في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 41

مسألة 7 ـ لو وقع في الماء المعتصم متنجّس حامل لوصف النجس بوقوعه فيه فغيره بوصف النجس لم يتنجّس على الأقوى كما إذا وقعت ميتة في ماء فغيّرت ريحه ثم أخرجت منه وصبّ ذلك الماء في كرّ فغيّر ريحه; نعم لو حمل المتنجس أجزاء النجس فتغيّر المعتصم بهما تنجس1.

1 ـ التغيّر قد يحصل بوقوع عين النجاسة في الماء، وقد يتحقّق بوقوع أثر النجاسة في ضمن المتنجس، وهذا على قسمين: قسم يكون مع المتنجّس شيء من أجزاء النجس كما إذا تغيّر لون الماء بالدم ثمّ ألقى هذا الماء على الماء المعتصم وتغيّر بسببه، وقسم لا يكون كذلك كما إذا اختلط الماء المتغيّر ريحه بسبب الملاقاة للميتة ـ مثلاًـ مع الماء المعتصم وتغيّر ريحه بالاختلاط.

وقد يحصل التغيّر بوقوع أثر النجاسة في ضمن غير المتنجّس كما إذا أخذ شيء ريح الجيفة مثلاً بسبب المجاورة أو الملاصقة ثمّ وقع ذلك الشيء الجامد الطاهر في الماء وتغيّر بسبب وقوعه فيه.

وفي الصورة الأولى التي يكون التغيّر فيها مستنداً إلى وقوع عين النجاسة في الماء، تارة يكون الأثر أثراً لنفس النجاسة الواقعة في الماء كما في مثال الدم الموجب لتغيّر لون الماء إلى الحمرة أو الصفرة، وأخرى يكون النجس الملاقي واسطة في انتقال أثر النجس الآخر إلى الماء كما إذا اختلط المسكر الأخذ لريح الجيفة بسبب الملاقاة أو المجاورة مع الماء المعتصم بحيث صار موجباً لتغيّر ريحه وغلبة الجيفة عليها فالصور خمسة:

لا إشكال في ثبوت الحكم في الصورة الاُولى. وامّا الصورة الثانية كما في مثال المسكر فالظاهر فيها عدم تحقّق الانفعال لأنّ المتفاهم العرفي من الأخبار الواردة في الباب انّ موردها ما إذا انتقل أثر الشيء النجس الملاقى إلى الماء بحيث كان الأثر

الصفحة 42

أثراً له لنفسه لا عارضاً عليه من شيء آخر كما يظهر بعد المراجعة إلى العرف.

وامّا الصورة الثالثة التي يكون مع المتنجس الملاقى شيء من أجزاء النجس ويكون التغيّر مستنداً إليه فالظاهر انّه لا ينبغي الإشكال في ثبوت الحكم بالانفعال فيها; لأنّ المفروض انّ التغيّر مستند إلى بعض أجزاء النجاسة فيصدق عنوان تغيّر الماء بسبب الملاقاة مع النجاسة كما لا يخفى.

وامّا الصورة الرابعة ففي العروة والوسيلة الحكم بالتنجّس فيها أيضاً مع انّه محل إشكال لأنّ مفاد الأخبار انّ الحكم ثابت فيما لو استند التأثير إلى شيء من الأعيان النجسة وقد عرفت انّه لو فرض تأثير المتنجّس في الماء بوصف المتنجّس لا يوجب التنجّس وكون التغيّر في المقام بوصف النجس لا يوجب فرقاً من حيث شمول الأدلّة وعدمه فلا يبعد الحكم بعدم الانفعال في هذه الصورة وأولى منها في هذا الحكم الصورة الأخيرة كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه ربما يستدلّ لما في الكتابين بصحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر تارة من جهة انّ الإطلاق فيها يشمل كلّ ما هو صالح للتنجيس ومن الظاهر انّ المتنجّس الحامل لأوصاف النجس صالح لأن يكون منجساً ولذا ينجس ملاقيه من الماء القليل واليد وغيرهما فإطلاق الرواية يشمل النجس والمتنجّس معاً وخروج ما إذا كان التغيّر بوصف المتنجس دون النجس إنّما هو بملاحظة ذيل الرواية الدالّ على اعتبار أوصاف النجس.

واُخرى: من جهة انّ الإمام(عليه السلام) قد أمر فيها بنزح ماء البئر حتى يطيب طعمه وتذهب رائحته ومن البين انّ تقليل الماء المتغيّر بمجرّده لا يوجب ارتفاع التغيّر، فالنزح لا يكون رافعاً لتغيّر الماء الباقي في البئر، فالوجه في أمره(عليه السلام) به هو أنّ البئر لما كانت ذات مادّة نابعة كان النزح موجباً لأن ينبع الماء الصافي عن مادّتها ويزيد

الصفحة 43

على المقدار الباقي وبإضافته تقلّ الرائحة والطعم من الباقي، وكلّما نزح منه مقدار أخذ مكانه الماء الصافي النابع من مادّتها حتى إذا كثر النابع بتقليل المتغيّر غلب على الباقي وأوجب استهلاكه في ضمنه، ومن هذا يظهر انّ النابع من المادّة لا يحكم بطهارته عند الملاقاة للباقي وانّما يطهر إذا غلب النابع على الباقي فهذا الأمر يدلّ على أنّ الماء النابع غير محكوم بالطهارة لتغيّره بأوصاف النجس بملاقاة المتنجس وإنّما يطهر حتى يذهب، فالرواية تدلّ على أنّ أي ماء لاقى متنجّساً حاملاً لأوصاف النجس وتغيّر بها فهو محكوم بالانفعال.

أقول: امّا الإطلاق في صحيحة ابن بزيع وكذا الموصول في النبوي المعروف المتقدّم فلا يشمل المتنجّس أصلاً، بل الظاهر الاختصاص بالأعيان النجسة لأنّها هي القابلة للتنجيس والصالحة للتأثير، وعلى فرض الشمول لابدّ من التعميم لما إذا كان التغيّر بوصف المتنجّس دون النجس والذيل لا دلالة له على الاختصاص مع أنّه ربّما يقال إنّ التعليق على ذهاب الريح وطيب الطعم مع عدم توصيف الريح بكونها كريهة ووضوح كون المراد من طيب الطعم هو الطيب المقصود من الماء لا مطلق الطيب لا إشعار فيه فضلاً عن الدلالة على كون المراد هو وصف النجس بحيث لا يشمل وصف المتنجّس أصلاً كما لا يخفى.

وامّا الوجه الثاني فالظاهر انّ أمر الإمام(عليه السلام) بالنزح إلى الغاية المذكورة إنّما هو لتوقّف حصول الطهارة على تحقّقها. وبعبارة اُخرى: وجوب النزح إلى أن تذهب الريح ويطيب الطعم إنّما هو لأجل بقاء التغيّر الموجب للنجاسة قبل تحقّق الغاية وما دام لم يتحقّق يكون التغيّر باقياً وليس في هذا الأمر والإيجاب إشعار بكون الماء الصافي الخارج من المادّة المختلط بماء البئر نجساً قبل حصول الغاية حتى يستفاد منه انّ المتنجّس الحامل لوصف النجس قد أوجب التنجّس لو لم نقل بإشعاره بل

الصفحة 44

دلالته على طهارة ذلك الماء نظراً إلى أنّه على فرض النجاسة لا يبقى وجه لحصول الطهارة فالوجه في أمر الإمام(عليه السلام) بالنزح إنّما هو اختلاط الماء الطاهر بالماء المتنجّس وصيرورته غالباً عليه وطريق استكشافه ذهاب الريح وحصول الطيب فتدبّر.

بقى في هذا الباب أمران ينبغي التنبيه عليهما:

الأوّل: انّه اعتبر في «العروة» في انفعال الماء بسبب التغيّر زائداً على ما ذكر أن يكون التغيّر حسيّاً قال: «فالتقديري لا يضرّ فلو كان لون الماء أحمر أو أصفر فوقع فيه مقدار من الدم كان يغيّره لو لم يكن كذلك لم ينجس، وكذا إذا صبّ فيه بول كثير لا لون له بحيث لو كان له لون غيّره وكذا لو كان جائفاً فوقع فيه ميتة كانت تغيّره لو لم يكن جائفاً ففي هذه الصور ما لم يخرج عن صدق الإطلاق محكوم بالطهارة على الأقوى».

وقد نسب ذلك إلى المشهور، والوجه فيه انّ الحكم مترتّب في ظواهر الأدلّة على الماء المتغيّر، فترتّبه موقوف على تحقّق التغيّر من دون فرق بين أن يكون المانع عن حصول التغيّر اتحادهما في الأوصاف ذاتاً بمقتضى طبيعتهما النوعية كالماء مع البول، أو يكون المانع حصول وصف عرضي للماء كالماء الأحمر الملاقي للدم، أو زوال وصف النجاسة كما لو زالت ريح البول بهبوب الرياح ـ مثلاً ـ أو نقص وصفها، وغير ذلك من الفروض، وبالجملة فالمدار هو حصول التغيّر بنظر العرف لا الأعمّ منه ومن التغيّر التقديري.

وربما يوجه القول بالتعميم بأنّ المؤثّر في الانفعال إنّما هو اختلاط الماء مع مقدار معيّن وكم خاص من النجس والتغيّر كاشف عنه وأمارة عليه لا أنّه موضوع ومؤثّر بحيث كان الحكم دائراً مداره فإذا أحرز وجود ذلك المقدار بأمارة أخرى

الصفحة 45

يترتّب عليه الحكم بالانفعال.

وفيه ـ مضافاً إلى أنّ جعل التغيّر طريقاً إلى المقدار المعيّن وكاشفاً عن كم خاص مع عدم العلم بذلك المقدار أحالة على أمر مجهول، وإلى منافاة هذا التوجيه لما يستفاد من ظواهر الأدلّة فإنّ ظاهرها انّ الموضوع المؤثّر في الانفعال إنّما هو عنوان التغيّر، وجعله كاشفاً وأمارة على الموضوع يحتاج إلى مؤونة زائدة لم يدلّ عليه الدليل أصلاً ـ .

انّه من المعلوم انّ ما يوجب استقذار العرف إنّما هو حصول التغيّر في الماء كما نشاهده بالوجدان ضرورة ثبوت الفرق البين من حيث الاستقذار والتنفّر وعدمه بين الماء المتغيّر وبين الماء غير المتغيّر الصالح له لولا المانع، فإذا ثبت الفرق بينهما في نظر العرف تحتمل مدخلية هذه المرتبة من الاستقذار في ثبوت الانفعال ومعه لا يمكن رفع اليد عن الظاهر بدون وجود دليل على خلافه.

ومن ذلك يظهر الجواب عن الاستبعاد الذي ربّما يذكر ويقال في وجهه: انّه لو فرض حوضان من الماء متساويان في المقدار أحدهما مائه صاف لطيف والآخر كدر كثيف فلو فرض وقوع بعض أجزاء الميتة في الأوّل وصار موجباً لتغيّره لكمال صفائه ولطافته ووقع ميتة كاملة في الثاني ولم يتغيّر بسببه لكثافته وعدم لطافته فهل يمكن الالتزام بانفعال الماء الأوّل وعدم انفعال الثاني؟! وهل هو إلاّ القول بمدخلية الكثافة في الاعتصام؟! ومن الواضح منافاته لما هو المعهود من مذاق الشرع.

وفيه ـ مضافاً إلى أنّه مجرّد استبعاد ولا يجوز رفع اليد عن ظواهر الأدلّة بسببه ـ انّ التفصيل بين المائين والحكم بوجود الفرق في البين موافق للاعتبار أيضاً فإنّ الاستقذار الحاصل بالنسبة إلى الماء الأوّل أشدّ من الاستقذار المتحقّق بالإضافة

الصفحة 46

إلى الثاني، وحينئذ تحتمل مدخلية تلك المرتبة الشديدة في الحكم بالنجاسة فلا يجوز رفع اليد عن الظواهر إلاّ بدليل والمفروض انتفائه.

وممّا ذكرنا يظهر الخلل في التفصيل الذي أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ وهو الفرق بين ما إذا كان التقدير الذي يعبّر عنه بكلمة «لو» في المقتضى وما إذا كان في الشرط وما إذا كان في المانع بالحكم بعدم ثبوت الانفعال في الأوّلين وثبوته في الأخيرين كما في الأمثلة المذكورة في العروة.

وقد عرفت عدم الفرق وانّه لا يتحقّق الانفعال في الأخير أيضاً كما في المثال المذكور في تقريب الاستبعاد، نعم ربما لا يكون التغيّر ظاهراً لمانع كما إذا جعل أحد على عينيه نظارة حمراء أو جعل الماء في آنية حمراء وفي مثله لا مجال للخدشة في الحكم بالانفعال وهذا بخلاف ما إذا ك ان المانع مانعاً عن حصول أصل التغيّر كمثال المائين فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.

وربما يقال: إنّ المعتبر في الانفعال هو التغيّر الواقعي النفس الأمري ولو كان مستوراً عن الحس.

وفيه: انّه إن كان المراد هو التغيّر بحيث يكون يعرفه العرف فهو راجع إلى ما ذكرنا، وإن كان المراد التغيّر الواقعي ولو لم يعد تغيّراً في نظر العرف فاللاّزم الحكم بنجاسة البحر لو وقعت فيه قطرة دم إذ لا يعقل انفكاك التأثير عن هذه القطرة بحسب الواقع والنظر الدقّي الفلسفي، غاية الأمر انّ العرف لا يراه متغيّراً.

وبالجملة فالظاهر انّه لا إشكال في أنّ المدار هو التغيّر الفعلي الذي يعدّ بنظر العرف تغيّراً والأدلّة التي اُقيمت على عدم الاختصاص بين ما يرجع إلى مجرّد الاستبعاد وما هو خلاف الظواهر.

الثاني: انّه هل يكفي في الحكم بالانفعال بسبب التغيّر، مجرّد تغيّر الماء عن وصفه

الصفحة 47

الثابت له فعلاً ولو كان وصفاً عرضياً له بحيث لو تغيّر بسبب الملاقاة للنجس عن وصفه العرضي وصار متّصفاً بالوصف الثابت لطبيعة الماء مع قطع النظر عن العوارض كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب وقوع المسكر الصافي أو البول الصافي فيه وصار صافياً كسائر المياه الباقية على الوصف الطبيعي يكون مشمولاً لتلك الأدلّة ومحكوماً بالتأثّر والانفعال، أو انّه يعتبر في الحكم المذكور تغيّر الماء عن الوصف الذاتي الثابت لطبيعة الماء ف لو تبدّل وصفه العرضي إلى الوصف الذاتي بسبب الملاقاة للنجس كما في المثال المذكور، أو إلى وصف عرضي آخر كما إذا تغيّر في المثال إلى الخضرة ـ فرضاً ـ لم يترتّب عليه الحكم بالنجاسة؟ وجهان بل قولان.

والمستند للقول الثاني النبوي المعروف المتقدّم: «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» فإنّه يدلّ على أنّ طبيعة الماء مجرّدة عن كافّة القيود طاهرة لا ينجسها شيء من النجاسات لا أن يكون التجرّد مأخوذاً في الموضوع بل حيث إنّه جعل موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا أخذ قيد فيه ـ مع كون المتكلّم فاعلاً مختاراً ـ يستفاد منه انّ الموضوع نفس الطبيعة و ـ حينئذ ـ فتدلّ الرواية على طهارته إلى أن يتغيّر اللون أو الطعم أو الريح الثابتة لتلك الطبيعة بسبب الملاقاة مع النجاسة.

وبالجملة فالضمير في قوله(صلى الله عليه وآله) : «إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» يرجع إلى ماجعل موضوعاً للطهارة وهي نفس طبيعة الماء، فتدلّ الرواية على أنّ الماء لو تغيّر بعض صفاته الثابتة لطبيعته بسبب الملاقاة يترتّب عليه الحكم بالنجاسة، فالمناط خروج الماء عن أحد أوصافه الأصلية الثابتة لطبيعته وصيرورته معروضاً لبعض العوارض الخارجية.

ومستند القول الأوّل إطلاق ما يستفاد من بعض الروايات، فإنّ ظاهره انّ

الصفحة 48

المناط تغيّر الماء عن الحالة التي كان عليها قبل الملاقاة بسببها ولو رجع إلى الحالة الثابتة لنفس طبيعة الماء فإنّ رواية أبي بصير المتقدّمة التي سئل فيها عن الماء النقيع تبول فيه الدواب ربّما يستفاد منها ذلك نظراً إلى أنّ المياه الواقعة في أطراف المدينة كانت خارجة عن أوصافها الأصلية غالباً لاسيما مع ملاحظة الحرارة الشديدة وكثرة الحاجة إليها و ـ حينئذ ـ فلو كان التغيّر إلى تلك الأوصاف غير قادح لزم أن يفصل الإمام(عليه السلام) بينه وبين التغيّر إلى غيرها فترك الاستفصال والتفصيل دليل على العموم.

مضافاً إلى أنّ لازم القول الثاني انّه لو تغيّر الماء عن الوصف العرضي الثابت له فعلاً إلى وصف عرضي آخر كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب الملاقاة للنجاسة وصار أصفر ـ مثلاً ـ عدم كون هذا النحو من التغيّر مؤثراً في رفع الاعتصام وحصول الانفعال، ومن المعلوم انّ الالتزام بذلك مشكل جدّاً، وإلى أنّ الأوصاف الأصلية للماء غير مضبوطة فقد يكون الماء حلواً قابلاً للشرب وقد يكون مالحاً غير قابل له وهكذا الأوصاف الاُخر فالأظهر بناء على ما ذكر هو القول الأوّل.

الصفحة 49

مسألة 8 ـ الماء الجاري وهو النابع السائل لا ينجس بملاقاة النجس كثيراً كان أو قليلاً; ويلحق به النابع الواقف كبض العيون وكذلك البئر على الأقوى، فلا ينجس المياه المزبورة إلاّ بالتغيّر كما مرّ1.

1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في تحقيق موضوع الماء الجاري وبيان حقيقته، وقد عرفه جماعة من الأصحاب بل قيل إنّه المشهور بينهم بأنّه هو النابع السائل على الأرض ولو في الباطن سيلاناً معتدّاً به، وقد صرّح بذلك في كلام صاحب الجواهر(قدس سره) ويظهر من الشيخ الأعظم في طهارته. وقد يفسّر ـ كما عن المسالك ـ بأنّه هو النابع غير البئر سواء كان جارياً على الأرض أم لم يكن كذلك، وتسميته ـ حينئذ ـ جارياً امّا حقيقة عرفية خاصة أو من باب التغليب لتحقّق الجريان في كثير من أفراده، وعليه فمثل العيون التي لا تدخل تحت عنوان «البئر» ولم يكن مائه جارياً على الأرض فعلاً يكون من الجاري.

أقول: لا إشكال في عدم إطلاق الماء الجاري على الماء الخارج من مثل الابريق اتفاقاً، نعم يقال: الماء جار منه باعتبار معناه الحدثي ولا يقال: الماء الجاري، وهذا يدلّ على عدم كون هذا المشتق تابعاً لفعله في الإطلاق، بل يعتبر فيه خصوصية زائدة كإطلاق التاجر ـ مثلاً ـ فإنّه لا يقال على من صدرت منه التجارة دفعة أو دفعتين من دون أن يتّخذها حرفة وصنعة انّه تاجر بل يعتبر في صدقه اشتغاله بالتجارة بحيث صارت حرفة له.

وبالجملة: المشتقات على قسمين: قسم يصحّ إطلاقه بمجرّد تحقّق مبدئه وحدوثه من الفاعل كالضارب والقاتل ونحوهما، وقسم لا يكفي مجرّد حدوث المبدأ وصدوره في صحّة جريه وإطلاقه كمثال التاجر، والظاهر انّ عنوان

الصفحة 50

«الجاري» من هذا القبيل إذ يصحّ ـ كما عرفت ـ أن يقال: جرى الماء من الابريق والميزاب ولا يصحّ أن يقال: إنّه الماء الجاري كما يظهر بمراجعة العرف.

نعم بين المقام ومثال التاجر فرق وهو أنّ التاجر ليس له إلاّ إطلاق واحد ولا يستعمل إلاّ بنحو فارد، وامّا المقام فله استعمالان نظراً إلى أنّ الماء السائل من الميزان كما انّه ليس من الماء الجاري على ما عرفت كذلك يصحّ أن يوصف بالجريان ويحكم عليه بحكم مثل أن يقال: الماء الجاري من الميزاب كثير ـ مثلاً ـ فالماء الجاري من الميزان كما انّه يطلق عليه عنوان «الجاري» كذلك ليس من الماء الجاري وهذا يشعر بل يدلّ على الفرق بين ما إذا كان بنحو التوصيف وما إذا كان بنحو الاسمية والعلمية وإن كان الاتصاف مرعياً في جانب العلمية أيضاً إلاّ انّه فرق بين الإطلاقين.

وـ حينئذ ـ فهل يعتبر في صدقه النبوع من الأرض والسيلان بالفعل كما عرفت انّه المصرّح به في الجواهر، أو يعتبر أن يكون له مادّة مع الجريان سواء كانت مادّته تحت الأرض كالعيون أو فوق الأرض كالماء الجاري على الأرض المنهدر من الجبال الحاصل من ذوبان الثلج عليها، أو يعتبر فيه النبع من الأرض سواء كان جارياً على الأرض أم لم يكن كذلك كما عرفت من المسالك بل يظهر من بعضهم انّه المشهور بينهم؟

ويمكن أن يورد على الأوّل بأنّ مادّة الجريان لم يؤخذ فيها النبوع كما يظهر بمراجعة اللغة وقد عرفت انّه يقال: جرى الماء من الابريق أو الماء الجاري منه بنحو التوصيف وهذا بمكان من الوضوح و ـ حينئذ ـ فإن كان إطلاق الجاري من قبيل إطلاق التاجر بحيث لم يعتبر فيه اشتغاله بالتجارة فعلاً بل يكفي في صدقه اتخاذه صنعة وحرفة فاللاّزم عدم اعتبار التلبّس بالمبدأ في معنى الجاري وـ حينئذ ـ فلا

الصفحة 51

وجه لإضافة قيد السيلان بالفعل واعتباره في تحقّقه بل لابدّ من الالتزام بكفاية ملكة الجريان في صدقه وإن لم يكن جارياً بالفعل كما انّه يطلق التاجر على التاجر المحبوس غير المشتغل بالتجارة في برهة من الزمان.

وبالجملة فلفظ «الجاري» امّا أن يكون تابعاً لفعله في الصدق، وامّا أن يكون من قبيل التاجر، فعلى الأوّل لا مجال لأخذ قيد النبوع من الأرض فيه كما انّه على الثاني لا وجه لاعتبار الجريان بالفعل في صدقه وتحقّقه فالجمع بين الأمرين ممّا لا يساعده اللغة اللهمّ إلاّ أن يقال بموافقة العرف معه.

و ـ حينئذ ـ فلا وجه لما يظهر من بعض الكلمات من دلالة اللغة والعرف على هذا المعنى، وكان صاحب الجواهر(قدس سره) تفطّن لعدم كون اللغة مساعدة على هذا المعنى ولأجله ادّعى كونه هو المتبادر عند العرف ويثبت به اللغة. ولا محيص عن ذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من الاسمية والعلمية فإنّها لا محالة ترتبط بالعرف وتصير حقيقة عرفية كما عرفت في كلام المسالك.

وكيف كان فالظاهر في معنى الجاري اعتبار أن يكون له مادّة تحت الأرض فالماء الجاري من مادّة حاصلة على الأرض كالثلج على الجبال لا يقال له انّه الماء الجاري كما يظهر بمراجعة العرف، ولا يبعد القول بعدم لزوم الجريان على وجه الأرض بالفعل بل يكفي كونه قابلاً ومستعدّاً للجريان بحيث لو لم يمنع عنه مانع يكون كسائر المياه الجارية على وجه الأرض، ومقتضى ذلك كون ماء البئر ماءً جارياً أيضاً ولعلّ استثناء صاحب المسالك (قدس سره) إنّما هو لأجل عدم مساعدة العرف عليه.

وقد ادّعى جامع المقاصد ـ في المحكي عنه ـ الاتفاق ممّن عدا ابن أبي عقيل على أنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية ولكنّه ربّما يقال بأنّ

الصفحة 52

البداهة والوجدان تحكمان بأنّ مثل دجلة والفرات من أقسام الماء الجاري مع أنّ منشأهما ذ وبان ثلوج الجبال، وعليه فيمكن أن يكون مراده من النبع هو المادّة الموجبة لدوام الجريان في مقابل مثل الساعة واليوم سواء كانت تحت الأرض أم على الجبال ولكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر لفظ «النبع» كما لا يخفى.

وحكم البداهة والوجدان بذلك ممنوع والإطلاق إنّما هو بالمعنى اللغوي الذي عرفت انّه بملاحظته لا مانع من الإطلاق على ماء الميزاب والابريق، نعم نفس الفرق بين المادّة الواقعة تحت الأرض والمادّة الواقعة فوقها خصوصاً بعد ملاحظة انّ الأولى إنّما تتحقّق غالباً وتنشأ من الثانية مشكلة جدّاً فالإنصاف مع ذلك جعل الثانية من مصاديق الماء الجاري، كما أنّ مجرّد قابلية الجريان والاستعداد له من دون الفعلية لا يكفي في الصدق، وعليه فاستثناء البئر يكون من قبيل الاستثناء المنقطع ويتعيّن الاحتمال الثاني من الاحتمالات المتقدّمة فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه هل يعتبر في النبع من الأرض أن يكون على وجه يخرج الماء دفعة، أو يكفي أن يكون خروجه بنحو الرشح؟ الظاهر هو الثاني خصوصاً بعد ملاحظة انّ الغالب في أكثر البلاد هو الرشح لأنّ الغالب اجتماع الماء في الأمكنة المنخفضة والترشح من عروق الأرض تدريجاً ومنه ظهر انّه لا يعتبر أن يكون خارجاً من عين بمعنى أن يكون له منبع تحت الأرض يخرج منه الماء، بل يكفي الخروج من تحت الأرض ولو لم يكن له منبع بأن كان ذلك لتبدّل الأبخرة بالماء تدريجاً وخروجه منه وذلك ظاهر لمن راجع العرف وإن كان الظاهر من كلمات بعض اللغويين اعتبار الخروج من العين في تحقّق النبع، نعم ما ذكرناه من كفاية خروج الماء بنحو الرشح إنّما هو فيما إذا كان الماء المجتمع من الرشحات متّصلاً بها، وعليه فالماء الجاري على وجه الأرض الحاصل من رشحات واقعة فوق الجبال بأن كان الماء مترشّحاً على

الصفحة 53

مكان من فوقها ثمّ يصير مجتمعاً في ذلك المكان الأسفل ثمّ يجري على وجه الأرض لا يكون ماءً جارياً قطعاً وإن لم نعتبر فيه خصوص المادّة الأرضية.

والعجب من بعض الأعلام حيث استدلّ لعدم اعتبار كون الجريان بنحو الدفع والفوران بإطلاق صحيح ابن بزيع باعتبار التعليل بأنّ له مادّة نظراً إلى تحققها في الرشح أيضاً مع أنّ التعليل فيه إنّما يجدي لتعميم الحكم بالاعتصام لكلّ ماء مشتمل على مادّة ولا دلالة له على صدق عنوان الماء الجاري أصلاً والكلام إنّما هو في موضوعه وما له أحكام مخصوصة لا تجري لا تجري في سائر المياه المعتصمة، كما أنّ لها أيضاً أحكاماً خاصة لا تجري في الماء الجاري.

المقام الثاني: في حكم الماء الجاري من جهة الاعتصام وعدمه وهو ـ أي الاعتصام ـ فيما إذا كان الماء الجاري كرّاً موضع وفاق، وفي القليل منه يظهر الخلاف من العلاّمة(قدس سره) حيث ذهب إلى أنّه لا فرق بين القليل من الجاري والقليل من غيره ونسب ذلك إلى الشهيد الثاني أيضاً وما يستفاد منه إطلاق الحكم وشموله لصورة القلّة أيضاً روايات:

منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب. فإنّها تدلّ بإطلاقها على جواز التوضّي والشرب من الماء الجاري فيما إذا غلب على ريح الجيفة ولو كان قليلاً غير بالغ حدّ الكرّ ودعوى عدم الشمول للماء الجاري باعتبار فرض وقوع الجيفة الظاهر في الماء الراكد واضحة المنع.

ومنها: رواية أبي خالد القماط أنّه سمع أبا عبدالله(عليه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ. ومورد

الصفحة 54

السؤال في هذه الرواية وإن كان هو الماء النقيع وهو الماء الراكد المجتمع في موضع إلاّ أنّ العدول في الجواب عن بيان حكم هذا المورد بخصوصه والتعبير بالقضية الكلّية ربّما يدلّ على المطلب، وحمل تعريف «الماء» في الجواب على العهد خلاف الظاهر ولذا يستفاد من هذه الرواية حكم صورة التغيّر والانفعال بالنسبة إلى الجاري بل كلّ ماء كما لا يخفى.

ومنها: رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء قال: يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة. ودلالتها على حكم المقام ظاهرة.

ومنها: وهي العمدة صحيحة محمد بن إسماعيل عن الرضا(عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.

فإنّه لا ريب في أنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «لا يفسده شيء» ليس هو الاخبار عن أنّه لا يفسد بماء هو مفسد في نظر العرف بل المراد به بيان الحكم وهو الاعتصام وعدم الانفعال وحينئذ فامّا أن يقال بأنّ التعليل بأنّ له مادّة يكون تعليلاً لهذا الحكم وعليه فالرواية لها دلالة ظاهرة على حكم الماء الجاري نظراً إلى التعليل لأنّه يستفاد منها أنّ العلّة في الاعتصام وعدم الانفعال كون الماء متّصفاً بأنّ له مادّة، ومن المعلوم وجود هذه العلّة في الماء الجاري لو لم يكن بنحو أقوى وبطريق أولى خصوصاً لو خصصنا موضوع الماء الجاري بما إذا كانت له مادّة أرضية.

وامّا أن يقال بكونه تعليلاً لما يترتّب على ذهاب الريح وطيب الطعم وهي طهارة الماء لأنّه لا يناسب أن يكون تعليلاً لنفس ذهاب الريح وطيب الطعم فتأمّل، وعليه فتدلّ الرواية أيضاً على اعتصام الماء الجاري ولو كان قليلاً غير بالغ حدّ الكر لدلالتها على أنّ العلّة في طهارة الماء بعد فرض عدم تغيّره أو ذهابه إنّما هو كونه ذا

الصفحة 55

مادّة والمفروض اشتراك الجاري مع البئر في هذه الجهة فالعلّة تدلّ على عموم الحكم لجميع موارد ثبوتها.

ودعوى أنّه على التقدير الثاني يكون الاشتمال على المادّة رافعاً للنجاسة الحاصلة بالتغيّر بعد ذهابه والغرض هو الاعتصام وعدم مجيء النجاسة أصلاً، مدفوعة بأنّه على هذا التقدير تكون دلالة الرواية على حكم المقام بالأولوية القطعية نظراً إى أنّ الدفع أهون من الرفع وما يصلح للثاني فهو صالح للأوّل بالأولوية.

ومنها: الروايات الواردة في البول في الماء الجاري الدالّة على عدم البأس وقد استدلّ بها المحقّق الهمداني(قدس سره) وهي بين ما يدلّ على نفي البأس عن البول في الماء الجاري وهي أكثرها وما يدلّ على عدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه وهي رواية سماعة قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به. والطائفة الاُولى لا دلالة لها على حكم المقام فإنّ جواز البول في الماء الجاري في مقابل الحرمة والكراهة لا يلازم الاعتصام وعدم الانفعال بوجه، ورواية سماعة باعتبار كون السؤال فيها عن حكم الماء الجاري بعد البول فيه تدلّ على اعتصامه إلاّ أن يقال إنّ التعبير بعدم البأس إنّما يلائم الحكم التكليفي لا الوضعي فلا فرق بينها وبين الطائفة الاُولى، أو يقال بأنّ السؤال إنّما هو المحمول والمسند والضمير في الجواب يرجع إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» الذي هو المسند وعليه فلا فرق بين الطائفتين أيضاً.

ومنها: صحيحة داود بن سرحان قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري. والاستدلال بهذه الرواية على اعتصام الماء الجاري مطلقاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات:

الصفحة 56

إحداها: أنّ التنزيل والتشبيه إنّما هو في الاعتصام لا في الانفعال لأنّه المشهور والمعروف بالنسبة إلى الماء الجاري ولو لم نقل باعتصام القليل منه.

ثانيتها: إنّ المنزل إنّما هي الحياض الصغيرة التي كانت موردة لابتلاء الناس بها في الحمّام، لا المخزن المتّصل بها، ولا المجموع منه ومن تلك الحياض الصغيرة، أمّا الأوّل فواضح.

وامّا الثاني فلأنّ تنزيله منزلة الماء الجاري يكون ـ حينئذ ـ بلا وجه لعدم المناسبة بينهما وعدم ثبوت وجه الشبه بوجه، بخلاف ما إذا كان التنزيل بالنسبة إلى الحياض الصغيرة وحدها فإنّ وجه الشبه ـ حينئذ ـ كون كلّ منهما مشتملاً على مادّة يخرج منها الماء، هذا مضافاً إلى أنّ المخزن المتّصل بالحياض لم يكن مورداً للابتلاء حتى يسأل عنه، وإنّما كان محلّ الابتلاء خصوص تلك الحياض الصغيرة الواقعة في الحمّام.

ثالثتها: كون ماء تلك الحياض غير بالغ حدّ الكر غالباً وهو كذلك على ما هو المتعارف الموجود في الخارج، ويؤيّده وقوع السؤال عنه في الأخبار الكثيرة مع أنّه لو كان بالغاً حدّ الكرّ لم يحتج إلى السؤال لوضوح حكم الكرّ وعدم خصوصية لماء الحمّام ـ حينئذ ـ كما هو ظاهر.

وبعد ثبوت هذه المقدّمات يستفاد من الرواية ثبوت الحكم في الماء الجاري وعدم الفرق بين قليله وكثيره لاشتماله على المادّة، وينقدح بطلان ما أورد أو يمكن أن يورد على الاستدلال بالرواية مثل المناقشة في دلالتها والحكم بإجمالها نظراً إلى عدم معلومية وجه الشبه وانّه لم يعلم انّ الإمام (عليه السلام) شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري في أي شيء، ومثل ما أفاده بعض الأعلام من أنّ الظاهر أنّ المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالماء الجاري الكثير ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان

الصفحة 57

يوجد في أراضي العجم كثيراً فالتشبيه بلحاظ أنّ الجاري الكثير كما أنّه معتصم لكثرته ويتقوّى بعضه ببعض ـ لا بمادّته فإنّها ليست بماء ـ كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ولو لأجل مجرّد الاتصال بانبوب أو بغيره فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً.

بمعنى أنّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادّته فإذاً لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً، وتشبيه ماء الحمّام به من هذه الجهة.

أقول: أمّا المناقشة في الدلالة ودعوى إجمال الرواية فواضحة المنع بملاحظة المقدّمة الاُولى.

وامّا ما أفاده بعض الأعلام فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع كون الغلبة في المياه الجارية في أراضي العرب مع الكثرة فضلاً عن دعوى الانحصار، وإلى عدم اختصاص الحكم بتلك المياه، وإلى ما عرفت من كون مورد السؤال خصوص الماء الموجود في الحياض الصغيرة وانّه هو الذي يعبّر عنه بماء الحمّام لا المجموع منه ومن الماء الموجود في المخزن ـ انّ التشبيه لو كان بلحاظ الكثرة لم يكن وجه لتخصيص الماء الجاري بالذكر بعد ثبوت هذه الجهة في الكرّ الراكد أيضاً فإنّه لأجل كثرته يتقوّى بعضه ببعض ويمنع عن عروض النجاسة عليه فالتشبيه بالجاري إنّما هو لأجل خصوصية موجودة فيه مفقودة في مثل الكرّ الراكد وليست تلك الخصوصية إلاّ مجرّد الاشتمال على المادّة والاتصال بها ونظر الرواية إلى أنّ المادّة الجعلية الموجودة في الحمّامات بمنزلة المادّة الأصلية الطبيعية الثابتة في الماء الجاري فكما أنّ الثانية نشأت منها الاعتصام في الماء الجاري فكذلك الأولى يوجب الاعتصام لماء الحوض الصغير في الحمّام فالإنصاف تمامية دلالة مثل الرواية على عدم انفعال

الصفحة 58

الجاري مطلقاً.

ثمّ إنّه أيّد المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح ما ذهب إليه المشهور بصحيحة ابن مسلم الواردة في الثوب الذي يصيبه البول: «وإن غسلته في ماء جار فمرّة» قال في تقريبه: «إذ لو كان ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لتنجّسه لكان على الإمام(عليه السلام) التنبيه عليه في مثل هذه الفروض ولو لم يكن مقصوداً بالسؤال، هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس وإلاّ فالصحيحة الأخيرة بإطلاقها مثبتة للمطلوب، ودعوى انصراف مثل هذه الأخبار عن العيون التي لا يكون مائها كراً ممنوعة».

وأورد عليه بأنّ بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام(عليه السلام) إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان في مقام البيان من هذه الجهة وليس في مثل الصحيحة بصدد بيان حكم الماء بل بصدد بيان كيفية تطهير الثوب المتنجّس بالبول وعليه فكيف يمكن أن يستفاد من السكوت طهارة الماء، وبأنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ورود الماء على النجس في مقام التطهير بإطلاق الصحيحة ويحكم بعدم اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل فإنّ اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة.

أقول: امّا الإيراد الأوّل فمدفوع بأنّه وإن كان يشترط في التمسّك بالإطلاق كونه وارداً في مقام البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال للمناقشة في أنّ المتفاهم العرفي من مثل الصحيحة الحكم ببقاء الماء على طهارته السابقة فإنّه وإن لم يكن إلاّ في مقام بيان تطهير الثوب إلاّ أنّ ظاهره العرفي ليس حصول الطهارة له وزوالها عن الماء بل بقاء الماء على طهارته الأوّلية وحدوث أمر واحد وهو زوال النجاسة عن الثوب فتدبّر.

وامّا الإيراد الثاني فمدفوع بأنّ الاستدلال إنّما يبتني على فرض اعتبار ورود الماء

الصفحة 59

في مقام التطهير مطلقاً وعليه فالالتزام بالتخصيص مناف لمبنى الاستدلال كالالتزام بعدم اعتبار الورود أصلاً كما لا يخفى هذا كلّه في مستند المشهور.

وامّا العلاّمة(قدس سره) فقد استند لما ذهب إليه من التفصيل بمفهوم الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء. فإنّ مفادها أنّ العلّة المنحصرة والسبب الوحيد لعدم تنجّس الماء واعتصامه هو بلوغه قدر الكرّ فينتفي مع انتفائها من دون فرق بين الجاري وغيره.

وتحقيق الجواب يتوقّف على بيان حال المفهوم وأنّه هل يصلح لأن يعارض المنطوق أم لا؟ ـ وإن كان هذا البحث خارجاً عن البحث الفقهي ـ فنقول: قد اشتهر بين المتأخّرين من الأصوليين انّ تعليق الحكم على شرط أو وصف أو غيرهما من القيود يفيد كون ذلك الشرط أو الوصف أو القيد الآخر علّة منحصرة لثبوت الحكم بحيث ينتفي الحكم بمجرّد انتفاء ما علّق عليه كانتفاء كلّ معلول بانتفاء علّته المنحصرة.

وهذا المعنى المعروف مناف لما يقتضيه التتبّع في الاستعمالات العرفية فإنّ الظاهر أنّه بحسبها لا يفيد تعليق الحكم على مثل الشرط إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، امّا كون ذلك الشرط علّة فلا يستفاد منه فضلاً عن أن يكون علّة منحصرة، ألا ترى انّه لو قيل: «إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة» لا يستفاد منه كون طلوع الشمس علّة منحصرة لحدوث الحرارة وإلاّ لزم أن تكون هذه القضية كاذبة مخالفة للواقع ـ وهو خلاف الواقع ـ فبعد فرض الصدق وعدم كون الاستعمال مجازياً ـ كما هو واضح ـ يدلّ ذلك على أنّ التعليق بالشرط لا يفيد إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، وهذا هو الموافق لحكم العقل أيضاً فإنّه يحكم بأنّ المتكلّم المختار إذا أخذ في موضوع حكمه قيداً فاللاّزم الحكم بدخالة القيد في الحكم المذكور صوناً لكلامه

الصفحة 60

عن اللغوية عكس باب الإطلاق فإنّ مقتضى حكم العقل في ذلك الباب انّه إذا فرض كون المتكلم في مقام البيان ولم يأخذ قيداً في متعلّق الحكم فاللاّزم الحكم بكون موضوع حكمه نفس الطبيعة بلا قيد، وكما أنّ تقييد الموضوع بدليل آخر لا ينافي ذلك الإطلاق بل الواجب حمله عليه، فكذلك ثبوت الحكم فيما نحن فيه مع قيد آخر لا ينافي تعليقه على القيد الأوّل فتدبّر.

وفي المقام نقول: لا يستفاد من تلك الأخبار إلاّ مجرّد أنّ بلوغ الماء قدر كرّ له دخالة في الاعتصام وعدم التأثّر ولا ينافي ذلك انّ اتصافه بكونه جارياً أيضاً موجباً لعدم الانفعال، نعم المستفاد من تلك الأخبار انّ ذلك الحكم لا يكاد يترتّب على طبيعة الماء من دون مدخلية أي قيد لما عرفت من أنّه يلزم أن يكون أخذ القيد لغواً منافياً لشأن المتكلِّم الملتفت المختار.

فانقدح من جميع ذلك انّ المفهوم لا يصلح لأن يعارض المنطوق أصلاً وإن شئت فقل: إنّه ليس هناك مفهوم حتى يتّصف بالمعارضة للمنطوق فلا تعارض بين الأدلّة في المقام بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الماء الجاري والحكم باعتصام القليل منه أيضاً.

ثمّ إنّه لو قيل بإفادة تعليق الحكم على شرط ونحوه كون ذلك الشرط علّة وحيدة لترتّب الجزاء وسبباً منحصراً لثبوت الحكم بحيث ينتفي بانتفائه ففي مثل المقام يقع التعارض بين الأدلّة ولا تكون لإحدى الطائفتين حكومة على الاُخرى، لأنّ الحكومة مرجعها إلى كون دليل الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم ومفسِّراً له شارحاً إيّاه ـ بحسب الموضوع أو المحمول أو المراتب المتقدّمة أو المتأخّرة كما حقّقناه في محلّه ـ ولا ريب في عدم تحقّق هذا المعنى هنا، ضرورة أنّ مقتضى أدلّة الجاري ثبوت حكمه بالإضافة إلى جميع مصاديقه، ومقتضى هذه الأدلّة انفعال الماء

<<التالي الفهرس السابق>>