في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة501)



نفي الضرر(1) لا يدلّ على أزيد من نفي اللزوم ـ فيما لو كان ضررياً ـ على سبيل التكليف ، ولا دلالة فيه على إثبات حق الخيار الذي يترتّب عليه أحكام الحقّ ; من جواز الإسقاط والسقوط والإرث وغيرها من سائر الأحكام . هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل .
ومنها : مالو آجرت نفسها للإرضاع قبل النكاح ، والإجارة قد تكون خاصّة وقد تكون مطلقة ، وعلى التقديرين فالنكاح تارةً على نحو الدوام ، واُخرى على سبيل الانقطاع ، ومجمل القول في هذه الصور أنّه يبحث فيها تارةً عن إمكان الحكم ببطلان الإجارة مع فرض تقدّمها على النكاح ، وكون الشخص مالكاً للمنافع ملكيّة مرسلة أبدية غير متوقّفة على مجيء زمان استيفائها ، واُخرى عن مقتضى القواعد والأُصول بعد الفراغ عن إمكان الحكم ببطلان الإجارة السابقة .
أمّا الإمكان فلا ينبغي الارتياب في ثبوته وأنّه يمكن للشارع المقدّس الحكم بالبطلان ; لاهتمامه بالأمر اللاّحق الطارئ مع فرض عدم إمكان اجتماع الأمرين وعدم القدرة على رعاية كلا الحقّين ، ويمكن فرض ذلك في باب الاسترقاق ، فإنّه لو كان الحرّ المسترق أجيراً لآخر مثلاً قبل استرقاقه فبمجرّد الاسترقاق تبطل الإجارة السابقة ويترتّب عليه جميع أحكام العبودية ، ودعوى أنّ ذلك إنّما هو لتبدّل الموضوع وتغيّر العنوان ، فإنّه كان في السابق حرّاً مالكاً لنفسه ومسلّطاً عليها وفي اللاّحق يكون عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ، مدفوعة بثبوت مثل ذلك في المقام أيضاً ، فإنّها كانت قبل غير مزوّجة وفي الحال مزوّجة ، فهذه الجهة مشتركة ، وكيف كان ، فالإشكال في أصل الإمكان ممّا لا ينبغي توهمه .

(1) وسائل الشيعة : 25 / 427 ، كتاب إحياء الموات ب12 .

(الصفحة502)



وأمّا القواعد والاُصول فالظاهر أنّه لا دلالة لشيء منها على أنّ عروض النكاح يقتضي بطلان الإجارة ، خصوصاً إذا كانت الإجارة مطلقة ، فإنّه بعدما كان الأجير مالكاً للمنافع ملكيّة مرسلة دائمية ، وفي حال وقوع الإجارة لم يكن للزوج سلطنة عليها لعدم تحقّق الزوجية بعد ، فلا وجه لدعوى اقتضاء مجرّد صحّة النكاح اللاحق لبطلان السابق ، بل تصير حال الزوجة حال الدار المستأجرة المسلوبة المنفعة المنتقلة إلى المشتري كذلك .
نعم ، في مقام اجتماع الحقين وعدم إمكان رعايتهما معاً ـ بأن طالبها الزوج والمستأجر بالاستمتاع والإرضاع ، ولم يمكن الجمع بينهما إن قلنا بأنّ السبق الزماني للإجارة يوجب ترجيحها ، كما هو المنسوب إلى ظاهر الأصحاب(1) ـ يجب عليها تقديم حقّ المستأجر . وإن قلنا : بأنّ مجرّد السبق كذلك لا أثر له في مقام الترجيح كما هو الظاهر تصل النوبة إلى التخيير ، بناءً على كون المقام من باب تزاحم الحكمين ، وإلى قاعدة العدل والإنصاف المقتضية للتقسيط ، بناءً على عدم كون مثل المقام من ذلك الباب كما نفينا البُعد عنه، فتدبّر .

(1) تذكرة الفقهاء : 2 / 299 ، مسالك الأفهام : 5 / 208 ، مفتاح الكرامة : 7 / 152 ، جواهر الكلام : 27/297 .

(الصفحة503)

[العمل تبرّعاً عن العامل أو المالك]

مسألة  : لو استؤجر لعمل من بناء وخياطة ثوب معيّن أو غير ذلك لا بقيد المباشرة فعمله شخص آخر تبرّعاً عنه كان ذلك بمنزلة عمله فاستحقّ الاُجرة المسمّـاة ، وإن عمله تبرّعاً عن المالك لم يستحقّ المستأجر شيئاً ، بل تبطل الإجارة لفوات محلّها ، ولا يستحقّ العامل على المالك اُجرة 1 .


1 ـ أمّا استحقاق الاُجرة المسمّـاة فيما لو عمله المتبرّع بقصد التبرّع عن الأجير فلوضوح أنّ العمل المستأجر عليه لم يكن مقيّداً بقيد المباشرة على ماهو المفروض ، كما أنّه لا إشكال في جواز التبرّع في مثل ذلك ممّا كان في الذمّة عيناً كان أو عملاً مملوكاً لغيره عليه ، ويساعده بناء العقلاء عليه ، فقد تحقّق العمل المستأجر عليه من الأجير بلحاظ التبرّع الذي هو نوع من النيابة ، فيستحق الاُجرة المسمّـاة بلا إشكال .
وأمّا عدم استحقاق المستأجر شيئاً من الاُجرة المسمّـاة وغيرها في الفرض الثاني ، الذي صدر العمل من المتبرّع بقصد التبرع عن المالك فلبطلان الإجارة بفوات محلّها ، نظير الإجارة على قلع السنّ إذا زال ألمه قبل القلع ، وخياطة الثوب إذا سرق أو حرق قبلها ، ومجرّد تحقّق العمل في الخارج لا يوجب الاستحقاق ; لعدم انطباق ما في الذمّة عليه إلاّ بالقصد ، ولذا ذكروا في باب الدين أنّ المديون إذا أعطى الدائن ما يساوي الدين لا يكون وفاءً إلاّ مع قصد الوفاء ، كما أنّ عدم استحقاق العامل على المالك اُجرة إنّما هو لفرض التبرّع الذي مرجعه إلى النيابة مجّاناً وبلا قصد العوض ، فلا وجه لاستحقاقه أصلاً .


(الصفحة504)





(الصفحة505)

[أخذ الاُجرة على الواجب]

مسألة  : لا يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه للإتيان بما وجب عليه عيناً كالصلوات اليومية ، ولا ما وجب عليه كفائيّاً على الأحوط إذا كان وجوبه كذلك بعنوانه الخاصّ ، كتغسيل الأموات وتكفينهم ودفنهم . وأمّا ما وجب من جهة حفظ النظام وحاجة الأنام ، كالصناعات المحتاج إليها والطبابة ونحوها فلا بأس بالإجارة وأخذ الاُجرة عليها ، كما أنّ إجارة النفس للنيابة عن الغير حيّاً وميّتاً فيما وجب عليه وشرّعت فيه النيابة لا بأس به1 .


1 ـ قد وقع الكلام في جواز أخذ الاُجرة على الواجب تعبّدياً كان أو توصّلياً ، عينياً أو كفائياً ، تخييريّاً كان أو تعيينيّاً ، ونسب إلى المشهور القول بالعدم(1) ، بل قد ادّعي الإجماع عليه كما في محكي مجمع البرهان(2) وجامع المقاصد(3) ، ولعلّه يجيء التكلّم على هذه الجهة .
وكيف كان ، فهل يجوز أخذ الاُجرة على الواجب مطلقاً ، أو لايجوز كذلك ، أو يفصّل بين التعبّدي والتوصّلي ، أو بين العيني والكفائي ، أو فيه بين القسمين الأوّلين ، أو فيه بين ما إذا كان وجوبه بعنوانه الخاصّ ، وما إذا كان وجوبه من جهة حفظ النظام كما في المتن ؟ وجوه واحتمالات .
وليعلم أنّ موضوع المسألة ما إذا كان عقد الإجارة الواقعة على الواجب صحيحاً وواجداً لجميع الاُمور المعتبرة فيه عدا كون متعلّقه واجباً على الأجير

(1) مسالك الأفهام : 3 / 130 ، الحدائق الناضرة : 18 / 211 ، مفاتيح الشرائع : 3 / 11 ، مفتاح الكرامة : 4/92 ، جواهر الكلام : 22 / 116 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2 / 125 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 89 .
(3) راجع جامع المقاصد : 4 / 35 ـ 37 .

(الصفحة506)



ولازماً عليه إتيانه شرعاً ، فإنّه لذلك وقع الكلام في أنّ وجوبه على الأجير هل يوجب بمجرّده إختلال بعض الاُمور المعتبرة في الإجارة من حيث المتعلّق أو لا ؟ وأمّا لو فرض بطلانها بسبب أمر آخر كما إذا لم يكن للمستأجر غرض عقلائي ونفع دنيويّ ، أو أُخرويّ أو غيرهما فهو خارج عن مفروض البحث ، فاستئجار الشخص لفعل صلاة الظهر عن نفسه باطل ; من حيث إنّه لا يكون في ذلك غرض عقلائيّ للمستأجر لا لكون الفعل واجباً على الأجير .
نعم ، لو فرض ثبوت غرض عقلائيّ في مثله كما أنّه أراد اعتياد ولده بالصلاة بحصول التمرين عليها ولو من ناحية دفع الاُجرة إليه واستئجاره عليها فهو يدخل في محلّ النزاع .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام تارة يقع في ثبوت المنافاة بين الوجوب بما هو وجوب وبين أخذ الاُجرة وعدمه . واُخرى في ثبوت المنافاة بين الوجوب التعبّدي بما هو تعبدي لأخذ الاُجرة وعدمه ، وعلى هذا التقدير لا فرق بين الواجب والمستحبّ . وثالثة في منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الاُجرة وعدمه ، وعلى هذا التقدير أيضاً لا يكون فرق بينهما ، فالكلام يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في منافاة الوجوب بما هو وجوب لأخذ الاُجرة وعدمها ، وقد استدلّ لها بوجوه :
منها : أنّه يعتبر في صحّة الإجارة أن يكون متعلّقها مملوكاً للأجير حتّى يصحّ نقله إلى المستأجر ، سواء كان اعتبار المملوكية ثابتاً له قبل العقد ، كمنافع الدار المملوكة لصاحبها قبل الإجارة وعمل العبد المملوك لمولاه كذلك ، أو كان اعتبار المملوكية بعد العقد كعمل الحرّ ، فإنّه وإن لم يعتبر مملوكاً لعامله قبل العقد إلاّ أنّه بالعقد يعتبر مملوكاً للمستأجر ، وتعلّق الوجوب به يوجب أن لا يكون مملوكاً

(الصفحة507)



للفاعل حتّى يصحّ نقله إلى الغير ; لأنّه يصير حينئذ مستحقّاً لله ـ تعالى ـ والمملوك المستحقّ لا يستحقّ ثانياً ، ألا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميّت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل ، وليس ذلك إلاّ لأنّ الفعل صار مملوكاً للأوّل ومستحقّاً له ، فلا معنى لتمليكه ثانياً .
أقول : هذا الوجه هو أقوى الوجوه التي استدلّ بها في جامع المقاصد وكشف الغطاء ، ولو تمّ لكان مقتضاه القول بعدم الجواز مطلقاً . نعم ، ظاهره الاختصاص بالواجب العيني ، ويمكن تقريره في الواجب الكفائي بأن يقال : إنّ العمل قبل صدوره من العامل وإن لم يكن مملوكاً له ـ تعالى ـ لأنّ المفروض عدم تعيّنه عليه إلاّ أنّه بعد الصدور يتّصف بكونه مملوكاً له ـ تعالى ـ بمعنى أنّه صدر ما يكون بعد الصدور غير مملوكاً إلاّ لله ، فلا يمكن أن تتعلّق به الإجارة المقتضية لكون العمل صادراً مملوكاً للمستأجر ، كما لايخفى .
ولكن أصل الوجه لا يخلو عن خدشة بل منع ، فإنّ الوجوب الذي هو بمعنى مجرّد بعث الغير إلى إتيان العمل لا يوجب أن يكون ذلك العمل مملوكاً للباعث ومستحقّاً له بحيث ينافي مملوكية الغير ; لأنّ مطلوبية الصدور وتحريك المأمور إلى الإصدار أمر ، ومملوكية الفعل الصادر واستحقاقه أمر آخر لا يرتبط أحدهما بالآخر ، ولو كان الوجوب مساوقاً للملكية لما صحّ أمر أحد الأبوين إلى شيء بعد أمر الآخر به ; لأنّه إذا قال الأب : أكرم زيداً مثلاً ، فمقتضى وجوب إطاعته الثابت بالشرع وكونه مساوقاً للملكية على ما هو المفروض هي صيرورة العمل ـ وهو إكرام زيد ـ مملوكاً للأب ومستحقّاً له ، وحينئذ فكيف يمكن أن يؤثّر أمر الاُمّ في الوجوب المساوق لها بعد عدم إمكان أن يصير المملوك المستحقّ مملوكاً ثانياً ، فاللاّزم هو القول بلغوية أمرها مع أنّ من الواضح خلافه ، وليس ذلك إلاّ لعدم

(الصفحة508)



كون الوجوب موجباً لمملوكية الواجب للموجب ، كيف وقد حقّقنا في علم الاُصول أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي نفس الطبائع والعناوين لا الأفراد والوجودات ; لأنّها قبل التحقّق ليست بفرد وبعده يحصل الغرض المطلوب منها فيسقط الأمر ، والطبيعة لا معنى لكونها مملوكة أصلاً .
ومنها : ما ذكره كاشف الغطاء وتبعه المحقّق النائيني (قدس سره) على ما في التقريرات(1) ، وتقريره على ما فيها بنحو التلخيص أنّه يعتبر في الإجارة وما يلحق بها من الجعالة أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير أو العامل بإزائه الاُجرة والجعل ملكاً له ، بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي عليه ; لأنّه إذا كان واجباً عليه فلا يقدر على تركه ، وإذا كان محرّماً عليه فلا يقدر على فعله ، ويعتبر في صحّة المعاملة على العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره ، ومن هنا لايجوز أخذ الاُجرة على الواجبات لعدم القدرة على تركها ، ولا على المحرّمات لعدم القدرة على فعلها، فلا يجوز لشاهد الزور أخذ الاُجرة على شهادته ; لخروج عمله عن تحت سلطنته بنهي الشارع ، فلا يقدر على فعله ، فأخذ الاُجرة أكل للمال بالباطل .
وأمّا الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الاُجرة عليها ما عدا القضاء ; لأنّ الأجير فيها مالك لعمله وقادر عليه ; لأنّ الواجب عليه هو بذل عمله بالمعنى المصدري لا نتيجة عمله التي هي معنى الاسم المصدري ، وهما وإن لم يكونا أمرين متمايزين إلاّ أنّهما شيئان اعتباراً ، فللشارع التفكيك بين وجوب المصدر وملكيّة اسم المصدر . وأمّا التكليف في باب القضاء ، فقد تعلّق بنتيجة عمل القاضي وهو فصله

(1) منية الطالب : 1 / 45 ـ 47 .

(الصفحة509)



الخصومة ، فلا يجوز له أخذ الاُجرة عليه بخلاف غيره من الطبيب والخيّاط والصبّاغ .
وكيف كان ، لو وجب بذل العمل وحرم احتكاره فلا مانع من أخذ الاُجرة عليه ، ولو وجب عليه نتيجة العمل فلا يجوز أخذ الاُجرة ; لأنّ المعنى المصدري آليّ ولايقابل بالمال واسم المصدر خارج عن ملكه .
وفيه وجوه من النظر :
الأوّل : أنّ المراد بالقدرة المعتبرة في صحّة الإجارة والجعالة ونحوهما إن كان هي القدرة على فعل العمل وتركه حقيقة وتكويناً فلا شبهة في عدم منافاتها مع تعلّق التكليف الوجوبي أو التحريمي ، كيف ووجودها شرط في تعلّق كلّ واحد منهما كما هو واضح ، وإن كان المراد بها هي القدرة شرعاً بمعنى أن يكون العمل جائز الفعل والترك عند الشارع لا أن يكون واجباً أو محرماً ، فيرد عليه أنّ الاستدلال بهذا النحو مصادرة ; لأنّ مرجع ذلك إلى أنّه يعتبر في صحّة الإجارة على العمل عدم كونه واجباً ، وهذا عين المدّعى .
الثاني : أنّ بطلان الإجارة على فعل شيء من المحرّمات ليس لعدم كونه قادراً عليه شرعاً ، والقدرة بهذا المعنى معتبرة في صحّتها ، بل لأنّه لا يعقل إجتماع الأمر بالوفاء بها مع النهي عن فعل شيء منها ، فمع ثبوت الثاني كما هو المفروض لا يبقى مجال للأوّل .
وليعلم أنّ المراد بالقدرة على التسليم التي اعتبرها الفقهاء في صحّة المعاملة ليس هي القدرة المبحوث عنها في الكتب العقلية ، التي مرجعها الى صحّة الفعل والترك ، كيف وهم يحكمون بصحّة المعاملة فيما لم يتحقّق فيه هذا المعنى ، ألا ترى أنّهم يحكمون بالصحّة فيما لو كان المبيع عند المشتري الغاصب ولم يكن البائع قادراً

(الصفحة510)



على أخذه منه بوجه حتّى يصحّ منه التسليم وعدمه ، وكذلك يحكمون بالصحّة فيما لم يكن البائع قادراً على التسليم بهذا المعنى ولكن المشتري يقدر على الوصول إليه(1) ، والسرّ أنّ هذا العنوان لم يكن مأخوذاً في شيء من النصوص حتّى يتّبع ما هو ظاهره ، بل هو شيء يحكم به العقل لإخراج المعاملات السفهية الواقعة على مثل السمك في الماء والطير في الهواء ، فمرجع اعتباره إلى لزوم اشتمال المعاملة على غرض عقلائي وهو موجود في المقام ، فلا وجه للإشكال في جواز أخذ الاُجرة على الواجب من هذه الجهة .
ثمّ إنّه لو سلّم اعتباره في صحّة المعاملة بالمعنى الراجع إلى صحّة الفعل والترك ، وسلّم أيضاً أنّ تعلّق الإيجاب أو التحريم الشرعي ينافيه ، فدعوى ثبوته في الواجبات النظامية ماعدا القضاء ، نظراً إلى أنّ الوجوب تعلّق بالمصدر والاُجرة واقعة في مقابل اسم المصدر ، ممنوعة لاعترافه (قدس سره)بأنّ التغاير بين الأمرين إنّما هو بحسب الاعتبار وإلاّ فهما في الواقع شيء واحد ، و حينئذ فيقال عليه : إنّه كيف يمكن أن يكون الشيء الواحد مقدوراً وغير مقدور معاً ، فمع فرض تعلّق الوجوب به المنافي لكونه مقدوراً كيف يعقل أن يكون مقدوراً أيضاً ، وإن شئت قلت : إنّه كيف تجتمع مقدورية اسم المصدر مع خروج نفس المصدر عن تحت الاختيار بعد تبعيّته له ، بل عينيّته معه كما هو ظاهر .
الثالث : أنّ التفصيل بين القضاء وغيره من الواجبات النظامية بكون الواجب فيه هو اسم المصدر دونها ممنوع ; لأنّ الواجب في باب القضاء أيضاً هو فصل الخصومة بالمعنى المصدري وهو الحكم والقضاء لا كون الخصومة مفصولة ،

(1) الروضة البهية : 3 / 250 ، مسالك الأفهام : 3 / 172 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 190 ـ 191 .

(الصفحة511)



والدليل على ذلك مراجعة كتاب القضاء ، فإنّ الأحكام المذكورة فيه إنّما تكون مترتّبة على نفس القضاء .
ومنها : أنّ الظاهر من تعلّق الوجوب بشيء كون المطلوب إتيانه مجّاناً وبلا  عوض ، فأخذ الاُجرة عليه ينافي ذلك .
ويرد عليه منع ذلك ; لأنّه مجرّد ادّعاء بلا بيّنة وبرهان .
ومنها : أنّ المعهود في باب الإجارة كون العمل الذي استؤجر عليه بيد المستأجر من حيث الإسقاط والإبراء والتأجيل والتعجيل ، ولو قيل بصحّة الإجارة في المقام يلزم نفي تلك الآثار الثابتة في كلّ إجارة ، فيستكشف من ذلك بطلانها .
ويرد عليه منع انتفاء هذه الآثار في الإجارة على الواجب ، فإنّه يمكن للمستأجر الإسقاط ويسقط حقّه بذلك ، ولا ينافي ذلك ثبوت حقّ من الله تعالى. وتظهر الثمرة فيما لو لم يكن المكلّف مريداً لإطاعة أمر الله تعالى ، فإنّه يستحقّ الاُجرة مع الإسقاط .
ومنها : ما عن الشيخ الاعظم (قدس سره) في مكاسبه من أنّ عمل المسلم مال لكنّه غير محترم مع الوجوب ; لكون العامل مقهوراً عليه من دون دخل إذنه ورضاه ، فالإيجاب مسقط لاعتبار إذنه ورضاه المقوّمين لاحترام المال(1) .
وأجاب عنه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : بأنّ لمال المسلم حيثيّتين من الاحترام : إحداهما : حيثيّة إضافته إلى المسلم ، وهذه الحيثيّة تقتضي احترامها أن لا يتصرّف أحد فيه بغير إذنه ورضاه ، وله السلطان على ماله وليس لأحد مزاحمته في سلطانه ، وهي الثابتة بقوله (عليه السلام) : لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير

(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2 / 135 .

(الصفحة512)



إذنه(1) ، وبقوله (عليه السلام) : لا يحلّ مال امرىء إلاّ عن طيب نفسه(2) .
ثانيتهما : حيثيّة ماليّته ، ومقتضى حرمتها أن لايذهب هدراً وبلا تدارك ، فلا يجوز أن يعامل مع مال المسلم معاملة الخمر والخنزير ممّا لا مالية له شرعاً ولا يتدارك بشيء أصلاً ، ومن الواضح أنّ الإيجاب واللابديّة والمقهوريّة وسقوط إذنه ورضاه كلّها موجبة لسقوط احترام العمل من الحيثيّة الاُولى دون الحيثية الثانية ، ولذا جاز أكل مال الغير في المخمصة من دون إذنه مع بقاء المال على حاله من احترامه ، ولذا يضمن قيمته بلا إشكال ، مضافاً إلى أنّ هدر المال غير هدر الماليّة كما في مال الكافر الحربي ، فإنّه ساقط الاحترام من الجهتين ، فيجوز أخذه منه وتملّكه بغير عوض بدون إذنه ، ومع ذلك فهو مال ومملوك للحربي ، ولذا يجوز ايقاع المعاملة عليه واستئجاره على عمله ، وما يضرّ بالإجارة هدر المالية لا هدر المال(3) .
ومنها : غير ذلك من الوجوه الضعيفة غير التامّة ، فالمتحصّل في هذا المقام أنّ الوجوب بما هو وجوب لا ينافي جواز أخذ الاُجرة ، ولم يقم دليل على عدم جواز الاستئجار على الواجب بما هو كذلك .
المقام الثاني : في منافاة العباديّة للإجارة وعدمها ، فنقول :

(1) كمال الدين وتمام النعمة : 520 ح49 ، الاحتجاج : 2 / 297 ـ 300 ، وسائل الشيعة : 9 / 540 ، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب3 ح7 .
(2) تحف العقول : 33 ، وسائل الشيعة : 5 / 120 ، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب3 ح3 ، عوالي اللئالي : 2 / 113 ح309 وج3/473 ح1 ، مستدرك الوسائل : 3 / 331 ، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب3 ح1.
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 197 ـ 198 .

(الصفحة513)



ربما يقال بالمنافاة نظراً إلى أنّ أخذ الاُجرة على العبادات ينافي القربة المعتبرة فيها فلا يجوز ; لأنّه مع الأخذ لا يقدر على الإتيان بمتعلّق الإجارة ، والقدرة عليه معتبرة في صحّتها بلا إشكال .
وقد تفصّي عنه بوجهين :
الأوّل : ما حكي عن صاحب الجواهر (قدس سره) من أنّ تضاعف الوجوب بسبب الإجارة لا ينافي الإخلاص بل يؤكّده(1) .
وقد أورد عليه بأنّه إن اُريد أنّ تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص فلا ريب في أنّ الأمر الإجاري توصليّ لا يشترط في حصول ما وجب به قصد القربة ، وإن اُريد أنّه يؤكّد تحقّق الإخلاص من العامل فهو مخالف للواقع قطعاً ; لأنّ ما لا يترتّب عليه أجر دنيويّ أخلص ممّا يترتّب عليه ذلك بحكم الوجدان(2) .
هذا ، ولكنّ السيّد الطباطبائي (قدس سره) تصدّى في حاشية مكاسب الشيخ الأعظم (قدس سره)لتوجيه كلام صاحب الجواهر وبيان عدم المنافاة بين قصد القربة وأخذ الاُجرة ، وقد ذكر في تقريره وجهين : أحدهما : هي المسألة الداعي على الداعي التي سيجيء . ثانيهما : ما ملخّصه : أنّه يمكن أن يقال بصحّة العمل من جهة امتثال الأمر الإجاري المتّحد مع الأمر الصلاتي ، فإنّ حاصل قوله : فِ «بإجارتك» ، صلّ وفاءً بالإجارة. ودعوى كونه توصّلياً ، مدفوعة :
أوّلاً : بأنّ غايته أنّه لا يعتبر في سقوطه قصد القربة ، وإلاّ فإذا أتى بقصد الامتثال يكون عبادة قطعاً ، ولذا قالوا : إنّ العبادة قسمان : عبادة بالمعنى الأخصّ ، وعبادة بالمعنى الأعمّ . ودعوى أنّ المعتبر قصد الأمر الصلاتي لا الأمر الإجاري ، مدفوعة

(1) جواهر الكلام : 22 / 117 .
(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2 / 127 .

(الصفحة514)



بالمنع . غاية الأمر أنّه يعتبر فيه كون الداعي هو الله من أيّ وجه كان .
وثانياً : لا نسلّم كونه توصّلياً مطلقاً بل هو تابع لمتعلّقه ، فإن كان توصّلياً فهو توصّلي ، وإن كان تعبّدياً فتعبّدي ; لأنّ مرجع قوله تعالى : {أَوفُوا بِالعُقُودِ} إلى قوله : صلّوا وصوموا وخيطوا وافعلوا كذا وكذا ، فالأمر الإجاري عين الأمر الصلاتي ، ألا ترى أنّه لو لم يكن له داع إلى امتثال الأمر الندبي بالنافلة ونذرها وكان داعيه امتثال الأمر النذري كان كافياً في الصحّة(1) .
والحاصل : أنّ امتثال الأمر المتعلّق بالعمل من جهة وجوب الوفاء بالإجارة كاف في الصحّة .
إن قلت : إنّ ذلك مستلزم للدور ; لأنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها ، وهي موقوفة على صحّة العمل الموقوفة على الوجوب ; لتوقّف قصد القربة المعتبرة فيه عليه .
قلت : التحقيق في الجواب أن يقال : إنّ المعتبر في متعلّق الإجارة ليس أزيد من إمكان إيجاده في الخارج في زمان الفعل ، وفي المقام كذلك . غاية الأمر أنّ تعلّق الإجارة والأمر الإجاري سبب في هذا الإمكان ، وهذا ممّا لا مانع منه . وحينئذ نقول : إنّ الوجوب من حيث الإجارة موقوف على صحّتها ، وهي موقوفة على القدرة على إيجاد العمل صحيحاً في زمان الفعل ، وهي حاصلة بالفرض وإن لم تكن حاصلة مع قطع النظر عن تعلّق الإجارة ، والحاصل أنّه لايلزم في صحّة الإجارة إلاّ إمكان العمل ولو بسببها ، وأمّا الإمكان مع قطع النظر عنها فلا دليل على اعتباره .
أقول : لا يخفى أنّ الأمر الإجاري لايعقل أن يكون متحداً مع الأمر الصلاتي ،

(1) حاشية السيّد اليزدي على المكاسب : 23 .

(الصفحة515)



كيف وعنوان الوفاء بالإجارة مغاير لعنوان الصلاة ، والنسبة بينهما العموم من وجه ، ولا يعقل أن يسري الأمر من متعلّقه إلى شيء آخر مغاير له ، ومجرّد اتّحاد الوفاء مع الصلاة خارجاً لا يوجب اتّحاد الأمرين بعد وضوح أنّ متعلّق الأحكام والتكاليف هي نفس الطبائع والعناوين كما حقّقناه في الاُصول ، وحينئذ فيكف يعقل أن يكون الأمر بالوفاء داعياً إلى الصلاة مع أنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فتصحيح العبادية بإتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بالوفاء بالإجارة ممّا لايتم أصلاً ، وتنظير ذلك بمسألة النذر وإن كان في محلّه إلاّ أنّ كفاية الإتيان بداعي امتثال الأمر النذري فيها محلّ نظر بل منع ، بل الظاهر فيها أيضاً لزوم الإتيان بالنافلة بداعي الأمر الاستحبابي المتعلّق بها ، إذ النذر لا يوجب انقلاب النافلة فريضة ، فلو نذر الإتيان بصلاة الليل مثلاً يصير ذلك موجباً للزوم الإتيان بها بما أنّها صلاة الليل وتكون متعلّقة للأمر الاستحبابي ، ولذا لو حصل منه خلف النذر يعاقب لا على ترك صلاة الليل لأنّها مستحبّة ، بل على عدم الوفاء بالنذر الذي كان واجباً .
وبالجملة : لا وجه لكفاية الإتيان بقصد امتثال الأمر الإجاري بعد وضوح عدم اتّحاده مع الأمر الصلاتي لاختلاف متعلقيهما ، ومنه ظهر فساد ماذكره من تبعيّة الأمر الإجاري من حيث التعبّدية والتوصّلية لمتعلقه ، فإنّه لا يسري إليه حتّى يكتسب منه ذلك كما عرفت ، مضافاً إلى أنّ معنى الوفاء بالإجارة هو الإتيان بالعمل بما أنّه مستحقّ للغير ومملوك له ، فلا يجتمع مع الإتيان به بداعي القربة ، فتأمّل .
وكيف كان ، فالإشكال لا يندفع بما ذكره لابتنائه على اتّحاد الأمرين ، وقد عرفت منعه .


(الصفحة516)



الثاني : ما اختاره جمع من المحقّقين(1) من كون الاُجرة داعية لا في عرض داعي القربة بل في طوله ، وتقريره كما أفاده السيّد (قدس سره)(2) في حاشية المكاسب مع توضيح منّا أن يقال : إنّ ما يضرّ بالإخلاص إنّما هو الداعي الدنيوي الذي هو في عرض داعي الامتثال ، كالرياء وسائر الدواعي النفسانيّة . وأمّا إذا كان في طوله كما في مثل المقام ; بأن كان الداعي على نفس العمل هو امتثال الأمر المتعلّق به ، والداعي على إتيان العمل بداعي امتثال أمره غرض آخر دنيوي أو أُخروي لا يرجع إلى الله تعالى ، فلا بأس به ، لعدم الدليل على لزوم أن تكون سلسلة العلل كلّها راجعة إلى الله ، كيف ولازمه الحكم ببطلان عبادة جلّ الناس ، بل كلّهم عدا من عصمه الله تعالى منهم ; لأنّ داعيهم إلى امتثال أوامر الله إنّما هو الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب ، وهما وإن كانا من الاُمور الأُخروية إلاّ أنّهما يشتركان مع المقاصد الدنيويّة في أنّه لا يرجع شيء منهما إلى الله تعالى .
ودعوى أنّ قياس الاُجرة على الغايات المترتّبة بجعل إلهيّ مع الفارق ; لأنّ سلسلة العلل إذا انتهت إلى الله تعالى فلا تخرج المعلول عن كونه عباديّاً ، وهذا بخلاف ما إذا انتهت إلى غيره ، فإنّه ليس من وظيفته جعل غاية للفعل بقصد الأمر ، وبالجملة : فرق بين أن يأتي بالصلاة لأمر الله سبحانه حتّى يوسّع في رزقه ، وأن يأتي لأمر الله حتّى يأخذ الاُجرة ، مدفوعة بمنع انتهاء سلسلة العلل في عبادات العامّة إلى الله تعالى ; لأنّ الجنّة مطلوبة لهم بما أنّها جنّة مشتملة على النعم التي لا تعدّ ولا تحصى، لا بما أنّها مخلوقة لله تعالى ولها إضافة إليه ، والنار مبغوضة لهم

(1) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب : 116 ، بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 218ـ 222 ، مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 380 .
(2) حاشية السيّد اليزدي على المكاسب : 23 .

(الصفحة517)



بذاتها ، فإتيان الصلاة لأمر الله لأجل التوسعة في الرزق لا ينتهي إلى الله أصلاً ; لأنّ محبوب النفس هي نفس التوسعة من حيث هي مع قطع النظر عن كونها بيد الله تعالى .
وبالجملة : الجنة والنار محبوبة ومبغوضة بما أنّها جنّة ونار ، كيف ولو كان المحبوب هي الجنّة بما أنّها من نِعم الله تعالى ولها إضافة إليه بحيث كان مرجعه إلى محبوبيّته تعالى ، لكان اللاّزم الإتيان بالواجبات ولو لم يترتّب على فعلها دخول الجنّة أو ترتّب دخول النار ، ولا نرى من أنفسنا ذلك أصلاً .
والحاصل أنّ الداعي على العبادة في أكثر الناس بل جميعهم إلاّ القليل منهم هو نفس الطمع في الجنّة بما أنّ فيها جميع المشتهيات ، أو الخوف من العقاب بما أنّ في النار خلافها ، وحينئذ لا يبقى فرق بينهما وبين المقاصد الدنيوية أصلاً ، فاللاّزم هو الالتزام بكفاية توسّط الامتثال ، وإن كان الباعث عليه هو الغرض الدنيوي أو الأُخروي الذي لا يرجع إلى الله تعالى ، وإلاّ انحصرت العبادة فيما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره ممّن لا يرون إلاّ أهليّة المعبود للعبادة(1) .
ودعوى أنّه مع أخذ الاُجرة لا يتوسّط الامتثال أيضاً ، مدفوعة بالمنع ، فإنّ المكلّف بعد علمه بأنّ ملكيّة العوض تتوقّف على الإتيان بالعمل الصحيح ـ وهو يتوقّف على قصد الامتثال ـ يقصده لا محالة ، كما أنّه إذا علم أنّ الجنّة موقوفة على ذلك يقصده كذلك .
وأمّا ما عن الشهيد الأوّل (قدس سره) في قواعده(2) من قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا أتى بها بداعي الثواب أو دفع العقاب فالظاهر أنّ مراده ما إذا كانت الغاية المذكورة

(1) بحار الأنوار: 41 / 14 وج70 / 186.
(2) القواعد والفوائد : 1 / 77 .

(الصفحة518)



غاية لنفس العمل لا للعمل المأتيّ به بداعي الأمر ، كيف وقد عرفت أنّ الغاية في عبادات غالب الناس هي ما ذكر ، فالمراد ما ذكرنا . والوجه في البطلان عدم ترتّب الثواب على ذات العمل ولا يدفع به العقاب .
فالتحقيق في الجواب عن منافاة العبودية لأخذ الاُجرة ما ذكرنا من الوجه الثاني .
وربما يقال في بيان المنافاة أيضاً : إنّ دليل صحّة الإجارة هو عموم {أَوفُوا بِالعُقُودِ}(1) ويستحيل شموله للمقام ; لأنّ الوفاء بالشيء عبارة عن إتمامه وإنهائه ، فالوفاء بعقد الإجارة هو الإتيان بالعمل المستأجر عليه أداء لحقّ المستأجر ، ومن الواضح أنّ هذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءً لحقّ الله وامتثالاً لأمره ، فلا يعقل اجتماعهما في محلّ واحد .
وفيه ـ مضافاًإلى عدم انحصاردليل صحّة الإجارة بالآية المذكورة ، بل يدلّ عليها آية التجارة عن تراض(2) أيضاً ـ : أنّ الوفاء بالعقد لا يتوقّف على عنوان خاصّ ، بل يكفي فيه إيجاد متعلّق العقد فقط في الخارج بأيّ نحو اتّفق ، بل لا يلزم أن يكون الأجير مباشراً للإيجاد ، فإنّه يكفي في حصول الوفاء الموجب لاستحقاق الاُجرة حصوله من المتبرّع بقصد التبرع عن الأجير كما تقدّم ، فالمراد من الوفاء هو حصول المتعلّق في الخارج مضافاً إلى الأجير ، ولا يتوقّف على عنوان خاصّ أصلاً .
المقام الثالث : في منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الاُجرة وعدمها ، والتحقيق أنّ ما يمكن أن يقع مورداً للبحث في هذا المقام بعد الفراغ عن المقامين المتقدّمين هي صحّة النيابة عن الغير في الأعمال العباديّة ولو لم تكن اُجرة في البين

(1) سورة المائدة 5 : 1 .
(2) سورة النساء 4 : 29 .

(الصفحة519)



وعدمها ; لأنّه مع فرض الصحّة والمشروعيّة لا يبقى مجال للنزاع في جواز أخذ الاُجرة بعد ما ثبت في المقام الأوّل أنّ الوجوب بما هو وجوب لاينافي جواز أخذها ، وفي المقام الثاني أنّ العبادية بما هي كذلك لاتنافيها ، ضرورة أنّ النيابة إن كانت توصّلية وفرض وجوبها لجهة فلا مانع من الاستئجار عليها ، وإن كانت غير توصّلية بل تعبّدية فهي أيضاً كذلك ، فمدار البحث في هذا المقام هو أصل صحّة النيابة وعدمها ، ولا وجه للنزاع في أنّ الاُجرة فيها في مقابل أيّ شيء ، كما لا يخفى .
إذاعرفت ذلك نقول: النيابة في العبادات الواجبة والمستحبّة ممّادلَّ عليها ضرورة الفقه نصّاً وفتوى ، وقد عقد في الوسائل باباً لاستحباب التطوّع بجميع العبادات عن الميّت(1) . وقد ورد الأمر الاستحبابي بالنيابة عن الحيّ في بعض الموارد(2) ، وربما يؤيّد ذلك ما ورد في شأن بعض الواجبات الإلهية من أنّه دين الله(3) ، بضميمة أنّ الاعتبار في باب دين الخلق أنّه كما أنّ المديون له السلطنة على إفراغ ذمّته من الدين ، وجعل الكلّي المتعلّق بعهدته مشخّصاً في فرد يدفعه إليه بعنوان أداء الدين ، كذلك هذه السلطنة ثابتة لغير المديون ـ فإنّ له أن يفرغ ذمّته بأداء دينه تبرّعاً ـ وجعلت له هذه السلطنة أيضاً ، فيمكن له أن يجعل الكلّي المتعلّق بعهدة المديون مشخّصاً في فرد يدفعه بذلك العنوان ، فيقال في العرف : إنّه قضى عن فلان دينه ، وهكذا في باب دين الخالق ، حيث لا فرق بينه وبين دين الخلق من هذه الجهة .
وبالجملة : لا إشكال في مشروعية النيابة في العبادة في الجملة في الشريعة ، وهذا يكفي لنا في هذا المقام وإن لم نقدر على تصويرها بحيث تنطبق على القواعد إلاّ

(1) وسائل الشيعة : 8 / 276 ـ 282 ، كتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلاة ب12 .
(2) وسائل الشيعة: 11/196 ، كتاب الحج ، أبواب النيابة في الحج ب 25
(3) المسند لإبن حنبل : 1/489 ح 2005 ، سنن الدارمي 2/18 خ 1769، بحار الأنوار: 88/308 و 316

(الصفحة520)



أن يقال بالاستحالة ، فإنّها توجب صرف الأدلّة الظاهرة في المشروعية عن ظاهرها ، ولأجله لابدّ من البحث في هذه الجهة ، فنقول :
ربما يقال بالاستحالة نظراً إلى أنّ التقرّب اللاّزم في العمل العبادي النيابي غير قابل للنيابة ، فتقرّب النائب يوجب قرب نفسه لا قُرب المنوب عنه ، فالقرب المعنوي كالقرب الحسّي ، فإنّ تقرّب شخص من شخص مكاناً يوجب قربه منه لا قرب غيره وإن قصده ألف مرّة ، كما أنّه ربما يقال بها نظراً إلى أنّ النائب لا أمر له بذات العمل فلا يمكنه التقرّب ، وأوامر النيابة توصلية ، وعلى فرض تقرّب النائب بأمر النيابة فهو تقرّب له بالإضافة إلى أمر نفسه لا بأمر المنوب عنه المتعلّق بالمنوب فيه .
واُجيب عن الوجه الثاني بوجوه :
منها : ما حكي عن بعض الأعلام في كتاب القضاء(1) من أنّ النيابة من الاُمور الاعتبارية العقلائية التي لها آثار عند العقلاء ، فإذا كانت ممضاة شرعاً كان مقتضاها ترتّب تلك الآثار عليها وإلاّ فلا معنى لإمضائها ، وكما أنّ الضمان أمر اعتباريّ عقلائيّ ، وفائدته صيرورة الضامن بمنزلة المضمون عنه ، وصيرورة ما في ذمّة المضمون عنه ديناً على الضامن ، كذلك إذا كان المنوب فيه من العبادات ، فإنّ معنى ترتّب فائدة النيابة الاعتبارية عليها شرعاً توجّه تكليف المنوب عنه إلى النائب ، إذ لا معنى للمنزلة إلاّ ثبوت ما كان للمنوب عنه في حقّ النائب من الأحكام التكليفيّة وآثارها .
واُورد عليه بأنّه إن اُريد توجّه تكليف المنوب عنه إلى النائب حقيقة فهو محال ; لأنّ الإضافات والاعتباريات تشخّصها بتشخّص أطرافها ، ويستحيل خروجها

(1) كتاب القضاء للآشتياني : 29 والحاكي هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 229 .
<<التالي الفهرس السابق>>