في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة21)



الخارج حتّى يكون متعيّناً ، فالإيجار بهذا النحو محكوم بالبطلان .
وربما يجاب عن ذلك بأنّه لامانع من الإجارة بهذه الكيفية أيضاً ; لأنَّ المقام حينئذ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين ، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به . غاية الأمر كونه موجباً لاتصاف العلم بالإجمال في مقابل العلم التفصيلي الذي لاتردّد في معلومه ، كذلك التردّد في المقام لايقدح في تعلّق العلم بما هو متعلّق الإجارة ، غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال . وكذلك المقام نظير الواجب التخييري ـ بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد ـ فكما أنّه لامانع من إيجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري الذي مرجعه إلى عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما مثلاً بواسطة الإتيان بكلمة «أو» ونحوها ، كذلك لا مانع من جعل المتعلّق في المقام كذلك .
ويرد على هذا الجواب بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأنّه في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية وتعيّن . غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لايعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف ، وأمّا في المقام فالمفروض أنّ متعلّق الإجارة لايكون متعيناً بحسب الواقع ; لأنّه مردّد من أوّل الأمر ، وقد تعلّق به الإجارة كذلك ، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية والمجهوليّة .
وأمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحل نظر بل منع أيضاً ; لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الاُمور معروضاً للوجوب ومتصفا بكونه واجباً . غاية الأمر أنّه لايجب الإتيان بالجميع ; لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغائر للوجوب التعييني ، وهنا لاتكون الإجارة متعلّقة إلاّ بأحد الأمرين لابعنوان أحدهما ، بل

(الصفحة22)



بالمردّد بينهما ، وهو كما عرفت لايكون له واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارة والجهل أُخرى ، فالإنصاف أنّه لا مجال للحكم بالصحّة في هذا الفرض .
الثاني : أن يكون معلوماً، والمراد به المعلوميّة بالإضافة إلى الصفات التي تختلف بها الرغبات من حيث إجارتها ، وقد استدلّ على اعتباره تارةً بالإجماع على أنّ الجهالة مبطلة للإجارة كما عن المختلف(1) ، وبأنّا لانعلم فيه خلافاً كما عن التذكرة(2) . واُخرى بكون بناء العقلاء على ذلك(3) . وثالثة بما أرسله الشهيدان (قدس سرهما)في القواعد(4) والمسالك(5) من أنّه نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الغرر(6) ، أو بقوله (عليه السلام) : نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر(7) ، بناء على إلغاء خصوصية البيع واستفادة المناط .
أقول : أمّا الإجماع ، فالظاهر عدم كونه دليلاً مستقلاًّ بعد وضوح كون المستند سائر الوجوه .
وأمّا بناء العقلاء ، فهو لا ينطبق على المدّعى ; لأنّه عبارة عن كون العين معلومة من جميع الجهات التي لها دخل في اختلاف الرغبات ، ويختلف بحسبها الأغراض

(1) مختلف الشيعة : 6 / 105 مسألة 4 .
(2) اُنظر تذكرة الفقهاء : 2 / 300 ، ولكن ليس فيه نفي الخلاف .
(3) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 33 .
(4) القواعد والفوائد : 2 / 61 .
(5) مسالك الأفهام : 5 / 178 ـ 179 .
(6) وكذا ذكره الشيخ في الخلاف: 3 / 319، مسألة 13، والعلاّمة في مختلف الشيعة : 5 / 267 مسألة 235 ، ولكن لم توجد في كتب حديث الخاصّة والعامّة، وإنّما الموجود النهي عن بيع الغرر .
(7) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2 / 45 ح168 ، دعائم الإسلام : 2 / 21 ح34 ، وسائل الشيعة : 17/448 ، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب40 ح3 ، عوالي اللئالي : 2 / 248 ح17 .
وانظر صحيح مسلم : 3 / 932 ح1513 ، وسنن ابن ماجة : 3 / 36 ح2195 ، وسنن أبي داود : 3 / 435 ح3376 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 8 / 93 ح10554 ، والموطأ : 430 ب34 ح1370 .

(الصفحة23)



والمالية ، والمعلومية بهذا المعنى لم يثبت بناء العقلاء عليها .
وأمّا النهي عن الغرر ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى كونه مرسلاً لا يصحّ الاعتماد عليه ، وانجباره بعمل الأصحاب غير معلوم . نعم ، ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) : إنّ اشتهار الخبر بين العامّة والخاصّة يجبر ارساله(1) ـ أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة ، بل هو عبارة عن الخطر والتعرض للمهلكة ، وعليه فالظاهر كون النهي نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة ولا ارتباط له بباب المعاملات ، بل هو نظير قوله تعالى : {وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَهلُكَةِ}(2) .
وأمّا النهي عن بيع الغرر فلا يمكن أن يكون مستنداً في باب الإجارة إلاّ بعد إلغاء الخصوصية ، ودعوى كون ذكر البيع إنّما هو لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات ، وهي غير ثابتة كما لايخفى ، ولكنّها تؤيّد بفهم الأصحاب على ماسيجيء . ثمّ إنّه لو كانت العين المستأجرة عيناً خارجية حاضرة فطريق العلم بها إمّا المشاهدة الرافعة للجهالة ، وإمّا ذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها ، وأمّا إذا كانت غائبة أو كانت كلية فالطريق منحصر بذكر الأوصاف ; لعدم إمكان المشاهدة للغيبة ، أو لعدم كونها جزئية .
الثالث : أن تكون العين المستأجرة مقدوراً على تسليمها ، فلا تصحّ إجارة الدابّة الشاردة ونحوها ، وقد جعله في الشرائع من شرائط المنفعة(3) ، ولا بأس بالتعرّض لاعتبار هذا الأمر مفصلاً ، فنقول :
قد وقع الاتفاق من العامّة والخاصّة على اعتبار القدرة على تسليم العوضين في

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 176 .
(2) سورة البقرة 2 : 195 .
(3) شرائع الإسلام : 2 / 186 .

(الصفحة24)



المعاوضات ، بيعاً كان أو إجارة أو غيرهما(1) . نعم ، حكي عن الفاضل القطيفي المنع عن ذلك(2) ، لكنّ العبارة المحكية عن إيضاح النافع(3) لا تكون صريحة في مخالفة المشهور بل المجمع عليه ; لإمكان حملها على بعض الفروض التي لا يختص القائل بالصحّة فيها به ، وكيف كان فمدرك اعتبار هذا الأمر في المعاوضات اُمور :
الأوّل : ما استدلّ به الفريقان ـ العامّة والخاصّة ـ على اعتبار القدرة على التسليم ; وهو النبوي المتقدّم الدالّ على النهي عن بيع الغرر أو عن الغرر ، وهذا هو العمدة في الباب ، وقد عرفت ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّ الاشتهار بين الفريقين يجبر إرساله ، ولكنّه يقع الكلام فيه من حيث الدلالة في ثلاث جهات :
الجهة الاُولى : في معنى الغرر ، والظاهر أنّ معناه الحقيقي عبارة عن الخديعة الملازمة للغفلة وعدم الإلتفات ، ولأجله يفسّر بالغفلة أيضاً . قال في الصحاح : «الغِرّة : الغفلة . والغارّ : الغافل ، واغتَرَّهُ : أي أتاه على غِرَّة منه ، واغترّ بالشيء : أي خدع به»(4) ويشهد له حديث الغرور المعروف ، وهو أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه(5) . وأمّا تفسيره بالخطر كما عن غير واحد من كتب اللغة

(1) راجع الخلاف : 3 / 168 مسألة 274 ، وغنية النزوع : 211 و285 ، وتذكرة الفقهاء : 1 / 466 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 10 / 58 .
(2) حكى عنه الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب : 4 / 190 .
(3) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 4 / 224 .
(4) الصحاح : 1 / 622 .
(5) لم يوجد في كتب الحديث ، لكن حكي انتسابه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد ، راجع حاشية المكاسب للسيّد اليزدي : 1 / 179 . وذكره صاحب الجواهر بعنوان النصّ من أحد المعصومين (عليهم السلام) ، جواهر الكلام : 37 / 145 . والظاهر أنّ إسناده كان مستنداً إلى ما هو المعروف لا إلى الوجدان في بعض كتب الحديث ، راجع القواعد الفقهية للمؤلّف دام ظلّه 1 / 216 .

(الصفحة25)



كالصحاح(1) والأساس(2) والمصباح(3) والمغرب(4) والمجمل(5) والمجمع(6) ، فالظاهر أنّه لايكون تفسيراً بالمعنى المطابقي بل تفسير باللاّزم، كالتفسير المرويّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)من أنّه عمل ما لا يؤمن معه الغرور(7) ، وكالتفسير المحكيّ عن الأزهري من أنّه ما كان على غير عهدة ولا ثقة(8) .
ولكن الظاهر أنّ المراد من النبويّ هو هذا المعنى ; لعدم كون الغرر بمعناه المطابقي موجباً لفساد المعاملة ; لأنّ الخديعة بمعنى التدليس لا توجب إلاّ الخيار لا البطلان والفساد ، مضافاً إلى فهم علماء المسلمين هذا المعنى من الحديث .
نعم ، ربما يقال(9) : إنّ المنساق من الغرر المنهي عنه الخطر من حيث الجهل بصفات المبيع ومقداره ، لا مطلق الخطر الشامل لتسليمه وعدمه ، ضرورة حصوله في بيع كلّ غائب ، خصوصاً إذا كان في بحر ونحوه ، بل هو أوضح شيء في بيع الثمار والزرع ونحوهما ، وبالجملة : لا تكون مخاطرة في بيع مايكون مجهولاً بالإضافة إلى التسليم ، خصوصاً بعد الجبر بالخيار عند التعذّر المحتمل .

(1) الصحاح: 1 / 622.
(2) أساس البلاغة : 448 .
(3) المصباح المنير : 445 .
(4) المغرب في ترتيب المُعرَب : 189 .
(5) مجمل اللغة : 532 .
(6) لم نجد على التصريح به ، نعم فيه ما يفيد ذلك ، اُنظر مجمع البحرين : 2 / 1313 .
(7) المغرب في ترتيب المُعرَب: 189 وقال في جواهر الكلام : 22 / 387 : «وروى ابن أبي المكارم الفقهي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ الغرر عمل ما لا يؤمن معه الضرر» .
(8) حكى عنه ابن الأثير في النهاية : 3 / 355 .
(9) القائل هو صاحب الجواهر ج22 ص388 .

(الصفحة26)



ويرد عليه : أنّ الخطر الناشئ من الجهل بحصول المبيع في يد المشتري أعظم من الجهل بالصفات مع العلم بالحصول ، مع أنّ أهل اللغة قد مثّلوا للغرر بالمثالين المعروفين : وهما بيع السمك في الماء، والطير في الهواء(1) . ومن الواضح أنّ الخطر فيهما ليس لأجل الجهل بصفاتهما ، بل لأجل الجهل بأصل الحصول في اليد ، فالإنصاف أنّه لامجال للمناقشة في الاستدلال بالرواية من هذه الجهة .
الجهة الثانية : في دلالة النهي على الفساد ، الذي هو المطلوب ، ويكفي في هذه الجهة أنّ النواهي الواردة في باب المعاملات ـ التي يكون المقصود من إيجادها الوصول إلى غرض خاص وهدف مخصوص ـ لها ظهور ثانويّ في الإرشاد إلى الفساد على ماهو المتفاهم منها عند العرف والعقلاء ، فالنهي الوارد في النبوي لا يراد به الحرمة التكليفيّة ، بل الحرمة الوضعيّة الراجعة إلى فساد المعاملة مع ثبوت الغرر وعدم ترتّب الأثر المقصود منها عليها .
نعم ، يمكن أن يناقش في الاستدلال به ـ بعد تسليم ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد ـ بأنّ غاية ما يدلّ عليه النبوي هو فساد البيع ، بمعنى عدم كونه علّة تامّة لترتّب الأثر المقصود ، فلا ينافي وقوعه مراعى بانتفاء صفة الغرر ، وعليه فلا مانع من التزام وقوع بيع كلّ ما يعجز عن تسليمه منه مع رجاء التمكّن منه مراعى بالتمكّن منه في زمان لايفوت الانتفاع المعتدّ به .
ولكن الظاهر أنّ هذا الاحتمال مخالف للظاهر ، خصوصاً بعد ثبوت الاتّفاق من العلماء على فساد بيع الغرر ، بمعنى عدم تأثيره رأساً ، كما صرّح به فخر الدين في

(1) الصحاح : 1 / 622 ، والمغرب في ترتيب المُعرَب : 189 ، ولسان العرب : 5 / 23 ، وتاج العروس : 7/300 ، ومجمع البحرين : 2 / 1312 .

(الصفحة27)



موضع من محكي الإيضاح(1) . وبعد منع كون معنى فساد البيع هو عدم كونه علّة تامّة لترتّب الأثر المقصود ، بحيث يلائم ذلك مع ثبوت الاقتضاء فيه ، وإن توقّف تأثيره على حصول شرط أو ارتفاع مانع ، فتأمّل .
الجهة الثالثة : في جريان النبوي في باب الإجارة ، الذي هو محلّ كلامنا ، ويكفي في ثبوت هذه الجهة ـ على تقدير كون المنهيّ عنه هو بيع الغرر لا الغرر مطلقاًـ إلغاء الخصوصية وعدم اختصاص المناط بالبيع ، ويؤيّده أنّ الأصحاب لم يفهموا منه الاختصاص ، بل فهموا أنّ الخطر مانع عن تحقّق كلّ معاوضة ، فالإنصاف تماميّة الاستدلال بالنبويّ لاعتبار القدرة على تسليم العوضين في جميع المعاوضات .
الأمر الثاني: الروايات المتضمّنة لنهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع ما ليس عنده(2) .
قال الشيخ الأعظم (قدس سره) في تقريب الاستدلال بها : بناء على أنّ كونه عنده لايراد به الحضور ـ الذي هو المعنى الحقيقي ـ لجواز بيع الغائب والسلف إجماعاً ، فهي كناية لا عن مجرّد الملك ; لأنّ المناسب حينئذ ذكر لفظة «اللام» ، ولا عن مجرّد السلطنة عليه والقدرة على تسليمه ; لمنافاته لتمسك العلماء من الخاصّة والعامّة على عدم جواز بيع العين الشخصية المملوكة للغير ، ثمّ شرائها من مالكها خصوصاً إذا كان وكيلاً عنه في بيعه ولو من نفسه ، فإنّ السلطنة والقدرة على التسليم حاصلة هنا ، مع أنّه مورد الرواية عند الفقهاء ، فتعيّن أن يكون كناية عن السلطنة التامّة الفعلية التي تتوقّف على الملك ، مع كونه تحت اليد حتّى كأنّه عنده وإن كان غائباً ، وعلى أيّ

(1) إيضاح الفوائد : 1 / 430 .
(2) الفقيه : 4 / 4 ح1 ، وسائل الشيعة : 17 / 357 ، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه ب12 ح12 ، سنن ابن ماجة : 3 / 32 ح2187 ، السنن الكبرى للبيهقي : 8 / 95 ح10559 ، المستدرك على الصحيحين : 2 / 21  ح2185 .

(الصفحة28)



حال فلابدّ من اخراج بيع الفضولي عنه بأدلّته ، أو بحمله على النهي المقتضي لفساده ; بمعنى عدم وقوعه لبائعه لو أراد ذلك ، وكيف كان فتوجيه الاستدلال بالخبر على ما نحن فيه ممكن(1) .
ولكن الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن مجرّد عدم الملك ، كما يشهد به التتبع في الروايات التي استعلمت فيها هذه العبارة ، واُريد بها عدم الملك في كلام السائل أو الإمام (عليه السلام) ، ولا بأس بنقل جملة منها ، فنقول :
منها : رواية ابن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه ، ثمّ تشتري له نحو الذي طلب ، ثمّ توجبه على نفسك ، ثمّ تبيعه منه بعد(2) .
ومنها : رواية اُخرى لابن سنان قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يأتيني يريد مني طعاماً أو بيعاً نسيئاً وليس عندي ، أيصلح أن أبيعه إيّاه وأقطع له سعره ثمّ أشتريه من مكان آخر فأدفعه إليه ؟ قال : لا بأس به(3) .
ومنها : رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يأتيني يطلب مني بيعاً وليس عندي ما يريد أن اُبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتّى أشتري متاعاً فأبيعه منه ؟ قال : نعم(4) .
ومنها : رواية معاوية بن عمّار قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : يجيئني الرجل يطلب

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 183 ـ 184 .
(2) التهذيب : 7 / 49 ح212 ، الكافي : 5 / 201 ح7 ، وسائل الشيعة : 18 / 48 ، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب8 ح1 .
(3) التهذيب : 7 / 49 ح213 ، وسائل الشيعة : 18 / 49 ، كتاب التجارة ، أبواب أحكام العقود ب8 ح2 .
(4) التهذيب : 7 / 50 ح217 ، وسائل الشيعة : 18 / 50 ، كتاب التجارة ، أبواب أحكام العقود ب8 ح5 .

(الصفحة29)



منّي بيع الحرير وليس عندي منه شيء ، فيقاولني عليه واُقاوله في الربح والأجل حتّى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه ، الحديث(1) .
ومنها : رواية إسحاق بن عمّار وعبد الرحمن بن الحجاج جميعاً قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالاًّ ؟ قال : ليس به بأس ، قلت : إنّهم يفسدونه عندنا ، قال : وأيّ شيء يقولون في السلم ؟ قلت : لا يرون به بأساً يقولون : هذا إلى أجل ، فإذا كان إلى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح ، فقال : فإذا لم يكن إلى أجل كان أجود(أحقّ بهـخل) ثمّ قال : لابأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه حالاًّ ، وإلى أجل ، فقال : لا يسمّي له أجلاً ، الحديث(2) .
ومنها: غير ذلك من الروايات الظاهرة في أنّ المراد بهذه العبارة مجرّد عدم الملكيّة ، وعليه فالنبويّ الدالّ على النهي عن بيع ماليس عنده لايرتبط بالمقام بوجه ، بل يرتبط بباب الفضولي الذي لايكون العاقد فيه مالكاً ولا مأذوناً من قبله .
إن قلت : إنّ هذه الروايات التي استشهد بها لاتنافي ما أفاده الشيخ الأعظم في عبارته المتقدّمة في معنى كونه عنده ، فإنّه اعتبر في جانب الوجود أمرين : الملكيّة ، وكونه تحت اليد حتّى كأنّه عنده ، ويكفي إنتفاء أحدهما في جانب السلب وصدق كونه ليس عنه ، فإذا انتفت الملكيّة يتحقّق هذا العنوان ، والروايات المذكورة لاتنافي ذلك .

(1) التهذيب : 7 / 50 ح219 ، وسائل الشيعة : 18 / 50 ، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب8 ح7 .
(2) التهذيب : 7 / 49 ح211 ، الفقيه : 3 / 179 ح811 ، وسائل الشيعة : 18 / 46 ، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب7 ح1 .

(الصفحة30)



قلت : ظاهر الروايات كما ذكرنا دوران هذا العنوان مدار الملكيّة وعدمها ، لامجرّد التحقّق مع عدم الملكيّة كما لايخفى .
ومن الاُمور التي استند إليها لاعتبار القدرة على التسليم أنّ بذل المال بإزاء ما لا يقدر على تسليمه وتسلّمه سفه غير عقلائي ، فلا تعمّه الإطلاقات الدالّة على نفوذ المعاملات العرفية العقلائية ، بل يكون مصداقاً لأكل المال بالباطل ، المنهي عنه في الكتاب العزيز .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه ربما لا يكون الانتفاع متوقّفاً على حضور المبيع كمافي عتق العبد الآبق ـ : أنّ بذل المال القليل في مقابل المال الكثير المحتمل الحصول ليس سفهاً ، بل تركه اعتذاراً بعدم العلم بحصول العوض ربما يعدّ سفهاً عند العقلاء .
وقد تنظّر في هذا الجواب المحقّق الرشتي (قدس سره) ـ بعد النقض بشراء مجهول الصفة كمّاً أو كيفاً الممنوع اتّفاقاً في العوضين ، وما في حكمهما كالمحلّ والشروط على الأشهر ـ بأنّ المخاطرة حكمة في النهي عن الغرر ، وهي سدّ باب التنازع والتشاجر بين المتعاقدين وليست بعلّة . قال : وهذه الدعوى وإن كانت بنفسها منافية للوصف العنواني الملحوظ في النهي عن الغرر ، إلاّ أنّ بناء العامّة والخاصّة على فهم الحكمة شاهد عليها(1) .
وليت شعري أنّه كيف يمكن أن يكون العنوان المتعلّق للنهي الذي يدور النهي مداره ـ كما في كلّ عنوان ـ حكمة ، بحيث لم يكن الحكم دائراً مداره ، أو لا يكون الموضوع مقوّماً للحكم ، فالإنصاف أنّ بحث الحكمة لايرتبط بمثل هذا المورد .
الأمر الثالث : أنّ لازم العقد وجوب تسليم كلّ من المتعاملين العوض إلى

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 293 .

(الصفحة31)



صاحبه ، فيجب أن يكون مقدوراً ، لاستحالة التكليف بغير المقدور ، ومع عدم اللاّزم يستكشف عدم تأثير العقد ، لامتناع انفكاك الملزوم عن لازمه .
وقد أجاب عن هذا الوجه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بما حاصله :
أنّ المراد من كون لزوم التسليم من لوازم العقد إمّا كونه من مقتضيات العقد عند الإطلاق ، وإمّا كونه من لوازم المعقود عليه وهو الملك ، وإمّا كونه من أحكام العقد ; لكون التسليم مصداقاً للوفاء الذي وجوبه من أحكام العقد ، والكلّ مخدوش .
أمّا الأوّل : فلأنّ مدلول العقد في البيع تمليك العين وفي الإجارة تمليك المنفعة ، لا  التمليك واعتبار وضعي أو تكليفي آخر .
وأمّا الثاني : فهو صحيح بمقتضى دليل السلطنة ، إلاّ أنّ حرمة الامتناع ووجوب التسليم فرع التمكّن منه ، فاللاّزم ليس من اللوازم غير المفارقة حتّى يستحيل انفكاكه ويكون عدمه كاشفاً عن عدم الملزوم .
وأمّا الثالث : فهو مدفوع :
أوّلاً : بابتنائه على كون الأمر بالوفاء تكليفياً لا إرشاداً إلى اللزوم الوضعي ، وأن يكون المراد به هو التكليف بالوفاء عملاً لا القيام بعهده بعدم حلّه .
وثانياً : بأنّه لو كان دليل الوفاء دليلاً على صحّة العقد ، بحيث تنتزع صحّته عن لزوم الوفاء به ، كان عدم لزوم الوفاء عملاً لعدم القدرة كاشفاً عن عدم الصحّة ، وأمّا إذا كان الأمر بالوفاء من أحكام العقد الصحيح فاشتراطه بالقدرة وتخّلفه عند عدمها لا يكشف عن عدم صحّة العقد(1) .
ومنها : غيرذلك من الاُمورالتي لاتنهض لإثبات الاعتبار، كأكثرالاُمور المتقدّمة.

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 250 ـ 251 ، مع تلخيص واقتباس .

(الصفحة32)



وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ المستند في هذا الباب ينحصر في دليل الغرر المتقدّم .
وينبغي التنبيه على اُمور :
الأمر الأوّل : ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) إنّ الحاجة إلى دليل اعتبار القدرة على التسليم إنّما هو فيما كان لوجود المملوك مقام ، ولتسليمه مقام آخر ; كالعين في البيع ، فإنّ المفروض وجودها إلاّ أنّه مقدور على تسليمه تارةً وغير مقدور على تسليمه أُخرى ، وكالمنفعة ، فإنّها موجودة بوجود الدابّة مثلاً ، إلاّ أنّ تسليمها بتسليم الدابّة مقدور عليه تارةً وغير مقدور أُخرى ، بخلاف الأعمال ، فإنّ إيجادها ووجودها وتسليمها وتسلّمها واحد ، فعدم القدرة على تسليم العمل مرجعه إلى عدم القدرة على إيجاده ، وما يمتنع إيجاده غير قابل للملكية ، من دون حاجة إلى دليل آخر كدليل الغرر وغيره ، كما أنّ العمل الذي يشك في القدرة عليه لا يمكن تمليكه منجّزاً ، وتمليكه معلّقاً فاسد(1) .
أقول : ما أفاده في الإجارة على الأعمال صحيح فيما إذا كان العمل المستأجر عليه خصوص العمل الصادر من الأجير مباشرة ، فإنّه مع امتناع صدور الخياطة عن الأجير لعدم اطّلاعه على فنّها أصلاً أو لجهة اُخرى لايعقل تمليكها من الغير ، فلا يصحّ الاستئجار عليه ، وأمّا إذا لم يكن المستأجر عليه خصوص العمل الصادر من الأجير ، بل كان الاستئجار واقعاً على خياطة الثوب ولو من غير الأجير ، فإنّه حينئذ يعقل الانفكاك بين الملكيّة والقدرة على التسليم ; لأنّه ربما لا يكون قادراً على التسليم مع ثبوت القابلية للملكيّة ، نظير بيع السلف الذي يكون المبيع أمراً كليّاً ثابتاً في ذمة البائع ، وهو قد يكون قادراً على تسليمه في

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 253 .

(الصفحة33)



ظرفه ، وقد لايكون كذلك .
وبالجملة : فلا يرى فرق بين هذا القسم من الإجارة وبين بيع السلف أصلاً ، وفي كليهما نحتاج إلى الدليل على اعتبار القدرة على التسليم زائداً على حقيقة البيع والإجارة المتقوّمة بالتمليك والتملّك .
الأمر الثاني : قد عرفت أنّ المستند الوحيد في باب اعتبار القدرة على التسليم إنّما هو دليل النهي عن الغرر ، وعليه فالمدار على تحقّق هذا العنوان الذي مرّ أنّ المراد به هو الخطر(1) ، ومن الواضح أنّ الخطر عبارة عن عدم الوثوق بالحصول في اليد ، وهو أمر وجداني لايعقل الشكّ فيه ، فإنّه على تقدير تحقّق الوثوق وجداناً لايكون هناك غرر ، وعلى تقدير عدمه يتحقّق هذا العنوان ، وليس للنفس حالة ثالثة ، خصوصاً بعد ملاحظة كون الموضوع هو الغرر الشخصي ، فلا مجال للشك أصلاً ، كما أنّه لايبقى حينئذ مجال للبحث عن أنّ القدرة شرط أو أنّ العجز مانع ; لعدم تعرّض الدليل لشيء من القدرة والعجز ، بل المدار على صدق عنوان الغرر كما عرفت .
نعم ، بناء على كون القدرة شرطاً فربما يتخيّل الفرق بينه وبين مانعية العجز كما عن الجواهر(2) ، نظراً إلى أنّه لابدّ في الشرط من إحرازه ، ويكفي في المانع عدم إحرازه لكون عدمه مطابقاً للأصل .
ويرد على هذا الكلام وجوه من الإشكال :
الأوّل : أنّ القدرة التي تحتمل شرطيّتها هل هي القدرة الواقعية بمجرّدها ، أو

(1) في ص 23 .
(2) جواهر الكلام : 22 / 385 .

(الصفحة34)



بضميمة العلم بها ، أو أنّ الشرط هو العلم بالقدرة ولو لم يكن هناك قدرة واقعاً ، والمراد بالعلم هو الوثوق لا خصوص اليقين القطعي ؟ لامجال للاحتمال الأوّل لعدم الدليل عليه ، والإجماع لا يكون له أصالة في مثل المقام ، الذي يكون مستند المجمعين معلوماً ، وحديث نهي الغرر قد عرفت أنّه لا دلالة له على ذلك(1) ، كما أنّه لا وجه للاحتمال الثاني لعين الوجه المذكور ، فالمتعيّن هو الاحتمال الثالث ، وعليه لا يبقى موقع للترديد والشكّ كما مر .
ثمّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) بعد اختياره شرطية القدرة ونفيه مانعية العجز في آخر كلامه : إنّ الشرط هي القدرة المعلومة للمتبابعين ; لأنّ الغرر لايندفع بمجرّد القدرة الواقعية(2) .
وظاهره اعتبار القدرة الواقعية والعلم معاً ، مع أنّ الاستدلال بحديث الغرر لايجدي في إثبات ذلك ; لأنّ الحديث كما عرفت أجنبيّ عن الدلالة على اعتبار الأمر الواقعي .
الثاني : أنّ العجز لا يعقل أن يكون مانعاً ، إمّا لأنّ المانع عبارة عن الأمر الوجودي الذي يلزم من وجوده العدم ، والعجز لايكون أمراً وجوديّاً ; لأنّه عبارة عن عدم القدرة عمّن من شأنه صنفاً أو نوعاً أو جنساً أن يكون قادراً ، وإمّا لأنّ المانع عبارة عمّا يقتضي ضدّ ما يقتضيه المقتضي الآخر ، والعجز بالإضافة إلى عقد البيع لا يكون كذلك ; لأنّه ليس له أثر هو ضدّ الملك الذي هو أثر العقد حتّى يمنع عن تأثيره .

(1) في ص 23 ـ 24 .
(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 193 .

(الصفحة35)



وقد ذكر من فسّر المانع بهذا التفسير : أنّ غاية ما في الباب أنّ عدم العجز شرط تأثير العقد ، وليس كلّ ما كان عدمه شرطاً يكون وجوده مانعاً . نعم ، كلّ ما كان مانعاً بحقيقة المانعية يكون عدمه شرطاً لتأثير السبب الآخر عقلاً ، وإلاّ لزم انفكاك المعلول عن علّته التامّة(1) .
والعجب منه أنّه ناقش في التفسير المعروف نظراً إلى أنّ استلزام الوجود للعدم محال ، سواء كان بنحو الاقتضاء ، أو بنحو الشرط ، أو بنحو المعدّ ; لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يكون أثر المقتضى ، أو محتاجاً إلى فاعل أو قابل ، أو إلى مؤثِّر(2) ، مع أنّه اختار شرطيّة العدم في كلامه المذكور ، فإنّ العدم كيف يعقل أن يكون مصحّحاً لفاعلية الفاعل أو متمّماً لقابلية القابل ، حتّى يكون عدم المانع شرطاً لتأثير السبب ، أو يقال : إنّ كلّ ما كان عدمه شرطاً لا دليل على كون وجوده مانعاً .
الثالث : الفرق بين الشرط والمانع ، بأنّه يعتبر في الأوّل إحرازه ويكفي في الثاني عدم إحرازه محلّ نظر بل منع ، فإنّ المانع أيضاً لابدّ من إحراز عدمه ، وكيف يكفي مجرّد الشكّ في ثبوت الممنوع ، مع أنّ المانع أمر واقعي كما هو المفروض ؟ نعم ، يكفي إحراز عدمه بسبب الأصل ، ولا يحتاج إلى اليقين أو الطريق المعتبر ، وهذا يجري في الشرط أيضاً ، فلم يتحقّق الإفتراق بينهما من هذه الجهة .
نعم ، حيث إنّ العدم يكون مطابقاً للأصل غالباً بخلاف الوجود يكون إحراز العدم بالأصل أمراً سهلاً بخلاف إحراز الوجود .
الأمر الثالث : أنّ العبرة في الشرط المذكور إنّما هو بالوثوق بالحصول في اليد في زمان استحقاق التسليم ، فلا ينفع الوثوق به حال العقد مع العلم بعدمه حال

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 254 ـ 255 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 254 .

(الصفحة36)



استحقاق التسليم ، بل ومع عدم العلم والوثوق به حاله ، ويترتّب على ذلك عدم اعتبار هذا الشرط أصلاً فيما إذا كانت العين المبيعة أو المستأجرة في يد المشتري أو المستأجر ، وكذا فيما لايستحقّ فيه التسليم رأساً ، كما إذا اشترى من ينعتق عليه ، فإنّه ينعتق بمجرّد الشراء ولا سبيل لأحد عليه أصلاً .
وربما نوقش في هذا الفرض بأنّ انعتاق المبيع على المشتري الموجب لعدم استحقاقه التسليم من أحكام البيع وآثاره ، ولا يكاد يترتّب عليه آثاره إلاّ إذا كان واجداً لشرائط الصحّة ، ومنها القدرة على التسليم ، فكيف يسقط ما يعتبر في صحّته بما يترتّب عليها من الآثار .
ولكنّ المناقشة مدفوعة بقصور الدليل عن الدلالة على الاعتبار في مثل هذا الفرض ، وبعبارة اُخرى انعتاق المبيع على المشتري الموجب لعدم استحقاقه التسليم وإن كان من أحكام البيع وآثاره ، إلاّ أنّ الدليل الدالّ على اعتبار القدرة على التسليم في صحّة البيع وكونها من شرائطها لايدلّ على ذلك في مثل المقام ; لعدم كون البيع غررياً أصلاً لتحقّق الانعتاق بمجرّده .
وكذا لايعتبر هذا الشرط فيما إذا لم يستحقّ التسليم بمجرّد العقد ، إمّا لاشتراط تأخيره مدّة ، وإمّا لتزلزل العقد كما إذا اشترى فضولاً ، فإنّه لا يستحقّ التسليم في الأوّل إلاّ بعد مجيء المدّة ، وفي الثاني إلاّ بعد إجازة المالك ، فلا تعتبر القدرة على التسليم قبلهما .
بقي الكلام في هذا المقام في سائر الاُمور التي اعتبرها في المتن في العين المستأجرة ، فنقول : أمّا اشتراط كونها مملوكة أو مستأجرة فهو يبتني على مسألة الفضولي المتقدّمة في البيع ، فإن قلنا ببطلانها من رأس فلا تصحّ إجارة مال الغير رأساً ، وإن قلنا بالصحّة والتوقّف على الإجازة فتصحّ معها ، وأمّا سائر الشرائط

(الصفحة37)



والاُمور فقد ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : إنّه لاحاجة إلى هذه الإضافات ، لأنّ بعضها من مقوّمات الإجارة وبعضها مندرج في أحد الشرائط السابقة أو اللاّحقة ، أمّا مسألة إجارة الخبز للأكل فهي خارجة عن حقيقة الإجارة ; لأنّ المنافع حيثيات وشؤون للعين تستوفى منها تدريجاً ، وليس للخبز هذا الشأن ، وأكله إتلافه لا استيفاء شأن من شؤونه .
وأمّا إجارة الأرض للزراعة ، فإنّ استيفاء المنفعة تابع لامكانها في مدّة الإجارة ، وحيث لا تصلح الأرض للزراعة فعلاً فهي غير واجدة لهذه المنفعة ، والكلام في شرائط نفوذ الإجارة لا في مقوّمات حقيقة الإجارة ، فما لا منفعة له لاتعقل في حقّه حقيقة الإجارة .
وأمّا مسألة كنس الحائض فهي منفعة غير مباحة، وإذا عمّمنا المملوكية إلى ملك التصرّف فهي لا تملك هذه المنفعة من نفسها حتّى تملّكها ، فهي داخلة في سائر الشرائط(1) .

***

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
ما تصحّ إعارتها تصحّ إجارتها
وهذه القاعدة معروفة من زمن الشيخ (رحمه الله) إلى هذه الأزمنة ، وقد حكي عن المبسوط(2) والسرائر(3) نفي الخلاف فيها ، وعن الغنية(4) نفي الخلاف

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 46 ـ 47 .
(2) المبسوط : 3 / 221 .
(3) السرائر : 2 / 456 قال فيه : «بلا خلاف ، بل الإجماع منعقد على ذلك» .
(4) غنية النزوع : 285 .

(الصفحة38)



ممّن يعتدّ به والإجماع أيضاً ، وكذا عن الخلاف(1) ، وقد وقع التصريح بها في الشرائع(2) والنافع(3) والتذكرة(4) والتحرير(5) والإرشاد(6) وغيرها(7) .
والمهمّ في هذا المقام أنّ هذه القاعدة هل هي قاعدة شرعية دلّ عليها دليل شرعي من نصّ أو غيره ، حتّى يتكلّم في مفادها ويجوز التمسّك بها في موارد الشكّ في صحّة إجارة شيء بعد الفراغ عن صحّة إعارته ، أو أنّها قاعدة اصطيادية مأخوذة من ملاحظة موارد الإعارة والإجارة ، نظراً إلى تقاربهما من حيث عدم نقل العين ، وكون الغرض الانتفاع بالمنافع وإن كان بينهما فرق من جهة ثبوت العوض في الإجارة دونها ، ومن جهة كون الإجارة مؤثِّرة في ملكيّة المنفعة والإعارة في ملكيّة الانتفاع دون المنفعة ، ولذا لا يجوز إجارة العين المستعارة، ومن غيرهما من الجهات الاُخر ؟ والظاهر هو الوجه الثاني وأنّه لم يقم دليل شرعي على الملازمة ، فلا مجال حينئذ لتفصيل الكلام فيها والنقض والإبرام لعدم حجّيتها ، ولكنّه حيث وقع التعرّض لها في عبارات القوم فنحن نتعرّض لها إجمالاً ونقول :
إنّ هذه القاعدة حيث تكون مذكورة بعنوان الضابطة ولازمها حينئذ كليّة العكس ; أعني ما لا تصحّ إعارتها لا تصحّ إجارتها ، فلذا قد أورد عليها

(1) الخلاف : 3 / 485 مسألة 1 .
(2) شرائع الإسلام: 2 / 179.
(3) المختصر النافع : 247 .
(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 295 .
(5) تحرير الأحكام : 1 / 242 .
(6) إرشاد الأذهان : 1 / 425 .
(7) كقواعد الأحكام : 2 / 282 ، ورياض المسائل : 6 / 17 .

(الصفحة39)



بعدم كونها جامعة ومانعة أصلاً وعكساً ; لتصريح الشيخ (رحمه الله) في الخلاف(1) والمبسوط(2) بعدم صحّة إجارة حائط مزوّق للنظر إليه والتفرّج والتعلّم منه ; لأنّ المنع قبيح فأُجرته قبيحة ، مع أنّ هذه العلّة لا تجري في العارية كما هو واضح ، وقد صرّح الحلّي بصحّة إعارة الدراهم والدنانير ، وقوّى في آخر كلامه عدم صحّة إجارتهما(3) ، وقد حكى المحقّق الأردبيلي عن التذكرة وغيرها الإجماع على عدم صحّة إجارة المنحة للحلب(4) ، وإن ناقش فيه في مفتاح الكرامة وقال : قد تتبّعنا التذكرة فرأيناه قد ذكر في عدّة مواضع أنّه لا يجوز استئجار الشاة للحلب(5) ، من دون حكاية إجماع صريح ولا ظاهر ، وكذلك غير التذكرة(6)(7) ، انتهى . وقد صرّحوا بجواز استئجار المرأة للإرضاع والحرّ للعمل ، مع أنّه لا تجوز إعارتهما .
ولأجل ذلك صرّح في جامع المقاصد(8) بأنّ هذه القاعدة أكثرية ، وقيّد في التنقيح عبارة النافع بقوله : مع بقاء عينه(9) ، وفي المسالك عبارة الشرائع بقوله : بحسب الأصل أي القاعدة(10) ، وكذا في غيرهما(11) ;

(1) الخلاف : 3 / 501 مسألة 24 .
(2) المبسوط : 3 / 240 .
(3) السرائر : 2 / 475 .
(4) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 68 .
(5) تذكرة الفقهاء : 2 / 210 و296 .
(6) كقواعد الأحكام : 2 / 287 .
(7) مفتاح الكرامة : 7 / 82 .
(8) جامع المقاصد : 7 / 87 .
(9) التنقيح الرائع : 2 / 255 .
(10) مسالك الأفهام : 5 / 175 .
(11) كاللمعة الدمشقية : 94 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 10 / 67 .

(الصفحة40)



ولأجل ذلك أيضاً صرّح المحقّق الرشتي (رحمه الله)(1) بأنّه لا يراد بذلك إعطاء الميزان وبيان الضابط ، بل المراد هو بيان اشتراط صحّة إجارة الأعيان المملوكة بمايشترط به العارية ، وهوكونها ذات منفعة مقصودة وأنّ المراد بالموصول كلّ عين مملوكة، وهذا لا ينافي أوسعية دائرة الإجارة من حيث ثبوتها في غير الأعيان المملوكة أيضاً ولا اشتراطها في الأعيان بشروط زائدة.
هذا، والتحقيق أنّ هذه القاعدة على فرض ثبوتها لا مانع من الأخذ بمقتضى ظاهرها، نظراً إلى أنّه لا دليل على المنع من الإجارة في الموارد المنقوضة، فإنّه لم يقم دليل على المنع من إجارة المنحة للحلب، وأيّ فرق بينه وبين إجارة الفحل للضراب ونحوها، ودعوى عدم بقاء العين فيها وهو شرط في صحّة الإجارة مدفوعة بأنّ العين المستأجرة هي المنحة، وهي باقية، واللّبن إنّما يعدّ من منافعها، ومجرّد كون المنفعة هنا عيناً لا يمنع عن ذلك; لأنّ العين التي تعتبر بقاؤها هي ما اشتملت على المنفعة لا نفسها، وقد عرفت أنّ ما حكاه المقدس الأردبيلي عن التذكرة من الإجماع على عدم الجواز غير ثابت; لعدم حكاية إجماع فيها صريحاً ولا ظاهراً، كما ذكره صاحب المفتاح.
وكذا لا دليل على المنع من العارية في الموارد المنقوضة، فإنّ عدم تعارف استعارة المرأة للإرضاع والحرّ للأعمال لا يوجب المنع، إذ لم يقم دليل عليه بعد اجتماع الشروط المعتبرة في العارية فيها، فالإنصاف عدم تمامية شيء من تلك النقوض، لكن قد عرفت أنّه لا فائدة في البحث عن هذه القاعدة بعد عدم كونها قاعدة شرعية; لعدم الدليل عليها مضافاً إلى

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 44 .
<<التالي الفهرس السابق>>