في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 21

مسألة 5ـ يحرم في حال التخلّي استدبار القبلة واستقبالها بمقاديم بدنه وهي الصدر والبطن وإن أمال العورة عنها ، والميزان هو الاستدبار والاستقبال العرفيان ، والظاهر عدم دخل الركبتين فيهما ، والأحوط ترك الاستقبال بعورته فقط وإن لم تكن مقاديم بدنه إليها ، والأحوط حرمتهما حال الاستبراء بل الأقوى لو خرج معه القطرات ، ولا ينبغي ترك الاحتياط في حال الاستنجاء وإن كان الأقوى عدم حرمتهما فيه ، ولو اضطرّ إلى أحدهما تخيّر والأحوط اختيار الاستدبار ، ولو داره أمره بين أحدهما وترك الستر عن الناظر اختار الستر ، ولو اشتبهت القبلة بين الجهات ولم يمكن له الفحص ويتعسّر عليه التأخير إلى أن تتّضح القبلة يتخيّر بينها ، ولا يبعد لزوم العمل بالظنّ لو حصل له1  .

1ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات :

المقام الأوّل : في أنّه يحرم في حال التخلّي الاستدبار والاستقبال في الجملة كما هو المشهور بين أصحابنا الإمامية بل المتسالم عليه عندهم ، ولم ينقل الخلاف فيه إلاّ عن جماعة من متأخّري المتأخّرين كصاحب المدارك(قدس سره) حيث ذهب إلى كراهتهما ، ولا فرق عند المشهور بين الصحاري والأبنية ، وحكى عن ظاهر السلاّر ، التفصيل بينهما بالحرمة في الاُولى والكراهة في الثانية ، وعن المفيد(قدس سره)إباحتهاـ أي الثانية ـ مثل ما يقوله الشافعي ، وعن ابن الجنيد استحباب ترك الاستقبال في الصحراء ، ولم يتعرّض لحكم الاستدبار فيها ولا لحكم البنيان أصلاً ، وعن بعض العامّة التفصيل بين الاستقبال والاستدبار ، وعن بعضهم الجواز فيهما أي في الصحاري والأبنية جميعاً .

وكيف كان العمدة في إثبات أصل الحكم في المقام هي الشهرة العظيمة المحقّقة بل التسالم بينهمـ على ما عرفتـ لأنّ الأخبار الواردة في الباب غير قابلة للاستناد

الصفحة 22

إليها لضعف سندها ولاشتمالها على ما لا يلتزم به أحد مثل حرمة استقبال الريح واستدبارها وإن كان يمكن توجيه الاشتمال بأنّه بمجرّده لا يصلح للتصرّف فيما ظاهره الحرمة فإنّ قيام القرينة على إرادة الكراهة من النهي في حكم لا يوجب خروج النهي الآخر المقرون الظاهر في الحرمة عن ظهوره ضرورة ثبوت ظهورين كلّ واحد منهما يتّصف بالحجّية والاقتران ووحدة السياق لا يوجب عدم الحجّية ولكن المناقشة في الأخبار من جهة السند غير قابلة الاندفاع . ويقع الكلام بعد ذلك في أنّ الشهرة هل تكون مستندة إلى تلك الأخبار بمعنى أنّ الأصحاب اعتمدوا عليها في مقام الافتاء بهذا الحكم فتكون الشهرة جابرة لضعفها فتصير هذه الروايات كالأخبار الصحيحة فيجب النظر في مدلولها والحكم على طبق مضمونها ولو لم يقل به المشهور ، أو انّ المدار على الشهرة ، فكلّ مورد تحقّقت فيه الشهرة تجب متابعة المشهور دون ما لم تتحقّق فيه؟ والثمرة بينهما تظهر فيما بعد ، والظاهر هو الأوّل وعليه فاللاّزم ذكر الروايات الواردة في البا فنقول :

منها : مرفوعة علي بن إبراهيم التي رواها الكليني عنه قال : خرج أبو حنيفة من عند أبي عبدالله(عليه السلام) وأبو الحسن موسى(عليه السلام) قائم وهو غلام فقال له أبو حنيفة : أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال : اجتنب أفنية المساجد ، وشطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، ومنازل النزال ، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول ، وارفع ثوبك ، وضع حيث شئت .

ومنها : ما رواه أيضاً عن محمد بن يحيى باسناده رفعه قال : سُئل أبو الحسن(عليه السلام) : ما حدّ الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها .

ومنها : رواية حسين بن زيد عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) انّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال في

الصفحة 23

حديث المناهي : إذا دخلتم الغائط فتجنّبوا القبلة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : ونهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن استقبال القبلة ببول أو غائط .

ومنها : رواية عيسى بن عبدالله الهاشمي ، عن أبيه عن جدّه عن علي(عليهم السلام) قال : قال النبي(صلى الله عليه وآله)  : إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولكن شرّقوا أو غرّبوا .

ومنها : مرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء وغيره قال : سُئل الحسن بن علي(عليهما السلام) : ما حدّ الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها .

وكيف كان فلا إشكال في هذا المقام في ثبوت الحكم بنحو الإجمال ، وإنّ الحرمة في مقابل الكراهة محقّقة سواء كان مدركها الشهرة والتسالم أو الأخبار المعتضدة المنجبرة بها كما لا يخفى .

ثمّ إنّ ظاهر هذه الروايات إطلاق الحكم وشموله للصحاري والأبنية وربّما يستدلّ على التفصيل بينهما بحسنة ابن بزيع قال : دخلت على أبي الحسن الرضا(عليه السلام)وفي منزله كنيف مستقبل القبلة وسمعته يقول : من بال حذاء القبلة ثمّ ذكر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظيماً لها لم يقم من مقعده ذلك حتّى يغفر له .

وفيه : انّه لا دلالة لها على جواز الاستقبال في الأبنية لأنّ مجرّد كون الكنيف مستقبل القبلة لا يدلّ على جواز الاستقبال في حال البول والغائط إلاّ أن يكون بنائه بأمر الإمام(عليه السلام) ولم يعلم ذلك من الرواية ، بل الظاهر عدمه; لأنّ كراهته ممّا لا إشكال فيه ، ومجرّد ذكر الثواب على الفعل دون العقاب على الترك لا يدلّ على عدم وجوب الانحراف واستحبابه لما نرى من ذكر الثواب في الأخبار الكثيرة على فعل

الصفحة 24

بعض الواجبات .

المقام الثاني : في أنّ المحرّم هل هو الاستقبال والاستدبار بالبدنـ أي بمقاديمه ـ في حال البول أو الغائط أو الاستقبال والاستدبار بنفس البول أو الغائط؟ وتظهر الثمرة فيما لو استقبل القبلةـ مثلاًـ بمقاديم بدنه وأمال بوله عنها إلى المشرق أو المغرب فيحرم على الأوّل دون الثاني ، وكذا فيما لو استقبل المشرق أو المغرب بالمقاديم وحرّف بوله نحو القبلة فيحرم على الثاني دون الأوّل .

ولسان الأخبار من هذه الجهة مختلف فظاهر مرفوعة علي بن إبراهيم الثاني كذيل رواية حسين بن زيد وظاهر صدرها الأوّل كسائر الروايات .

ودعوى انّ المحرّم إنّما هو الاستقبال بمقاديم البدن والتعبير بالاستقبال بالغائط أو البول إنّما هو للملازمة العادية بينهما لأنّ الغالب عدم انفكاك الثاني عن الأوّل .

مدفوعة باحتمال العكس وكون المحرّم هو الاستقبال بالبول أو الغائط والتعبير بالاستقبال بمقاديم البدن إنّما هو لعدم انفكاكهـ عادةًـ عن الأوّل .

كما انّ دعوى ثبوت الحكمين وتحقّق التحريمين لأنّ النسبة بين الأدلّة عموم من وجه ولا منافاة بينها حتّى ترجّح إحداهماـ في مورد الاجتماعـ على الاُخرى ، ويؤيّدها الجمع بينهما في رواية حسين بن زيدـ المتقدّمةـ فإنّه لو كان هناك حكم واحد لكان المناسب بيانه فقط مع انّه(عليه السلام) ذيّل كلامه بنهي رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن استقبال القبلة ببول أو غائط وليس ذلك إلاّ لكون المقصود ببيان الحكمين .

مدفوعة بأنّ الظاهر بل المقطوع عدم ثبوت الحكمين وعدم تحقّق التحريمين ونهي الرسول(صلى الله عليه وآله) قد عرفت أنّه لا يكون ذيلاً لرواية حسين بن زيد بل رواية مستقلّة رواها الصدوق في محكي الفقيه مرسلة ولا تكون جزءاً للرواية السابقة ولا رواية مستقلّة من راوي تلك الرواية ، نعم يمكن الإيراد بها على ما ذكرنا من وجوه

الصفحة 25

المناقشة في جميع الروايات الواردة في الباب من حيث السند بناء على ما مرّ مراراً من اعتبار هذا النوع من المرسلات فتدبّر .

وحينئذ فمع كلا الاحتمالين لا دليل على حرمة الاستقبال بالمقاديم فقط ولا على حرمة الاستقبال بالبول أو الغائط فقط ، فإنّ القدر المتيقّن هي حرمة الاستقبال بهما دون أحدهما لأنّ ثبوتها فيه مشكوك يجري فيه أصالة الاباحة .

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده بعض الأعلام من انّه لو كان المدرك في أصل الحكم هي الروايات ولو بناء على انجبار ضعفها بعملهم كان المتعيّن هو الحكم بحرمة كلّ من الأمرين لاشتمال جملة من الأخبار على الأوّل ودلالة جملة اُخرى على الثاني ، وحيث لا تنافي بين الحكمين فلا مانع من الالتزام بحرمة كلا الأمرين ، غاية الأمر تعارف الاجتماع في البين ، نعم لو قلنا بأنّ المدرك هو التسالم والإجماع فلا مناص من القول بحرمة المجمع لأنّه المتيقّن منه .

وجه النظر ما عرفت من وضوح عدم ثبوت الحكمين في المقام بحيث لو كان مستقبل القبلة بالمقاديم وبالبول كان هناك مخالفتان واستحقاق لعقوبتين ، مع انّه لو قيل بثبوت الحكمين فهو إنّما يكون بالنسبة إلى الاستقبال فقط لأنّ اختلاف لسان الأخبار إنّما هو بالإضافة إليه ، وامّا الاستدبار فليس في الأدلّة ما يدلّ على تحريمه ببول أو غائط بل ظاهرها تحريمه بمقاديم البدن فتعميم الحكم بالنسبة إليه أيضاً في غير محلّه ، نعم روى الشيخ(قدس سره) في الخلاف بطريق عامي عن النبي(صلى الله عليه وآله) ما يدلّ على تحريم الاستقبال أو الاستدبار ببول أو غائط ولكنّها رواية عامّية لا يجوز الاعتماد عليها أصلاً ، مع انّ تفكيك الاستدبار أو الاستقبال بالغائط عنهما بالمتخلّي ممّا لا يمكن عادة بخلاف البول .

ثمّ إنّ عبارات الأصحاب كمدلول الروايات مختلفة فتظهر من بعضهم حرمة

الصفحة 26

الاستقبال والاستدبار الظاهرة في الاستقبال والاستدبار بالمقاديم ، وعن بعض آخر التصريح بذلك ، وعن ثالث حرمة الاستقبال والاستدبار بالبول أو الغائط ، وبالجملة فالشهرة لا تكون قائمة على خصوص أحد الاحتمالين حتى يعتمد عليها في الحكم بالتحريم من دون الاحتياج إلى الأخبار الواردة في الباب .

والحقّ انّه بعدما عرفت من كون الشهرة جابرة لضعف اسناد أخبار المقام وانّ اللاّزم هو النظر في مدلولها وقد عرفت ظهور أكثرها في حرمة استقبال المتخلّي واستدباره وانّه لا يكون هناك إلاّ حكم واحد وتحريم فارد ، فالظاهر حينئذ هو الفتوى بذلك كما في المتن ، نعم مقتضى الاحتياط ترك الاستبقال والاستدبار بالبول والغائط أيضاً .

ثمّ إنّ الظاهر بمقتضى الفهم العرفي انّ المراد بالمقاديم التي يوجب اتّصاف الشخص بكونه مستقبلاً أو مستدبراً هي الصدر والبطن وانّ الركبتين لا مدخلية لهما في هذه الجهة ، كما انّ الاستقبال بهما لا يكون معتبراً في حال الصلاة أيضاً; لأنّه تجوز الصلاة متربّعاً للقاعد أو مطلقاً في بعض الحالات كالتشهّد ونحوه مع انّ الركبتين لا تكونان حينئذ إلى القبلة والفرق بين المقام وبين باب الصلاة إنّما هو في الوجه حيث إنّه يعتبر الاستقبال بالوجه في باب الصلاة أيضاً ، وامّا هنا فالوجه خارج عن الحكم ولا مدخليّة له فيهـ نفياً وإثباتاًـ والسرّ فيه انّ الاستقبال أو الاستدبار إنّما يكون متقوّماً بما ذكر من الصدر والبطن كما يظهر بمراجعة العرف والوجه لا يكون له دخل فيه عندهم واعتباره في باب الصلاة إنّما هو لقيام الدليل على اعتبار الاستقبال به زائداً على الصدر والبطن وهو الأمر المستفاد من قوله

الصفحة 27

تعالى : (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(1) والنهي عن الالتفات يميناً أو شمالاً الوارد في بعض الروايات ، وامّا المقام فحيث لم يرد فيه دليل على مدخلية الوجه زائداً على الصدر والبطن أيضاً .

ثمّ إنّه لا إشكال في الحرمة فيما لو استقبل القبلة أو استدبرها قائماً أو جالساً وامّا النائم المضطجع أو المستلقي فالظاهر عدم إمكان تحقّق العنوانين في حقّهما لأنّه لا يعقل أن يكون الإنسان في آن واحد مستقبلاً لجهتين متخالفتين أو مستدبراً لهما فمع كونه مستقبلاً لما فوقه أو ما تحته أو مستدبراً لواحد منهما كيف يمكن أن يكون مستقبلاً للقبلة أو مستدبراً لها أيضاً ، والأخبار الواردة في المحتضر الدالّة على وجوب جعله نحو القبلة لا دلالة لها على كون الاستقبال في نظر الشارع أعمّ ممّا هو بنظر العرف وانّه يصدق على مثل المضطجع الذي يكون رجلاه إلى القبلة انّه مواجه لها حقيقة وعلى المستلقي الذي يكون كذلك انّه مستدبر لها كذلك فلا يتعدّى عن موردها إلى مثل المقام وعليه فينتفي الحكم بالإضافة إلى غير القائم والجالس .

المقام الثالث : في أنّه هل الحكم بالحرمة يختصّ بحال البول أو التغوّط أو يشمل حال الاستبراء بل حال الاستنجاء أيضاً؟

أقول : امّا حال الاستبراء فربّما يقال فيه بالحرمة سيما إذا كان مستلزماً لخروج قطرة من البول أو أزيد نظراً في صورة الاستلزام إلى صدق الاستقبال بالبول أو حاله لأنّه لا مدخلية للكثرة في ترتّب الحكم أصلاً ، ولذا ينتقض الوضوء بمجرّد خروج قطرة من البول ولو كان ذلك لأجل عدم الاستبراء ، وفي صورة عدم الاستلزام إلى ما ربّما يستفاد من بعض الروايات المتقدّمة من النهي عنهما إذا دخل


(1) سورة البقرة  : 144  .

الصفحة 28

المخرج أو الأمر بالتجنّب عن القبلة إذا دخلتم الغائط ، ومن المعلوم انّ مجرّد الدخول وإن ان لا يوجب توجّه هذا الحكم إلاّ أنّ الحكم باختصاصه بخصوص الحالين بحيث لا يشمل حال الاستبراء أيضاً يحتاج إلى دليل ، وعليه فالأحوط لو لم يكن أقوى رعاية الحكم في هذه الحالة أيضاً .

وربّما اُجيب عن صورة الاستلزام بأنّ الحكم في لسان الدليل قد يتعلّق لخروج البول من مخرجه ولا إشكالـ حينئذـ في انّ خروج القطرة يكفي في ترتّب الحكم كما في مثال الوضوء المذكور وقد يتعلّق بالبول أو البول إلى القبلة ولا تأمّل ـ حينئذ ـ في عدم ترتّب الحكم على مجرّد خروج قطرة أو قطرتين لأنّه لا يصدق بذلك أنّه قد بال ومع عدم صدقه لا مانع من استقبال القبلة أو استدبارها .

والجواب عن صورة عدم الاستلزام انّ التعبير بدخول المخرج أو الغائط في الروايتين كناية عرفاً عن نفس الحالتين حالة البول أو التغوّط ولا يستفاد منه الزائد عليهما فلا مجال لتوسعة الحكم خصوصاً لو قلنا بأنّ المدرك هي نفس الشهرة والتسالم لا الأخبار المنجبرة بها كما لا يخفى .

وامّا الاستنجاء فقد يتشبّث لشمول الحكم له برواية عمّار الساباطي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال : كما يقعد للغائط ، قال : وإنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه ، وليس عليه أن يغسل باطنه . بتقريب انّه كما انّ القعود للغائط مستقبل القبلة أو مستدبرها حرام كذلك القعود للاستنجاء بمقتضى الرواية .

ولكن يرد على الاستدلال بها انّ الظاهر انّ المراد من السؤال هو كيفية القعود حال الاستنجاء ومسألة الاستقبال والاستدبار سواء كان وصفاً للمتخلّي أو خصوصية للبول أو التغوّط لا ترتبط بكيفية القعود حاله أو القعود للغائط ،

الصفحة 29

وبعبارة اُخرى ظاهر الرواية هو السؤال عن كيفية الجلوس من حيث هو لا بالإضافة إلى الاُمور الخارجة عن حقيقته ، ويؤيّده ذيل الرواية الدالّ على أنّ المراد من الصدر هو الرد على العامّة حيث إنّهم يقعدون للاستنجاء نحواً آخر من زيادة التفريج وإدخال الأنملة ، ويؤيّده أيضاً صحيحة إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا(عليه السلام)قال : في الاستنجاء يغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الأنملة . هذا ويمكن الاستدلال للشمول ببعض الروايات المتقدّمة بالتقريب المتقدّم في الاستبراء ولكن الجواب المذكور يجري هنا بنحو أوضح كما لا يخفى ومع ذلك فلا ينبغي ترك الاحتياط بالرعاية في هذه الحالة أيضاً .

المقام الرابع : فيما لو اضطرّ إلى واحد من الاستقبال والاستدبار في حال التخلّي فهل لا يكون ترجيح في البين فيتخيّر بين الأمرين أو أن الترجيح مع الاستدبار فيراعى جانبه ويترك الاستقبال؟ ربّما يقال بالثاني نظراً إلى انّ المناط توهين القبلة وعدم رعاية حرمتها ، وعليه فلابدّ من الاستدبار لئلاّ يلزم ذلك . وفيه انّه لم يعلم انّ المناط ذلك لو لم نقل بالعلم بالعدم ; لأنّه لو كان كذلك لكان اللاّزم عدم حرمة الاستدبار من رأس لأنّه أقلّ توهيناً من الجهتين غير المحرّمتين فالمناط غير معلوم .

نعم يمكن أن يقال بعد دلالة الروايات على ثبوت كلا الحكمين والمفروض وجود التزاحم بين البين لعدم القدرة على امتثال التكليفين انّ مقتضى قاعدة باب التزاحم الجارية في جميع موارده الحاكمة بالتخيير مع عدم ثبوت الأهمّية لأحدهما أو احتمالها له ترجيح جانب الاستدبار لأنّ الاستقبال محتمل الأهمية ولو بلحاظ فتوى غير واحد بتعين الاستدبار في المقام ، وعليه فالاحتياط الوجوبي يقتضي تعين الاستدبار كما أفاده الماتنـ دام ظلّهـ  .

المقام الخامس : فيما لو اشتبهت القبلة; فامّا أن تتردّد بين الجهتين المتخالفتين

الصفحة 30

المتقابلتين فيجب عله أن لا يستقبلهما ولا يستدبرهما بالاستقبال إلى واحدة من الجهتين الاُخرتين ، ولو تردّدت بين الجهتين غير المتقابلتين فإن قلنا بأنّ الجهات لا تزيد على أربع فالحكم كما لو اشتبهت وتردّدت بين الجهات الأربع ، وإن قلنا : إنّ الجهات ثمانية فالواجب عليه استقبال غير الجهتين المحتملتين لإمكانه على الفرض ، وإن تردّدت بين الجهات الأربع فلا مناص من التخيير بينها مع عدم إمكان التأخير إلى أن تتّضح القبلة وإن تردّدت بين أزيد منها بناء على عدم اختصاص الجهات بالأربع فالذي يظهر من المصباح انّ الحكم كما في الشبهة غير المحصورة التي قام النصّ والإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها وفرّع عليه عدم وجوب الفحص عن القبلة عند إرادة التخلّي في الفرض المذكور .

ولكن لا يخفى انّ المقام لا يكون من مصاديق الشبهة غير المحصورة لعدم إضافة الجهات على الثمانية وـ حينئذـ فيصير كالخمر المردّد بين ثمانية إناءات ولا سبيل لأحد إلى الالتزام بعدم وجوب الاحتياط فيها من باب كون الشبهة غير محصورة ، وعلى هذا فاللاّزم الفحص عن القبلة عند إرادة التخلّي لئلاّ يستقبلها أو يستدبرها ، وما أفاده(قدس سره) من كون طريقة المتشرّعة على عدم الفحص عنها عند إرادة التخلّي ممنوع جدّاً ، نعم مع عدم إمكان الفحص لا مناص من التخيير .

وهل يلزم عليه العمل بالظنّ غير المعتبر لو حصل له أم لا؟ نفى البعد عن اللزوم في المتن; لأنّه بعدما كان مقتضى حكم العقل الاحتياط في الشبهات المحصورة وانّه لا يجوز الإقدام على شيء من محتملاته إلاّ إذا استلزم الجرح فيرفع اليد عن وجوب الاحتياط معه بمقدار يندفع به الضرورة ولابدّـ حينئذـ من الاقتصار على المحتمل الذي كان احتمال كونه قبلة أبعد من سائر المحتملات لحكم العقل بترجيح جانب هذا الاحتمال على غيره ، بل ربّما يقال بأنّ المستفاد من صحيحة زرارة قال :

الصفحة 31

قال أبو جعفر(عليه السلام)  : يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة . حجّية الظنّ شرعاً في باب القبلة مطلقاً من دون إشعار بالاختصاص بباب الصلاة والتحقيق في محلّه .

الصفحة 32

فصل في الاستنجاء

مسألة 1ـ يجب غسل مخرج البول بالماء مرّتين على الأحوط ، وإن كان الأقوى كفاية المرّة في الرجل مع الخروج عن مخرجه الطبيعي ، والأفضل ثلاث ، ولا يجزي غير الماء ، ويتخيّر في مخرج الغائط بين الغسل بالماء والمسح بشيء قالع للنجاسة كالحجر والمدر والخرق ونحوها ، والغسل أفضل ، والجمع بينهما أكمل ، ولا يعتبر في الغسل التعدّد بل الحدّ النقاء ، بل الظاهر في المسح أيضاً كذلك ، وإن كان الأحوط الثلاث وإن حصل النقاء بالأقلّ ، وإن لم يحصل بالثلاث فإلى النقاء ، ويعتبر فيما يمسح به الطهارة فلا يجزي النجس ولا المتنجّس قبل تطهيره ، ويعتبر أن لا يون فيه رطوبة سارية فلا يجزي الطين والخرقة المبلولة ، نعم لا تضرّ النداوة التي لا تسري1 .

1ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تطهير مخرج البول; والكلام فيه إنّما هو من جهتين :

الجهة الاُولى : في أنّه هل يتعيّن فيه الغسل بالماء أم يجزي غيره والظاهر هو الأوّل لأنّه يدلّ عليهـ مضافاً إلى ما عرفت وستعرف من أنّ زوال التنجّس عن المتنجّس إنّما يتحقّق بالغسل بالماء بمقتضى الأخبار الكثيرة التي يستفاد منها ذلك ـ في خصوص المقام روايات بعضها صريح في تعين الغسل بالماء ومعناه عدم كفاية غير الغسل من المسح والدلك وعدم كفاية غير الماء من المائعات ولو كان ماءً مضافاً وهذه الروايات كثيرة أيضاً :

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : لا صلاة إلاّ بطهور ويجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنّة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وامّا البول فإنّه لابدّ

الصفحة 33

من غسله . وصراحتها في تعين الغسل وكذا ظهورها في كون المراد من الغسل هو الغسل بالماء ممّا لا مجال للمناقشة فيه .

ومنها : رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر(عليه السلام) انّه قال : يجزي من الغائط المسح بالأحجار ، ولا يجزي من البول إلاّ الماء .

ومنها : رواية يونس بن يعقوب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام)  : الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط ثمّ يتوضّأ مرّتين مرّتين .

ومنها : صحيحة عيص بن القاسم قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال : قال : يغسل ذكره وفخذيه .

ومنها : غير ذلك من الروايات الدالّة على تعين الغسل بالماء .

ويظهر من جملة من الروايات عدم التعين :

كرواية عبدالله بن بكير قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) الرجل يبول ولا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟ قال : كل شيء يابس زكى .

ورواية سماعة قال : قلت لأبي الحسن(عليه السلام)  : إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجيء منّي البلل ما يفسد سراويلي؟ قال : ليس به بأس .

ورواية حنان بن سدير قال : سمعت رجلاً سأل أبا عبدالله(عليه السلام) فقال : إنّي ربّما بلت فلا أقدر على الماء ، ويشتدّ ذلك عليّ؟ فقال : إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك فإن وجدت شيئاً فقل : هذا من ذاك .

وأنت خبير بأنّ الرواية الاُولىـ مضافاً إلى المناقشة في سندها ، وإلى أنّ نفس السؤال فيها يدلّ على أنّ اعتبار التطهير بالماء كان أمراً واضحاً مفروغاً عنه غاية

الصفحة 34

الأمر حصول الشبهة في بعض الفروعـ لا دلالة لها على حصول التطهير وتحقّقه بغير الغسل بالماء أيضاً فإنّ الظاهر أنّ المراد بالزكي هو الطاهر من حيث عدم تأثيره في تنجّس ملاقيه لا مع الرطوبة لا الزكيّ بمعنى الطاهر في مقابل النجس والمتنجس ، والقرينة على ذلك العموم المدلول عليه بلفظة «كلّ» الشامل للأعيان النجسة اليابسة كالعذرة اليابسة النجسة وغيرها ، وعليه فالمراد انّ مسح الذكر بالحائط لا يوجب تنجّس الحائط لا انّه يحصل الطهارة له بالمسح بالحائط وإلاّ يلزم أن يكون مجرّد اليبوسة كافية في عروض الطهارة للمتنجّس مطلقاً من غير حاجة إلى الغسل بالماء ، بل وإلى المسح والدلك أيضاً فتدبّر .

والرواية الثانية وإن كانت ظاهرة الدلالة إلاّ انّه يرد على الاستناد إليهاـ مضافاً إلى معارضتها في خصوص موردها بصحيحة العيص المتقدّمة لوضوح عدم الفرق بين الفخذ والسراويل من هذه الجهةـ أنّها ضعيفة من حيث السند جدّاً مع انّها موافقة للعامّة والمظنون صدورهاـ على تقديرهـ للتقية ونحوها .

والرواية الثالثة لا دلالة لها على الاجتزاء بغير الغسل بالماء أصلاً ، بل الظاهر كونها كالروايات السابقة الدالّة على انحصار تطهير مخرج البول في الغسل بالماء وذلك لأنّ المراد بمسح الذكر بالريق هو مسح المواضع الطاهرة منها والأمر به إنّما هو لتلبيس الأمر عليه عند وجدان البلل فهي ظاهرة في نجاستها عند عدم المسح بالريق أو العلم بكونها منه ، وممّا ذكرنا يظهر انّ حمل الرواية على التقيةـ كما فعله بعضهمـ بعيد بعد كون الرواية ظاهرة في انحصار المطهر بالغسل بالماء إذ لا وجه لهذا الحمل بعد هذا الظهور كما هو ظاهر .

مضافاً إلى انّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا نقول : إنّ غاية ما يستفاد منها وكذا من الرواية السابقة عدم كون الذكر المتنجّس بالبول منجساً للريق أو البلل الخارج منه

الصفحة 35

ولا يوجب فساد السراويل وشبهه وأين هذا من الدلالة على حصول الطهارة للمخرج بالتمسّح كما لا يخفى .

فانقدح ممّا ذكرنا انّه لا محيص في هذه الجهة من القول بتعيّن الغسل بالماء .

الجهة الثانية : في أقلّ ما يجزي في غسل البول ، قال المحقّق(قدس سره) في الشرائع : «وأقلّ ما يجزي مثلاً ما على المخرج» .

أقول : هذا هو المشهور والعمدة في مستندهم رواية نشيط بن صالح عن أبي عبدالله(عليه السلام) : قال : قال : سألته كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : مثلا ما على الحشفة من البلل .

ونوقش في الاستدلال بها بضعف السند لاشتماله على مروك بن عبيد وهو مجهول . ولكن نقل في محكي الخلاصة عن الكشي أنّه حكى عن محمد بن مسعود انّه قال : سألت علي بن الحسن الفضّال عن مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة فقال : ثقة ، شيخ ، صدوق .

ولكن في السّند أيضاً هيثم بن أبي مسروق النهدي وهو أولى بالمناقشة من مروك إذ لم يرد قول بوثاقته ، نعم ذكر النجاشي في ترجمته انّه قريب الأمر ، ومراده منهـ كما يستفاد من المواضع الاُخرـ هو كونه قريباً إلى الإمامية من حيث المذهب بمعنى عدم التباعد بين مذهبه ومذهب الإمامية كثيراً ، وهذا التعبير لو لم يدلّ على قدحه لا يدلّ على وثاقته بوجه ، نعم حكى عن العلاّمة(قدس سره) انّه صحّح في بعض الموارد السند المشتمل على الهيثم المذكور .

ولكن الذي يسهّل الخطب في المقام انجبار السند على تقدير الضعف بفتوى المشهورـ قديماً وحديثاً على طبق مضمون الرواية ، بل عبّروا في فتاويهم بعين متنها وليس ذلك إلاّ لكون الرواية معتبرة عندهم خصوصاً مع ملاحظة كون العبارة

الصفحة 36

خارجة عن العبارات المتداولة المعروفة في المحاورات العرفية . وبالجملة المناقشة في الاستدلال بالرواية من جهة السند ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه .

وامّا الدلالة فغير خفيّ انّ ظاهرها هو وجوب غسل المخرج بضعف ما عليه من القطرة أو أزيد ، وتوهّم انّ البلل بمعنى الرطوبة وهي من الأعراض ، والماء لا يكون مثلاً له لأنه من الجواهر فيجب رفع اليد عن ظاهر الرواية ، مدفوع بوضوح كون المراد منه في المقام هي ما يشمل القطرةـ مثلاًـ الموجودة في المحلّ وقد ورد نظيره في الأخبار أيضاً حيث عبَّر فيها عمّا يخرج من الذكر بعد الاستبراء ، بالبلل المشتبه فراجع .

نعم ربّما يحتمل في الرواية أن يكون المراد بالمثلين الغسلتين ولكنّه من الضعف بمكان .

ومثله في الضعف احتمال أن يكون المراد من السؤال أقلّ مقدار يحتا إليه في الاستنجاء من البول فتكون الرواية متعرّضة لهذا المعنى لا لكيفية التّطهير فلا ينافي اعتبار تعدّد الغسل نظير ما ورد في الوضوء والغسل من استحباب التوضّي بمدّ من الماء والغسل بصاع منه .

ولكن هذا الاحتمالـ مضافاً إلى كونه بعيداً عن ظاهر اللفظـ مناف لاعتبار تعدّد الغسل إذ لا يمكن اجتماع التعدّد مع المثلين لأنّ الغسل الواحد لا يكاد يتحقّق بدون ذلك; لأنّه يعتبر في صدقه جري الماء وقاهريّته . ومن الواضح انّه يلزم أن يكون الماء أكثر من المغسول في تحقّق الغسل ، ومن هنا ربّما يحتمل في رواية اُخرى لنشيط بن صالح عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : يجزي من البول أن تغسله بمثله . أن يكون قد وقع الاشتباه في الكتابة وكان الأصل «بمثليه» لأنّ الجمع بين الغسل والمثل ممّا لا يمكن كما عرفت ومع جريان هذا الاحتمال في هذه الرواية لا

الصفحة 37

مجال لتوهّم صلاحيتها للمعارضة مع الرواية الاُولى مضافاً إلى كونها مرسلة وإلى عدم خلوّ متنها عن الاضطراب كما هو غير خفيّ وإلى انّه قد احتمل الشيخ(قدس سره) أن يكون قوله «بمثله» راجعاً إلى البول لا إلى ما بقى منه على الحشفة .

وممّا ذكرنا ظهر الخلل فيما أفاده بعض الأعلام من انّ أقصى ما هناك انّ الرواية بإطلاقها تقتضي كفاية الغسل مرّة ولا تكون صريحة في ذلك لأنّ مثلا ما على الحشفة قد يصبا مرّة واحدة وقد يصبا مرّتين ولا تقييد في الرواية بأحدهما ، ودعوى انّ القطرة الاُولى بملاقاتها مع البلل الكائن على الحشفة يخرج عن كونها ماء مطلقاً ممّا لا يصغى إليه ; لأنّ القطرة إذا وصلت إلى الحشفة سقطت عنها القطرة العالقة على المحلّ ، كما انّ القطرة الثانية إذا وصلت إليها سقطت عنها القطرة الاُولى لا محالة ومعه لا تجتمع القطرتان في رأس الحشفة ليخرج الماء عن إطلاقه بالامتزاج .

وجه الخلل ما عرفت من انّه يعتبر في صدق الغسل جري الماء وقاهريّته وهي لا تتحقّق إلاّ بكثرته بالإضافة إلى المغسول ، وعليه فكيف يمكن أن يكون المراد من الرواية تعدّد الغسل وحصول كلّ واحد من الغسلتين بالمثل ، وعليه فدلالة الرواية على كفاية الغسل مرّة لا تكون بالإطلاق حتّى يمكن تقييده . وهنا روايات اُخر تدلّ على الاجتزاء بالمرّة :

منها : صحيحة يونس بن يعقوبـ المتقدّمة في الجهة الاُولىـ الواردة في الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال ، بتقريب انّ ظاهرهاـ بقرينة السؤالـ كونها مسوقة لبيان تمام ما هو الواجب عليه ، فترك التعرّض دليل على عدم اعتبار التعدّد في الغسل خصوصاً مع تصريحه(عليه السلام) بالتكرار في الوضوء مع كونه مستحبّاً .

الصفحة 38

وأنت خبير بأنّ الظاهر كون المراد بالوضوء هو الوضوء الشرعي المقابل للغسل وعليه فيكون ذكر غسل الذكر وإذهاب الغائط من باب المقدّمة ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهما ، والدليل على ذلك انّه لو كان المراد به هو الوضوء اللغوي بمعنى الغسلـ بالفتحـ لكان قوله(عليه السلام)  : يتوضّأ مرّتين مرّتين غير مناسب مع السؤال .

إن قلت : لو كان المراد بالوضوء هو المعنى المعروف عند المتشرّعة يلزم أيضاً ما ذكر من عدم المناسبة بين السؤال والجواب ، إذ مورد السؤالـ بناءً عليهـ إنّما هو كيفية الوضوء ، ولا يستفاد ذلك من الجواب أصلاً ، فلابدّ من أن يكون المراد به هو معناه اللغوي ، وعليه فيكون قوله (عليه السلام)  : ويتوضّأ مرّتين مرّتين غير مرتبط بالسؤال ولا بأس به لأنّه مذكور تبعاً .

قلت : ظاهر الجواب انّ السؤال إنّما هو من الوضوء بالمعنى الشرعي والمناسبة بينه وبين السؤال إنّما هو اشتهار جواز التوضّي أزيد من مرّتين مرّتين ، بين العامّة ، فمقصود السائل إنّما هو السؤال عن خصوص هذه الجهة من الوضوء بلحاظ الاشتهار المذكور لا السؤال عن أصل كيفية الوضوء .

ويؤيّد ما ذكرنا انّ الوضوء بالمعنى اللغوي الشامل للاستنجاء بالماء ممّا لم يفرضه الله على العباد بخلاف الوضوء بالمعنى المعهود فإنّ الظاهر انّ التعبير بمثل ذلك إنّما هو فيما ورد حكمه في القرآن المجيد ، وفيما ثبت حكمه من طريق السنّة لا يكون هذا التعبير بمعهود كما هو غير خفي على المتتبّع .

ومنها : صحيحة ابن المغيرة قال : قلت له : هل للاستنجاء حدّ؟ قال : لا ، حتّى ينقى ما ثمّة ، قال : لت له : فأنّه ينقى ما ثمة ويبقى الريح قال : الريح لا ينظر إليها . بتقريب انّ الاستنجاء عامّ يشمل الاستنجاء من البول أيضاً .

الصفحة 39

ولكن ربّما يناقش في دلالتها بالانصراف إلى الاستنجاء من الغائط ، خصوصاً مع التعبير بالنقاء الذي لا يناسب الاستنجاء من البول ، فإنّ المناسب له ، التنشيف ونظائره بل ربّما يقال : إنّ الاستنجاءـ لغةـ بمعنى إنقاء موضع الغائط; لأنّه من النجو فلا يشمل موضع البول بوجه وإن كان في كلمات الفقهاء(قدس سرهم) قد يستعمل بالمعنى الأعمّ بل وفي الروايات أيضاً كما في رواية نشيط بن صالحـ المتقدّمةـ  .

هذا ، ولكن لو منعنا الاختصاص اللغوي أو الانصراف العرفي وقلنا بأنّ الاستنجاء في السؤال عام يشمل الاستنجاء من البول أيضاً فلا مجال لجعل الذيل قرينة على إرادة خصوص الاستنجاء من الغائط كما أفاده بعض الأعلام وغيره ، لأنّه لا منافاة بين أن يكون السؤال الأوّل عامّاً والثاني خاصّاً إذ حكم السؤال الأوّل إنّما هو مع قطع النظر عن الثاني بحيث لابدّ من فرضه كالعدم إذ لا يجوز للإمام(عليه السلام) بيان الحكم بنحو الإطلاق مع كونه غير مراد اتّكالاً على انّ السائل إنّما يسأل بعده عن بعض الخصوصيات الذي ينطبق على المقيّد المراد . فجعل الذيل قرينة على كون المراد من الصدر خصوص الاستنجاء من الغائط على تقدير العموم مع قطع النظر عن الذيل ممّا لا مجال له أصلاً ، فالروايةـ حينئذـ تدلّ على كفاية مجرّد الغسل في الاستنجاء من البول ولا دليل على تقييد النقاء فيها إلاّ ما يدلّ على عدم كفاية حصول النقاء بغير الماء في مقام تطهير مخرج البول فيقتصر عليه ، وامّا اعتبار تعدّد الغسل فلا دليل عليه حتّى يقيّد به إطلاق النقاء .

ومنها : صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إذا انقطعت درة البول فصبّ الماء . فإنّ إطلاقها يقتضي جواز الاجتزاء بصبّ الماء مرّة واحدة .

وفيه : أنّ الصحيحة إنّما هي بصدد بيان انّ الاستبراء من البول لا يكون معتبراً في طهارة مخرجه ، بل يكفي مجرّد صبّ الماء بعد انقطاع الدرة بلا فصل ولا تكون

الصفحة 40

بصدد بيان كيفية التطهير من جهة اعتبار التعدّد ، كما انّه لا يستفاد منها اعتبار خصوص الغسل بالماء أيضاً .

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال للاكتفاء بالغسل الواحد ببعض الأخبار الاُخر أيضاً وإن لم يظهر منهم الاستدلال به ، أظهرها في الدلالة رواية هارون بن حمزة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : يجزيك من الغسل والاستنجاء ما ملئت (بلت خ ل) يمينك .

بتقريب أنّ المراد ليس كفاية هذا المقدار الذي يكفي في بلّة اليمين في الغسل والاستنجاء إذ لا معنى للاكتفاء بهذا المقدار في الغسل الذي أقلّ ما يكفي فيه من الماء ما يبلّ جميع البدن ، فاللاّزم أن يكون المراد بيان الكيفية التي يحصل بها التطهير وانّه يكفي في الغسل والاستنجاء مجرّد حصول البلّة التي هي أقلّ مراتب الغسل ، وحيث إنّه يكفي في الاستنجاء من الغائط المسح بالأحجار أو بغيرها ولا يعتبر فيه الغسل بالماء فلابدّ من أن يكون المراد منه الاستنجاء من البول فقط وـ حينئذ ـ فتدلّ الرواية على انّه لا يعتبر في تطهير مخرج البول إلاّ أقل ما به يتحقّق مسمّى الغسل .

وممّا ذكرنا ظهر انّه لا وجه لتفسير الاستنجاء بالتطهير من المني بقرينة ذكر الغسلـ كما عن الوافيـ أو بالوضوء بقرينة ذكر اليمينـ كما عن مجمع البحرينـ فإنّ ذكر الغسل أو اليمين لا دلالة له على كون المراد بالاستنجاء غير ما هو معناه بحذف اللغة وما هو المتفاهم منه عند العرف وانّ التحقيق في معنى الرواية ما ذكرنا .

وقد استدلّ لعدم الاجتزاء بالمرّة بالأخبار الكثيرة الواردة في حكم البول إذا أصاب الجسد أو الثوب وانّه يجب صبّ الماء عليه مرّتين أو غسله كذلك التي منها : صحيحة البزنطي قال : سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء .

<<التالي الفهرس السابق>>