في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة261)

2 ـ رواية الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام)(1) .
3 ـ ما رواه الصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) في حديث شرائع الدين(2) .
وأمّا الروايات الدالّة على أنّها سبع: فمنها: رواية ابن محبوب ، ومنها: رواية عبيد بن زرارة . ومنها: رواية أبي بصير ، ومنها: رواية محمد بن مسلم ، ومنها: رواية أحمد بن عمر الحلبي . ومنها: رواية عبدالرحمن بن كثير(3)  .
هذا ، ولكن ذكر في رواية أبي بصير أنّ الكبائر سبعة وعدّها ثمانية، لكنّه قال في ذيلها: إنّ التعرّب والشرك واحد . وفي رواية محمّد بن مسلم أسقط عقوق الوالدين وعدّ السابقة كلّ ما أوجب الله عليها النار مع أنّه تعريف للكبائر وضابط لها ، لا أنّه من أفرادها ، ولذا يحتمل أن يكون الراوي قد سهى عن العقوق ، وذكر موضعه هذه السابعة .
وفي رواية عبدالرحمن بن كثير أسقط التعرّب وأكل الربا بعد البيّنة ، وذكر موضع السابعة إنكار حقّنا ، وفي إسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك لا مانع لأنّه بمنزلته ، كما مرّ في رواية أبي بصير المتقدّمة ، وفي رواية أبي الصامت(4) ذكر أنّ أكبر الكبائر سبع وأسقط التعرّب وأكل الربا بعد البيّنة ، وذكر موضع السابعة إنكار ما أنزل الله .
ولكن قد عرفت أنّ اسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك لا بأس به ، لأنّ مرجع التعرّب إلى الحال التي كان عليها قبل الهجرة إلى دار الإسلام لغرض الإسلام والايمان ، فمرجعه إلى الرجوع والارتداد عن الإسلام بعد الهجرة من الكفر إليه ،

(1  ، 2) الوسائل 15 : 329  ، 331  . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح33 و 36  .
(3) الوسائل 15 : 318 ـ 329  . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح1 ، 4 ، 16 ، 6 ، 32 ، 22 .
(4) التهذيب 4: 149 ح417; الوسائل 15: 325 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح20 .

(الصفحة262)

وفي رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله(عليه السلام) عدّها عشرة من غير تعرّض لكونها عشرة ، وأضاف إلى السبع المذكورة في الروايات السابقة القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله(1) .
والظاهر أنّ الأوّلين واحد ، وقد ذكرت هذه الزيادة في رواية عبدالعظيم المتقدّمة، وفي رواية اُخرى لمحمّد بن مسلم(2) عدّ أكبر الكبائر ثمانية من غير تعرّض لكونها ثمانية ، وحيث انّه عدّ فيها التعرّب والشرك أمرين وقد عرفت أنّهما واحد فلا اختلاف بينها وبين الروايات الدالّة على أنّها سبعة .
وفي رواية اُخرى لعبيد بن زرارة(3)، ذكر أنّ الكبائر خمس وأسقط العقوق والتعرّب ، ولكن ذكر الشرك في موضعهما من دون عدّه الشرك من جملة الخمس ، ففي الحقيقة لم يذكر فيها خصوص العقوق ، وهذه الرواية تؤيّد ما ذكرنا من خروج الشرك بالله عن دائرة الكبائر ، لأنّ المراد بها هي المعاصي التي يمكن أن تقع من المسلم في حال إسلامه والشرك لا يلائم ذلك .
وفي مرسل ابن أبي عمير ذكر أنّها خمس(4) كالرواية السابقة ، وعدّ الشرك والتعرّب أمرين ، وبعدما عرفت من اتّحادهما يرجع إلى الأربعة ففي الحقيقة أسقطت منها ثلاثة: القتل، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات .
وأمّا الروايات الدالّة على أنّ الكبائر كثيرة فقد عرفت أنّها ثلاث روايات:


(1) الكافي 2: 213 ح10; الوسائل 15: 324 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح13 .
(2) الخصال: 411 ح15; الوسائل 15: 330 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح35 .
(3) عقاب الاعمال: 277 ح 1; علل الشرائع: 475 ح3; الخصال: 273 ح17; الوسائل 15: 327 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح28 .
(4) الوسائل 15: 327 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح27  .

(الصفحة263)

1 ـ رواية الأعمش الدالّة على أنـّها ثلاث وثلاثون(1) .
2 ـ رواية عبدالعظيم الدالّة على أنّها عشرون(2) .
3 ـ رواية الفضل الدالّة على أنّها ثلاث وثلاثون(3) . والظاهر إتّحادها مع رواية الأعمش والاختلاف بينهما يسير ، لأنّه ذكر في رواية الأعمش أنّ الاشتغال بالملاهي التي تصدّ عن ذكر الله عزّوجلّ مكروهة، ولكنّه عدّ من الكبائر في رواية الفضل .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا محيص عن الالتزام باتّصاف سبع من المعاصي بكونها كبيرة بقول مطلق ، وهي السبع المذكورة في الروايات الدالّة على أنّ الكبائر سبع ، أو أكبرها سبع ، أو على أنّ رتبة سائر الكبائر أدنى من رتبتها كما تدلّ عليه رواية الأعمش .
وأمّا ما عدى السبع فما ذكر في مثل رواية الأعمش فالظاهر أنّها كبيرة بالإضافة إلى ما دونها صغيرة بالإضافة إلى السبع التي هي فوقها ، وبمثل هذا يجمع بين ما دلّ على أنّ الزنا والسرقة ليستا من الكبائر كروايتي محمّد بن حكيم ومحمّد ابن مسلم(4) ، وما دل على أنّهما منها كروايتي الفضل والأعمش .
وجه الجمع  ، أنّ ما دلّ على عدم كونهما من الكبائر يراد به عدم كونهما من الكبائر بقول مطلق ، وعدم كونهما في عرض المعاصي التي هي أكبر الكبائر ، وما دلّ على كونهما، منها يراد به أنّهما كبيرتان بالإضافة إلى ما تحتهما من المعاصي .


(1) الوسائل 15: 331 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح36  .
(2  ، 3) الوسائل 15: 318 و 329 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح2 و33 .
(4) الوسائل 15: 325 و 330  . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح18 و35 .

(الصفحة264)


تعداد الكبائر

لا بأس بذكر الكبائر حسب ما تستفاد من الروايات الواردة في هذا المقام ، رجاء أن يكون الملاحظ لها والناظر فيها يجتنب إن شاء الله تعالى عن جميعها، بعد النظر والتوجّه لو لم يكن مجتنباً. فنقول: الكبائر ـ نعوذ بالله منها ـ عبارة عن:
1 ـ الشرك بالله .
2 ـ قتل النفس التي حرّم الله تعالى .
3 ـ عقوق الوالدين .
4 ـ الفرار من الزحف .
5 ـ أكل مال اليتيم ظلماً .
6 ـ أكل الربا بعد البيّنة .
7 ـ قذف المحصنات ، وهذه هي السبع التي تكون من الكبائر بقول مطلق .
8 ـ الزنا .
9 ـ اللواط .
10 ـ السرقة .
11 ـ أكل الميتة .
12 ـ أكل الدم .
13 ـ أكل لحم الخنزير .
14 ـ أكل ما أُهلّ لغير الله به من غير ضرورة .
15 ـ البخس في الميزان والمكيال .
16 ـ الميسر .


(الصفحة265)

17 ـ شهادة الزور .
18 ـ اليأس من روح الله .
19 ـ الأمن من مكر الله .
20 ـ معونة الظالمين .
21 ـ الركون إليهم .
22 ـ اليمين الغموس الفاجرة .
23 ـ الغلول .
24 ـ حبس الحقوق من غير عسر .
25 ـ الكذب .
26 ـ استعمال التكبّر والتجبّر .
27 ـ الإسراف والتبذير .
28 ـ الخيانة .
29 ـ الاستخفاف بالحجّ ، ولعلّ المراد به ليس هو تركه ، بل الإتيان به عن استخفاف .
30 ـ المحاربة لأولياء الله .
31 ـ الاشتغال بالملاهي .
32 ـ السحر .

الإصرار على الصغائر

يبقى الكلام بعد ذلك في أنّ الإصرار على الذنوب أي الصغائر منها هل يكون من الكبائر أم لا؟ مقتضى روايتي الأعمش والفضل وغيرهما من الروايات الاُخر

(الصفحة266)

الواردة في هذا الباب التي جمعها في الوسائل في باب (46) و (47) من أبواب جهاد النفس، أنّ الإصرار على الصغائر من الذنوب أيضاً من جملة الكبائر ، وفي بعضها أنّه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار(1) .
وقد روي هذا المضمون بطرق العامّة عن ابن عبّاس أيضاً(2) ، والمستفاد من الروايات الواردة في هذا المقام أمران:
1 ـ إنّ الاصرار على الصغائر من الذنوب من جملة الكبائر .
2 ـ إنّ معنى الإصرار هو مجرّد الإتيان بشيء من الذنوب مع عدم التوبة والندم عند الالتفات إلى ارتكابه ، سواء كان عازماً على الإتيان به ثانياً أو لم يكن عازماً عليه ، لأنّ المناط في عدم تحقق الإصرار هو الندم والعزم على عدم العود عند الالتفات والتوجّه إلى صدور هذه المعصية منه ، فمع فقده يتحقّق الإصرار كما لايخفى .
وبالجملة: فلا إشكال في تحقق الإصرار مع الإكثار فعلا ، والإتيان بالمعصية في الخارج مكرّراً  ، سواء كانت من سنخ واحد أو من جنسين أو الأجناس ، كما أنّه لا إشكال في عدم تحقق عنوان الإصرار مع الإتيان بذنب مرّة واحدة ثمّ الندم عليه بحيث كان يسوئه التذكّر والالتفات إلى إتيانه .
والظاهر تحقق هذا العنوان أيضاً مع الإتيان به مرّة وكونه بحيث لو تهيأت له مقدّماته يأتي به مرّة ثانية ، إنّما الإشكال في تحقّقه بمجرّد الإتيان مع الالتفات إليه ، وعدم الندم عليه ، وعدم كون تذكره مسيئاً له ، والظاهر أيضاً تحقّقه به لقوله تعالى: {والَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَنْ

(1) التوحيد: 407 ح6; الوسائل 15: 335 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب47 ح11  .
(2) الكشاف1: 503  .

(الصفحة267)

يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون}(1) حيث إنّه يشعر بأنّ الإصرار يتحقّق بمجرّد عدم الاستغفار .
ويدلّ عليه أيضاً رواية جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} قال: الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بالتوبة ، فذلك الإصرار(2) .
ورواية محمد بن أبي عمير قال: سمعت موسى بن جعفر(عليهما السلام) يقول: «من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسئل عن الصغائر قال الله تعالى: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم وَنُدخِلكُم مُّدْخَلا كَرِيماً}(3) قال: قلت: فالشفاعة لمن تجب؟ فقال: حدّثني أبي ، عن آبائه ، عن عليّ(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل . قال ابن أبي عمير: فقلت له: يابن رسول الله فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: {وَلاَ يَشفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارتَضَى}(4) ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟ فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنباً إلاّ ساءَه ذلك وندم عليه ، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : كفى بالندم توبة ، وقال: من سرّته حسنته وساءَته سيّئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة ـ إلى أن قال: ـ قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار . . .»(5) .
وحينئذ فلا يبعد الالتزام بذلك وأنّ الإصرار على الذنب إنّما يتحقّق بمجرّد

(1) آل عمران: 135  .
(2) الكافي 2 : 219 ح2 ; الوسائل 15: 338 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب48 ح4 .
(3) النساء: 31  .
(4) الأنبياء: 28  .
(5) التوحيد 407 ح6; الوسائل 15: 335 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب47 ح11 .

(الصفحة268)

الإتيان بالمعصية وعدم التوبة والاستغفار .
نعم، حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل السبزواري أنّه استضعف هذا القول(1) ، ولكنّه ذكر نفسه بعد الاستدلال برواية جابر ثمّ الحكم بضعف سندها: أنّه يمكن أن يقال: إنّه لمّا عصى ولم يتب فهو مخاطب بالتوبة ، ولمّا لم يتب في الحال فقد عصى ، فهو في كلّ آن مخاطب بالتوبة ، ولمّا لم يتب فقد أقام واستمرّ على عدم التوبة التي هي معصية(2) . انتهى  .
وحكي عن الشهيدين والمقدّس الأردبيلي تقسيم الإصرار إلى فعليّ وحكميّ ، وأنّ الفعليّ هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة أو الإكثار من جنسها بلا توبة ، والحكميّ هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها(3) ، ولكنّك عرفت إشعار الآية ودلالة الرواية على تحقق الإصرار عند عدم التوبة ، ولو لم يكن عازماً على فعل تلك الصغيرة، فلا ينبغي الإشكال حينئذ فيما ذكرنا .
نعم، يبقى الإشكال في أنّ فعل الصغيرة من دون توبة يكفّر باجتناب الكبائر ، وإلاّ فمع فرض توقّف التكفير على التوبة لا يبقى مورد للآية الشريفة: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنْكُم سَيِّئاتِكُم}(4) ، فلا مجال حينئذ لتحقّق الإصرار عند عدم التوبة ، بل لا يحتاج إلى التوبة أصلا .
ويدفعه أنّ الذنب الصغير المكفّر باجتناب الكبائر هو الذنب الذي كان غافلا عنه بعد الإتيان به ، أو غافلا عن وجوب التوبة ، وبهذا يتحقّق الفرق بينه وبين

(1) كفاية الأحكام : 29 ; ذخيرة المعاد : 303  .
(2) مفتاح الكرامة 3: 88  .
(3) القواعد والفوائد 1 : 227 قاعدة 68 ، تنبيه ; الروضة البهيّة 3 : 130 ; مسالك الأفهام 14: 168; مجمع الفائدة والبرهان 12: 320; مفتاح الكرامة 3 : 87  .
(4) النساء: 31  .

(الصفحة269)

الكبيرة ، حيث إنّه ما لم تتحقّق التوبة عنها لا تكون مكفّرة أصلا كما لا يخفى .

اعتبار الاجتناب عن خصوص الكبائر في تحقّق العدالة

إنّ المعتبر في العدالة هل هو مجرّد الاجتناب عن خصوص الكبائر أو الأعم منه ومن اجتناب الصغائر أيضاً؟ والمستند للقول الأول هي صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) بناءً على ما استظهرناه منها ، من أنّ قوله(عليه السلام): «ويُعرف باجتناب الكبائر  . . .» ، عطف على قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، وعليه فيكون من تتمّة المعرف للعدالة .
وحاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الرادعة عن ارتكاب شيء من القبائح العرفيّة ، وملكة الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد الله عليها النار، ولازمه حينئذ أنّ ارتكاب شيء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه المتحقّق بالإتيان مع عدم التوبة والارتداد عند الإلتفات إلى صدور الذنب لا يكون قادحاً في العدالة .
ودعوى إنّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في تحقق العدالة؟
مدفوعة بأنّها مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي ، خصوصاً بعدما عرفت من أنّ الإصرار على الصغيرة أيضاً من جملة الكبائر ، وأنّ الإصرار يتحقّق بمجرّد الارتكاب مع عدم الاستغفار ، إذ حينئذ يكون ارتكاب الصغيرة مع عدم الإصرار غير قادح في العدالة ، كما هو الشأن في ارتكاب الكبيرة أيضاً .
لأنّ ارتكابها مع التوبة عنها لا يقدح أصلا ، واشتراك الصغيرة والكبيرة من

(1) الوسائل 27: 391 كتاب الشهادات ب41 ح 1  .

(الصفحة270)

هذه الجهة ـ وهي عدم قادحيّة ارتكاب شيء منهما مع الندم وقادحيته مع عدمه ـ لا يوجب اشتراكهما من جميع الجهات ، مضافاً إلى أنّه يكفي في الفرق بينهما أنّ ارتكاب الكبيرة قادح في العدالة مع عدم التوجّه والالتفات إلى صدورها أيضاً حتّى يندم ويتوب ، وهذا بخلاف الصغيرة فإنّه مع ارتكابها لا تزول العدالة عند عدم التوجّه والالتفات فتدبّر .
وبالجملة: فلا ينبغي الارتياب فيما ذكر بناءً على ما فسّرنا به الصحيحة المتقدّمة .
نعم، لو قيل: بأنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف اجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة ، بل أمارة شرعية عليها ، كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه(1) ، فلا دليل حينئذ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر .
بل مقتضى قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف . . .» أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الباعثة على كفّ البطن والفرج واليد واللسان عن كلّ ذنب ، سواء كان من الكبائر أو من الصغائر .
غاية الأمر أنّ الأمارة على ذلك هي الاجتناب العمليّ عن خصوص الكبائر ، ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر .
هذا ، وقد عرفت أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية وأنّ الظاهر منها هو ما ذكرنا .
ثمّ إنّ المحقّق الهمداني ذكر في هذا المقام كلاماً، ملخّصه: إنّ الذي يقوى في النظر أنّ صدور الصغيرة أيضاً ـ إذا كان عن عمد والتفات إلى حرمتها كالكبيرة ـ مناف

(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 517 ـ 518  .

(الصفحة271)

للعدالة ، ولكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب أو يلتفتون إليها، ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة مسامحة ، كترك الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، أو الخروج عن مجلس الغيبة ونحوها حياءً ، مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم .
فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل الستر والعفاف والخير والصلاح ، وهذا بخلاف مثل الزنا واللواط ونظائرهما ممّا يرونها كبيرة ، فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة ، وهذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة وكبيرة .
فإن ثبت بدليل شرعيّ أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف ولا يرونها كبيرة كالغيبة مثلا ، حاله حال الزنا والسرقة لدى الشارع ، في كونها كبيرة كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم ، وأنّ هذا أيضاً كالزنا مناف للعدالة مطلقاً ، فالذي يعتبر في تحقق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي ونفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية ، ومجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف(1) ، انتهى  .
ويرد عليه أنّ صدور الصغيرة إن كان عن توجّه إلى حرمتها حال الارتكاب ، والالتفات إلى كونها منهيّاً عنها ، فالظاهر بمقتضى ما ذكره قدح إرتكابها في العدالة وأنّه لا فرق بينها وبين الكبيرة ، وإن كان صدورها عن الجهل بكونها معصية ومحرّمة ، فلا تكون قادحة في العدالة  ، كما أنّ الكبيرة أيضاً إذا صدرت كذلك لا تضرّ بها ، فلم يظهر ممّا أفاده الفرق بينهما ، بل اللاّزم الاستناد في ذلك إلى الصحيحة المتقدّمة بناءً على ما استظهرناه منها كما عرفت .


(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 675  .

(الصفحة272)

ولكن لا يذهب عليك أنّ ما اخترناه من عدم قدح ارتكاب الصغيرة في العدالة إنّما هو في الصغيرة بقول مطلق ، لا الصغيرة الإضافية التي يصدق عليه عنوان الكبيرة أيضاً . ولذا ثمرة هذا البحث قليلة في الغاية ، لاختلاف روايات الخاصّة والعامّة في عدد الكبائر وبيان الضابط لها ، ولأجله يتعسّر الإطّلاع على الصغيرة بقول مطلق ، ولذا لم يكن هذا البحث محرّراً في كلماتهم ومذكوراً فيها منقّحاً .

الإتيان بالكبيرة مانع عن قبول الشهادة

قد اتّفقت آراء المسلمين تقريباً على أنّ مجرّد الإتيان بالكبيرة يمنع عن قبول الشهادة ، وما يجري مجراه من جواز الاقتداء به في الصلاة وغيره(1) ، كما أنّه قد ادّعى الاجماع جماعة من المتأخّرين على أنّ التوبة عن الكبيرة والرجوع عنها تزيل حكم المعصية ، ومعها تقبل الشهادة ويجري سائر أحكام العدالة(2) .
وقد وقع الخلاف في ذلك بين المسلمين ، ومورد الخلاف بينهم مسألة القذف، والمنشأ له هي الآية الشريفة ، وقد تعرّض لهذه المسألة الشيخ(رحمه الله) في كتاب الخلاف في باب الشهادات حيث قال: القاذف إذا تاب وصلح قبلت توبته وزال فسقه بلا خلاف ، وتقبل عندنا شهادته فيما بعد ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وروي عنه أنّه جلّد أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنا ، ثمّ قال له: تب تقبل شهادتك . وعن ابن

(1) المبسوط 8 : 217 ; السرائر 2 : 117 ; شرائع الإسلام 4: 116; تحرير الاحكام 2: 208; ذخيرة المعاد : 305; مفتاح الكرامة 3 : 88 ـ 89 ; جواهر الكلام 13 : 322 ـ 333  .
(2) شرائع الإسلام 4 : 117 ; مختلف الشيعة 8 : 484 ; الدروس 2 : 126; ذخيرة المعاد: 305; مفتاح الكرامة 3: 88 ـ 89; جواهر الكلام 13: 322 ـ 323 .

(الصفحة273)

عبّاس أنّه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ولا مخالف لهما ، ثمّ عدّ جماعة من التابعين والفقهاء الموافقين لذلك .
ثمّ قال: وذهبت طائفة إلى أنّها تسقط ، فلا تقبل أبداً ، ذهب إليه في التابعين شريح والحسن البصري والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، ثمّ قال: والكلام مع أبي حنيفة في فصلين: عندنا وعند الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف ، وعنده لا تردّ بمجرّد القذف حتّى يجلد ، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف ، والثاني عندنا تقبل شهادته إذا تاب ، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف مرّة(1) .
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم ، والدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف ولا يعتبر الجلد قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحَصنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلاَ تَقبلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَدَاً} ، فذكر القذف وعلَّق وجوب الجلد بردّ الشهادة ، فثبت أنّهما يتعلّقان به  ، والذي يدلّ على أنّ شهادتهم لا تسقط أبداً قوله تعالى في سياق الآية: {وَاُولئِك هُم الفَاسِقُونَ* إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(2) .
ووجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو ، ثمّ تعقّبها استثناء رجع الاستثناء إلى جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها ـ إلى أن قال: ـ فإن قالوا: الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين ، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب اُصول الفقه(3) ، والثاني: أنّ في الآية ما يدلّ على أنّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين ، فإنّ أقربه الفسق ـ والفسق يزول

(1) سنن البيهقي 10: 152 ـ 153 ; المغني لابن قدامة 12 : 74 ـ 75 ; الشرح الكبير 12: 61 ـ 62; المجموع 20: 252; تفسير القرطبي 12 : 179  .
(2) النور: 4 ـ 5  .
(3) نهاية الأصول : 363  .

(الصفحة274)

بمجرّد التوبة ـ وقبول الشهادة لا يثبت بمجرّد التوبة ، بل تقبل بالتوبة وإصلاح العمل (1). إلى آخر ما أفاده فيها .
ولا يخفى أنّ اعتبار الإصلاح مضافاً إلى التوبة ينحصر بباب القذف ، ولا دليل عليه في غير ذلك الباب .
وكيف كان، فلا ينبغي المناقشة في قبول الشهادة وما يجري مجراه بعد التوبة عن المعصية ، نعم ربما يناقش في ذلك بأنّ العدالة هي الملكة النفسانية الكذائية ، على ما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة وبعد زوالها بإتيان الكبيرة لا دليل على عودها بمجرّد التوبة والاستغفار حتّى تقبل شهادته .
ولذا خصّ بعض المعاصرين ـ على ما حكي عنه ـ قبول الشهادة بالتوبة بما إذا عادت معها الملكة التي كانت حاصلة له قبل الإتيان بالكبيرة(2) .
هذا ، ولكن الظاهر أنّ حقيقة العدالة كون الشخص على حال يتعسّر معها صدور المعصية عنه ، وبعد صدورها والتوبة عنها تكون هذه الحالة باقية له ، بل هي التي بعثها على التوبة عن المعصية ، وهذا المقدار يكفي في قبول الشهادة وجواز الاقتداء ونحوهما ، فتدبّر جيّداً .

مسألة: لو انكشف أنّ الإمام فاقد لبعض الشروط

لو لم يكن الإمام واجداً لشيء من شرائط الإمامة كأن لم يكن عادلا واقعاً أو كان محدثاً مثلا، فهل يحكم بصحّة صلاة المأمومين بعد انكشاف الحال أم لا؟ وقد ورد في موارد مخصوصة من هذه المسألة روايات خاصّة من أهل البيت(عليهم السلام) يكون

(1) الخلاف 6: 260 مسألة 11  .
(2) كتاب الصلاة للمحقّق النائيني 3 : 390  .

(الصفحة275)

معمولا بها عند الأصحاب ، فبعضها ورد في مورد الحدث وعدم كون الإمام طاهراً; وبعضها في مورد كفره وعدم كونه مسلماً ، وبعضها في مورد استدباره وعدم كونه مستقبلا .
نعم، قد ورد بعضها فيما إذا لم يكن الإمام مصلّياً واقعاً، بل كان آتياً بصورة الصلاة(1).
ثمّ إنّ هذه المسألة كانت مبحوثاً عنها عند العامّة أيضاً ، وكانت مورداً لاختلافهم ، حيث يقول بعضهم بالصحّة وبعض آخر بالبطلان ، ولهم روايات في ذلك ، لكن موردها خصوص صورة حدث الإمام مع كونه عالماً به(2) ، وكان الشافعي يقول بصحّة صلاة المأمومين لكن لا مع الإمام .
وحينئذ فالاحتمالات المتصوّرة ابتداءً في المسألة ثلاثة:
أحدها: الصحّة جماعة .
ثانيها: الصحّة لا مع الإمام .
ثالثها: البطلان(3) .
أمّا احتمال البطلان، فيدفعه ـ مضافاً إلى الروايات الواردة في المسألة ـ قاعدة الإجزاء المحقّقة في الاُصول ، لأنّ اللاّزم على المأموم إحراز عدالة الإمام ، وكذا سائر الاُمور المعتبرة فيه، وبعد كونه واجداً للشرائط عند المأموم يكون مقتضى قاعدة الإجزاء صحة صلاته وعدم لزوم الإعادة عليه .
نعم، يبقى الكلام بعد ذلك في صحّتها جماعة ، وكذا في إطلاق الحكم بالصحّة

(1) الوسائل 8 : 371 ب36 وص374 ب37 وص375 ب38 وص376 ب39  .
(2) سنن البيهقي 2 : 397 ; سنن أبي داود 1 : 60 ح233 و 234  .
(3) المغني 1 : 741 و ج2 : 34 ; الشرح الكبير 2 : 55 ـ 56 ; المجموع 4 : 260; بداية المجتهد 1: 221; الخلاف 1: 552 ; تذكرة الفقهاء 4 : 314 ـ 317 مسألة 589 ـ 591  .

(الصفحة276)

وشموله لكلتا صورتي الاخلال بوظائف المنفرد وعدمه ، فنقول: ظاهر الروايات صحة صلاة المأموم وإن أخلّ بوظائف المنفرد ، كما أنّها ظاهرة في صحّتها ووقوعها على ما أتى به المأموم من عنوان كونها في جماعة .
منها: رواية الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال: «من صلّى بقوم وهو جنب أو هو على غير وضوء فعليه الإعادة ، وليس عليهم أن يعيدوا ، وليس عليه أن يعلمهم ، ولو كان ذلك عليه لهلك» . قال: قلت: كيف كان يصنع بمن قد خرج إلى خراسان؟ وكيف كان يصنع بمن لا يعرف؟ قال: «هذا عنه موضوع»(1) .
ومنها: رواية زرارة عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن رجل صلّى بقوم ركعتين ثمّ أخبرهم أنّه ليس على وضوء؟ قال: «يتمّ القوم صلاتهم ، فإنّه ليس على الإمام ضمان»(2) .
ومنها: رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أمّ قوماً وهو على غير طهر ، فأعلمهم بعد ما صلّوا؟ فقال: «يعيد هو ولا يعيدون»(3) . وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب الظاهرة في صحة صلاة المأمومين ، من غير فرق بين صورتي الاخلال بوظائف المنفرد وعدمه .
ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين ما لو انكشف ذلك بعد الفراغ أو انكشف في الأثناء ، وقد ورد في خصوص هذا المورد رواية واردة فيما لو تذكّر الإمام في الأثناء أنّه لم يكن على وضوء وأنّه يستخلف إماماً آخر(4) ، فإنّ الاستخلاف لا يتم إلاّ مع صحة صلاة المأمومين ، وإن كانت واقعة مع حدث الإمام بالنسبة إلى بعض أجزائها .


(1) الفقيه 1: 262 ح 1197; الوسائل 8: 371 . أبواب صلاة الجماعة ب36 ح1  .
(2) الفقيه 1: 264 ح 1207; الكافي 3: 378 ح3 ; التهذيب 3 : 269 ح772; الإستبصار 1: 440 ح1695; الوسائل 8 : 371  . أبواب صلاة الجماعة ب36 ح2  .
(3) الكافي 3: 378 ح1 ; الوسائل 8 : 372  . أبواب صلاة الجماعة ب36 ح3  .
(4) التهذيب 3: 272 ح784; الكافي 3: 384 ح 13; الوسائل 8: 378 . أبواب صلاة الجماعة ب40 ح4 .

(الصفحة277)







المبحث السادس: شرائط الجماعة


في شرائط الجماعة وهي اُمور:

الأول والثاني: عدم الحائل بين الإمام والمأموم ، وكذا عدم البُعد
عدم الحائل وكذا عدم البعد بين الإمام والمأمومين ، وكذا بين المأمومين بعضهم مع بعض ، والدليل عليه رواية زرارة التي رواها المشايخ الثلاثة ، ورواها الشيخ عن الكليني بطريقه لا بطريق مستقلّ .
والظاهر أنّ الكليني والصدوق أخذا الرواية عن كتاب حمّاد بن عيسى الذي هو من الطبقة الخامسة من الطبقات التي رتّبناها ، وطال عمره حتّى أدرك الطبقة السادسة ، وإن كان ظاهر الصدوق أنّه رواها وأخذها من كتاب زرارة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لم يكن لزرارة كتاب جامع لأحاديثه .
وكيف كان، فالرواية منقولة في الفقيه هكذا:
وروى زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال: «ينبغي للصفوف أن تكون تامّة

(الصفحة278)

متواصلة بعضها إلى بعض ، ولا يكون بين الصفّين ما لا يُتخطّى ، يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان إذا سجد» .
وقال أبو جعفر(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة الإمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم ما لا يتخطّى فليس لهم تلك بصلاة ، وإن كان ستراً أو جداراً فليس تلك لهم بصلاة إلاّ من كان حيال الباب» . قال: وقال: «هذه المقاصير إنّما أحدثها الجبّارون ، وليس لمن صلّى خلفها مقتدياً بصلاة من فيها صلاة» . قال: وقال: «وأيّما امرأة صلّت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطّى فليس لها تلك بصلاة» . قال: قلت: فإن جاء إنسان يريد أن يصلّي كيف يصنع وهي إلى جانب الرجل؟ قال: «يدخل بينها وبين الرجل وتنحدر هي شيئاً» . هذا ما في الفقيه  .
وأمّا ما في الكافي، فهو ما رواه عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصفّ الذي يتقدّمهم قدر ما لا يتخطّى فليس تلك لهم ، فإن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة إلاّ من كان من حيال الباب» .
قال: وقال: «هذه المقاصير لم يكن في زمان أحد من الناس ، وإنّما أحدثها الجبّارون ، ليست لمن صلّى خلفها مقتدياً بصلاة من فيها صلاة» .
قال: وقال أبو جعفر(عليه السلام) : «ينبغي أن يكون الصفوف تامّة متواصلة بعضها إلى بعض لا يكون بين صفّين ما لا يتخطّى يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان»(1) .
أقول: هذه الجملة الأخيرة المذكورة في صدر الرواية على ما في الفقيه إنّما

(1) الفقيه 1: 253 ح 1143 و 1144; الكافي 3: 385 ح4; التهذيب 3 : 52 ح182; الوسائل 8 : 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح1 و 2  .

(الصفحة279)

تكون متعرّضة لحكم استحبابيّ وهو استحباب تمامية الصفوف ، وتواصل بعضها إلى بعض ، وعدم كون الفصل بين الصفّين مقداراً لا يمكن طيّه بخطوة ، وقد قدّر ذلك في الرواية بمسقط جسد الإنسان أي في حال الصلاة الذي ينطبق على حال السجود ، فالتقييد بقوله: «إذا سجد» في رواية الفقيه لأجل التوضيح لا للإحتراز .
وبالجملة: فلا إشكال في استحباب هذا الحكم ، لقيام الضرورة وتحقق السيرة من المتشرّعة على جواز كون الفصل أزيد من هذا المقدار ، مضافاً إلى أنّ كلمة «لاينبغي» أيضاً ظاهرة في الاستحباب .
وأمّا قول أبي جعفر(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى . . .» ، المذكور في صدر الرواية على ما في الكافي ، وفي الأثناء على ما في الفقيه ، وإن لم يكن في العبارة إشعار بكون هذا القول صادراً من الإمام(عليه السلام) متّصلا بالجملة السابقة قبلها أو بعدها .
نعم، يمكن أن يستشعر ذلك من ذكره متّصلا بها في الكتابين كما لا يخفى ، فمفاده ظاهراً نفي تحقق الجماعة التي هي مقصود الإمام والمأمومين ، وتتقوّم بوحدة صلاتهم ، عند تحقق الفصل بين الإمام والمأمومين ، أو بين المأمومين بعضهم مع بعض بمقدار لا يمكن طيّه بخطوة .
ولابدّ من حمل هذه الجملة على كونها مسوقة لبيان تأكّد الاستحباب ، وشدّة رجحان عدم كون الفصل بذلك المقدار ، بناءً على كون المراد بما لا يتخطّى هو المسافة والمقدار المسطح أو كالمسطح الذي لا يمكن طيّه بخطوة ، لأجل طولها كما هو الظاهر ، ويدلّ عليه ذكر كلمة «القدر» في الكافي، ولما عرفت من دلالة كلمة «ينبغي» على الاستحباب، فضلا عن الإجماع والسيرة المستمرّة بين المتشرعة  .
نعم ربّما يحتمل في معنى ما لا يتخطّى أنّ المراد منه مقدار العلوّ بمعنى وجود الحائل بين الإمام والمأمومين أو بين المأمومين بعضهم مع بعض ، وذلك لأنّ الحائل

(الصفحة280)

أيضاً لا يمكن طيّه بخطوة ، بل يحتاج إلى خطوة لأجل الصعود عليه وخطوة اُخرى لأجل النزول عنه ، ويستشهد لذلك بتفريع قوله(عليه السلام): «فإن كان بينهم سترة أو جدار . . .» ، ضرورة أنّ هذا التفريع لا يناسب مع حمل ما لا يتخطّى على ما ذكرنا من المعنى الأول كما لا يخفى .
هذا ، ولكنّه يورد عليه مضافاً إلى بعد هذا الحمل في نفسه أنّ المذكور في الفقيه وكذافي محكيّ بعض نسخ الكافي «الواو» بدل «الفاء» وعليه لا يبقى مجال لهذا الحمل .
وحكي عن بعض القدماء أنّه حمل ما لا يتخطّى على ما إذا كان بينهم فصل طويل بحيث لا يمكن طيّه بالخطوة، لا بخطوة واحدة بل ولو بخطوات(1) . وحكي عن ابن زهرة في الغنية أنّه قال: ولا يجوز أن يكون بين الإمام والمأمومين ولا بين الصفّين ما لا يتخطّى مثله من مسافة أو بناء أو نهر ، بدليل الإجماع(2) . ويبعّده كلمة «قدر» المذكور في الكافي .
وكيف كان، فيمكن حمل ما لا يتخطّى على الأعمّ من المسافة ومن وجود الحائل بحيث كان عدم إمكان طيّ الفصل بخطوة ، إمّا لأجل المسافة أو لأجل وجود الحائل، نظراً إلى التفريع المذكور ، وهو قوله(عليه السلام): «فإن كان بينهما سترة أو جدار . . .» .
واحتمل بعض الأعاظم من المعاصرين أن يكون المراد بما لا يتخطّى هو الفصل بهذا المقدار في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود ، وباعتباره حكم بنفي الصلاة ، وحاصله يرجع إلى أنّه لو كان الفصل بين مسجد المأموم

(1) المبسوط 1 : 156 ، الخلاف 1 : 559 مسألة 308  .
(2) الغنية : 88 ـ 89 ; مفتاح الكرامة 3 : 422  .

<<التالي الفهرس السابق>>