في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة381)



بالإبطال بالإضافة إلى الزائد مع أنّه مقصود ، ومن البعيد أن يحكم الشارع بحصول ما ليس بمقصود للمتعاقدين قهراً عليهما ، كما لا يخفى ، وعليه فيتعيّن الاحتمال الثاني الذي مرجعه إلى فساد المعاملة من رأس .
ويرد على ما أفاده في دفع احتمال الحرمة التكليفية : أنّ الموضوع للحرمة ليس هي الاُجرة حتّى لا يجتمع الحكم بالانتقال مع حرمة التصرّف ، بل الموضوع لها هي نفس المعاملة وهي الإجارة بالأكثر ، فلا منافاة بين الحرمة وبين الحكم بالانتقال ; لأنّ المحرّم هو إيجاد المعاملة الكذائية ، فإذا أوجدها تصحّ وتؤثِّر في الانتقال ويترتّب عليه جواز التصرّف في الاُجرة بما شاء .
ويرد على ما أفاده في دفع الاحتمال الثالث : أنّ الشارع لم يجبر المؤجر على إيجاد هذه المعاملة . غاية الأمر أنّه حكم بأنّه على تقدير إيجادها لا تؤثّر إلاّ في انتقال ما يساوي الاُجرة السابقة ، وهذا ليس ببعيد وله نظائر ، مثل ما إذا باع ما لا يملك مع ما يملك ، فإنّ الحكم فيه صحّة المعاملة بالنسبة إلى ما يملك فقط ، كما قرّر في محلّه .
والتحقيق في هذا المقام أن يقال : إنّ لسان الروايات الواردة في هذه المسألة مختلف ، فبعضها يدلّ على النهي عن الإيجار بالأكثر، أو على أنّه ليس له ذلك، كما في رواية المرعى المتقدّمة ، وبعضها يدلّ على حرمة الفضل .
أمّا ما يدلّ على النهي عن الإيجار ، فظاهره أنّ النهي فيه إرشاد إلى فساد المعاملة ، ومسوق لبيان اشتراط صحّة الإجارة الثانية بعدم كون اُجرتها أكثر من اُجرة الإجارة السابقة ، كما في نظائره من النواهي المتعلّقة بشيء من عناوين المعاملات المشتملة على خصوصية زائدة ، بل النواهي المتعلّقة بالعبادات كذلك ، كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه ونظائره(1) .

(1) وسائل الشيعة : 4 / 345 ـ 347 ، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب2 .

(الصفحة382)



نعم ، الذي يبعّد ذلك في خصوص المقام ما ورد في الرحى من التعبير بكراهة الإيجار بالأكثر ; لأنّها ظاهرة في الحكم التكليفي كما عرفت ، اللّهم إلاّ أن يقال بعدم ثبوت الملازمة بين العناوين من هذه الجهة ، خصوصاً في مثل المقام الذي يكون الحكم فيه تعبّداً محضاً ، وعليه يمكن أن يكون الحكم في الرحى الكراهة تكليفاً وفي غيرها البطلان بناءً على الحرمة ، فتدبّر .
وأمّا ما يدلّ على حرمة الفضل ، فإن كان المراد منه هي المعاملة المشتملة على الفضل كما نفينا البُعد عنه فيما سبق ، فالظاهر حينئذ أنّ المراد به هي الحرمة التكليفيّة لظهور مادّة الحرام في ذلك ، وإطلاقه على الحرمة الوضعية إنّما هو بنحو المسامحة والتجوّز .
وعليه : فلابدّ من الالتزام بالتفصيل بين العناوين التي ورد فيها هذا التعبيرـ كالبيت والحانوت والأجير ـ وغيرها ممّا لم يرد فيها ذلك كسائر العناوين ، بالحكم بالحرمة التكليفيّة فيها وبالحرمة الوضعيّة في غيرها ، وهو وإن لم يكن بعيداً بالنظر إلى الروايات إلاّ أنّه بعيد بالإضافة إلى الفتاوى ، كما لا يخفى .
وإن كان المراد منه هو نفس الفضل والزيادة فالظاهر أنّ الحكم بالحرمة إنّما هو لأجل عدم انتقال الفضل إليه ; لأنّه لا يجتمع الحكم بالانتقال مع الحكم بحرمة التصرّف الظاهر في حرمة الجميع ، إلاّ أن يقال : إنّ التعبير بالفضل ظاهر في صحّة المعاملة ومفروغيّة التأثير في الانتقال ، وهو كما ترى .


(الصفحة383)

[لو تقبّل عملا واستأجر آخر لهذا العمل]

مسألة  : لو تقبّل عملاً من غير اشتراط المباشرة ولا مع الانصراف إليها يجوز أن يستأجر غيره لذلك العمل بتلك الاُجرة وبالأكثر . وأمّا بالأقلّ فلا يجوز إلاّ إذا أحدث حدثاً أو أتى ببعض العمل ولو قليلاً ، كما إذا تقبّل خياطة ثوب بدرهم ففصّله أو خاط منه شيئاً ولو قليلاً، فلا بأس باستئجار غيره على خياطته بالأقلّ ولو بعُشر درهم أو ثمنه ، لكن في جواز دفع متعلّق العمل وكذا العين المستأجرة إليه بدون الإذن إشكال ، وإن لا يخلو من وجه1 .


1 ـ أقول : الكلام في الأجير يقع في مقامين :
الأوّل : إجارة المستأجر الأجير من الآخر بالأكثر .
الثاني : تقبيل الأجير عملاً تقبّله بأقلّ ممّا تقبّله .
أمّا الأوّل : فقد وردت فيه ثلاث روايات تدلّ على أنّ فضل الأجير حرام، وقد تقدّم نقلها في المسألة السابقة(1) ، والظاهر أنّ إضافة الفضل إلى الأجير من إضافة المصدر إلى المفعول ، لوروده في سياق البيت والحانوت . وربما يقال ـ كما حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) ـ  : إنّ هذه الروايات مطلقة شاملة لكلا المقامين ، ولازمه كون المصدر مضافاً إلى المفعول والفاعل معاً ، وهو لو لم يكن مستحيلاً لافتقاره إلى لحاظين مستقلّين لكان خروجه عن طريق المحاورة العقلائية ممّا لا ينبغي الريب فيه .
وبالجملة : فالظاهر ورود هذه الروايات في المقام الأوّل ، وإن كان يمكن توجيه الإطلاق فيها بأنّ المراد من فضل الأجير هو الفضل الناشئ من قِبل الأجير ، إمّا

(1) في ص350 و 352.

(الصفحة384)



بأن يؤجره بالأكثر، أو يستأجره بالأقلّ ، وهذا لا يحتاج إلى لحاظين ; لاشتراك المقامين في عنوان فضل الأجير ، فتدبّر .
وكيف كان ، فعلى تقدير ورودها في المقام الأوّل لابدّ من الالتزام بثبوت الحرمة مطلقاً ، لعدم ثبوت المعارض لها في هذا المقام ، لا بنحو الإطلاق ولا بنحو التفصيل ، كما أنّه لابدّ من التزام بكون الحرمة الثابتة في المقام هي الحرمة التكليفية ; لما عرفت من ظهور مادّة الحرام في ذلك ، وأنّ استعمالها في الحرمة الوضعية تجوّز وتسامح .
أمّا المقام الثاني : فقد وردت فيه روايات ظاهرة في الحرمة مع عدم الإحداث :
منها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) أنّه سئل عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر فيربح فيه ؟ قال : لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئاً(1) . ولا خفاء في ظهور الرواية في نفسها في الحرمة ، وأنّ كلمة «لا» للنهي عن مورد السؤال ، فاحتمال كونها لنفي الصلاح خلاف الظاهر ، إلاّ أن تقوم قرينة عليه ، فالرواية تدلّ بالمنطوق على الحرمة مع عدم العمل ، وعدمها معه .
ومنها : رواية محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر يربح فيه ؟ قال : لا(2) .
وحكي عن الحلّي في السرائر(3) والعلاّمة في التذكرة(4) أنّهما نقلا هذه الرواية مع إثبات لفظ البأس بعد كلمة لا ، ولكن حيث إنّهما نقلاها عن التهذيب على

(1) الكافي : 5 / 273 ح1 ، وسائل الشيعة : 19 / 132 ، كتاب الإجارة ب23 ح1 .
(2) التهذيب : 7 / 210 ح923 ، وسائل الشيعة : 19 / 133 ، كتاب الإجارة ب23 ح4 .
(3) السرائر : 2 / 466 .
(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 291 .

(الصفحة385)



ما حكي(1) ، وهو خال عن هذه الزيادة فلا عبرة بنقلهما ، وكون المثبت مقدّماً على النافي لا يجري في هذا المقام ; لأنّ الاعتبار في الرواية إنّما هو بالكتاب المعدّ لنقل الروايات دون الكتب الموضوعة لغيره ، مع أنّك عرفت أنّهما نقلاها عن التهذيب وهو خال عنها . هذا ، مضافاً الى أنّ الغالب على الظنّ اتّحاد هذه الرواية مع الرواية السابقة وأنّ السائل فيها الذي ذكر مجهولاً إنّما هو أبو حمزة المذكور في الرواية الثانية ، وعليه فلا معنى لثبوت لفظ البأس; لعدم صحّة استثناء صورة العمل من نفي البأس ، كما هو واضح .
ومنها : رواية أبي محمّد الخيّاط ، عن مُجَمِّع قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أتقبّل الثياب أخيطها ثمّ أُعطيها الغلمان بالثلثين ، فقال : أليس تعمل فيها ؟ فقلت : أقطعها وأشتري لها الخيوط ، قال : لا بأس(2) . فإنّه يدلّ بمفهومه على ثبوت البأس مع عدم العمل ، وهو وإن لم يكن بمجرّده ظاهراً في الحرمة إلاّ أنّ ما تقدّم من الروايات يصلح قرينة لإرادة الحرمة من البأس .
ومثلها رواية محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل الخيّاط يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ؟ قال : لا بأس ، قد عمل فيه(3) . فإنّ قوله (عليه السلام) : «قد عمل فيه» بمنزلة التعليل للحكم بنفي البأس ، فيدلّ على ثبوته مع عدم العمل ، وبقرينة دليل الحرمة يحمل عليها . وفي قبال هذه الروايات روايتان :
إحداهما : رواية عليّ الصائغ قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أتقبّل العمل ثمّ اُقبّله

(1) الحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة : 7 / 129 ، وبحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 278 .
(2) التهذيب : 7 / 211 ح926 ، وسائل الشيعة : 19 / 133 ، كتاب الإجارة ب23 ح6 .
(3) التهذيب : 7 / 210 ح924 ، وسائل الشيعة : 19 / 133 ، كتاب الإجارة ب23 ح5 .

(الصفحة386)



من غلمان يعملون معي بالثلثين ، فقال : لا يصلح ذلك إلاّ أن تعالج معهم فيه ، قال : قلت  : فإنّي اُذيبه لهم ، فقال : ذلك عمل فلا بأس(1) . بناءً على ظهور لا يصلح في الكراهة .
وثانيتهما : رواية الحكم الخيّاط قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أتقبّل الثوب بدراهم واُسلّمه بأكثر (أقلّ خل) من ذلك لا أزيد على أن أشقّه ، قال : لا بأس به ، ثمّ قال : لا بأس فيما تقبّلته من عمل قد استفضلت فيه(2) ، أو ثمّ استفضلت فيه بناءً على نقل الشيخ ، والظاهر أنّ الكليّة المذكورة في الذيل مطلقة مسوقة لإفادة نفي البأس ، سواء عمل فيه أم لم يعمل .
أقول : أمّا الرواية الاُولى ، فهي لا تنافي الروايات المتقدّمة الظاهرة في الحرمة بعد إرجاع بعضها ببعض ; لمنع دعوى كون «لايصلح» ظاهراً في الكراهة ، بل لو لم نقل بظهوره في الحرمة ـ نظراً إلى أنّ نفي الصلاح ظاهر في ثبوت المفسدة وهو ظاهر في الحرمة ـ فلا أقلّ من عدم ظهوره في شيء منهما ، بل صلاحيته لكليهما ، وعليه فتصلح الروايات المتقدّمة الظاهرة في الحرمة للقرينيّة على أنّ المراد منه هي الحرمة ، كما هو ظاهر .
وأمّا الرواية الثانية ، فقد قال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في مقام إفادة عدم المنافاة بينها وبين الروايات المتقدّمة : تارةً أنّه يحتمل أن تكون الكليّة المذكورة في الذيل مسوقة لإفادة التعميم في مثل الفرض المذكور في كلام السائل ، الذي هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب . واُخرى أنّه على فرض الإطلاق والشمول لما إذا

(1) التهذيب : 7 / 211 ح927 ، وسائل الشيعة : 19 / 134 ، كتاب الإجارة ب23 ح7 .
(2) الكافي : 5 / 274 ح2 ، التهذيب : 7 / 210 ح925 ، وسائل الشيعة : 19 / 132 ، كتاب الإجارة ب23 ح2 .

(الصفحة387)



لم يعمل ، يكون مقتضى القاعدة في مقام الجمع بينها وبين الروايات المتقدّمة حمل المطلق على المقيّد ، فلا تصل النوبة إلى حمل الظاهر على النصّ ، بملاحظة أنّ أدلّة المنع ظاهرة في المنع ، وقوله (عليه السلام) : «لا بأس» نصّ في الجواز(1) ، وأنت خبير بعدم تماميّة شيء من الأمرين :
أمّا الأمر الأوّل : فلأن هذا الاحتمال مستبعد جدّاً ، فإنّه لا يكاد يتوهّم الاختصاص بمورد السؤال حتّى يحتاج إلى دفعه بذكر الكليّة ، سيّما مع عدم ابتلاء السائل غالباً بغير الثوب الذي هو مورد سؤاله ، فهذا الاحتمال بعيد في الغاية . ودعوى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب صورة العمل ، فلا وجه لدعوى الإطلاق بعد عدم ثبوت مقدّماته ، مدفوعة بأنّ القدر المتيقن القادح في انعقاد الإطلاق هو ما كان موجباً لانصراف الإطلاق إليه ، بحيث لايكاد يفهم من الإطلاق إلاّ ذلك المقدار ، وأمّا في غير هذه الصورة فوجود القدر المتيقّن لا يضرّ بالإطلاق ، بل ربما يؤيّد انعقاده . ألا ترى أنّه لو قال المولى : أكرم الرجل العالم عقيب سؤال العبد عن وجوب إكرام الرجل العالم العادل ، لكان عدوله عن التقييد بالعدالة وإيجاب إكرام الرجل العالم دليلاً على عدم مدخليّة العدالة ، وأنّ ما توهّمه العبد من المدخلية لا يكون له وجه عند المولى ، فتقييد السؤال به مع عدم ذكره في الجواب يؤيّد عدم المدخلية ، والظاهر أنّ المقام من هذا القبيل .
وأمّا الأمر الثاني : فلأنّه على فرض الإطلاق كما هو الظاهر لا مجال هنا لحمل المطلق على المقيّد ، توضيحه : إنّ وجوب حمل المطلق على المقيّد والحكم بتقدّم دليل القيد على دليل المطلق لا يكون حكماً مدلولاً عليه بآية أو رواية ، بل الوجه

(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 279 .

(الصفحة388)



في الحمل أنّ ظهور المطلق حيث كان مستفاداً من فعل المتكلّم العالم المختار الحكيم ، نظراً إلى أنّه إذا كان في مقام البيان ولم يأت بما هو الزائد على المطلق مع كونه مختاراً في ذلك ، لكان هذا دليلاً على عدم مدخلية شيء آخر في موضوع حكمه ، وإلاّ كان عليه أن يأتي به ، وأمّا ظهور دليل القيد في المدخلية فهو ظهور لفظي مستفاد من مثل أخذ القيد في موضوع الحكم ، وهذا الظهور عند العقلاء مقدّم على ظهور المطلق ، لكن هذا فيما لو لم يكن المطلق مسوقاً لإفادة نفي ذلك القيد ـ بأن كان إجمال الحكم معلوماً مع قطع النظر عنه ـ وسيق الإطلاق لإفادة عدم دخالة القيد الذي تحتمل دخالته كما في المقام ، فإنّ ذكر الكليّة في الذيل مع الحكم بنفي البأس قبلها بالنسبة إلى مورد السؤال إنّما هو لإفادة عدم دخالة قيد العمل المأخوذ في السؤال ، وأنّ الحكم مطلق وإلاّ يلزم التكرار مع إيهام الخلاف من جهة عدم التعرّض لبعض خصوصيّات مورد السؤال ، كما لا يخفى .
ومعه كيف يمكن رفع اليد عن هذا الإطلاق بالحمل على المقيّد ، بل لابدّ من إبقائه على حاله وجعله قرينة على أنّ المراد بالنهي الوارد في الروايات المتقدّمة ليس هو الحرمة بل الكراهة ; لأنّ ظهور النهي في الحرمة معلّق على عدم الحجّة على خلافها ، ومثل هذا الإطلاق الآبي عن التقييد من أقوى الحجج على خلافها ، ويؤيّد ذلك التعبير بقوله (عليه السلام) : «لا يصلح» في رواية عليّ الصائغ بناءً على عدم ظهوره في شيء من الكراهة والحرمة بخصوصهما ، ومفهوم قوله (عليه السلام) : «لابأس» في رواية أبي محمّد الخيّاط ، عن مُجَمِّع المتقدّمة ، ورواية محمّد بن مسلم الأخيرة ، حيث إنّه لا ظهور فيها أيضاً في الحرمة .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه مع قطع النظر عن رواية الحكم لكان مفاد الروايات ومقتضى الجمع بينها هي الحرمة ، وأمّا مع ملاحظتها فلا محيص من

(الصفحة389)



الحمل على الكراهة ، ولعلّ ما ذكرنا هو الوجه في تفكيك الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ـ على ما حكاه تلميذه المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) ـ بين المقام وبين الدار والحانوت ، حيث اختار هناك الحرمة وهنا الكراهة ، وليس الوجه فيه هو دعوى ظهور نفي الصلاحية في الكراهة ، وخبر الحلّي والعلاّمة المتقدّم(2) حتّى يرد عليه اعتراض التلميذ بأنّ التفكيك مع بُعده في نفسه يكون فاسد المستند ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الروايات الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الأوّل الدالّة على حرمة فضله خالية عن استثناء صورة الإحداث رأساً كما عرفت ، وأمّا النصوص الواردة في الأجير بالنسبة إلى المقام الثاني فهي مشتملة على استثناء صورة العمل ، فترتفع الحرمة أو الكراهة بالعمل ، وهل يكتفى في تحقّق العمل في الثوب الذي تسلّمه للخياطة بمثل اشتراء الخيط والإبرة كما اختاره صاحب العروة(3) أم لا ؟ الظاهر هو الوجه الثاني ; لأنّ ما يدلّ على أنّ اشتراء الخيوط عمل قد ضمّ إليه القطع والفصل ، ومن الواضح أنّ العمدة في تحقّق العمل هو القطع لا اشتراء الخيوط ، فهو بمجرّده لا دليل على الاكتفاء به . نعم ، قد صرّح في رواية عليّ الصائغ بأنّ إذابة الذهب والفضّة عمل .
وأمّا اختلاف جنس الاُجرة ، فقال صاحب الجواهر (قدس سره) : إنّه لم يذكر أحد هنا ـ أي الأجير بالمعنى الثاني ـ الجواز باختلاف الجنس . نعم ، عن التذكرة(4) أنّه حكى

(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 327 .
(2) في ص384.
(3) العروة الوثقى : 5 / 79 مسألة 2 .
(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 291 .

(الصفحة390)



عن الشيخ (قدس سره) عدم الجواز مع اتّحاد الجنس إلاّ أن يعمل فيه شيئاً ، ولم نتحققه(1) .
أقول : الوجه في عدم ذكر الجواز مع الاختلاف هنا أنّ الروايات الواردة في هذه المسألة الدالّة على النهي تحريماً أو تنزيهاً يكون موضوعها عنوان الربح ، ومن المعلوم أنّ تحقّقه لا يتوقّف على اتّحاد الجنس كما في أرباح التجارات المتعلّقة للخمس . نعم ، في إحدى روايتي محمّد بن مسلم المتقدمتين وقع عنوان الاستفضال مورداً للسؤال ، وعليه فيمكن أن يتوهّم أنّ الجواب بنفي البأس بضميمة قوله (عليه السلام) : «قد عمل فيه» ما يدلّ بمفهومه على أنّ البأس الثابت مع عدم العمل مورده الاستفضال الظاهر في اتّحاد الجنس ، لعدم الفرق بينه وبين عنوان الأكثرية كما عرفت ، ولعلّ هذا هو الوجه فيما حكي عن الشيخ (قدس سره) ، ولكن تجاوز هذا عن حدّ التوهّم ممنوع .
ثمّ إنّ المنساق من النصوص والفتاوى الواردة في الأجير بالمعنى الثاني أنّ محلّ البحث هو العمل في العين ، كخياطة الثوب وصياغة الخاتم ونحوهما ، أمّا لو تقبّل العمل الصرف غير المتعلّق بالعين كالصوم والصلاة بناءً على صحّة الاستئجار لمثلهما ، فهل يجري فيه ذلك الحكم تحريماً أو تنزيهاً ، أو يكون حكمه على وفق القاعدة المقتضية للجواز كما عرفت في صدر المسألة السابقة؟ وجهان ، قال في الجواهر بعد اختيار الوجه الثاني : اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذكر بعض لوازم العمل في العين لا يقتضي تقييد ذلك به ، وحينئذ يعتبر في جواز تقبيله بالأقلّ عمل شيء منه(2) .

(1) جواهر الكلام : 27 / 319 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 319 .

(الصفحة391)



أقول : إن كان المراد أنّ ذكر بعض تلك اللوازم لا يقتضي تقييد ما ورد مطلقاً ففيه : أنّه ليس في روايات المسألة ما يدلّ بإطلاقه على ذلك كما يظهر بملاحظتها ، وإن كان المراد أنّه لا يرى العرف للمورد خصوصية ففيه : منع ذلك في مثل المقام من الأحكام التعبّدية المخالفة للقاعدة ، فالأقوى هو الوجه الثاني ، وإن استشكل فيه صاحب العروة(1) أيضاً .
ثمّ إنّ التقبيل في العمل في العين وإن كان حكمه ما ذكرنا ، إلاّ أنّ جواز تسليم العين إلى الأجير الثاني وكذا العين المستأجرة في المسألة السابقة محلّ إشكال ، وإن كان يمكن أن يقال : بأنّ عدم اشتراط المباشرة ولا ثبوت انصراف بالإضافة إليها مرجعه إلى جواز التسليم لثبوت الإذن في ضمن الإجارة الاُولى ، كما لا يخفى .

***

[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
وقد جرت عادتهم هنا على التعرّض لحال إجارة المستأجر العين المستأجرة من مستأجر آخر مؤجراً كان أو غيره ، ونحن أيضاً نتعرّض لها ونقول : في هذه المسألة جهات من الكلام :
الجهة الاُولى : في أنّه هل يجوز للمستأجر أن يؤجر العين من المؤجر أو غيره أو لا يجوز ؟ وقد نفى الخلاف في الجواز صاحب الجواهر ، بل قال : إنّ الإجماع بقسميه عليه(2) ، ونفى الإشكال في الجواز المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)(3) ، واُضيف في الجواهر إلى هذا عموم الوفاء

(1) العروة الوثقى : 5 / 80 مسألة 2 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 257 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 108 .

(الصفحة392)



بالعقود ، وعمومات الإجارة ، وقاعدة التسلّط ، والنصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في الأرض والدابّة والسفينة وغيرها ، الدالّة على عدم جواز إجارتها بأكثر ممّا استأجرها به .
أقول : أمّا عموم الوفاء بالعقود فالتمسّك به مبنيّ على كون مفاده صحّة كلّ عقد أو مع اللزوم أيضاً ، وأمّا لو كان مفاده اللزوم فيما ثبتت صحّته من دليل آخر فلا  مجال للتمسّك به في مثل المقام ، وأمّا عمومات الإجارة فلم نقف على عموم واحد في باب الإجارة فضلاً عن العمومات ، وأمّا قاعدة التسلّط فالظاهر أنّه ليس مفادها بيان ثبوت التسلّط للناس في أموالهم بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى يصحّ التمسّك بها في الموارد المشكوكة كالمقام ونظائره ; لأنّ اللاّزم على هذا أن تكون أدلّة التصرّفات الممنوعة شرعاً مخصّصة لدليل القاعدة كما لا يخفى ، بل الظاهر أنّ مفادها مجرّد عدم جواز مزاحمة الغير مع المالك ، مضافاً إلى أنّ اعتبار دليلها غير معلوم .
وأمّا النصوص ، فاستفادة صحّة الإجارة الثانية منها بنحو المفروغيّة ممّا لا ينبغي الارتياب فيها ، إلاّ أنّ غاية مفادها الصحّة بنحو الإجمال ، فلو احتمل مدخليّة شيء في الصحّة كإذن المالك مثلاً لا مجال لنفي احتمال دخالته بهذه النصوص ، كما هو غير خفيّ ، وحينئذ فاللاّزم الرجوع إلى أصالة الفساد مع عدم وجود ذلك الشيء ، إلاّ أن يتمسّك لنفي اعتباره بأدلّة البراءة كما ذكرناه سابقاً ; نظراً إلى تقدّمها على الاستصحاب هنا ، لجريانها في الشكّ السببي ، وكون الشكّ الذي هو مجرى الاستصحاب مسبّبيّاً.


(الصفحة393)



ثمّ إنّه حكي الخلاف في هذه الجهة عن الشافعي(1) ، حيث منع عن الجواز فيما إذا كان المستأجر الثاني هو المؤجر الأوّل ، نظراً إلى أنّ المؤجر يملك المنفعة بالتبعية ، فلامجال لتملّكه لها بسبب آخر ، وفساد هذا الدليل غنيّ عن البيان . نعم ، فيما إذا كانت العين المستأجرة دابّة قد قيّد الجواز في بعض الكلمات بما إذا كانت الإجارة الثانية مماثلة للإجارة الاُولى من حيث المنفعة أو أضعف منها ، فلا تجوز إجارة الدابّة المستأجرة بالأثقل ، والأمر فيه سهل .
الجهة الثانية : في أنّه هل يجوز تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر الثاني من دون مراجعة المالك والاستئذان منه ، فلا يضمن المستأجر الأوّل لو هلك من دون تعدٍّ وتفريط ، أو لا يجوز التسليم من دون إذنه فيضمن بمجرّد التسليم بدونه ، أو يفصّل بين ما إذا كان المستأجر الثاني أميناً وبين ما إذا لم يكن كذلك ؟ وجوه بل أقوال . نسب الأوّل إلى الأشهر والأكثر(2) ، والثاني إلى النهاية(3) والسرائر(4) وجامع المقاصد(5) والقواعد(6) ، واختاره صاحب الجواهر (قدس سره)(7) ، ولكن قيل : إنّ ما نسب إلى النهاية والسرائر لا أصل له ; لأنّ كلامهما في تسليم الأجير العين التي يعمل فيها إلى الأجير الثاني لا في تسليم المستأجر العين

(1) تذكرة الفقهاء : 2 / 290 ، الخلاف : 3 / 494 مسألة 11 ، المغني لابن قدامة : 6 / 54 ، الشرح الكبير : 6/40 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 123 ، كتاب الإجارة للآشتياني : 243 .
(3) النهاية : 446 .
(4) السرائر: 2 / 465 ـ 467.
(5) جامع المقاصد : 7 / 124 ـ 125 .
(6) قواعد الأحكام : 2 / 287 .
(7) جواهر الكلام : 27 / 257 ـ 258 .

(الصفحة394)



المستأجرة(1) . وكيف كان ، فقد نسب الثالث إلى ابن الجنيد(2) .
وليعلم أنّ محلّ البحث هنا إنّما هو بعد الفراغ عن عدم ضمان المستأجر الأوّل للعين مع عدم التعدّي والتفريط مع قطع النظر عن الإجارة الثانية ، كما أنّ محلّ النزاع فيما لو كان تلفه في يد المستأجر الثاني من دون تعدّ منه أو تفريط ، وحينئذ فيقع الكلام في أنّ مجرّد التسليم إلى المستأجر الثاني من دون إذن المالك هل يكون جائزاً ، فلا ضمان لعدم موجبه ، أو لا يكون جائزاً فيضمن بسببه ، لصيرورته مع عدم الجواز متعدّياً ، أو في المسألة تفصيل ؟ كما عرفت عن ابن الجنيد .
إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه قد استدلّ للقول الأوّل بوجوه :
منها : أنّ التسليم من مقتضيات عقد الإجارة وضروريّاته ، لتوقّف استيفاء المنفعة عليه ، فإذا جاز للمستأجر أن يؤجر جاز له تسليم العين ، وبتقريب آخر إذن المالك في الإجارة الثانية مستلزم للإذن في التسليم ; لأنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه ، والفرق بين التقريبين أنّ منشأ الحكم بعدم الضمان في التقريب الأوّل حكم الشارع بجواز الإجارة الثانية ، الملازم عرفاً للحكم بعدم الضمان مع التسليم ; لأنّه من لوازمها ، وفي التقريب الثاني يكون المنشأ هو إذن المالك في التسليم المستفاد من إذنه في الإجارة الثانية ; لأنّ التسليم من مقتضيات الإجارة ولواحقها .
واُجيب عن هذا الوجه بوجوه عمدتها وجهان : واحد منهما ناظر إلى التقريبين ، والآخر إلى التقريب الأوّل .
أمّا الأوّل : فهو ما أفاده صاحب الجواهر(3) وتبعه بعض

(1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 124 .
(2) حكى عنه في مختلف الشيعة : 6 / 115 مسألة 12 .
(3) جواهر الكلام : 27 / 258 .

(الصفحة395)



المحقّقين(1) من أنّ استيفاء المنفعة لا يتوقّف على استقلال المستوفي في اليد الذي يتوقّف على التسليم ; لإمكان الاستيفاء مع عدم ثبوت استيلاء له على العين ، بل كان المستولي هو المستأجر الأوّل ، ففي الحقيقة ما هو من مقتضيات عقد الإجارة هو استيفاء المستأجر المنفعة دون استيلائه على العين ، وحينئذ فلا يكون التسليم من لوازم الإجارة حتّى يستكشف جوازه من جوازها ، أو الإذن فيه من الإذن فيها .
وأمّا الثاني : فهو ما أفاده المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) من أنّ جواز التسليم بل وجوبه المساوق للاستيلاء لا ينافي الضمان ، فإنّ المنافي للضمان هو الائتمان ووجوب التسليم غير وجوب التأمين ، فيجب التسليم بما له من الحكم(2) .
وقد اعترض على الجواب الأوّل المحقّق الرشتي (رحمه الله) أوّلاً : بالنقض بالإجارة الاُولى ; لأنّ مقتضى الجواب عدم استحقاق المستأجر الأوّل التسليم أيضاً ، ولم يقل به أحد . وثانياً : بأنّ المقدّمة تتبع لذيها في الإطلاق والتقييد ، فإذا ملك المنفعة من دون شرط المباشرة لزم سقوطها في الاستيفاء ، وإذا جاز الاستيفاء من دون مباشرة جاز له تسليم العين إلى المباشر(3) .
والجواب عن الاعتراض بالنقض واضح ، ضرورة أنّ القائل بعدم استحقاق المستأجر التسليم نظراً إلى إمكان الاستيفاء بدونه لا يفرّق بين الإجارتين ; إذ لاخصوصيّة للإجارة الثانية من هذه الجهة أصلاً .
وأمّا عن الاعتراض الثاني أنّ جواز الاستيفاء من دون مباشرة ـ الذي

(1) العروة الوثقى : 5 / 75 ، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 124 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 108 .
(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 124 .

(الصفحة396)



هو مقتضى ملك المنفعة من دون شرط المباشرة ـ لا يلازم جواز استيلاء المباشر على العين الذي يتحقّق بالتسليم ، فعدم اشتراط المباشرة إنّما يؤثّر في جواز الاستيفاء ولو لغير المستأجر مع إذنه ورضاه ، ولا أثر له في جواز التسليم كما هو ظاهر . نعم لو قام الدليل على جواز التسليم أو وجوبه المساوق للاستيلاء لكان المتفاهم عند العرف منه سقوط الضمان ، وإن لم يكن بينهما ملازمة في مقام الثبوت ، كما لا يخفى .
وبهذا يمكن الاعتراض على الوجه الثاني الذي أجاب به المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) ، نظراً إلى أنّ عدم المنافاة إنّما هو في مقام الثبوت ، وأمّا بحسب مقام الإثبات فالعرف يرى المنافاة بينهما ، كما لا يخفى .
نعم ، يتوجّه على التقريب الثاني إيراده الآخر وحاصله : أنّ الإجارة الثانية لا تكون منوطة بإذن المالك حتّى يكون إذنه في الإجارة إذناً في لازمها ; لأنّ جواز الاستيفاء حقيقة أو اعتباراً بالإجارة من الغير إنّما هو بمقتضى سلطنة الناس على أموالهم ، وهو لا يقتضي السلطنة على مال الغير . نعم ، للمالك تضييق دائرة الاستيفاء بالاشتراط أو تقييد ملك المنفعة باستيفائه بنفسه ، وبدونهما يكون جواز الاستيفاء ولو اعتباراً بمقتضى قاعدة السلطنة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض هذا الوجه لإثبات عدم الضمان مع التسليم المساوق للاستيلاء ، كما عرفت .
ومنها : أنّه لو لم يجز تسليم العين إلى المستأجر الثاني لم تصحّ الإجارة ; لأنّ القدرة على التسليم من شرائط الصحّة ، والجواب عنه يظهر ممّا تقدّم ; لأنّ شرط صحّة الإجارة ليس هي القدرة على التسليم المساوق للاستيلاء والسلطة على مال الغير ، بل الشرط هي القدرة على

(الصفحة397)



تمكين المستأجر من الانتفاع ، وهو لا يكون متوقّفاً على التسليم كما مرّ  .
ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال : سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه ؟ قال : إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن لها ، وإن لم يسمّ فليس عليه شيء(1) . واُجيب عنه كما في محكي المسالك(2) والجواهر(3) بأنّ الضمان فيه إنّما هو من جهة ركوب الغير ، فنفيه في الشرطية الثانية إنّما هو بهذه الملاحظة ، وهو لا ينافي ثبوت الضمان من جهة التسليم الذي هو مفروض البحث في المقام .
والإنصاف عدم تماميّة هذا الجواب ; لأنّ التسليم المتحقّق بالإعطاء مفروض في مورد السؤال ، وعليه فكلتا الشرطيّتين واردتان في مورد التسليم . هذا ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الشرطية الثانية بملاحظة قوله (عليه السلام) : «فليس عليه شيء» عدم ثبوت الضمان عليه أصلاً ، ففي الحقيقة يكون مفاد الرواية أنّ التسليم غير مؤثّر في ثبوت الضمان ، بل الضمان على تقديره إنّما ينشأ من اشتراط عدم ركوب الغير ، وهي كافية في الحكم بعدم الضمان على خلاف القاعدة المقتضية لثبوته ، كما عرفت .
ويؤيّده الروايات(4) الواردة في إجارة الأرض ونحوها بمساوي الاُجرة أو أقلّ ، نظراً إلى أنّه لم يتعرّض في شيء منها لعدم جواز التسليم ، مع أنّه المتعارف الغالب الوقوع . ودعوى أنّه ليس في شيء منها ما يقضي بالتسليم على وجه ترتفع يد الأوّل عنه ، ممنوعة جدّاً . هذا تمام الكلام في

(1) الكافي : 5 / 291 ح7 ، وسائل الشيعة : 19 / 118 ، كتاب الإجارة ب16 ح1 .
(2) مسالك الأفهام : 5 / 186 و222 ، والحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة : 124 .
(3) جواهر الكلام : 27 / 259 .
(4) وسائل الشيعة : 19 / 126 ، كتاب الإجارة ب21 .

(الصفحة398)



أدلّة القول الأوّل .
وأمّا القول الثاني: فظهر وجهه ممّا تقدّم ، ومحصّله : أنّ التسليم المساوق للاستيلاء والتسلّط لا يكون مأذوناً فيه من المالك الأوّل ، ولا متوقّفاً عليه استيفاء المنفعة ، ولا لازماً للإجارة ، ولا القدرة عليه شرطاً في صحّتها فهو تصرّف في مال الغير لم يقم دليل على جوازه ، فمقتضى قاعدة اليد ثبوت الضمان ، بناءً على عمومها وشمولها لجميع موارد إثبات اليد على مال الغير والتصرّف فيه من دون إذن مع ثبوت الاستيلاء .
والجواب عنه أنّ مقتضى القاعدة كما عرفت وإن كان هو الضمان إلاّ أنّه يجب الخروج عنها بقيام النصّ على خلافها في مورد ، وقد ظهر أنّ رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة تدلّ على نفي الضمان في المقام ، فلا محيص عن الأخذ بها والفتوى على طبقها .
وأمّا القول الثالث: فمستنده رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصره ، فدفعه القصّار إلى قصّار غيره ليقصّره فضاع الثوب ، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصّار مأموناً ، فوقّع (عليه السلام) : هو ضامن له إلاّ أن يكون ثقة مأموناً إن شاء الله . وروى الصدوق باسناده عن محمّدبن عليّ بن محبوب قال : كتب رجل إلى الفقيه (عليه السلام) وذكر مثله(1) ، والاستدلال بها مبنيّ على أن يكون المراد بالقصّار المأمون هو القصّار الثاني ، إمّا لظهور الرواية في ذلك وإمّا لاقتضاء مناسبة الحكم والموضوع له كما قيل .
ولا يخفى منع كلا الأمرين ، أمّا الظهور فواضح أنّه لو لم يكن ظاهراً في كون المراد بالقصّار المأمون هو الأوّل لا يكون ظاهراً في غيره ، وأمّا

(1) التهذيب : 7 / 222 ح974 ، الفقيه : 3 / 163 ح720 ، وسائل الشيعة : 19 / 146 ، كتاب الإجارة ب29 ح18 .

(الصفحة399)



مناسبة الحكم والموضوع فاختصاصها بذلك ممنوع ، بل المناسبة محفوظة على التقدير الآخر أيضاً ، نظراً إلى أنّه لو كان القصّار الأوّل ثقة مأموناً يراعي في مقام الدفع إلى آخر من كان مثله من حيث الوثاقة والأمانة . نعم ، هنا إشكال ربما يمكن أن يتوهّم ; وهو أنّ هذه الرواية مخصّصة لدليل عدم الضمان على أيّ تقدير ، سواء كان المراد بالقصّار المأمون هو الثاني أو الأوّل ; لأنّها تفصّل بين الموردين وتدلّ على وجود الضمان في مورد دون آخر ، فاللاّزم حينئذ الالتزام بالتفصيل ، فلا يبقى مجال للحكم بعدم الضمان مطلقاً ، كما لايخفى .
ويمكن دفعه بأنّه على تقدير كون المراد بالقصّار المأمون هو الثاني تكون الرواية مفصّلة بلا ريب ، ولكنّك عرفت أنّ هذا التقدير مخالف لظاهرها ، وعلى التقدير الآخر يكون المراد من الحكم بعدم الضمان فيما إذا كان ثقة مأموناً هو الحكم به مع فرض عدم التعدّي ; لما عرفت من أنّ الثقة المأمون يراعي في مقام الدفع إلى آخر من كان مثله من حيث الوثاقة والأمانة ، فالدفع إلى غيره يساوق التعدّي وهو يوجب الحكم بالضمان .
وبالجملة : فإطلاق الحكم بعدم الضمان ليس بحيث يشمل صورة التعدّي أيضاً ، فلا منافاة بينه وبين مدلول هذه الرواية ، فتدبّر .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذه الجهة أنّ القول بعدم الضمان وإن لم يكن موافقاً لمقتضى القاعدة إلاّ أنّه لا محيص عنه لأجل النصّ عليه .
الجهة الثالثة : في أنّه قد قيّد في كلمات القائلين بصحّة الإجارة من الغير وعدم ضمان المستأجر بالتسليم إليه كلا الحكمين بما إذا لم يشترط المؤجر عليه استيفاء المنفعة بنفسه ، وفسّر ذلك في كلمات

(الصفحة400)



المتأخّرين(1) بما إذا لم يشترط عليه ذلك بنفسه لنفسه ، نظراً إلى أنّ اشتراط مجرّد الاستيفاء بنفسه لا ينافي الإجارة الثانية إذا اشترط فيها أن يكون المستوفي هو المستأجر الأوّل ويعود النفع إلى الثاني .
وبالجملة : فالمؤجر تارةً يضيّق دائرة المملوك بالتقييد ; مثل أن يملّكه ركوب الدابّة القائم بنفس المستأجر ، واُخرى يشترط عليه أن لا يؤجر من الغير بحيث يكون غرضه عدم ثبوت هذا الحقّ له ، وإن كان المملوك وهي المنفعة غير مضيّق أصلاً . وثالثة يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه ، ونتيجته أيضاً عدم جواز الإجارة من الغير .
أمّا الفرض الأوّل : فيمكن أن يقال بعدم جوازه ; لأنّ ما هو المملوك للمؤجر وإن كان طبيعي الركوب ، إلاّ أنّه بالإضافة إلى مستأجر خاصّ لا يكون مملوكاً للمؤجر حتّى يملّكه ، فإنّ ركوب زيد بما أنّه ركوبه لا يكون مملوكاً لمالك الدابّة حتّى يملّكه ، بل مملوكه هو الركوب بما هو ركوب . هذا ، مضافاً إلى ما هو العمدة في هذا المقام من أنّ الإجارة متقوّمة عندهم بملك المنفعة ، وإن وقع الاختلاف بينهم في حقيقة الإجارة ، وأنّها هل هي تمليك المنفعة أو أمر آخر يترتّب عليه ملكها ، إلاّ أنّ تقوّم الإجارة بنقل المنفعة وانتقالها من المؤجر إلى المستأجر كأنّه متسالم عليه بينهم ، كما أنّ الفرق بين الإجارة والعارية بكون الاُولى مؤثّرة في حصول ملك المنفعة ، والثانية مؤثّرة في تحقّق ملك الانتفاع فقط كأنّه أيضاً لا خلاف فيه بينهم ، وحينئذ نقول : في مفروض المقام مع تضييق دائرة المملوك بالتقييد بركوبه بنفسه مثلاً لا يبقى مجال لاعتبار ملك المنفعة أصلاً ، لعدم

(1) كصاحب مسالك الأفهام: 5 / 187، ورياض المسائل: 6 / 26، وجواهر الكلام: 27 / 260، والعروة الوثقى: 5 / 76.
<<التالي الفهرس السابق>>