في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة81)



مع أنّ مراد القائل بالإباحة بعوض في المقام هي إباحة منفعة دار معين ، الذي هي العين الخارجية بإزاء الأُجرة ، وإلى أنّه يمكن فرض الأُجرة شخصية ـ بأنّه لادليل على اختصاص هذا النحو من الإباحة أو مطلقها بالعين الخارجية ، فإنّ الإباحة بالعوض على تقدير صحّتها من العقود ; وهي كما يصحّ تعلّقها بالأعيان الخارجية كذلك يصحّ تعلّقها بالكليّات ، ولم يقم دليل على اختصاص الإباحة بالأعيان .
وأمّا الإيراد الخامس فيمكن دفعه :
أوّلاً : بالمنع عن خروجها عن المعاوضات المتعارفة ، بل هي أيضاً معهودة عند العقلاء ، وربما تتفق كثيراً في هذه الأزمنة .
وثانياً : بمنع كون الخروج عنها مانعاً عن شمول العموم في «أوفوا بالعقود» بناء على إفادته للصحّة واللزوم معاً ، وعدم الاختصاص بالعقد الذي كانت صحّته مع قطع النظر عن هذا العموم مفروغاً عنها ، وذلك لما نرى من استدلالهم بهذا العموم في المعاملات المستحدثة في هذه الأزمنة ، التي لم يكن منها في السابق عين ولا أثر ، فكيف لا يجوز التمسّك به لإثبات مشروعية الإباحة بالعوض مع عدم كونها مستحدثة.
نعم ، لاينبغي الإشكال في أنّ المتعارف في إجارة مثل الدار والفندق ، وكذا الإجارة على الأعمال كالخادم والخادمة ليس هذا العنوان ، ولكن الكلام ليس إلاّ في إمكان التصحيح ولو من الطريق غير المتعارف .
وأمّا الإيراد الثاني ـ فمضافاً إلى اندفاعه بأنّه ليس المفروض في كلام الجواهر إباحة واحدة بعوض واحد ، بل إباحات متعدّدة بأعواض معلومة حسب تعدّد الشهور في المثال المفروض ، ومن المعلوم أنّ كلّ واحدة من الإباحات خالية عن الغرر ، والجهل بتعدادها لايوجب الغرر في الإباحة المتحقّقة كما هو ظاهر ـ يندفع

(الصفحة82)



بأنّه لم يقم دليل على قدح الغرر في جميع المعاوضات ; لأنّ الدليل قد ورد في البيع ـ على اشكال فيه أيضاً كما عرفت سابقاً(1) ـ وإلحاق مثل الإجارة لايوجب لحوق الإباحة بالعوض به أيضاً .
فانقدح من ذلك أنّ الظاهر بمقتضى ماذكر إمكان التصحيح من طريق الإباحة بالعوض .
بقي الكلام في هذا الفرع فيما لو قال : «آجرتك شهراً بدرهم مثلاً وإن زدت فبحسابه» وفيه وجوه بل أقوال ثلاثة : الصحّة في الشهر، والبطلان في الزيادة المستلزم لثبوت اُجرة المثل، كما هو ظاهر العلاّمة في القواعد(2) ، والبطلان في الأمرين معاً كما هو المحكي عن الإيضاح(3) وجامع المقاصد(4) ، والصحّة فيهما معاً بالتفصيل الآتي .
وليعلم أنّ المفروض في هذه الصورة صحّة الإجارة من جهة ذكر الشهر بنحو النكرة ، إمّا للانصراف إلى الشهر الأوّل كما هو الظاهر ، وإمّا لدعوى أنّ ذكر الشهر بالنحو الكلّي لايضرّ بصحّة الإجارة ، وإن لم يكن منصرفاً إلى خصوص الشهر الثاني ; لأنّه حينئذ يكون كالمبيع الكلّي .
وكيف كان ، فمحلّ الكلام مع فرض صحّة الإجارة بهذا النحو ، والقائل ببطلان الأمرين معاً إنّما يستند إلى فساد الشرط ، واستلزام فساده لفساد المشروط ، ولذا اعترض على العلاّمة في القواعد بأنّه مع كون الشرط الفاسد مفسداً عنده لِمَ اختار

(1) في ص 23 .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 285 . وكذا ابن إدريس في السرائر : 2 / 461 .
(3) إيضاح الفوائد : 2 / 249 .
(4) جامع المقاصد : 7 / 109 .

(الصفحة83)



الصحّة في الشهر ، وإن أجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) ; بأنّ نظر العلاّمة ليس إلى الشرط بل إلى المقاولة الباطلة المتخلّلة بين الإيجاب والقبول ، ولكنّه يرد عليه أنّ دعوى بطلان الأمرين معاً نظراً إلى أنّ تخلل المقاولة الباطلة يوجب فساد الإيجاب والقبول ، مضافاً إلى ضعفها في نفسها ، ولذا لم يذكره أحد في مسألة الشرط المفسد في العقود خارجة عن محلّ الكلام ; لأنّ مورد البحث ما إذا كان الفساد المحتمل ناشئاً من جهة قوله : «فإن زدت فبحسابه» لا من حيث التلفظ به ، بل من جهة الجهل وعدم المعلومية كما لايخفى .
إذا عرفت ماذكرناه ، فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ذكر في هذا المقام : أنّه يتصوّر بالإضافة إلى ما زاد على وجوه :
أحدها : إجارة مازاد كلّ شهر بدرهم ، فبالنسبة إلى مازاد حالها حال المسألة المتقدّمة من عدم الصحّة لعدم المعقولية ، لكن فساد الإجارة في مازاد لايوجب فساد الإجارة في الشهر الأوّل ; لتعدد الإجارة على الفرض ، وإن كانتا بإنشاء واحد .
ثانيها : اختصاص عنوان الإجارة بالشهر الأوّل واستحقاق مازاد بالشرط ، وحيث إنّ الشرط متعلّق بالمبهم فحاله في عدم المعقولية في تأثيره في الاستحقاق حال الاستحقاق بالإجارة ، لا أنّه في الحقيقة شرط مجهول ليلزم منه سراية الجهالة في الشرط إلى العقد ، حتّى يفسد عقد الإجارة في الشهر المعيّن أيضاً، فتدبّر .
ثالثها : أن يكون قوله : «وما زاد بحسابه» مواعدة ومراضاة ، فليس هناك ملكيّة ولا استحقاق بعقد أو إيقاع حتّى لا يعقل تعلّقه بالمردّد ، أو يقال بلزوم

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 107 .

(الصفحة84)



الجهالة في العقد أو الشرط ، وعليه يحمل ما في صحيح أبي حمزة(1)(2) .
ويرد عليه : أنّ ما أفاده من عدم الصحّة لأجل عدم المعقولية مناف لما أفاده من الفروض المتصوّرة في أصل الفرع ، فإنّ عدم المعقولية إنّما هو فيما إذا لم يؤخذ مازاد متعيناً بوجه أصلاً على ما أفاده فيما تقدّم ، وأما إذا اُخذ متعيّناً ولو بعنوان ما يختاره المستأجر فلايتصف حينئذبعدم المعقولية،بل غايته لزوم الجهالة، فتعليل عدم الصحّة في المقام بعدم المعقولية ـ الظاهر في أنّه غير معقول مطلقاً ـ مناف لما مرّ منه سابقاً(3) .
ويرد عليه أيضاً عدم تماميّة ما أفاده في الوجه الثاني :
أمّا أوّلاً : فلأنّ تعلّق الشرط بالمبهم لايوجب اتصافه بعدم المعقولية ، ضرورة أنّه لايوجب استحقاق المشروط حال العقد حتّى لايعقل تعلّق الاستحقاق بالمبهم ، كيف وهو معلّق على أمر لم يعلم حصوله ، فإنّ مرجع الشرط إلى قوله : «وإن زدت فبحسابه» ومع عدم معلومية حصول المعلّق عليه في ظرفه كيف يتحقّق الاستحقاق غير المعقول حال العقد ، بل نتيجة الاشتراط استحقاق إلحاق الزيادة بالحساب ، ولا مانع من تحقّق هذا الاستحقاق حال العقد كما هو ظاهر .
وأمّا ثانياً : فلأنّ مقتضى ظاهر كلامه أنّه لو كان الشرط متصفاً بالمجهولية لكان اللاّزم سراية الجهالة إلى العقد ، مع أنّ السراية مطلقاً ممنوعة، فإنّ جهالة مازاد وما يقع بإزائه لا تسري إلى العقد ، ولا توجب جهالة متعلّق العقد ، الذي هو الشهر والدرهم مثلاً .
ويرد على ما أفاده في الوجه الثالث : أنّ الأمر المبهم كما أنّه لا يعقل تعلّق صفة

(1) وسائل الشيعة : 19 / 111 ، كتاب الإجارة ب8 ح1 ، وسيأتي متنه وتخريجه مفصّلاً .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 80 .
(3) أي من المحقّق الاصفهاني في «بحوث في الفقه، كتاب الإجارة»: 78 ـ 79 .

(الصفحة85)



الملكيّة أو الاستحقاق به كذلك لايعقل تعلّق صفة التراضي به ; لأنّه كما أفاده فيما سبق غير قابل للاتصاف بصفة أصلاً ، حقيقية كانت أو اعتبارية .
والتحقيق في هذا المقام أنّه لامانع من الصحة بطريق الاشتراط ; لأنّ المانع المتوهم إمّا التعليق وإمّا الجهالة، والظاهر أنّه لايقدح شيءمنهما ، أمّا الأوّل: فلحكم المشهور بذلك ، وأنّ التعليق في الشروط ممّا لامانع منه ، وأمّا الثاني: فلعدم الدليل على قدح هذا المقدار من الجهالة في الشروط ، خصوصاً على ماعرفت منّا من عدم قادحيته في عقد الإجارة أيضاً ، فضلاً عن الشروط بل الدليل على خلافه ; وهو صحيحة أبي حمزة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يكتري الدابّة فيقول : إكتريتها منك إلى مكان كذا وكذا فإن جاوزته فلك كذا وكذا زيادة ، ويسمّي ذلك ، قال : لابأس به كلّه(1) . فإنّ ظاهره أنّ ثبوت الزيادة على تقدير التجاوز قد اُخذ بنحوالاشتراط،فالرواية بظاهرهاتدلّ على عدم قدح التعليق في الشرطوكذا الجهالة.
وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) من احتمال إرادة اشتراط مقدار الغرامة لو تعدّى وتجاوز لما هو المتعارف في التأكيد على عدم التجاوز عن المكان المعيّن(2) ، فهو خلاف ظاهر الرواية كما لايخفى .
نعم ، يمكن أن يقال بالفرق بين مورد الرواية والمقام ، نظراً إلى أنّ المعلّق عليه الزيادة المسمّـاة في مورد الرواية إنّما هو التجاوز بعنوانه ، وعليه فلا جهالة فيه أصلاً ـ لا في عنوان التجاوز وطبيعيّه ، ولا في الزيادة الواقعة بإزائه ـ وهذا بخلاف المقام ، فإنّ مقدار الزيادة وكذا مايقع بإزائه كليهما مجهولان ، ولكن الأمر سهل

(1) الكافي : 5 / 289 ح2 ، التهذيب : 7 / 214 ح938 ، وسائل الشيعة : 19 / 111 ، كتاب الإجارة ب8 ح1 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 235 .

(الصفحة86)



بعدما عرفت من عدم الدليل على قدح هذا المقدار من الجهالة في العقد فضلاً عن الشرط ، هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل .

***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال المحقّق في الشرائع : إذا قال : «آجرتك كلّ شهر بكذا» صحّ في شهر ، وله في الزائد اُجرة المثل إن سكن ، وقيل : تبطل لجهل الاُجرة ، والأوّل أشبه ، وذكر بعد ذلك فرعين آخرين ، قال : الأوّل : لو قال : «إن خطته فارسياً فلك درهم، وإن خطته روميّاً فلك درهمان» صحّ. الثاني : لو قال : «إن عملت هذا العمل في اليوم فلك درهمان وفي غد درهم» فيه تردّد ، أظهره الجواز(1) .
فهنا فروع ثلاثة ، وينبغي قبل التكلّم فيها والبحث عنها التنبيه على أمر ; وهو أنّ المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) استنبط من هذه الفروع المذكورة في الشرائع أنّ المحقّق قائل بأنّ من أحكام الاُجرة التعيين ، ومرجع ذلك إلى أنّ اشتراط المعلومية لا يغني عن اشتراط التعيين ، بل لابدّ من اشتراط كليهما ـ كما فعله بعض المتأخّرين في رسالته(2)ـ وأورد على من استند للبطلان بتجهّل الاُجرة بما حاصله يرجع إلى أنّ الجهل هو عدم العلم بنحو العدم المقابل للملكة ، فما لم يكن له واقع لا معنى للعلم به تارةً وللجهل به اُخرى ، وعدم العلم بعدم المعلوم لا يكون من الجهل المقابل للعلم ، والمقام من هذا القبيل ; لعدم ثبوت الواقعية للماهية غير المتعيّنة بشيء من التعيّنات ، فيستحيل أن تكون مقوّمة لصفة الملكيّة(3) .

(1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(2) السيّد أبو الحسن الإصفهاني في وسيلة النجاة : 2 / 50 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 76 ـ 77 .

(الصفحة87)



ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ مراد من اشترط مجرّد المعلوميّة هو المعلوميّة العرفيّة ، التي تشمل التعيين أيضاً كما لا يخفى ـ : أنّه لا وجه لما أفاده من عدم ثبوت الواقعيّة مع عدم التعيّن بحسب الخارج ، وذلك لأنّ واقعية كلّ شيء إنّما هي بحسبه ، فإذا كان الشيء من الموجودات الخارجية والاُمور الجزئية الشخصية فواقعيّته مساوقة للتعيّن الخارجي ، ولا يعقل أن يكون غير متعيّن ومقوّماً لصفة الملكيّة أو غيرها من الصفات الاُخر مع وصف عدم التعيّن ، فلا معنى لتعلّق العلم أو الجهل به مع هذه الصفة ، وأمّا إذا لم يكن الشيء من الموجودات الخارجية ، بل كان ظرف وجوده الذهن فواقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى الذهن ، ولا يكون التردّد بحسب الخارج قادحاً في تعلّق العلم به بالنظر إلى واقعيّته ، فإنّه لو كانت الاُجرة في المقام مثلاً أحد العبدين المعلومين من جميع الجهات المتماثلين في الصفات الموجبة لاختلاف الرّغبات لكان اللاّزم هو تعلّق العلم بهذا العنوان المجعول اُجرة ، وهو عنوان أحدهما الذي لا يكون ظرف وجوده ووعاء تحقّقه إلاّ الذهن ، ومن الواضح إمكان تعلّق العلم بهذا العنوان وكذا الجهل .
وبالجملة : فما هو المجعول اُجرة هو عنوان أحدهما ، الذي يكون متحقّقاً في الذهن ومتّصفاً بوصف المعلومية ; لثبوت الواقعية له بالإضافة إلى ظرف وجوده ، وما لايمكن تعلّق العلم به لأجل عدم الثبوت والواقعية له هو المردّد الخارجي ; وهو لايكون مجعولاً اُجرة ، فما أفاده (قدس سره) من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق الذي ربّما يتّفق كثيراً .
ويدلّ على ما ذكرناه أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يجوز أن تكون الاُجرة في الإجارة كلّية ، كما أنّه يجوز أن تكون جزئية شخصية مع جريان ما ذكره من الإشكال في الاُجرة الكلّية ; ضرورة أنّ ما هو المجعول اُجرة هو

(الصفحة88)



الأمر الكلّي الذي لا يكون متعيّناً في الخارج ولا يكون ظرف وجوده إلاّ الذهن ، وما هو الموجود في الخارج الذي يكون متعيّناً لم يجعل اُجرة ، فكما أنّ معلومية ذلك الأمر الكلّي الذي واقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى ظرف وجوده تكفي في جعله اُجرة ، ولا معنى لدعوى عدم إمكان تعلّق العلم به ، كذلك عنوان أحدهما في المقام . غاية الأمر أنّ هذا العنوان لا تتجاوز مصاديقه عن اثنين ، وهذا لا يكون فارقاً بل هو مؤيّد لتحقّق وصف المعلومية ، كما لا يخفى .
فانقدح أنّ ما أفاده من فقدان هذا الوصف في أمثال المقام ممّا لا يستقيم ، ولا يقبله العقل والذوق السليم ، فتأمّل جيّداً .
نعم ، يقع الكلام بعد ذلك في الاكتفاء بتحقّق اشتراط المعلومية المتحقّقة في المثال المذكور ، أو أنّه لا يكفي ذلك ، بل لابدّ من التعيّن أيضاً ، والظاهر أنّه لا دليل على اشتراط أزيد من المعلومية ، فلا مانع من جعل الاُجرة أحد العبدين الموصوفين بالوصف المذكور ; لما عرفت من أنّ عنوان أحدهما كسائر العناوين الكلّية له واقعية ويمكن تعلّق العلم به ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك ، ومنه يظهر أنّه لو جعل الاُجرة : العبد من العبدين الكذائيين لكان جائزاً بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وأمّا لو جعل الاُجرة هذا أو ذاك مشيراً إليهما ، فربما يقال بعدم الجواز ، نظراً إلى أنّه ليست الاُجرة حينئذ أمراً ذهنيّاً يكون ظرف وجوده ووعاء تحقّقه النفس ، كما لو جعل الاُجرة عنوان أحدهما ، بل هي أمر خارجي مردّد بين الأمرين ، فلا تكون لها واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارةً والجهل اُخرى ; ضرورة أنّ الموجود في الخارج متعيّن ، فالمردّد بما هو مردّد لا يكون موجوداً في الخارج حتّى يكون متعيّناً ، فجعل الاُجرة هذا النحو ممنوع موجب لبطلان الإجارة .


(الصفحة89)



هذا، وربّما يجاب عن ذلك بأنّه لا مانع عن جعلها بهذا النحو أيضاً ; لأنّ المقام حينئذ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين ، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به . غاية الأمر إيجابه لكون العلم متّصفاً بالإجمالي قبال العلم التفصيلي الذي لا تردّد في معلومه ، كذلك التردّد في المقام لا يقدح بتعلّق العلم بما هو المجعول اُجرة . غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال ، وكذلك المقام نظير الواجب التخييري ، بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد ، فكما أنّه لامانع من ايجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري ، الذي مرجعه إلى إفادة عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما بواسطة الإتيان بكلمة أو ونحوها ، كذلك لا مانع عن جعل الاُجرة في المقام كذلك ، كما لايخفى .
ويرد على هذا الجواب : بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأنّ في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية وتعيّن . غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لا يعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف ، وأمّا في المقام فالمفروض أنّه لا تكون الاُجرة متعيّنة بحسب الواقع ; لأنّها مجعولة مردّدة من أوّل الأمر ، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية ، وكذا بالمجهولية لما عرفت ، وأمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحلّ نظر بل منع أيضاً ; لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الاُمور معروضاً للوجوب ومحكوماً عليه به . غاية الأمر أنّه لا يجب الإتيان بالجميع ; لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغاير للوجوب التعييني ، وهنا لاتكون الاُجرة إلاّ أحد الأمرين ، لا عنوان أحدهما بل المردّد بينهما ، وهو كما عرفت ليس له واقعية حتّى يتّصف بالمعلومية أو بنقيضها . [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

***


(الصفحة90)



الفرع الثاني : ما لو قال : إن خطته رومياً فلك درهمان ، وإن خطته فارسياً فلك درهم ، وقد وقع الخلاف فيه من حيث صحّة هذا النحو من الإجارة وعدمها ، وقد صرّح المحقّق في الشرائع بالصحّة(1) ، وهي المحكية عن الخلاف(2) والتذكرة(3)والتنقيح(4) ومجمع البرهان(5) والكفاية(6) واللمعة(7) ، وعن التحرير : أنّه لايخلو من قوّة(8) ، ولكن المحكي عن السرائر(9) والمختلف(10) والإيضاح(11) وشرح الإرشاد(12)والحواشي(13) وجامع المقاصد(14) والمسالك(15) والروضة(16) هو البطلان ، وقد حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره)أنّه حكى عن أبي حنيفة القول بصحّة الإجارة في التقدير الأوّل الواقع في عبارة المستأجر، والحكم بثبوت اُجرة المثل في التقدير الآخر ، ولكن صرّح في مفتاح الكرامة بأنّ أبا حنيفة ممّن يقول بصحّة العقد

(1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(2) الخلاف : 3 / 510 مسألة 40.
(3) تذكرة الفقهاء: 2 / 294 .
(4) التنقيح الرائع : 2 / 265 .
(5) مجمع الفائدةوالبرهان : 10 / 24 ـ 25 .
(6) كفاية الأحكام : 125 .
(7) اللمعة الدمشقية : 94 .
(8) تحرير الأحكام : 3 / 83 ، وفيه : «جاز على إشكال» .
(9) السرائر : 2 / 478 .
(10) مختلف الشيعة : 6 / 130 مسألة 31.
(11) إيضاح الفوائد : 2 / 248 .
(12) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 106 .
(13) حاشية الإرشاد (المطبوع مع غاية المراد) : 2 / 310 .
(14) جامع المقاصد : 7 / 107 .
(15 ، 16) مسالك الأفهام : 5 / 182، الروضة البهية: 4 / 334 ـ 335.

(الصفحة91)



على التقديرين في هذا الفرض(1) ، وذهابه إلى ما ذكر إنّما هو في الفرع الآخر ((2)،(3))
ويمكن التفصيل في مثل المقام بين ما إذا كان للتقديرين جامع قريب حتّى يقال بأنّه متعلّق العقد ومورد الإجارة ، سواء كان الاختلاف بين الفردين بنحو الأقل والأكثر كما في المثال المفروض ; وهي الخياطة بدرز واحد أو بدرزين ، أو بغير هذا النحو ، وبين ما إذا لم يكن لهما جامع كذلك ، كما لو قال له : «إن خطت لي ثوباً فلك كذا» و«إن حملتني إلى مكان كذا فلك كذا» ، وأسوأ منه ما إذا لم يكن بينهما جامع أصلاً ، كما لو قال له : «آجرتك داري شهراً بكذا» أو «استأجرتك للخياطة بكذا» بنحو تكون إجارة واحدة مردّدة بين إجارة الدار واستئجاره للخياطة .
وكيف كان ، فملاحظة كلمات الأصحاب المذكورة في مفتاح الكرامة تقضي بعدم التجاوز عن قولين : الصحّة مطلقاً ، والبطلان كذلك .
إذا عرفت ماذكرنا فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني (قدس سره) صرّح بعدم معقولية هذا النحو من الإجارة ، وبأنّ الأمر في عدم المعقولية فيه أوضح من الفرع الأوّل ; لأنّ المفروض هناك تصوّر ماهية منفعة الدار من دون تعيّن بأحد التعيّنات الثلاثة ، وأمّا هنا فلا شيء حتّى يلاحظ غير متعيّن بأحد التعيّنات ، فإطلاق الإبهام عليه بمجرّد الفرض لما مرّ من أنّ كلّ واحد من طرفي الترديد قد أخذ متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن الماهوي والوجودي ، فلم يبق شيء حتّى يلاحظ بلا تعيّن ماهوي أو وجودي ، وحيث لاشيء هنا فلا يعقل أن يكون فرض الترديد مصححاً لتعلّق أيّة

(1) الخلاف : 3 / 510 مسألة 40 ، والمبسوط للسرخسي : 15 / 100 ، وتبيين الحقائق : 5 / 138 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 87 .
(2) الخلاف : 3 / 509 مسألة 39 ، والمبسوط للسرخسي : 15 / 99 ـ 100 ، وتبيين الحقائق : 5 / 138 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 87 .
(3) مفتاح الكرامة : 7/108

(الصفحة92)



صفة تعلقية بما لاثبوت له(1) .
أقول : هذه شبهة ثبوتية لو لم تدفع لما وصلت النوبة إلى مقام الإثبات وملاحظة الأدلّة ; لأنّ المحال لا يقبل التعبد شرعاً ، ولكن الظاهر إمكان دفعها بأنّ التعبير بهذه العبارة في مقام إيقاع عقد الإجارة إن كان الغرض منه كون كلا الأمرين موردين للإجارة . غاية الأمر أنّه يكفي في حصول الغرض الإتيان بواحد منهما ، ويستحقّ الأُجرة المعيّنة الواقعة بإزائه ، فلا ينبغي الإشكال فيه ; لأنّ المقام يصير حينئذ من قبيل الواجب التخييري ، الذي هو سنخ من الوجوب وطور من البعث ، ولاوجه لأن يقال : بأنّه بعدما كان كلّ واحد من طرفي الترديد مأخوذاً متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن لم يبق شيء حتّى يلاحظ بلا تعيّن ; لاندفاعه بعدم الحاجة إلى بقاء شيء ، بل كلّ واحد من الطرفين المتصف بجميع أنحاء التعيّن متّصف بأنّه مورد الإجارة ومتعلّق عقدها . غاية الأمر إنّه لا يلزم الإتيان بكليهما لما مرّ من حصول غرض المستأجر بفعل واحد منهما .
وبالجملة : إن كان الغرض تعلّق الإجارة بكلا الأمرين فلا يبقى مجال ـ لمن تصوّر الوجوب التخييري على نحو يكون كلّ واحد من الفعلين أو الأفعال متعلّقاً للوجوب ومبعوثاً إليه ـ للإشكال في صحّتها في المقام; لعدم الفرق .
نعم ، لو كان الغرض الترديد في نفس الإجارة ; بأن كان المستأجر مردّداً في أنّ الإجارة هل تتعلق بالخياطة الرومية أو بالخياطة الفارسية ؟ لكان للشبهة المذكورة مجال ولكنّ الظاهر أنّه خلاف ماهو المتعارف والواقع في الخارج ، هذا بحسب مقام الثبوت .

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 80 ـ 81 .

(الصفحة93)



وأمّا مقام الإثبات ، فالظاهر أنّه لا دليل على بطلان هذا النحو من الإجارة ، والتعليل بالجهالة كما في «العروة»(1) ممنوع ; لعدم ثبوت الجهالة هنا لا في العمل ولا في الاُجرة الواقعة بإزائه ، كما أنّ الاستناد إلى الإبهام المنافي للملكية في المعاوضات كما في «الجواهر»(2) ـ ولأجله حمل عبارة الشرائع على الجعالة ، مع أنّ الكلام إنّما هو في باب الإجارة دونها ، وظهور العبارة في نفسها في الجعالة إنّما يصحّ الاتكال عليه لو لم تكن قرينة قوية على الخلاف ـ ممنوع أيضاً ; لأنّه لا دليل على لزوم تعيّن العمل المستحق عليه ; لما أفاده سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) في حاشية العروة من أنّه لا مانع من أن يستحقّ عليه أحد العملين ، ويكون التعيين باختيار العامل ، وأيّهما فعل استحقّ ماعيّن له من الاُجرة(3) .
ودعوى أنّ المتسالم عليه بينهم هواستحقاق الأُجرة بنفس العقد ، وفي المقام أيّ شيء يستحقّه الخيّاط في المثال بنفس العقد مدفوعة ، بأنّ ما ذكروه إنّما هو في قبال بعض العامّة(4) القائل بتوقّف استحقاق الاُجرة على تماميّة العمل ، فمرادهم بذلك نفي ذلك القول ، وعليه فالخياط في المثال يستحقّ بنفس العقد الدرهم أو الدرهمين بنحو الإبهام وعدم التعيّن . وكيف كان ، فالظاهر أنّه لادليل على البطلان .
ثمّ إنّه على تقدير القول بصحّة الإجارة على تقديرين تكون الصحّة على فرض «إجارة واشتراط» ; بأن يستأجر للخياطة بدرز واحد بدرهم ، واشترط عليه أنّه إن زاد درزاً آخر يستحقّ عليه درهماً آخر بطريق أولى  .

(1) العروة الوثقى : 5 / 18 مسألة 11 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 236 .
(3) العروة الوثقى : 5 / 18 ـ 19 ، التعليقة 3 .
(4) راجع الخلاف : 3 / 489 ـ 490 مسألة 4 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 14 .

(الصفحة94)



كما أنّ الظاهر أنّه لا مانع بطريق الجعالة ، وما حكي عن العلاّمة في المختلف(1)من بطلانها لتطرّق الجهالة مدفوع بعدم كون مثل ذلك قادحاً في الجعالة .
نعم ، في صحّة الاشتراط المذكور مجال للمناقشة ; نظراً إلى أنّ الأمر المشروط إن كان ظرف الإتيان به في ضمن الوفاء بأصل العقد ، كما لو فرض أنّ زيادة الدرز الآخر المحقّق للخياطة الرومية في المثال إنّما تتحقّق قبل تمام خياطة الثوب بدرز واحد ، الذي هي الخياطة الفارسية ، بمعنى أنّ الوفاء بالعقد والعمل بمقتضى الشرط يتحقّقان في عرض واحد ، ففي هذه الصورة لاينبغي الإشكال في لزوم الوفاء بالشرط .
وأمّا لو كان ظرف الأمر المشروط واقعاً بعد مضيّ زمان الوفاء بالعقد ومتأخّراً عنه ، كما لو فرض أنّ زيادة الدرز إنّما تتحقّق بعد الفراغ عن خياطة الثوب بالخياطة الفارسية ، وكما لو فرض استئجاره على الحمل إلى فرسخ بدرهم ، واشترط عليه أنّه إن جاوزه إلى فرسخين يستحقّ درهماً آخر ، ففي مثل ذلك يمكن أن يقال : بأنّه لا دليل على لزوم الوفاء بالشرط ، نظراً إلى أنّ مايجب الوفاء به من الشروط هو الشرط الواقع في حيّز العقد المتدلّى فيه ، بحيث كان مقتضى وجوب الوفاء به وجوب الوفاء به أيضاً ، ومن المعلوم أنّ ذلك تابع للعقد ، وإذا عمل بمقتضى العقد بإيجاد الخياطة الفارسية أو الحمل إلى فرسخ يسقط وجوب الوفاء به بسبب الموافقة ، ومع سقوطه لادليل على لزوم الوفاء بالشرط بعد ذلك ; بأن كان مستحقاً لدرهم آخر على تقدير زيادة درز آخر ، أو الحمل إلى فرسخ آخر .
وهذا نظير الإشكال الذي أورده سيّدنا العلاّمة الأُستاذ (قدس سره) في مسألة اشتراط

(1) مختلف الشيعة: 6 / 130 مسألة 31.

(الصفحة95)



ضمان العين المستأجرة ممّا حاصله : أنّ اشتراط الضمان مناف لماهو الثابت عندهم من بطلان الإجارة بتلف العين المستأجرة ; لأنّ مرجع اشتراط الضمان إلى ثبوت العين مثلاً أو قيمة في عهدة المستأجر على تقدير التلف ، وفي هذا التقدير تكون الإجارة باطلة عندهم ، ومع فرض البطلان لا يبقى مجال للزوم الشرط ; لكونه تابعاً لها .
وبعبارة اُخرى قبل تلف العين لا معنى للضمان ، وبعده لا يبقى موضوع الإجارة ، فلا معنى للزوم الوفاء بالشرط في ضمنها كما في سائر العقود ، ألا ترى أنّه لو اشترطت الخياطة في ضمن عقد البيع مثلاً ، ثمّ انفسخ البيع بالتقايل أو بغيره ، فهل يجب على المشروط عليه الوفاء بالشرط بفعل الخياطة ، أم يكون وجوب الوفاء به تابعاً لوجوب الوفاء بالعقد الذي وقع الشرط في ضمنه ؟
بل ربما يكون الإشكال في المقام أقوى ، نظراً إلى أنّ هناك كان بطلان الإجارة وتحقّق المشروط وهو الضمان كلاهما مسببين عن التلف ، واقعين في عرض واحد ، وهنا يكون المعلّق عليه الاستحقاق واقعاً بعد سقوط وجوب الوفاء بالعقد بسبب الموافقة ; لأنّ المعلّق عليه عبارة عن التجاوز وإضافة الدرز الآخر ، ومن الواضح أنّ مثل هذا العنوان لايتحقّق إلاّ بعد تحقّق متعلّق الإجارة ، الموجب لسقوط أمرها .
ومن هنا يمكن إسراء هذه الشبهة إلى مالو كان كلا التقديرين موردين للإجارة ، نظراً إلى أنّه مع الإتيان بالتقدير الأقل يسقط الأمر الإجاري قهراً ، نظير الإتيان بأحد طرفي الواجب التخييري ، ومع السقوط لايبقى للتقدير الآخر مجال ، كما هو غير خفي .
ويمكن الجواب عن الإشكال في الشرط بأنّه يكفي في لزوم الوفاء بالشرط كونه

(الصفحة96)



واقعاً في حيّز العقد الذي يجب الوفاء به ، ولا يفتقر في ذلك إلى بقاء العقد .
وبعبارة اُخرى إذا كان الشرط معلّقاً على شيء آخر كما في المقام يكون مقتضىوجوب الوفاء بالعقد الذي وقع الشرط في حيزه تحقّق المعلّق عند تحقّق المعلّق عليه في ظرفه ، ولا حاجة إلى بقاء العقد حين تحقّق المعلّق ، خصوصاً لو كان من قبيل النتائج دون الأفعال ; لأنّه قبل حصول المعلّق عليه لا وجه لثبوته ، وبعد تحقّقه تترتّب عليه النتيجة قهراً . وأمّا اشتراط ضمان العين المستأجرة فسيأتي البحث فيه مفصلاً إن شاء الله تعالى(1) .
وأمّا في الإجارة على التقديرين ، فيمكن أن يقال : بأنّ مقتضى الرجوع إلى العقلاء الحكم بكون الاختيار في مقام الوفاء بيد الأجير ، فإن اختاره في ضمن الأقل يستحقّ ما يقابله ويسقط الأمر الإجاري ، وإن قصده في ضمن الإتيان بالأكثر يتوقّف سقوط الأمر المتعلّق به على ثبوته ولا يسقط قبله ، ويمكن إسراء ذلك إلى الأقل والأكثر في باب العبادات ، ونظائره كالإتيان بالصلاة جماعة بعد أدائها فرادى ، والتحقيق الزائد موكول إلى محلّه .

***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
وأمّا الفرع الثالث: الذي تعرّض له المحقّق في الشرائع(2) ; وهو ما لو قال : «إن عملت هذا العمل في اليوم فلك درهمان وفي الغد درهم» فقد استظهر فيه الجواز بعد أن تردّد ، ونسب التردّد إلى المبسوط أيضاً(3) ، مع أنّ عبارته المحكيّة هكذا : صحّ العقد فيهما ، فإن خاطه في اليوم الأوّل

(1) في ص567 ـ 601.
(2) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 110 .

(الصفحة97)



كان له الدرهم ، وإن خاطه في الغد كان له اُجرة المثل ; وهو ما بين الدرهم والنصف ، لا ينقص من النصف الذي سمّي ولا يبلغ الدرهم(1) .
وحكي ذلك عن أبي حنيفة وأنّه وجّهه ; بأنّ ذلك يجري مجرى العقدين ; لأنّ خياطة الثاني غير خياطة الأوّل ، ولو اقتصر على الأوّل كان جائزاً ، وفساد الثاني لا يفسده ، واحتجّ على فساد الثاني بأنّه موجب العقد الأوّل ; لأنّ موجبه أن يجب في الثاني اُجرة المثل(2) .
وكيف كان ، فالظاهر أنّ الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع السابق ; لأنّهما من واد واحد صحّةً وبطلاناً .
نعم ، وقع الإشكال في أنّه مع اتّحادهما في الملاك والحكم لِمَ اختار المحقّق في الشرائع الصحّة هناك من دون سبق تردّد ، وهنا اختار الجواز بعد التردّد ، وقد ذكروا في ذلك وجوهاً :
أحدها : ما في مفتاح الكرامة(3) من أنّ الفرع السابق مماثل لقوله : «آجرتك كلّ شهر بدرهم» دون هذا الفرع .
ثانيها : ما احتمله المحقّق الرشتي (رحمه الله) من استناد الفرق إلى الاختلاف في الزمان الثاني دون الأوّل ; لأنّ اختلاف الزمان في الأعمال يوجب الاختلاف في الماهية ، فيكون كقوله : «إن أسكنتني دارك سنة فلك دينار» و«إن حملتني إلى مكان كذا فلك ديناران» بخلاف «الاختلاف في كيفية

(1) المبسوط : 3 / 249 ـ 250 .
(2) مفتاح الكرامة : 7 / 107 ، وراجع الخلاف : 3 / 509 مسألة 39 ، والمبسوط للسرخسي : 15/99ـ 100 ، والهداية للمرغيناني : 3 / 276 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 87 .
(3) مفتاح الكرامة : 7 / 108 .

(الصفحة98)



الخياطة مثلاً ، فإنّ رجوعه إلى اشتراط الخصوصية في العقد أقرب(1) .
ثالثها : ما احتمله المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) من أنّ الفرع الثالث كمسألة البيع بثمنين حالاًّ ومؤجّلاً ، المعروف فيها الفساد فكذا هنا ; لأنّه من الإجارة باُجرتين حالاًّ ومؤجّلاً ، وهو وجه التردّد غير الجاري في مسألة الخياطة . ووجه استظهار الجواز أنّ إخراج البيع بثمنين عن الترديد والجهالة لا يكون إلاّ بالبيع بالأقلّ ، وشرط الزيادة في قبال الأجل ، وهو من الربا عندهم دون ما نحن فيه ، فإنّ إخراجه عن الجهالة والترديد بالإجارة بدرهم موسّعاً ، وشرط الزيادة في قبال التعجيل بإتيانه في اليوم ، وهو مغاير لتلك المسألة التي لا تصلح إلاّ بفرض الربا(2) ، انتهى . والظاهر عدم خلوّ شيء من هذه الوجوه عن المناقشة سيّما الأوّلين .
وأمّا وجه الفرق عند أبي حنيفة ، فذكر في مفتاح الكرامة أنّه يتمّ على أصله ; لأنّه يقول في مسألة الخياطة بأنّه عقد عقدين وخيّره فيهما ، والمعقود عليه في الإجارة لا يملك عنده بالعقد ، وإنّما يملك بتمام العمل ، وإذا عمله تعيّن فلا يؤدّي أنّه ملكه غير معيّن ، كما لو قال : «بعتك أحد هذين العبدين» ولا كذلك هنا ; لأنّ موجب العقد الأوّل فساد الثاني ووجوب اُجرة المثل ، كما تقدّم(3) . [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

***

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 110 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 82 .
(3) مفتاح الكرامة : 7 / 108 .

(الصفحة99)

[لو استأجر دابّةً إلى مكان معيّن في وقت معيّن فتخلّف]

مسألة  : لو استأجر دابّة من شخص لتحمله أو تحمل متاعه إلى مكان في وقت معيّن ، كأن استأجر دابّة لإيصاله إلى كربلاء يوم عرفة ولم توصله ، فإن كان ذلك لعدم سعة الوقت أو عدم إمكان الإيصال من جهة أُخرى فالإجارة باطلة ، ولو كان الزمان واسعاً ولم توصله لم يستحقّ من الاُجرة شيئاً ، سواء كان بتقصير منه أم لا ، كما لو ضلّ الطريق. ولو استأجرها على أن توصله إلى مكان معيّن لكن شرط عليه أن توصله في وقت كذا ، فتعذّر أو تخلّف، فالإجارة صحيحة بالاُجرة المعيّنة ، لكن للمستأجر خيار الفسخ من جهة تخلّف الشرط ، فإن فسخ ترجع الاُجرة المسمّـاة إلى المستأجر، ويستحقّ المؤجر أُجرة المثل1 .


1 ـ في هذه المسألة فرعان :
الأوّل : ما لو استأجر الدابّة من شخص لتحمله ، أو تحمل متاعه إلى مكان في وقت معيّن بنحو يكون الزمان مأخوذاً بنحو القيدية ، الراجعة إلى وحدة المطلوب كالمكان المأخوذ ، كأن استأجر دابة لإيصاله إلى كربلاء يوم عرفة ولم يتحقّق الإيصال خارجاً ، فتارة يكون ذلك لعدم سعة الوقت أو عدم إمكان الإيصال من جهة اُخرى ، واُخرى يكون ذلك بتقصير منه أو ضلّ الطريق ، ففي الأوّل تكون الإجارة باطلة ; لعدم كون العمل المستأجر عليه مقدوراً للأجير ، ومن شرائط الصحّة ثبوت القدرة ، وفي الثاني تكون الإجارة صحيحة ، ولكنّه حيث لم يتحقّق العمل في الخارج لايستحقّ من الاُجرة شيئاً ; لأنّ المفروض كون الإيصال في الوقت المعيّن مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب ، فلا يكون هناك استحقاق حتّى بالإضافة إلى المقدار الذي ركبها ، أو حملت متاعه ، ولو كان هو الجميع .
الثاني : ما لو كان الاستئجار المذكور بنحو يكون الزمان مأخوذاً بنحو الشرطية

(الصفحة100)



الراجعة إلى تعدّد المطلوب فتعذّر الشرط أو تخلّف، تكون الإجارة صحيحة بالاُجرة المعيّنة . نعم ، يمكن أن يقال ببطلان الشرط في صورة التعذّر المقرون بالعقد ; لأنّ من شرائط صحّة الشرط القدرة على تسليمه والعمل به ، وحينئذ إن قلنا بأنّ الشرط الفاسد مفسد مطلقاً ، ولو كان فساده لأجل جهة في نفسه غير مسرية إلى العقد كما في المقام ، تكون الإجارة باطلة أيضاً . وكيف كان ، فعلى تقدير صحّة الإجارة والشرط يثبت للمستأجر خيار الفسخ من جهة تخلّف الشرط ، فإن فسخ ترجع الأُجرة المسمّـاة إلى المستأجر ، ويستحقّ المؤجر اُجرة المثل ، كما في جميع موارد بطلان الإجارة ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .

***

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال المحقّق (رحمه الله) : ولو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن باُجرة في وقت معيّن، فإن قصّر عنه نقص من اُجرته شيئاً ، جاز . ولو شرط سقوط الاُجرة إن لم يوصله فيه ، لم يجز، وكان له اُجرة المثل(1) انتهى .
أقول : الظاهر أنّ مراده (قدس سره) من أخذ الزمان المعيّن إنّما هو الأخذ على طريق الاشتراط الذي مرجعه إلى تعدّد المطلوب لا الأخذ على سبيل التقييد ، الذي مرجعه إلى وحدة المطلوب ، وعليه فاشتراط النقص أو السقوط متفرّع على اشتراط الزمان المعيّن ، كما أنّ الظاهر انّ مراده من النقص بقرينة التعبير بالسقوط في الصورة الثانية هو السقوط أيضاً ; لظهور العبارة في كون الفرق بين الصورتين إنّما هو بالنسبة إلى تمام الاُجرة وبعضها لا في الجهات الاُخر ، وعليه فالشرط الثاني المتفرّع على

(1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
<<التالي الفهرس السابق>>