في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة241)



آخر ، ضرورة أنّ المخالف أيضاً لايرى إلاّ كون العقد بنفسه سبباً ، بل النزاع إنّما هو في أنّ المسبّب المترتّب على السبب ـ الذي هو العقد بلا فصل ـ هل هو الملكيّة الدفعيّة أو الملكيّة التدريجيّة ; لكون طرفها من الاُمور التدريجية المتصرّمة ، لا موقع لعقد مقام الإثبات والتكلّم فيه، كيفوقدعرفت أنّ ملكيّة الاُجرة عند المخالف تتحقّق بنفس العقد كما حكاه عنه في الخلاف في عبارته المتقدّمة(1) ، فلا وجه للتفكيك إلاّ من جهة الشبهة في قابلية المنفعة للملكية ، كالاُجرة من دون أن يكون نقص في ذات السبب أو في سببيته ، ومع اندفاع الشبهة تتم المسألة بلا إشكال .
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التمسّك بالأدلّة اللفظية ، إنمّا هو لأجل احتمال استحالة تأثير عقد الإجارة في حصول الملكيّة من جهة اُخرى غير الشبهة المتقدّمة ، نظراً إلى أنّه يكفي لدفع هذا الاحتمال التمسّك بالعموم أو الإطلاق ; لأنّه مع وجوب الوفاء بالعقد يستكشف عدم الاستحالة ، فمن مقام الإثبات يعلم حال مقام الثبوت ، وأنّه لا امتناع من هذه الجهة . هذا ، ولكن لا يخفى أنّ هذا النحو من التمسّك على تقدير صحّته والغض عمّا فيه من عدم الإمكان للزوم الدور لا يكون مقصوداً لهم بوجه ـ كما يظهر لمن لاحظ كلماتهم ـ فالإنصاف أنّ عقد مقام الإثبات في مثل المقام ممّا لايترتّب عليه فائدة أصلاً .
ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ الملكيّة الدفعية الحاصلة بالإضافة إلى المنفعة بمجرّد العقد هل هي ملكيّة مستقرّة أو متزلزلة ؟ وقد صرّح سيّد الأساطين في العروة بأنّ ملكيّة الأُجرة متزلزلة ، وأنّ استقرارها يتوقّف على استيفاء المنفعة أو إتمام العمل أو ما بحكمه ، وأنّه لو حصل مانع عن الاستيفاء أو عن العمل تنفسخ

(1) في ص235 .

(الصفحة242)



الإجارة(1) . ولكن ظاهره ـ خصوصاً بملاحظة صدر كلامه الدالّ على أنّ المستأجر يملك المنفعة بنفس العقد ـ أنّ ملكيّة المنفعة المتحقّقة بالعقد ملكيّة مستقرّة غير متزلزلة ، وبالجملة لم ينقل عن أحد دعوى التزلزل في ملكيّة المنفعة ، وسنعترض على كلام العروة بعدم كون ملكيّة الأُجرة أيضاً متزلزلة ، وأنّه على تقدير صحّة ذلك في الأُجرة لا يكون فرق بينها وبين المنفعة بوجه .
الأمر الثاني : تملك الأُجرة بنفس العقد من غير توقّف على شيء آخر ، كما هو مقتضى سببيّته وعدم اشتراطه بشيء آخر كالقبض في بيع الصرف ، وهذا ممّا لاخلاف ولا إشكال فيه عندنا معاشر الإمامية ، بلا فرق في ذلك بين شرط التأجيل وعدمه ، خلافاً لما ينسب إلى ظاهر القواعد من الفرق بين الصورتين ، ولكنّه بعد المراجعة إليها لم يظهر لي صحّة هذه النسبة ; لأنّه ذكر في موضع منها أنّ المؤجر يملك الأُجرة بنفس العقد ، وعقّبه بقوله : فإن شرط الأجل لزم(2) . ومن الواضح أنّ لزوم شرط الأجل لا يلازم توقّف ملكيّة الأُجرة على انقضائه ، بل غايته توقّف استحقاق المطالبة عليه .
وذكر بعد سطرين أنّه إن سلّمت العين التي وقعت الإجارة عليها ومضت المدّة وهي مقبوضة إستقرّ الأجر ، وإن لم ينتفع(3) . ومن الواضح أيضاً أنّ هذا الكلام لادلالة فيه على الفرق بين الصورتين ، بل غايته الدلالة على أنّ استقرار الأُجرة بمضي المدّة لا يتوقّف على استيفاء المنفعة والانتفاع بالعين المستأجرة ، وبالجملة فالظاهر أنّ هذه النسبة لم تقع في محلّها .

(1) العروة الوثقى : 5 / 37 .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 285 .
(3) قواعد الأحكام : 2 / 285 .

(الصفحة243)



نعم ، خالفنا في هذا الحكم أهل الخلاف ، حيث ذهب مالك إلى أنّ الأُجرة تستحق جزءاً فجزءاً بقدر مايقبض في المنفعة(1) ، وقد عرفت ذهاب أبي حنيفة إلى الفرق بين الأُجرة والمنفعة(2) . نعم ، وافقنا الشافعي في الحكم بأنّ الأُجرة والمنفعة تملكان بنفس العقد من دون توقّف على شيء(3) .
ومبنى قولي أبي حنيفة ومالك ما مرّ من أنّ المنافع معدومة والمعدوم لايملك ، وحيث إنّها تدريجية الوجود فالملكية أيضاً كذلك .
ويرد عليهما ما تقدّم أيضاً من أنّ الملكيّة لا تكون من الاُمور الحقيقية التي تفتقر إلى موضوع محقق موجود في الخارج ، بل هي أمر اعتباريّ قابل لأن يتعلّق بالمنفعة التي هي من الاُمور التدريجية التي يوجد جزء منها وينعدم ثمّ يوجد جزء آخر وينعدم وهكذا ، مضافاً إلى ما عرفت في تعريف الإجارة من أنّ تمليك المنفعة لايكون داخلاً في حقيقة الإجارة ، بل هي عبارة عن إضافة خاصّة في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر معتبرة عند العقلاء ، وهذه الإضافة تستتبع ملكيّة المنفعة ، لا أنّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليكها(4) .
ثمّ إنّ الملكيّة الحاصلة بالعقد هل هي ملكيّة مستقرّة أو متزلزلة ؟ وجهان ، وقد مرّ تصريح صاحب العروة بالثاني .
ويرد عليه : أنّ المراد بالملكية المتزلزلة في المقام هل هو ما كان ناقصاً من حيث المقتضي ; بمعنى مالم يتحقّق سببه التامّ ، غاية الأمر حصول مرتبة من الملكيّة

(1) بداية المجتهد : 2 / 228 ، جواهر الإكليل : 2 / 185 ، الخلاف : 3 / 490 مسألة 4 .
(2) في ص235 .
(3) الاُمّ : 4 / 25 و27 ، مغني المحتاج : 2 / 334 ، الخلاف : 3 / 489 مسألة 3 .
(4) تقدّم في ص9 ـ 10 .

(الصفحة244)



بحصول ماهو سبب لتلك المرتبة ، أو أنّ المراد بها ما كان تامّاً من حيث المقتضي ، غاية الأمر إمكان زوال الملكيّة بعروض بعض العوارض ؟
لا مجال للأوّل ، لأنّه ـ مضافاً إلى كونه مخالفاً للفتاوي ـ مخالف لما صرّح به في أوّل كلامه(1) ; من أنّ مقتضى سببيّة العقود ملكيّة المؤجر الأُجرة بنفس العقد ; إذ المراد بالسببية هي السببيّة التامّة كما هو واضح ، كما أنّه لا مجال للثاني ; لأنّ إمكان زوال الملكيّة بسبب عروض بعض العوارض لا يوجب اتّصاف الملكيّة بالتزلزل ; لوضوح أنّ انفساخ الإجارة لأجل حصول المانع عن استيفاء المنفعة لا يوجب أن تكون الملكيّة متزلزلة .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لم يعرف وجه للفرق بين المنفعة والأُجرة ، حيث صرّح في أوّل كلامه بأنّ المستأجر يملك المنفعة بنفس العقد ، وظاهره الملكيّة المستقرّة ، فأيّ فرق بين المنفعة والاُجرة من هذه الحيثية ، خصوصاً مع كون الموجب لتزلزل الثاني هو حصول المانع عن استيفاء الأوّل كانهدام الدار ونحوه .
ودعوى أنّ الفرق كون المنفعة أمراً غير متحقّق ، بل تدريجي يوجد جزء منه وينعدم ثمّ يوجد جزء آخر كذلك كما عرفت ، مدفوعة ـ مضافاً إلى أنّ هذا الفرق ليس بفارق فيما هو المهمّ ـ بأنّه يمكن أن تكون الأُجرة أيضاً كذلك كما لايخفى . فانقدح أنّ ملكيّة الأُجرة الحاصلة بالعقد ملكيّة مستقرّة غير متزلزلة بوجه .
الأمر الثالث : أنّ ملكيّة المنفعة وكذا الأُجرة وإن كان سببها نفس العقد ، إلاّ أنّه ليس لكلّ من المالكين مطالبة ما ملكه إلاّ بتسليم ما ملّكه ، ويجوز امتناع كلّ من

(1) العروة الوثقى : 5 / 36 ـ 37 .

(الصفحة245)



المؤجر والمستأجر من تسليم ما انتقل عنه إلى الآخر حتّى يتسلّم ما انتقل إليه .
وبعبارة اُخرى حق الحبس ثابت له، والعمدة في ذلك أنّ بناء العقلاء في باب المعاوضات هو الالتزام بالتسليم بإزاء التسليم ، وبالتسليط العملي بحذاء التسليط العملي ، وإلاّ فمقتضى ثبوت الملكيّة بنفس العقد وسلطان المالك على ماله عدم جواز الامتناع ولومع امتناع الآخر ; لأنّ عصيان الغير لا يسوّغ عصيان الشخص . ولعلّ من تمسّك بقاعدة بطلان الترجيح من غير مرجّح ـ نظراً إلى عدم ترجيح لأحد المتعاوضين على الآخر، وذلك يقتضي التقارن في التسليم والتسلّم ـ يكون نظره إلى ماهو البناء للعقلاء في باب المعاوضات ، وإلاّ فكلّ منهما مكلّف بالوفاء بالعقد ، ومخالفة أحدهما لا تسوّغ عصيان الآخر، وليس ذلك ترجيحاً حتّى يكون بلامرجّح ، فتدبّر.

***

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال في الشرائع : ويجب تعجيلها ـ أي الاُجرة ـ مع الإطلاق ومع اشتراط التعجيل ، ولو شرط التأجيل صحّ بشرط أن يكون معلوماً، وكذا لو شرطها في نجوم(1) ، انتهى.
والظاهر أنّه ليس المراد من التعجيل المشترط هو التعجيل إعطاء الاُجرة قبل أخذ العين أو تسلّم العمل ، بل المراد به هو التعجيل الذي حكم بوجوبه في صورة الإطلاق أيضاً ، وهو عدم تأخّر دفع الاُجرة عن تسليم العين ، ومن هنا يصحّ أن يقال : بأنّ هذا الشرط مؤكّد صرف لا يزيد استحقاقاً عمّا يقتضيه الإطلاق . نعم يورث خيار تخلّف الشرط . نعم ،

(1) شرائع الإسلام : 2 / 180 .

(الصفحة246)



اشتراط التعجيل بالمعنى الأوّل الذي مرجعه إلى اشتراط كون دفع الاُجرة مقدّماً على قبض العين أو تسلّم العمل يكون حكمه حكم اشتراط التأجيل الذي هو عكسه ; لأنّ مرجع كليهما إلى اشتراط عدم التقارن في التقابض ، إمّا لأجل تقدّم دفع الاُجرة ، أو لأجل تأخّره ، وحينئذ يقع الكلام في صحّة هذا الاشتراط وعدمها .
فنقول : منشأ الإشكال في صحّة هذا الشرط إمّا دعوى كونه مخالفاً لكتاب الله ، نظراً إلى أنّ وجوب التقارن في مقام التسليم والتسلّم حكم إلهيّ مكتوب ، وإمّا دعوى كونه مخالفاً لمقتضيات العقد ، كما نفى البُعد عن وهمها المحقّق الرشتي (رحمه الله)(1) ، لولا الإجماع المحكي عن الغنية(2)والتذكرة(3) ، المعتضد بنفي الخلاف في محكي المبسوط(4) والتنقيح(5) ، نظراً إلى مبناه من أنّ أمثال هذا من منافيات مقتضيات ماهية العقد ، والظاهر عدم تماميّة كلتا الدعويين .
أمّا الاُولى : فلأنّه لم يقم دليل شرعي على وجوب التقارن في مقام القبض ، وقد عرفت أنّ دليل سلطنة الناس على أموالهم(6) لا يدلّ على أزيد من حرمة منع المالك عن ماله والامتناع عن تسليم ماله إليه، وهذا يقتضي وجوب الدفع إليه ، وإن امتنع هو عن التسليم ; لأنّ عصيانه لا يسوّغ عصيانه ، فدليل السلطنة أجنبيّ عن إفادة لزوم المقارنة ، فشرط الخلاف لا

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 85 .
(2) غنية النزوع : 286 .
(3) تذكرة الفقهاء : 2 / 294 .
(4) المبسوط : 3 / 223 .
(5) لم نعثر عليه فيه ، لكن نفى الخلاف في التذكرة : 2 / 292 ورياض المسائل : 6 / 22ـ23 .
(6) عوالي اللئالي : 1 / 222 ح9 ، بحار الأنوار : 2 / 272 ح7 ، نهج الحق وكشف الصدق : 494 ـ 495 .

(الصفحة247)



يكون مخالفاً لكتاب الله .
وأمّا الثانية : فلأنّ مقتضى العقد بملاحظة أنّ بناء العقلاء في باب المعاوضات على التسليم والتسلّم المتقارنين وإن كان هو التقارن ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا الاقتضاء إنّما هو في صورة الإطلاق وعدم اشتراط الخلاف .
وبعبارة اُخرى مقتضى الإطلاق ذلك ، لا أنّه مقتضى نفس العقد وماهيّته مطلقاً ، ولذا ترى أنّ اشتراط تأجيل الثمن في البيع ممّا لا ريب فيه ، مع أنّ دعوى خروجه بنحو التخصيص يدفعها إباء مثل ذلك عن التخصيص .
وكيف يمكن أن يدّعى أنّ الإجماع مثلاً انعقد على جواز اشتراط ما يخالف مقتضى العقل في بعض الموارد ، كما هو ظاهر .
هذا ، ويمكن المناقشة فيما ذكرنا أيضاً من كون التقارن مقتضى إطلاق العقد نظراً إلى أنّ التقارن لا يرتبط بالعقد ، بل غاية مقتضاه هو التسليم حين التسلّم وعدم الفصل بينهما ، وأمّا التقارن بينهما الموجب لنفي تحقّق عنوان الابتداء وصدقه على عمل واحد منهما فلا يكون من مقتضيات العقد ، بل هو مقتضى قاعدة بطلان الترجيح من غير مرجّح ، فاشتراط عدمه لا يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد أصلاً . اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ مرجع اشتراط التعجيل أو التأجيل ليس إلى اشتراط عدم التقارن بعنوانه ، بل مرجعهما إلى اشتراط الفصل بين التسليم والتسلّم ، وقد عرفت أنّ ذلك مخالف لمقتضى إطلاق العقد .
نعم ، لو تعلّق الغرض إلى نفي عنوان التقارن وحصول الابتداء من طرف المشترط عليه من دون تحقّق الفصل لكان ذلك أجنبيّاً عن باب

(الصفحة248)



المخالفة لمقتضى العقد رأساً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ اشتراط التعجيل أو التأجيل مشمول لعموم دليل الشرط(1) ويجب الوفاء به .
ثمّ إنّه لا إشكال في اعتبار كون الأجل المشترط مضبوطاً ، والكلام يقع تارةً في مانعيّة الجهالة عن نفوذالشرط ، واُخرى في فساد الإجارة باشتراط الأجل المجهول.
أمّا الأوّل : فذكر المحقّق الإصفهاني (رحمه الله): أنّه مبنيّ على صحّة ما أرسله الشهيد (رحمه الله)من نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الغرر(2) ، مضافاً إلى دعوى انصرافه إلى الالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل ، دون مثل الشرط الذي هو التزام ضمنيّ تبعيّ ، خصوصاً إذا لم يكن متعلّقه مالاً ، فإنّه لا غرر فيه ولا خطر من حيث عدم ذهاب ماله هدراً ، بل فيما إذا كان مالاً أيضاً لا غرر ; لأنّه غير مقابل بالمال ليذهب هدراً بذهاب مقابله ، وليس مجرّد عدم وصول المال المشترط خطراً وضرراً . نعم ، إن عمّمنا الخطر والضرر إلى نقض الغرض المعاملي فوقوعه مع الجهل في نقض غرضه الواقع موقع الالتزام وقوع في الخطر والضرر(3) ، انتهى كلامه (رحمه الله) .
ويرد عليه : أنّه على تقدير صحّة مرسلة الشهيد (رحمه الله) ، ومنع دعوى الانصراف المذكورة لا دلالة في الرواية على عدم نفوذ الشرط المتّصف

(1) راجع وسائل الشيعة : 18 / 16 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب6 وج21 / 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب20 ذح4 ، ومستدرك الوسائل : 13 / 300 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب5 .
(2) القواعد والفوائد : 2 / 61 ، كذا أرسله الشهيد الثاني في مسالك الأفهام : 5 / 178ـ 179 ، وقد تقدّم البحث فيه في ص23 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 52 .

(الصفحة249)



بالجهالة ; لما عرفت سابقاً(1) من أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة ، بل هو عبارة عن الخطر والتعرّض للمهلكة ، وحينئذ يكون النهي عنه نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة ، نظير قوله تعالى : {وَلاَ تُلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَهلُكَةِ}(2) .
نعم ، يمكن التمسّك بالنهي عن بيع الغرر(3) بناءً على دعوى إلغاء الخصوصية والحكم بكون البيع مذكوراً لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات ، وعلى عدم كون الخصوصية الملغاة منحصرة بالالتزامات المعاملية المستقلّة في التحصّل ، بل يشمل مثل الشرط الذي هو التزام تبعي غير مستقلّ ، وذلك لأنّ دلالة النهي حينئذ على الفساد بعد تعلّقه بالمعاملة غير قابلة للخدشة ، كما لا يخفى .
وأمّا الثاني : فذكر المحقّق المذكور فيه ما ملخّصه : أنّ الشرط تارةً بمعنى التقييد ، واُخرى بمعنى الالتزام في ضمن الالتزام ، أمّا إذا كان بمعنى التقييد و ورد العقد على المقيّد فلا محالة يكون أحد العوضين غرريّاً بذاته ، وإذا ورد التقييد على أحد العوضين كما في التوصيف فلا غرر في ذات أحد العوضين ، بل في شأن من شؤونه ، وعلى أيّ تقدير فشرط الأجل ليس كذلك ; لعدم تحدّد الأعيان بالزمان ، فلا معنى للدينار المؤجّل .
وأمّا إذا كان بمعنى الالتزام فجهالة الملتزم به ليست جهالة في أحد العوضين بذاتهما ولا بوصفهما ، والبيع ليس إلاّ تمليك عين بعوض ، فمع

(1) في ص23 .
(2) سورة البقرة 2 : 195 .
(3) تقدّم تخريجه مفصّلاً في ص22 .

(الصفحة250)



انحفاظهما وعدم ذهابهما هدراً لا معنى لسراية الغرر إلى البيع بما هو بيع ، وليس الملتزم به في قبال أحد العوضين ولو لُبّاً حتّى يتحقّق الخطر بملاحظة ما يقابله . نعم ، إذا اُريد من الخطر في البيع الخطر في الإقدام المعاملي البيعي فالبيع الخاصّ المشتمل على الشرط المجهول خطريّ وإن لم يكن ذات البيع خطريّاً(1) ، انتهى ملخّصاً .
والإنصاف أنّه لابدّ من ملاحظة تحقّق الغرر والخطر عند العقلاء ; إذ ليست دائرة الغرر عند الشرع بأوسع من دائرته عند العقلاء ، وإلاّ لكان اللاّزم عدم الاقتصار على مجرّد نهي واحد عن بيع الغرر بعد كون المعاملات الغرريّة عند الشارع ـ الغير الغرريّة عند العقلاء ، بناءً على الاختلاف ـ رائجة في السوق متداولة بين الناس ، إذ في أمثال هذه الموارد لا يكاد يمكن أن يتحقّق الردع على فرضه بمجرّد صدور نهي واحد كما هو واضح ، وحينئذ فالمدار على العرف ولابدّ من الرجوع إليه . [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].

***


(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 52 ـ 53 .

(الصفحة251)

[ما يتحقّق به تسليم المنفعة والعمل]

مسألة  : لو تعلّقت الإجارة بالعين فتسليم منفعتها بتسليم العين . وأمّا تسليم العمل فيما إذا تعلّقت بالنفس فبإتمامه إذا كان مثل الصلاة والصوم والحجّ وحفر بئر في دار المستأجر ، وأمثال ذلك ممّا لم يكن متعلّقاً بماله الذي بيد المؤجر ، فقبل إتمام العمل لا يستحقّ الأجير مطالبة الأُجرة، وبعده لا يجوز للمستأجر المماطلة . نعم ، لو كان شرط منهما على تأدية الأُجرة كلاًّ أو بعضاً قبل العمل صريحاً أو ضمنيّاً ـ كما إذا كانت عادة تقتضي التزام المستأجر بذلك ـ كان هو المتّبع . وأمّا إذا كان متعلّقاً بمال من المستأجر بيد المؤجر ـ كالثوب يخيطه، والخاتم يصوغه وأمثال ذلك ـ ففي كون تسليمه بإتمام العمل كالأوّل ، أو بتسليم مورد العمل كالثوب والخاتم وجهان بل قولان ، أقواهما الأوّل . فعلى هذا لو تلف الثوب مثلاً بعد تمام العمل على نحو لا ضمان عليه، لا شيء عليه ويستحقّ مطالبة الأُجرة . نعم ، لو تلف مضموناً عليه ضمنه بوصف المخيطية لا بقيمته قبلها على أيّ حال حتّى على الوجه الثاني ; لكون الوصف مملوكاً له تبعاً للعين ، وبعد الخروج عن عهدة الموصوف مع وصفه تكون له المطالبة بالأُجرة المسمّـاة لتسليم العمل ببدله 1 .



1 ـ لا خلاف ولا إشكال في أنّ التسليم من طرف المؤجر في إجارة الأعيان يتحقّق بتسليم العين ويحصل له بذلك حقّ مطالبة الأُجرة ، ولا يتوقّف على انقضاء مدّة الإجارة فضلاً عن الاستيفاء فيها ، إنّما الإشكال في التسليم الموجب لثبوت استحقاق مطالبة الأُجرة في باب الإجارة على الأعمال ، والتحقيق أنّ فيه إحتمالات أربعة :


(الصفحة252)



الأوّل : عدم الفرق بينها وبين إجارة الأعيان ، فكما أنّ المؤجر هناك يستحقّ مطالبة الاُجرة بتسليم نفس العين ، ولا يتوقّف الاستحقاق على انقضاء مدّة الإجارة ولا على استيفاء المنفعة ، كذلك الأجير هنا يستحقّ مطالبتها بتسليم نفسه للعمل وإن لم يعمل بعد ، بل ولا اشتغل به ; لعدم وضوح فرق بين المقامين وعدم ثبوت فارق في البين . ودعوى أنّه يمكن أن يقبض الاُجرة ولا يشتغل بالعمل أو لا يتمّه ، مدفوعة بثبوت مثل هذا الاحتمال بناءً على القول بتوقّف الاستحقاق على العمل بالنسبة إلى المستأجر ، فإنّه يمكن أن يمتنع من تسليم الاُجرة بعد فراغ الأجير من إتمام العمل ، كما هو ظاهر .
الثاني : ثبوت الفرق بين إجارة الأعيان والإجارة على الأعمال ، وأنّ التسليم يتحقّق في الاُولى بتسليم العين ، وفي الثانية لا يستحقّ الأجير مطالبة الأُجرة إلاّ بعد العمل ، والظاهر أنّ هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وقد حكي عن الرياض أنّه نفى الإشكال والتأمّل عن أنّه ليس للعامل الامتناع من العمل حتّى يقبض(1) . وقال في مفتاح الكرامة في ذيل قول العلاّمة : لكن لا يجب تسليمها ـ يعني الأُجرةـ إلاّ بعد العمل : «كأنّه ممّا لاخلاف فيه كما في مجمع البرهان(2) ، وفي موضع آخر منه(3) أنّه إجماعيّ وهو كذلك ; لأنّ كتب الأصحاب بين مصرّح فيه بذلك كالكتاب(4) والتنقيح(5) وجامع المقاصد(6)

(1) كذا في كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 83 ، ولكن لم نعثر عليه في الرياض .
(2) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 16 ـ 17 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 47 ـ 48 .
(4) قواعد الأحكام : 2 / 285 .
(5) التنقيح الرائع : 2 / 262 .
(6) جامع المقاصد : 7 / 111 .

(الصفحة253)



والروضة(1) والمسالك(2) ، وبين ماهو قضيته ذلك الجارية مجرى التصريح» . ثمّ قال في مقام بيان الفرق : «ولعلّ الفرق بينه وبين العين أنّ الواجب على المؤجر في الثاني إنّما هو تسليمها وقد حصل ، وليس عليه أن ينتفع بها باستعمالها وإمضاء الزمان لأنّهما غير مقدورين له ، ولا كذلك العمل فإنّه مقدور له، فليعمل ثمّ يأخذ حقّه فتأمّل(3) .
ويمكن أن يستدلّ للفرق ـ مضافاً إلى هذا الوجه الاعتباري الذي ذكره صاحب المفتاح ـ بقوله تعالى : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(4) الظاهر في تأخّر وجوب إيتاء أجر المطلّقات المرضعات للأزواج عن الإرضاع فلا يجب قبله . وبالنبويّ : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة :  . . . ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره . . .(5) . وبما استدلّ به في الحدائق(6) ممّا رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الجمّال والأجير ، قال (عليه السلام) : لايجفّ عرقه حتّى تعطيه اُجرته(7) . ومن رواية شعيب قال : تكارينا لأبي عبدالله (عليه السلام)قوماً يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر ، فلمّا فرغوا قال

(1) الروضة البهية : 4 / 333 .
(2) مسالك الأفهام : 5 / 179 .
(3) مفتاح الكرامة : 7 / 116 .
(4) سورة الطلاق 65 : 6 .
(5) عوالي اللئالي : 3 / 253 ح3 ، مستدرك الوسائل : 14 / 31 ، أبواب كتاب الإجارة ب5 ح8 ، صحيح البخاري : 3 / 68 ح2270 .
(6) الحدائق الناضرة : 21 / 573 .
(7) الكافي : 5 / 289 ح2 ، التهذيب 7 : 211 ح929 ، وسائل الشيعة : 19 / 106 ، كتاب الإجارة ب4 ح1 .

(الصفحة254)



لمعتب : أعطهم اُجورهم قبل أن يجفّ عرقهم(1) . مضافاً إلى ما احتمله في مفتاح الكرامة(2) من الاستناد لعدم وجوب التسليم قبل العمل بالأصل .
هذا ، ويرد على الوجه الاعتباري أنّ مقدورية العمل للأجير لا توجب تأخّر استحقاقه عن إتمامه ، ولا تكون فارقة بين الإجارة على الأعمال وبين إجارة الأعيان ، ولعلّه لذا أمر في المفتاح بالتأمّل .
وعلى الاستدلال بالآية الشريفة أنّه لم يعلم كون الآية بصدد إفادة تأخّر وجوب إيتاء الأجر عن الإرضاع ، بل الظاهر كون النظر فيها إلى إفادة أصل الوجوب ، وأنّه لا يجوز الإخلال بأجر المطلّقات بعد إرضاعهنّ لأولاد الأزواج ، وعلى تقدير كون المراد إفادة الوجوب عقيب الإرضاع يكون الغرض النهي والزجر عن التأخير ، لا إفادة عدم الوجوب قبل تحقّق العمل بتمامه .
ثمّ إن الآية تدلّ على أنّ المترتّب على تماميّة العمل هو وجوب الإيتاء ، والمدّعى هو تأخّر استحقاق المطالبة عنه ، فلا تطابق بينهما ، مضافاً إلى أنّ ترتّب الوجوب على الإرضاع لا ينافي ثبوته قبل تماميته إذا انضم إليه المطالبة ; لعدم امتناع قيام شرط آخر مقامه على ما حقّقناه في محلّه من أنّ غاية مفاد الجملة الشرطية كون الشرط علّة تامّة لترتّب الجزاء ، وأمّا كونه علة منحصرة فلا ، وحينئذ لا مانع من قيام شرط آخر مقام الإرضاع ، وهو الاشتغال به مثلاً مع انضمام المطالبة والبحث في المقام أيضاً إنّما هو صورة المطالبة ، كما هو غير خفي .
وأمّا الروايات ، فيرد على الاستدلال بها أنّ غاية مفادها النهي عن تأخير

(1) الكافي : 5 / 289 ح3 ، التهذيب 7 : 211 ح930 ، وسائل الشيعة : 19 / 106 ، كتاب الإجارة ب4 ح2 .
(2) مفتاح الكرامة : 7 / 116 .

(الصفحة255)



إعطاء الأجر عن جفاف العرق وعدم إعطائه قبله ، ولا دلالة فيها على توقّف استحقاق مطالبة الأُجرة على تماميّة العمل والفراغ منه ، بل هنا رواية يمكن الاستشعار بها على ثبوت حق المطالبة قبل الاشتغال بالعمل ، وهي رواية هارون بن حمزة الغنوي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ التي رواها المشائخ الثلاثة ـ قال : سألته عن رجل استأجر أجيراً فلم يأمن أحدهما صاحبه ، فوضع الأجر على يدي رجل فهلك ذلك الرجل ولم يدع وفاء واستهلك الأجر ، فقال : المستأجر ضامن لأجر الأجير حتّى يقضي ، إلاّ أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك فرضي به ، فإن فعل فحقّه حيث وضعه ورضي به(1) .
وكيف كان ، فلم تنهض هذه الوجوه لإثبات ما هو المشهور من الفرق بين الإجارتين . وأمّا الأصل الذي احتمل الاستناد إليه في مفتاح الكرامة ، فإن كان المراد منه هو استصحاب عدم وجوب تسليم الأُجرة قبل إتمام العمل فذلك لا يثبت توقّف تسليم العمل على إتمامه ، وإن كان المراد هو استصحاب عدم تحقّق التسليم قبل إتمام العمل فهذا الاستصحاب غير جار ; لأنّه كاستصحاب بقاء النهار فيما إذا كان مفهومه مشكوكاً مردّداً بين الغروب وزوال الحمرة المشرقية ، كما لا يخفى .
الثالث : أن يقال : بأنّ كلّ جزء من العمل يكون له أُجرة بنظر العرف يستحقّ الأجير بعد الفراغ منه مايقع بحذائه من الأُجرة المسمّـاة ، فكما يكون العمل متدرّجاً يكون استحقاق مطالبة الأُجرة أيضاً كذلك بالنسبة .

(1) الكافي : 7 / 431 ح17 ، الفقيه : 3 / 107 ح445 ، التهذيب : 6 / 289 ح801 ، وسائل الشيعة : 19/109 ، كتاب الإجارة ب 6 ح1 .

(الصفحة256)



الرابع : أن يقال : إنّه ليس للأجير أن يمتنع من الشروع في العمل والاشتغال به حتّى يقبض الأُجرة ، بل لابدّ له الاشتغال . غاية الأمر أنّ الجزء الأخير الذي به يتحقّق الفراغ له أن يمتنع من الإتيان به حتّى يقبض الأُجرة قضيةً لحقّ المعاوضة ، فكما أنّ المستأجر له حقّ الحبس بالنسبة إلى تمام الأُجرة كذلك الأجير له حقّ الحبس بعدم إتيان الجزء الأخير .
ويمكن أن يقال في المقام: بأنّه هل يكون في الإجارة على الأعمال عين مستأجرة ، مضافاً إلى الأجير والمستأجر كما في إجارة الأعيان . غاية الأمر أنّ العين هناك تغاير المؤجر ولها وجود مستقل ، سواء كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً غير ناطق أو ناطقاً إذا كان عبداً ، وهنا تكون العين نفس الأجير غير مغايرة معه ، أو أنّه لا حاجة في الإجارة على الأعمال إلى أزيد من تحقّق عنواني الأجير والمستأجر ولا حاجة إلى ثبوت العين المستأجرة ؟
فعلى الأوّل لا يرى فرق بين الإجارتين أصلاً ولا وجه للتفصيل بينهما بتوقّف استحقاق المطالبة على تماميّة العمل في إجارة الأعمال ، وعدم التوقّف على انقضاء مدّة الإجارة واستيفاء المنفعة في إجارة الأعيان ، فأيّ فرق من هذه الجهة بين استئجار المرأة للرضاع وبين استئجارها للإرضاع . نعم ، يرد على هذا الوجه أنّه على تقدير ثبوت العين المستأجرة لايجوز للأجير التسبيب ، بل يجب عليه أن يعمل بالمباشرة ولو لم تشترط ، مع أنّ الظاهر أنّهم لا يقولون بذلك ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى  .
وعلى الثاني الذي مرجعه إلى ثبوت الأُجرة في مقابل ما في ذمّة الأجير من العمل لايتحقّق التسليم إلاّ بتحقّق العمل، ولا يستحقّ مطالبة الأُجرة إلاّ بعد تسليم العمل كما هو ظاهر .


(الصفحة257)



هذا ، والظاهر هو الاحتمال الثاني الذي ذهب إليه المشهور ; لأنّه ـ مضافاً إلى كونه مطابقاً لفتوى المشهور ، بل المجمع عليه ـ كما ادّعي على ما مرّ ـ وإلى استبعاد وجود العين المستأجرة في إجارة الأبدان كما في إجارة الأعيان ـ يدلّ عليه أنّ مجرّد تسليم الأجير نفسه للعمل من دون أن يتحقّق منه شيء لا يوجب حدوث أمر جديد بعد الإجارة بالإضافة إلى المستأجر ، بخلاف تسليم العين في إجارة الأعيان ، فلابدّ من الشروع في العمل ، بل من إتمامه ليتحقّق ماهو الغرض من الإجارة ، كما لا يخفى .
وأمّا التفصيل في الإجارة على الأعمال بالنحو الذي اُشير إليه في المتن فمنشؤه ما حكي عن المبسوط ، حيث قال ـ في أثناء كلام له في مسألة التلف ـ : «إن كان العمل في ملك الصانع لا يستحقّ الأُجرة حتّى يسلّم ، وإن كان في ملك المستأجر استحق الأُجرة بنفس العمل»(1) .
والظاهر من هذه العبارة أنّه إن كان العمل ممّاله أثر في مال المستأجر كالخياطة التي لها أثر في ثوبه يستحقّ الأجير الأُجرة بنفس العمل ، ولا يتوقّف استحقاقه على تسليم الأثر المتوقف على تسليم ما فيه الأثر وهو الثوب ، وأمّا إن لم يكن العمل له أثر في مال المستأجر ، بل كان في مال العامل وملكه فاستحقاق مطالبة الأُجرة موقوف على تسليمه . والظاهر إجمال هذه الصورة ; لأنّ العمل الذي لم يكن له أثر في مال المستأجر تارةً يكون مثل الصلاة والحجّ والزيارة ونظائرها واُخرى مثل الحمل بنفسه أو بدابّته إلى مكان كذا ، ففي الأوّل لا يكاد يتحقّق الانفكاك بين الفراغ عن العمل وتماميّته وبين التسليم ، وعليه فإن كان المراد بقوله : حتّى يسلّم ،

(1) اُنظر المبسوط : 3 / 242 ـ 243 ، والحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة : 7 / 117 .

(الصفحة258)



هو الفراغ من العمل وإتمامه فلم يبق فرق بين الصورتين . وإن كان المراد به توقّف الاستحقاق على التسليم المتوقف على شيء آخر بعد الفراغ عن العمل فمن الواضح أنّه ليس هنا شيء يتوقّف الاستحقاق عليه ويتحقّق به التسليم .
وفي الثاني الذي هو عبارة عن مثل حمل المتاع إن كان الاستئجار لمجرّد الحمل إلى ذلك المكان لا يتوقّف استحقاق الأُجرة على التسليم ، ولا فرق بينه وبين الفرض الثاني كما لايخفى .
ويظهر من الجواهر ـ حيث فسرّ عبارة الشرائع ، حيث قال : «ويستحقّ الأجير الأُجرة بنفس العمل ، سواء كان في ملكه أو ملك المستأجر ، ومنهم من فرّق ، ولايتوقّف تسليم أحدهما على الآخر»(1) بأنّ المراد من قوله : «في ملكه» هو كالثوب يخيطه في بيته(2)ـ أنّ ملك الصانع وكذا ملك المستأجر ظرف مكان للعمل المستأجر عليه ، لا أنّه مورده ومتعلّقه ، وعليه فيصير مراد الشيخ (قدس سره) أنّ خياطة الثوب مثلاً إن وقعت في ملك الصانع كبيته أو دكانه يتوقّف استحقاق مطالبة الأُجرة على تسليم الثوب ، وإن وقعت في ملك المستأجر كداره مثلاً لا يتوقّف الاستحقاق على ذلك ، بل يستحقّها بنفس العمل ، ولعلّ الوجه فيه عدم الافتقار إلى التسليم في الفرض الثاني بعد عدم خروج الثوب عن تحت استيلائه وكونه بعد في سلطانه ، فكأنّ التسليم حاصل ، وهذا بخلاف الفرض الأوّل ، فإنّ الثوب في حال الخياطة وكذا بعدها قبل التسليم يكون تحت استيلاء الأجير .
ويظهر من جامع المقاصد في شرح عبارة القواعد وجوب التسليم مطلقاً ، حيث

(1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 237 .

(الصفحة259)



فسّر قول العلاّمة فيها بعد الحكم بعدم وجوب تسليم الأُجرة إلاّ بعد العمل : «وهل يشترط تسليمه الأقرب ذلك»(1) بأنّه هل يشترط تسليم ذلك العمل إلى المستأجر في وجوب تسليم الأُجرة الأقرب ذلك ، واستدلّ عليه بأنّه معاوضة فيجب التقابض ، وفرّع عليه أنّه يجوز للعامل الحبس(2) ، وقد اعترض عليه مفتاح الكرامة بعدم كونه متّجهاً ، لا باعتبار الدليل ولا التفريع ولا بالنسبة إلى غير الأقرب وقد بيّن وجه كلّ واحد من الاُمور الثلاثة، فراجع(3) .
وبالجملة : فظاهر جامع المقاصد وجوب التسليم مطلقاً ، ولذا اعترض على كلام الشيخ في المبسوط بأنّه ليس بشيء ; لأنّه لا يتحقّق التسليم إلاّ أن يصير في يد المستأجر .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة : القول بالاستحقاق بمجرّد الفراغ عن العمل مطلقاً ـ كما اختاره الشرائع وجمع آخر(4) ـ والقول بلزوم التسليم مطلقاً كما اختاره جامع المقاصد وفسّر به عبارة القواعد ، والتفصيل بين ما إذا كان في ملكه وما إذا كان في ملك المستأجر ، كما تدلّ عليه عبارة المبسوط .
والتحقيق في المقام يقتضي ملاحظة ماهو محلّ البحث والكلام ليتّضح الصحيح عن سقيم المرام ، فنقول وعلى الله الاتكال وبه الاعتصام : قد وقع الخلط والاشتباه في كلمات جماعة من الأعلام ، والذي ينبغي أن يقال : إنّ البحث في هذه المسألة إنّما هو بعد الفراغ عن عدّة مسائل مذكورة فيما سبق ، وهي أنّ عقد الإجارة يؤثّر في

(1) قواعد الأحكام : 2 / 285 .
(2) جامع المقاصد : 7 / 112 .
(3) مفتاح الكرامة : 7 / 117 ـ 118 .
(4) كالعلاّمة في إرشاد الأذهان : 1 / 424 ، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 47 .

(الصفحة260)



حصول الملكيّة للطرفين ملكيّة مستقرّة ، خلافاً لصاحب العروة على ما مرّ(1) .
غاية الأمر أنّ استحقاق المطالبة إنّما يتوقّف على التسليم ، وقد عرفت أنّ التسليم في إجارة الأعيان إنّما يتحقّق بتسليم نفس العين(2) ، وأنّ به يستحقّ المؤجر مطالبة الاُجرة ، وأمّا في الأبدان فالمشهور أنّ التسليم فيها يتحقّق بتماميّة العمل ، وأنّه لا يثبت استحقاق المطالبة للاُجرة قبل إكمال العمل ، وعليه فما يمكن أن يقع محلاًّ للبحث هنا هو أنّ استحقاق مطالبة الأُجرة هل يتوقّف على شيء آخر زائد على إتيان العمل ، الذي هو مورد الإجارة ، كتسليم مورد العمل ومتعلّقه إلى المستأجر ، أو لا يتوقّف إلاّ على نفس الوفاء بعقد الإجارة ، الذي يتحقّق بإتيان متعلّقه الذي هي الخياطة في المثال المفروض ؟
وعليه فما أصرَّ عليه في الجواهر ـ من إثبات أنّ متعلّق الإجارة في المثال هي نفس فعل الخياطة ، وأنّه ليس في يد الأجير إلاّ الثوب الذي هو للمستأجر مع صفته ، ولا شيء منهما مورد عقد الإجارة حتّى يجري عليه حكم المعاوضة ، إذ موردها إنّما هو العمل الذي تولّد منه الصفة المزبورة وتسليمه إيقاعه ; لأنّ تسليم كلّ شيء بحسب حاله ـ كأنّه في غير المحلّ ; إذ لم يدع أحد أنّ متعلّق الإجارة أمر زائد على فعل الخياطة ، بل مرجع ادّعائه إلى توقّف الاستحقاق على شيء زائد على متعلّق الإجارة ، وهو تسليم الثوب مثلاً .
وهذا وإن لم يساعده دليل إلاّ أنّ القائل به يمكن أن يستند إلى أنّ بناء العقلاء في مثل هذا النحو من الإجارة على عدم ثبوت الاستحقاق قبل تسليم الثوب المخيط إلى المستأجر مطلقاً ، أو في خصوص ما إذا خاطه في بيته على

(1) في ص241 .
(2) في ص252.
<<التالي الفهرس السابق>>