإن قام الإمام أسفل (في التهذيب: وإن كان الإمام في أسفل) من موضع من يصلّي خلفه؟ قال: «لا بأس . وقال: إن كان الرجل فوق بيت (في التهذيب سطح) أو غير ذلك دكّاناً كان أو غيره ، وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته، وإن كان أرفع منه بشيء كثير(2)»(3) .


(1) كما في نوع من النسخ ، وهو الموضع المنحدر لأجل جريان السيل ، وفي التهذيب: إذا كان الإرتفاع منهم بقدر شبر أو بقدر يسير كما في (خ ل  ، منه) ، وفي الفقيه: إذا كان الارتفاع بقطع سيل وفي نسخة بقطع سئل .
(2) في نسخة من التهذيب : بشيء يسير  .
(3) الكافي 3: 386 ح9; الفقيه 1 : 253 ح1146; التهذيب 3: 53 ح185; الوسائل 8 : 411 . أبواب الجماعة ب63  ح1  .

(الصفحة295)

والكلام في هذه الرواية تارة يقع في سندها واُخرى فيما يستفاد من متنها مع كمال اضطرابه . أمّا السند فلا ينبغي الخدشة فيه ، لأنّ عمّاراً وإن كان من الفطحيّة القائلين بإمامة عبدالله الأفطح ـ الولد الأكبر للإمام الصادق(عليه السلام) ـ إلاّ أنّ الظاهر كونه من الثقات ، وكان كتابه الذي صنّفه في الفقه وجمع فيه الأحاديث المروية عن الصادق(عليه السلام) من أوّل الطهارة إلى آخر الديات مورداً لاعتماد الأصحاب ومرجعاً لهم .
وقوله بإمامة عبدالله الأفطح لا يقدح في ذلك ، لأنّ الفطحيّة لم يكونوا مخالفين للإمامية في الأحكام الفقهية والفروع العملية ، لأنّ إمامهم لم يبق بعد الصادق(عليه السلام)إلاّ قليلا ، ولم ينقل عنه في ذلك الزمان اليسير شيئاً يخالف ما ذهب إليه الإمامية في باب الفروع .
وكيف كان، فالظاهر حجّية مثل رواية عمّار ، لأنّ تخصيص الحجّية بالصحيح الأعلائي الذي هو عبارة عن الخبر الذي كان كلّ واحد من رواة سنده مذكّى بتذكية عدلين ، كما يقول به صاحب المدارك(1) يساوق القول بعدم حجّية شيء من أخبار الآحاد الموجودة في الجوامع التي بأيدينا ، لأنّه على تقدير تحقق التذكية من شخصين يحتاج إحراز عدالة كلّ واحد منهما إلى قيام البيّنة عليه ، إذ لا نعلم بها غالباً بل لا يتحقّق العلم بها إلاّ نادراً .
ومن الواضح عدم تحقق هذا المعنى بالنسبة إلى الرواة ، إذ غاية الأمر تحقق التعديل من الشيخ والنجاشي معاً وهو لا يحقّق الصحّة بالمعنى المذكور ، فالمناقشة في السند من هذه الجهة ممّا لا ينبغي ، كما أنّ طرح خصوص هذه الرواية ـ لأجل اضطراب متنها الناشئ من العمّار لكونه من الأعاجم بحسب الأصل ، أو من الرواة

(1) مدارك الأحكام 4 : 320  .

(الصفحة296)

عنه ـ لا وجه له ، لأنّ الاضطراب لا يوجب طرح الرواية رأساً ، بل غايته الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا يستفاد منها .
فنقول في المقام: لا خفاء في أنّه يستفاد من الرواية أنّه إن قام الإمام على شبه الدكّان أو السقف ، والمأمومون على الأرض لا تكون صلاتهم بمجزية ، ولا يخفى أنّ مثل الدكّان والسقف له ثلاث جهات:
الاُولى: كونه مرتفعاً عن الأرض وعالياً عليها بالعلوّ الدفعي .
الثانية: كونه مشتملا على البناء .
الثالثة: كون ارتفاعه بحسب الغالب أزيد من إصبع بكثير .
لا إشكال في أنّ الجهة الثانية لا خصوصية لها بنظر العرف ، لأنّه لا يكاد يرى لها مدخلا في الحكم بعدم الجواز أو الأجزاء ، فلا ينبغي المناقشة في إلغائها ، وإنّه لو كان المكان المرتفع بالوجه المذكور غير مشتمل على البناء لا تكون صلاة المأمومين الواقفين على الأرض بمجزية أيضاً .
إنّما الإشكال في الجهتين الباقيتين ، فنقول: قوله(عليه السلام) : «فإن كان أرفع منهم بقدر اصبع أو أكثر أو أقلّ إذا كان الارتفاع ببطن مسيل . . .» ، الظاهر أنّه شرط وجزاؤه مع الشرطين الآخرين ، وهما قوله: «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» وقوله: «فإن كان أرضاً مبسوطة» هو قوله: «لا بأس» ، ولا مجال لجعل «إن» في هذه الجملة أعني قوله: «فإن كان أرفع منهم» وصليّة ، وإن كانت مبتدأة بالواو دون الفاء ، لأنّ مفادها يناقض الجملة الاُولى الدالّة على عدم جواز صلاة المأمومين مع كون الامام على شبه الدكّان .
فلابدّ من أن تكون جملة شرطية ، وجزاؤها ما يدلّ على عدم البأس ، ومحصّل هذه القضية الشرطية المركّبة من ثلاثة شروط وجزاء واحد ، إنّه إذا كانت هنا أرضاً منحدرة كبطن مسيل وقام الإمام في الموضع المرتفع والمأمومون في

(الصفحة297)

أسفله ، وكان علوّ الإمام بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ فلا بأس بصلاتهم ، وأمّا لو كان الارتفاع والعلوّ الدفعي بهذا المقدار الذي يقرب الإصبع أو كان انحدار الأرض وارتفاعه وانخفاضه أزيد من ذلك المقدار ، فلا يستفاد حكم شيء منهما من الرواية .
نعم، لا يبعد دعوى أنّ العرف لا يكاد يرى لخصوصية الانحدار ، فيما إذا لم يكن ارتفاعه أزيد من أكثر من إصبع مدخلا في الحكم بعد البأس ، فإذا كان العلوّ بما يقرب الإصبع من المقدار غير قادح في تحقق الجماعة فيما إذا كانت الأرض منحدرة ، ففيما إذا لم تكن كذلك يكون هذا المقدار منه مغتفراً أيضاً .
هذا إنّما هو على تقدير كون الشرط الثاني: «إذا كان الإرتفاع ببطن مسيل» ، وأمّا على تقدير أن يكون الشرط: «إذا كان الإرتفاع بقدر شبر أو بقدر يسير» ، فالجملة تدلّ بنفسها على أنّ المقدار القريب من الإصبع لا بأس به ، وإن كان العلوّ دفعياً لا تدريجياً ، كما أنّه لا ينحصر ذلك بما إذا كان العلوّ بهذا المقدار من نفس الأرض ، أي غير مصنوع بفعل صانع ، فإذا كان العلوّ بمقدار يسير بفعل فاعل أوجد هذا العلوّ ، لا يكون ذلك بقادح أيضاً ، ولذا عرفت في عبارة الشيخ(قدس سره)(1) أنّه جعل المدار هي قلّة العلوّ من غير اعتبار الانحدار أصلا .
وكيف كان، فلا ينبغي بملاحظة الرواية الخدشة في أصل الحكم ، نعم ربما يناقش فيه نظراً إلى عدم ظهور قوله(عليه السلام): «لم تجز صلاتهم» في بطلانها ، أو إلى احتمال كون الصادر «لم تحسن صلاتهم» ، كما في محكيّ بعض نسخ الفقيه . هذا ، ولكنّ الظاهر خلاف ذلك ، لظهور «لم تجز صلاتهم» بملاحظة نظائره من الاستعمالات في البطلان والفساد ، واحتمال كون الصادر: «لم تحسن» لا أساس له ،

(1) راجع 3 : 293 .

(الصفحة298)

لأنّ النسخ الخطيّة الصحيحة من الفقيه مشتملة على قوله «لم تجز» ، وعلى تقديره فلا ظهور له أيضاً في الكراهة كما لايخفى .
هذا ، ولكن مع ذلك كلّه قد خالف في أصل الحكم الشيخ في محكيّ الخلاف(1) ، مدّعياً عليه الإجماع ، وتردّد فيه المحقّق في الشرائع(2) ، ولعلّ منشأ تردّده ما روي من أنّ عماراً(رضي الله عنه) تقدّم للصلاة ، فقام على دكّان والناس أسفل منه ، فتقدّم حذيفة فأخذ بيده حتّى أنزله ، فلمّا فرغ من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: «إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقومنّ في مكان أرفع من مقامهم»؟ قال عمّار: فلذلك اتّبعتك حين أخذت على يديَّ  .
وروي أيضاً أنّ حذيفة أمَّ بالمدائن على دكّان ، فأخذ عبدالله بن مسعود بقميصه فجذبه ، فلمّا فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنّهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى فذكرت حين جذبتني(3) . والظاهر اتّحاد القضيّة وأنّ اختلاف الروايتين إنّما نشأ من سهو بعض الرواة ، وعلى أيّ تقدير فالمحكيّ عن الحدائق أنّه قال بعد نقل الخبرين عن الذكرى: إنّ هذين الخبرين من روايات العامّة أو من الأصول التي وصلت إليه ولم تصل إلينا(4) .
وبالجملة: فالظاهر إنّه لا مجال للمناقشة والترديد في أصل الحكم على طريقة الإمامية ، نعم ذهب الجمهور إلى الكراهة نظراً إلى الروايتين(5) واستثنوا منها أيضاً صورة قصد الإمام التعليم ، فإنّه لا يكره له القيام في مكان عال ، مستندين في ذلك

(1) الخلاف 1: 556 مسألة 301  .
(2) شرائع الإسلام 1: 113  .
(3) سنن البيهقي 3: 108 ـ 109; سنن أبي داود 1: 163 ح 597 ـ 598; ـ وفيه في الحديث الثاني: «فجبذه» وهو لغة في جذب . النهاية لابن الأثير 1: 235 ـ تذكرة الفقهاء 4: 260 الشرط الخامس .
(4) الذكرى 4 : 433 ; الحدائق11: 111  .
(5) المغني لابن قدامة 2: 41; الشرح الكبير 2 : 78  .

(الصفحة299)

إلى ما روي من قصّة تعليم النبيّ(صلى الله عليه وآله) الصلاة ، حيث إنّه صلّى على المنبر ورجع رجوع القهقرى لأجل السجود ، ثمّ عاد إلى المنبر وقال بعد الفراغ منها: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(1) .
وقد عرفت أنّهم لا يقولون بقادحيّة البعد أيضاً وإن كان كثيراً ، نعم حكي عن الشافعي أنّه قال: لابدّ أن لا يكون الفصل أزيد من ثلاثمائة ذراع(2) ، ولكنّا لم نظفر به بعد التتبّع في كتبه . وعرفت أيضاً أنّ مقتضى رواية زرارة المتقدّمة(3) اعتبار أن لا يكون الفصل كثيراً لا يمكن طيّه بخطوة ، وإن كان يبعد اعتبار هذا المقدار قولهم بجواز اقتداء المأموم المسبوق والركوع قبل الوصول إلى الصفّ والالتحاق به بعده كما لا يخفى .

الرابع من شرائط الجماعة: عدم تقدّم المأموم على الإمام
من الاُمور المعتبرة في الجماعة، عدم تقدّم المأموم على الإمام ، واعتبار ذلك ممّا انعقد عليه الاجماع(4) ، بل كاد أن يكون ضروريّاً عند المتشرّعة فلا إشكال في ذلك ، كما أنّه لا إشكال في استحباب المساواة في المأموم الواحد ، ووقوعه عن يمين الإمام إن كان رجلا أو صبيّاً ، والتأخّر في المأموم المتعدّد أو الواحد إذا كان اُنثى(5) ، خلافاً لصاحب الحدائق(رحمه الله) حيث أوجب التأخّر في المتعدّد والمساواة في الواحد ،

(1) صحيح مسلم 3 : 29 ح544; سنن البيهقي 3: 108; تذكرة الفقهاء 4: 261 ذ الشرط الخامس .
(2) راجع 3 : 289 .
(3) الوسائل 8: 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح1 ـ2  .
(4) الخلاف 1: 555 مسألة 299; المعتبر 2: 422; تذكرة الفقهاء 4: 239; جواهر الكلام 13: 221; مستند الشيعة 8: 72; مدارك الأحكام 4: 330; مفاتيح الشرائع 1: 161 .
(5) الخلاف 1: 554 مسألة 296; تذكرة الفقهاء 4: 242 ـ 247 مسألة 543 ـ 547; جواهر الكلام 13: 221 ـ 227; مستند الشيعة 8 : 110 ـ 113; رياض المسائل 4 : 318 و 377  .

(الصفحة300)

مستدلاًّ عليه بتكاثر الأخبار واستفاضتها بأنّه متى كان المأموم متّحداً فموقفه عن يمين الإمام ، والمتبادر منه المحاذاة  ، وإن كانوا أكثر فموقفهم خلفه ، ثمّ قال: وحينئذ فحكمهم بالاستحباب في كلّ من الموقفين ـ مع دلالة ظواهر الأخبار على الوجوب من غير معارض سوى مجرّد الشهرة بينهم ـ تحكّم محض(1) ، انتهى  .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الالتزام بالاستحباب نظراً إلى الشهرة ، نعم، يقع الإشكال في الصلاة حول الكعبة المشرّفة ، بحيث كانت الصفوف المتشكّلة مستديرة ، فإنّه يصدق على بعض المأمومين الواقعين في الجهة المقابلة للإمام أنّهم متقدّمون على الإمام ، كما أنّه يصدق على الإمام أيضاً التقدّم عليهم .
والإشكال في الصحّة ينشأ ممّا ذكر من صدق التقدّم على بعض المأمومين ، ومن استقرار السيرة على ذلك من الصدر الأول ، كما أنّه يؤيّده تعرّض الشافعي لحكم هذه الصلاة(2) ، مع كونه في النصفّ الأخير من القرن الثاني . هذا ، وربما يرجّح هذا الوجه نظراً إلى أنّ السيرة وإن لم تكن متحقّقة في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) ، وعدم إظهارهم الانكار يكشف عن الرضا والامضاء ، لأنّهم وإن لم يكونوا مبسوطي اليد ، إلاّ أنّه لم يكن مانع عن إظهار الانكار عند أصحابهم ، كسائر البدع التي شدّدوا النكير عليها .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال بكفاية الأخبار الظاهرة في وجوب كون موقف المأمومين خلف الإمام(3) ، في مقام الردع والانكار ، لأنّه ليس الملحوظ التقدّم بالنسبة إلى الكعبة والتأخّر عنها ، حتّى لا يصدق على واحد من المأمومين في الصورة المفروضة التقدّم بالنسبة إليها ، بل الظاهر من التقدّم هو التقدّم في الجهة

(1) الحدائق11: 116  .
(2) المجموع 4: 300; تذكرة الفقهاء 4: 241 مسألة 542 .
(3) الوسائل 8: 341 . أبواب صلاة الجماعة ب23  .

<<التالي الفهرس السابق>>