في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة121)

ا لتقريرات (ا لمحقّق النائيني(قدس سره)) أ نّـه لابأس بـه نظراً إلى أنّ نفس تصوّر الوجوب والحتم يوجب تصوّر المنع من الترك والانتقال إليـه(1) ، وأنت خبير بأنّ مجرّد عدم انفكاك التصوّرين لايوجب ثبوت المنع الشرعي الذي هو المقصود في المقام ، فإنّ النزاع إنّما هو في أنّ الآمر إذا أمر بشيء هل يكون أمره بـه موجباً لنهيـه عن ضدّه بمعنى أن يكون هنا شيئان : أحدهما : الأمر با لشيء ، والآخر : النهي عن نقيضـه ، وذلك لايثبت بمجرّد الانتقال من تصوّر الوجوب إلى تصوّر المنع من الترك ، كما هو واضح .
وإن أراد الدلالـة على المنع با لدلالـة الالتزاميـة من دون افتقار إلى النهي الصادر من المولى بعد الأمر ، فيرد عليـه : اقتضاء الدلالـة المذكورة لتعدّد الحكمين الموجب لتعدّد استحقاق المثوبـة والعقوبـة ، وهو كما ترى منـه .
نعم ربّما يجعل الكلام في الإرادة لا في الأمر والنهي ، ويقال بعدم انفكاك الإرادة المتعلّقـة با لشيء عن الإرادة المتعلّقـة بعدم تركـه ، ولكن هذا يصحّ في الإرادات التكوينيّـة ، وأمّا في الإرادات التشريعيّـة فلايتمّ بناءً على ما حقّقناه في بحث مقدّمـة الواجب من أنّ كلّ إرادة تحتاج إلى مبادئها من دون فرق بين الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة بذيها .
نعم لو قلنا بترتّب الإرادة الثانيـة على الإرادة الاُولى قهراً من دون توقّفها على شيء من مبادئ الإرادة ، فلـه وجـه كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك أنّ ما ذكرنا: من ابتناء القول بالاقتضاء من طريق التوقّف والمقدّميـة على ثلاث مقدّمات إنّما هو على القول با لملازمـة مطلقاً ، وأمّا لو قيل بوجوب خصوص المقدّمـة الموصلـة : فا لظاهر ابتناء ذلك القول على مقدّمـة

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 303.

(الصفحة122)

رابعـة أيضاً ، فإنّ الوجوب المقدّمي إنّما يتعلّق بترك الضدّ لا مطلقاً ، بل بتركـه الموصل إلى الضدّ المتوقّف عليـه ، واقتضاء هذا الوجوب للنهي عن الضدّ العامّ بمعنى النقيض لايفيد إلاّ حرمـة نقيض الترك الموصل ، وهو ترك الترك الموصل ، وهذا بمجرّده لايقتضي حرمـة الفعل إلاّ بناءً على توافق حكم المتلازمين ، وإلاّ فقد عرفت سابقاً أنّ الفعل لايكون نقيضاً للترك الموصل ، فسرايـة حكم النقيض إلى الفعل مبنيّ على لزوم توافق حكم المتلازمين ، فإنّ الفعل لاينفكّ عن النقيض أصلاً وإن كان النقيض ربّما ينفكّ عن الفعل ، كما إذا لم يأت في المثال المشهور لابالإزا لـة ولابا لصلاة ، وحينئذ فعلى القول با لمقدّمـة الموصلـة يتوقّف إثبات الاقتضاء على المقدّمـة الرابعـة التي جعلوها دليلاً مستقلاّ في مقابل المقدّميـة ، كما سيجيء ، فلا تكون حينئذ دليلاً ثانياً ، بل تصير من مقدّمات الدليل الأوّل ، كما هو واضح .
هذا كلّـه فيما يتعلّق با لقول بالاقتضاء من جهـة التوقّف والمقدّميـة التي عرفت أ نّها هي العمدة في المقام .

الاستدلال على الاقتضاء في الضدّ الخاصّ من طريق التلازم

ويظهر من بعضهم الاستدلال لـه بلزوم توافق حكمي المتلازمين ، وهذا أيضاً يبتني على ثلاث مقدّمات : الاُولى : ثبوت التلازم بين الشيء وترك ضدّه ، الثانيـة : لزوم اتّحاد المتلازمين من حيث الحكم ، الثا لثـة : اقتضاء الأمر با لشيء للنّهي عن ضدّه العامّ بمعنى النقيض .
أمّا المقدّمـة الاُولى : فلأنّ الشيء لايمكن أن يصدق عليـه ضدّه ، وإلاّ يلزم اجتماع المتضادّين الممتنع با لبديهـة ، فا لواجب أن يصدق عليـه نقيض الضدّ ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين ، فا لبياض مثلاً لايمكن أن يصدق عليـه السواد ; للزوم

(الصفحة123)

اجتماع الضدّين ، فيجب أن يصدق عليـه اللاّسواد ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين .
وأمّا المقدّمـة الثانيـة : فلأنّـه لو كان أحد المتلازمين واجباً ، فالآخر لابدّ إمّا أن يكون واجباً فهو المطلوب ، وإمّا أن يكون جائزاً تركـه با لجواز با لمعنى الأعمّ من الأحكام الأربعـة الاُخر ، فا للازم جواز تركـه المستلزم لجواز ترك الواجب لفرض التلازم ، فيخرج الواجب عن كونـه واجباً ، ومن المعلوم أيضاً أ نّـه يستحيل خلوّ الواقعـة عن حكم من الأحكام الخمسـة .
وأمّا المقدّمـة الثا لثـة : فقد عرفت إثباتها سابقاً ، فراجع .
هذا ، ولكن لايخفى بطلان جميع المقدّمات الثلاثـة .
أمّا بطلان الاُولى : فلأنّ نقيض صدق السواد على البياض الممتنع بديهـة ليس هو صدق اللاّسواد عليـه بل نقيضـه عدم صدق السواد عليـه على نحو السا لبـة المحصّلـة ، وذلك لأنّـه لو كان نقيضـه هو صدق اللاّسواد عليـه على نحو الموجبـة المعدولـة ، يلزم ارتفاع النقيضين ; لكذب القضيّتين معاً .
أمّا كذب قضيّـة : «ا لبياض سواد» فواضح .
وأمّا كذب قضيّـة : «ا لبياض لا سواد» فلما عرفت من أنّ العدم ليس بشيء حتّى يمكن أن يحمل على شيء أو يحمل عليـه شيء ، وقد عرفت أنّ جميع القضايا التي يكون العدم فيها موضوعاً أو محمولاً لابدّ أن ترجع إلى السا لبـة المحصّلـة ، كما هو واضح .
وأمّا بطلان الثانيـة : فلأنّ كون الترك والعدم واقعـة حتّى يستحيل خلوّه عن حكم من الأحكام الخمسـة ، ممنوع ; فإنّـه ليس بشيء حتّى يكون فعلاً للمكلّف ويتعلّق الحكم بـه .
هذا ، مضافاً إلى أنّ استحا لـة خلوّ الوقائع عن الحكم ممنوعـة ; فإنّ هذا لو

(الصفحة124)

سلّم فإنّما هو بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ، مع إمكان أن يقال بعدم استحا لـة خلوّها عن الحكم بحسب الواقع أيضاً ; فإنّ الإباحـة التي منشأها عدم تعلّق حكم شرعي بـه بمعنى أنّ جواز فعلـه لعدم تعلّق النهي التحريمي ولا التنزيهي بـه وجواز تركـه ; لعدم تعلّق الأمر الوجوبي ولا الاستحبابي بـه أيضاً في الحقيقـة ليست بحكم .
نعم الإباحـة التي منشأها خلوّ الفعل عن المصلحـة والمفسدة أو تساويهما الراجعـة إلى جعل الشارع إيّاها لذلك ، حكم من الأحكام الخمسـة ، بخلاف الإباحـة با لمعنى الأوّل ، كما لايخفى .
وأمّا بطلان الثا لثـة : فقد عرفت تفصيلـه ، وأنّ الأمر با لشيء لايقتضي النهي عن نقيضـه ، لابنحو العينيـة ، ولا على طريق الجزئيـة ، ولا على سبيل اللزوم ، فتأمّل جيّداً .

الأمر الرابع: في ثمرة المسألـة

اعلم أنّ المشهور ذكروا في ثمرة القول بالاقتضاء وعدمـه أنّ القول بالاقتضاء بضميمـة أنّ النهي في العبادات يوجب البطلان ينتج بطلان الضدّ لو كان عبادةً ، بخلاف القول با لعدم .
هذا ، ولكن لايخفى انتفاء الثمرة وصحّـة العبادة حتى على القول بالاقتضاء ، فإنّك عرفت أنّ منشأ القول بالاقتضاء إمّا توهّم مقدّميـة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر ، وإمّا توهّم الملازمـة بينهما ، وعلى التقديرين لايثبت بطلان العبادة .
أمّا على تقدير المقدّميـة : فلأنّ النهي الناشئ من جهتها نهي مقدّمي غيري ، والنهي الذي يؤثّر في بطلان متعلّقـه إذا كان عبادةً هو النهي الذي كان عن ملاك

(الصفحة125)

من المفسدة في المنهيّ عنـه .
وأمّا مجرّد تعلّق النهي بشيء لا لأجل اشتما لـه على مفسدة ملزمـة ، بل لغرض التوصّل إلى شيء آخر ، فلايكون مؤثّراً في البطلان ، فإنّ الوجـه فيـه هو امتناع أن يكون ما هو المبغوض الذي يوجب البُعد عن المولى مقرّباً للعبد منـه ، كما لايخفى ومن المعلوم أنّ هذا لايتحقّق في النهي الغيري ، فإنّ المنهيّ عنـه بهذا النهي لايكون مبغوضاً للمولى أصلاً ، وأداء فعلـه إلى ترك مطلوبـه لايوجب مبغوضيـة ذلك الفعل ، بل المبغوض هو ترك المطلوب لا ما يؤدّي إليـه ، كما هو واضح .
ومن هذا يظهر أ نّـه لو قلنا بالاقتضاء من جهـة الملازمـة فلايستلزم النهي الناشئ من جهـة الملازمـة بطلان المنهي عنـه أصلاً ; فإن تعلّق النهي بسبب الملازمـة لايوجب مبغوضيـة متعلّقـه في حدّ ذاتـه حتّى يمتنع أن يكون مقرّباً ، كما هو واضح ، فا لثمرة منتفيـة ، والعبادة صحيحـة مطلقاً قلنا بالاقتضاء أم لا ، وعلى الأوّل لا فرق بين أن يكون الاقتضاء مستنداً إلى المقدّميـة أو إلى الملازمـة .
هذا ، وحكي عن البهائي وجماعـة أ نّهم أنكروا الثمرة وحكموا ببطلان العبادة مطلقاً(1) ; نظراً إلى أنّ صحّتها متوقّفـة على تعلّق الأمر الفعلي بها ، وحينئذ فلو لم نقل بالاقتضاء وأنّ الضدّ يصير منهيّاً عنـه فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر الفعلي بـه ; لامتناع تعلّق الأمر با لمتضادّين ، فبطلانـه لو كان عبادةً يستند على هذا إلى عدم تعلّق الأمر بـه ، كما أنّ بطلانـه بناءً على الاقتضاء مسبّب عن تعلّق النهي بـه ، فا لضدّ العبادي باطل على أيّ تقدير .

1 ـ زبدة الاُصول: 98 ـ 99، هدايـة المسترشدين: 244 / السطر 39 ـ 41.

(الصفحة126)

واُجيب عنـه بوجهين:
أحدهما: ما ذكره في الكفايـة من منع كون صحّـة العبادة متوقّفةً على تعلّق الأمر الفعلي بها ، بل يكفي مجرّد المحبوبيـة للمولى ، والضدّ بناءً على عدم حرمتـه يكون كذلك ، فإنّ المزاحمـة على هذا لايوجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلّق بـه فعلاً مع بقائـه على ما هو عليـه من ملاكـه ; لعدم حدوث ما يوجب مبغوضيتـه وخروجـه عن قابليـة التقرّب بـه كما حدث بناء على الاقتضاء(1) .
ثانيهما: عن المحقّق الكركي وجماعـة ممّن تأخّر عنـه(2) من منع إطلاق مقا لـة البهائي ، فإنّها تجري في خصوص المتزاحمين المضيّقين ، وأمّا لو فرض وقوع التزاحم بين مضيّق وموسّع ، كما لو فرض مزاحمـة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيّق ، ففي مثل هذا يمكن القول بصحّـة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ولو قلنا بتوقّف صحّـة العبادة على الأمر .

جواب آخر على مسلك الترتّب

ثمّ إنّـه تصدّى جماعـة من الأفاضل لتصحيح الأمر با لضدّين بنحو الترتّب بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً غير مشروط والأمر با لمهمّ مشروطاً بعصيان الأمر الأوّل بنحو الشرط المتأخّر ، أو با لبناء على معصيتـه(3) ، ولايخفى أنّ اشتراط ا لأمر با لمهمّ با لعصيان أو با لبناء عليـه لايكون اشتراطاً شرعيّاً .
وتوضيحـه يتوقّف على بيان مقدّمات :


1 ـ كفايـة الاُصول: 165 ـ 166.
2 ـ جامع المقاصد 5: 13، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 312.
3 ـ جامع المقاصد 5: 12 ـ 13، كشف الغطاء: 27، درر الفوائد، المحقّق الحائري: 140.

(الصفحة127)

الاُولى: أ نّـه لا إشكال في أنّ متعلّق الأوامر والنواهي هي الطبائع لا الأفراد ، كما سيأتي تحقيقـه .
الثانيـة: المراد بالإطلاق هو أخذ الطبيعـة في مقام جعل الحكم عليـه مطلقـة غير مقيّدة بشيء من القيود بمعنى أنّ المتكلّم المختار إذا صار بصدد بيان بعض الأحكام ولم يأخذ في موضوعـه إلاّ الطبيعـة المعرّاة عن القيود ، يستكشف من ذلك أنّ تمام الموضوع لذلك الحكم هي نفس الطبيعـة بلا مدخليـة لشيء في ترتّبـه أصلاً ، فمعنى الإطلاق ليس هو لحاظ سرايـة الحكم إلى جميع أفراد الطبيعـة حتّى يتّحد مع العموم في النتيجـة ، وهي ثبوت الحكم لجميع أفراد الطبيعـة ; لأنّـه ليس في الإطلاق لحاظ الأفراد ، بل لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً وكاشفةً لوجوداتها التي ستحقّق بعد انضمام سائر العوارض إليها فإنّ لفظ الإنسان مثلاً لم يوضع إلاّ لنفس ماهيـة الحيوان الناطق ولايعقل أن يحكي عن أفراد تلك الطبيعـة بعد عدم كونـه موضوعاً بإزائها ، كما هو واضح .
وبا لجملـة ، فليس معنى الإطلاق إلاّ مجرّد عدم مدخليّـة شيء من القيود بلا ملاحظـة الأفراد ، كما هو واضح .
الثالثـة: أنّ المزاحمـة الحاصلـة بين الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ كالأمر بإزا لـة النجاسـة عن المسجد والأمر با لصلاة ليست متحقّقةً في مرحلة تعلّق الأمر بهما ; إذ ليس الأمر لطبيعـة الصلاة مزاحماً للأمر لطبيعـة الإزا لـة أصلاً ، كما لايخفى ، وليسا كالأمر با لنقيضين ، بل المزاحمـة بينهما إنّما تتحقّق بعد تعلّق الأمر وحصول الابتلاء بمعنى أ نّـه إذا ابتلى المكلّف بنجاسـة المسجد في زمان كونـه مأموراً بالأمر الصلاتي تحصل المزاحمـة بينهما ، ومن المعلوم أنّ الترتّب والاشتراط الذي يقول بـه القائل با لترتّب إنّما هو بعد تحقّق المزاحمـة المتأخّرة عن مرحلـة الأمر ، كما عرفت .
وحينئذ فنقول : إنّـه كيف يمكن أن يكون أحد الأمرين مشروطاً بسبب

(الصفحة128)

ا لمزاحمـة التي تتحقّق بينهما بعداً ؟ ! بعدما عرفت من أنّ معنى الإطلاق هو أخذ الطبيعـة المرسلـة موضوعاً للحكم ومتعلّقاً للأمر بلا ملاحظـة الأفراد ولا الحالات التي من جملتها في المقام حال الابتلاء با لضدّ الواجب .
وبا لجملـة ، فالآمر في مقام الأمر لم يلاحظ الحالات بخصوصها حتّى صار بصدد علاج المزاحمـة الحاصلـة في بعض الحالات المتأخّرة عن الأمر ، كما هو واضح ، وعلى تقدير تسليم عدم الامتناع عقلاً نقول : إنّ ذلك غير واقع ; إذ ليس في الأدلّـة الشرعيـة ما يظهر منـه تقييد الأمر با لمهمّ واشتراطـه كما يظهر با لمراجعـة .
فانقدح من جميع ذلك: أ نّـه لو كان المراد بالاشتراط اشتراطاً شرعياً ، يرد عليـه امتناعـه ، وعلى تقدير التسليم عدم وقوعـه فلايفيد أصلاً ، كما لايخفى ، فيجب أن يكون المراد بالاشتراط اشتراطاً عقليّاً .

تحقيق في الجواب على مسلك الخطابات القانونيّـة

وتنقيح الكلام في هذا المقام بحيث يظهر منـه صحّـة الاشتراط ولزومـه أو عدمهما يتوقّف على رسم مقدّمات :
الاُولى: أ نّـه ليس للحكم إلاّ مرتبتان : مرتبـة الإنشاء ومرتبـة الفعليـة ، بل نقول : إنّهما ليستا مرتبتين للحكم بأن يكون كلّ حكم ثابتاً لـه هاتان المرتبتان ، بل هما مقسمان لطبيعـة الحكم بمعنى أنّ الأحكام على قسمين : أحدهما : الأحكام الإنشائيـة ، وثانيهما : الأحكام الفعليـة ، والمراد بالاُولى هي الأحكام التي لم يكن فيها ما يقتضي إجراءها بعد جعلها بل اُوحي إليها إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأودعها(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأئمّـة (عليهم السلام) حتّى يظهر قائمهم(عليه السلام) ، فيجريها ، كما أنّ المراد با لثانيـة هي القوانين والأحكام التي قد اُجريت بعد الوحي ، وهي الأحكام

(الصفحة129)

ا لمتداولـة بين الناس التي أظهرها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّـة من بعده .
وا لدليل على ما ذكرنا من أ نّـه ليس الفعليـة والإنشائيـة مرتبتين للحكم بأن يكون العا لم مثلاً حكمـه فعليّاً والجاهل إنشائياً : أنّ المراد با لحكم الذي يجعلون لـه المرتبتين بل المراتب الأربع ـ كما في الكفايـة(1)ـ إن كان هو العبارة ا لمكتوبـة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أ نّـه لايعرض لـه التغيير بتغيّر حالات المكلّف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها ، وإن كان المراد بـه هو حقيقـة الحكم الراجعـة إلى إرادة المبدأ الأعلى جلّ شأنـه ، فمن الواضح أيضاً أ نّـه لايعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة ; لامتناع عروض التغيّر لـه تعا لى ، كما لايخفى .
الثانيـة: لايذهب عليك ثبوت الفرق بين الخطاب بنحو العموم وبين الخطاب بنحو الخصوص في بعض الموارد ، منها : مسأ لـة الابتلاء ، فإنّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ وعدم استهجانـه أن يكون المخاطب مبتلى با لواقعـة المنهي عنها ، كما أ نّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ المتضمّن للأمر أن لايكون للمخاطب داع إلى إتيان المأمور بـه مع قطع النظر عن تعلّق الأمر .
وا لسرّ في ذلك أنّ الأمر والنهي إنّما هو للبعث والزجر ، ويقبح زجر المكلّف عمّا يكون متروكاً ; لعدم الابتلاء بـه ، كما هو واضح ، وهذا بخلاف الخطاب بنحو العموم ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الواردة في الشريعـة ، فإنّـه لايشترط في صحّتـه أن يكون كلّ واحد من المخاطبين مبتلى با لواقعـة المنهيّ عنها ; لعدم انحلال ذلك الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدّد المخاطبين حتّى يشترط

1 ـ كفايـة الاُصول: 321.

(الصفحة130)

فيـه ذلك ، بل يشترط فيـه أن لايكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنـه ; لعدم الابتلاء ، وأمّا لو كان بعضهم تاركاً لـه ولم يكن في البين ما يميّز كلّ واحد من الطائفتين عن الاُخرى ، فلايضرّ بصحّـة الخطاب بنحو العموم أصلاً ، فما اشتهر بينهم من أ نّـه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجما لي عن مورد الابتلاء ، لم يجب الاجتناب من الآخر أيضاً ليس في محلّـه ، كما حقّقناه في موضعـه(1) .
وا لوجـه في عدم الانحلال : أ نّـه لا إشكال في كون الكفّار والعصاة مكلّفين بالأحكام الشرعيـة مع أ نّـه لو قيل بالانحلال إلى خطابات متكثّرة ، يلزم عدم كونهم مكلّفين ; لعدم صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليهم بعد عدم انبعاثهم إلى فعل المأمور بـه ، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنـه أصلاً ، كما لايخفى ، فمن كونهم مكلّفين يستكشف أ نّـه لايشترط في الخطاب بنحو العموم كون كلّ واحد من المخاطبين واجداً لشرائط صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليـه .
وا لدليل على عدم كون الخطابات الواردة في الشريعـة مقيّدة با لعلم والقدرة ، مضافاً إلى ما نراه با لوجدان من عدم كونها مقيّدةً بنظائرهما : أ نّها لو كانت مقيّدةً با لقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولاً لها ومكلّفاً با لتكا ليف التي تتضمّنـه تلك الخطابات يلزم فيما لو شكّ في القدرة وعدمها إجراء البراءة ; لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في التكليف ; لأنّ المفروض الشكّ في تحقّق قيده ، وإجراء البراءة في موارد الشكّ في التكليف ممّا لا خلاف فيـه بينهم مع أ نّـه يظهر منهم القول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة كما يظهر بمراجعـة فتاويهم .
وأيضاً لو كانت الخطابات مقيّدةً با لقدرة ، يلزم جواز إخراج المكلّف نفسـه عن عنوان القادر ، فلايشملـه التكليف ، كما يجوز للحاضر أن يسافر ، فلايشملـه

1 ـ أنوار الهدايـة 2: 213 وما بعدها.

(الصفحة131)

تكليف الحاضر ، وكما يجوز للمكلّف أن يعمل عملاً يمنعـه عن صدق عنوان المستطيع عليـه ، وغيرهما من الموارد ، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز في المقام ، وليس ذلك كلّـه إلاّ لعدم اختصاص الخطاب با لقادرين ، بل يعمّ الجميع غايـة الأمر كون العاجز معذوراً في مخا لفـة التكليف المتعلّق بـه بحكم العقل .
وتوهّم: أ نّـه كيف يمكن أن تتعلّق إرادة المولى بإتيان جميع الناس مطلوباتـه مع أنّ العقل يحكم بامتناع تعلّق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز .
مدفوع: بأ نّـه ليس في المقام إلاّ الإرادة التشريعيـة ، ومعناها ليس إرادة المولى إتيان العبد ، كيف ولازمـه استحا لـة الانفكاك با لنسبـة إلى اللّـه جلّ شأنـه ; لما قرّر في محلّـه من عدم إمكان تخلّف مراده تعا لى عن إرادتـه ، بل معنى الإرادة التشريعيـة ليست إلاّ الإرادة المتعلّقـة بجعل القوانين المتضمّنـة للبعث والزجر ، فمتعلّق الإرادة إنّما هو بعث الناس إلى محبوبـه وزجرهم عن مبغوضـه ، لا انبعاثهم وانزجارهم حتّى يستحيل الانفكاك .
وبا لجملـة ، فلايشترط في جعل القوانين العامّـة إلاّ كونها صا لحةً لانبعاث النوع وانزجار لسببـه كما يظهر بمراجعـة العقلاء المقنّين للقوانين العرفيـة ، فتأمّل في المقام ; فإنّـه من مزالّ الأقدام .
الثالثـة: قد عرفت أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ إنّما تعلّق با لطبيعـة معراة عن جميع القيود ، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التي يطرأ بعد تعلّق الأمر بها حتّى صار المولى بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم بين الأمرين في حا لـة الاجتماع .
الرابعـة: أ نّـه ليس للعقل التصرّف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود ، بل لـه أحكام توجب معذوريـة المكلّف با لنسبـة إلى مخا لفـة تكا ليف المولى ، فحكمـه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لايرجع إلى تقييد الأحكام بصورة

(الصفحة132)

ا لعلم والقدرة حتّى لايكون الجاهل أو العاجز مكلّفاً ، بل الظاهر ثبوت التكليف با لنسبـة إلى جميع الناس أعمّ من العا لم والجاهل والقادر والعاجز ، غايـة الأمر كون الجاهل والعاجز معذوراً في المخا لفـة بحكم العقل . نعم قد يكون حكم العقل كاشفاً عن بعض الأحكام الشرعيـة ، فحكمـه حينئذ طريق إليـه ، كما لايخفى .
الخامسـة: قد عرفت أنّ الخطابات الواردة في الشريعـة إنّما تكون على نحو العموم ، ولايشترط فيها أن يكون كلّ واحد من المخاطبين قادراً على إتيان متعلّقها ، بل يعمّ القادر والعاجز ، ومعذوريّـة العاجز إنّما هو لحكم العقل بقبح عقابـه على تقدير المخا لفـة ، لا لعدم ثبوت التكليف في حقّـه ، وحينئذ فا لعجز إمّا أن يكون متعلّقاً بالإتيان بمتعلّق التكليف الواحد ، وحينئذ فلا إشكال في معذوريـة المكلّف في مخا لفتـه ، وإمّا أن يكون متعلّقاً با لجمع بين الإتيان بمتعلّق التكليفين أو أزيد بأن لايكون عاجزاً عن الإتيان بمتعلّق هذا التكليف بخصوصـه ولايكون عاجزاً عن موافقـة ذلك التكليف بخصوصـه أيضاً ، بل يكون عاجزاً عن الجمع بين موافقـة التكليفين ومتابعـة الأمرين .
إذا عرفت هذه المقدّمات، فنقول : إذا كان الأمران متعلّقين با لضدّين المساويين من حيث الأهمّيـة ، فا لمكلّف حينئذ إمّا أن يشتغل بفعل واحد منهما أو بأمر آخر ، وعلى الثاني إمّا أن يكون ذلك الأمر محرّماً وإمّا أن لايكون كذلك ، فا لصور ثلاثـة :
أمّا الصورة الاُولى: فلا إشكال فيها في ثبوت الأمرين معاً ; لما عرفت في المقدّمات السابقـة ، غايـة الأمر كونـه معذوراً في مخا لفـة واحد منهما لحكم العقل بمعذوريـة العاجز .


(الصفحة133)

وأمّا الصورة الثانيـة: فا لمكلّف يستحقّ فيها ثلاث عقوبات ، أمّا العقوبـة على ما اشتغل بـه من فعل المحرّم فواضح . وأمّا العقوبـة على مخا لفـة كلٍّ من الأمرين : فلكونـه قد خا لفهما من غير عذر ; لفرض كونـه قادراً على إتيان متعلّق كلّ واحد منهما ، وعجزه إنّما هو عن الجمع بينهما ، والجمع لايكون متعلّقاً للأمر حتّى يعذر في مخا لفتـه ; لتحقّق العجز .
وأمّا الصورة الثالثـة: فيظهر الحكم فيها ممّا ذكرنا في الصورة الثانيـة .
هذا ، إذا كان الأمران متعلّقين بمساويين من حيث الأهمّيـة ، وأمّا إذا كان أحد الضدّين أهمّ من الآخر ، فا لعقل يحكم بوجوب ترجيحـه على المهمّ في مقام الإطاعـة والامتثال ، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهمّ ، فا لعقل يحكم بمعذوريّتـه في مخا لفـة الأمر با لمهمّ بعد كونـه غير مقدور عن إطاعتـه ، وأمّا إذا امتثل الأمر با لمهمّ وصرف قدرتـه إلى طاعتـه دون الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال في استحقاق المثوبـة على امتثا لـه ، وعدم كونـه معذوراً في مخا لفـة الأمر بالأهمّ بعدما عرفت من كونـه مشمولاً لكلا الخطابين ، والعقل لايحكم بمعذوريتـه .
ومنـه يظهر أ نّـه لو خا لف الأمرين معاً ، يستحقّ العقوبـة عليهما .
وا لمتحصّل من جميع ما ذكرنا أمران :
أحدهما: بطلان ما حكي عن البهائي من أ نّـه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر با لضدّ ، فإنّك قد عرفت أ نّـه لا منافاة بين الأمرين أصلاً ، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتّباً على الآخر ، بل يكونان في عرض واحد بلا ترتّب وطوليّـة .
ثانيهما: استحقاق العقابين على تقدير مخا لفـة كلا الأمرين ، ولا إشكال فيـه ، كما عرفت .


(الصفحة134)

تحقيق في الترتّب

ثمّ إنّـه يظهر من المحقّق النائيني(قدس سره) القول با لترتّب ، وقد أطال الكلام في ذلك بإقامـة مقدّمات كثيرة(1) ، ونحن نقتصر على ما يرد عليها ، فنقول :
أمّا المقدّمـة الاُولى: الراجعـة إلى إثبات أنّ ما أوقع المكلّف في مضيقـة ، الجمع بين الضدّين وأوجبـه عليـه هل هو نفس الخطابين الفعليين أو إطلاقهما وشمولهما لحا لتي فعل الآخر وعدمـه ، فهي وإن كانت بنفسها صحيحةً إلاّ أ نّـه لايترتّب عليـه النتيجـة ، كما سيأتي ، ويبقى فيها ما أورده على الشيخ من المناقضـة بين ما اختاره في هذا المقام من إنكار الترتّب غايـة الإنكار(2) وبين ما ذكره الشيخ في مبحث التعادل والترجيح من الفرائد حيث قال في الجواب عمّا قيل من أنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّيـة أحدهما ما لفظـه : لكن لمّا كان امتثال التكليف با لعمل بكلٍّ منهما ـ كسائر التكا ليف الشرعيّـة والعرفيّـة ـ مشروطاً با لقدرة ، والمفروض أنّ كلاّ منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلٌّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركـه ويتعيّن فعلـه ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركـه ، ولايعاقب عليـه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجـة أدلّـة وجوب الامتثال ، والعمل بكلٍّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال با لقدرة ، وهذا ممّا يحكم بـه بديهـة العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلٍّ منهما على المكلّف بمقتضى دليلـه إلاّ تعيين

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 ـ 352.
2 ـ مطارح الأنظار: 57 ـ 59.

(الصفحة135)

ا لآخر عليـه كذلك(1) . انتهى موضع الحاجـة .
ومحصّل الإيراد: أنّ هذا الكلام صريح في أنّ التخيير في الواجبين المتزاحمين إنّما هو من نتيجـة اشتراط كلٍّ منهما با لقدرة عليـه ، وتحقّقها في حال ترك الآخر ، فيجب كلٌّ منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتّب من الجانبين مع أ نّـه قد أنكره من جانب واحد ، وليت شعري أن ضمّ ترتّب إلى ترتّب آخر كيف يوجب تصحيحـه ؟ !
أقول: من الواضح الذي لايعتريـه ريب أنّ كلامـه هناك لايدلّ على الترتّب من الطرفين أصلاً ، كيف ومعنى الترتّب كون الأمر الثاني في طول الأمر الأوّل لاشتراطـه بما يتأخّر عنـه رتبةً ، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون كلٌّ من الأمرين في طول الآخر ومتأخّراً عنـه رتبةً ؟ ! لأنّ مقتضاه إمكان تقدّم الشيء على نفسـه المستحيل بداهـة ، بل المراد من العبارة ما ذكرناه وحقّقناه في هذا المقام من أنّ الأمرين باقيان على إطلاقهما من دون أن يكون أحدهما مقيّداً بما يتأخّر عن الآخر أو بشيء آخر ، غايـة الأمر أنّ وجوب الامتثال الذي هو حكم عقلي مشروط با لقدرة عليـه ، وحيث إنّـه لا ترجيح بين الامتثا لين هناك ، فا لعقل يحكم بتخيير المكلّف ومعذوريّتـه في مخا لفـة ترك الآخر لو لم يخا لف المجموع ، فا لمقيّد با لقدرة ونظائرها إنّما هو حكم العقل بوجوب الامتثال ، لا أصل الخطابين ، وهذا هو ظاهر كلام الشيخ حيث ذكر أنّ المقيّد با لقدرة إنّما هو حكم العقل .
نعم يرد على الشيخ: سؤال الفرق بين المقامين حيث حكم باستحا لـة ثبوت الأمرين في المقام مع أ نّـه اختار ثبوتهما هناك ، فإنّ الظاهر جريان هذا الوجـه بعينـه في المقام بلا فرق بينهما أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .


1 ـ فرائد الاُصول 2: 761.

(الصفحة136)

وأمّا المقدّمـة الثانيـة: الراجعـة إلى أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطـه حا لـه حا لـه قبل تحقّق شرطـه من حيث إنّـه بعدُ على صفـة الاشتراط ، ولايتّصف بصفـة الإطلاق ، وذلك لأنّ الشرط فيـه يرجع إلى قيود الموضوع ، إلى آخر ما ذكرنا .
فيرد عليها ما تقدّم منّا في الواجب المطلق والمشروط من أنّ أخذ القيد بحسب الواقع ونفس الأمر على وجهين ، فإنّـه قد يكون الشيء محبوباً للإنسان عند حصول شرط بحيث لايكون بدونـه مطلوباً وإن كان ربّما يمنع عن تحقّق القيد ، وقد يكون الشيء المقيّد محبوباً لـه بحيث ربّما يتحمّل لأجل تحقّق مطلوبـه مشاقّاً كثيرة ، فا لصلاة في المسجد قد تكون محبوبةً للإنسان لأجل ما يترتّب عليها ، فلو لم يكن مسجد يصير بصدد بنائـه لأجل تحقّق مطلوبـه ، وقد تكون الصلاة محبوبةً لـه على تقدير تحقّق المسجد بحيث يشتاق إلى عدم تحقّق المسجد لأجل انزجاره من الصلاة ، ولكن على تقدير تحقّقـه يتعلّق حبّـه بها ، وحينئذ فمع كون الأمر في الواقع على قسمين ، فلا وجـه لإرجاع جميع القيود إلى قيود الموضوع مع ترتّب الثمرة بين الوجهين في مواضع كثيرة ، منها : الاستصحاب ، بل لايجوز ذلك أصلاً ، كما لايخفى .
ثمّ على تقدير التسليم فإرجاع القيود إلى الموضوع إنّما هو في القيود التي أخذها المولى في مقام الحكم ، وجعلـه مقيّداً بها دون ما يأتي من ناحيـة العقل ، كما في المقام ، حيث إنّـه يحكم بناء على الترتّب بكون الأمر با لمهم مقيّداً بما يتأخّر عن الأمر بالأهمّ ، فا لتقييد تقييد عقلي لا ربط لـه با لخطابين ، فإنّهما مطلقان ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه يظهر منـه أ نّـه لو لم يكن الشرط من قيود الموضوع فا للاّزم أن يكون من علل التشريع مع أنّ هنا أمراً ثا لثاً يرجع إليـه الواجب المشروط ، وهو أن

(الصفحة137)

يكون المجعول ـ وهو الحكم ـ مقيّداً بذلك الشرط ، فإنّـه لا مجال لأن يقال بأنّ الشرط فيـه من علل التشريع ، بل المشروع والمجعول مقيّداً بـه وثابت على تقدير تحقّقـه ، كما لايخفى .
ثمّ لايخفى أنّ عدم انقلاب الواجب المشروط عن كونـه كذلك بعد تحقّق شرطـه لايتوقّف على كون الشرط من قيود الموضوع ، بل الظاهر عدم الانقلاب بناءً على ما اخترناه وحقّقناه في الواجب المشروط أيضاً ، فإنّ المراد با لحكم الذي يتوهّم انقلابـه عند تحقّق شرطـه هل هو الجزاء المترتّب على الشرط .
وبعبارة اُخرى : الجملـة المتضمّنـة للبعث ، فمن الواضح عدم معقوليـة عروض الانقلاب لـه .
وإن كان المراد بـه هي الإرادة التشريعيـة ، فقد عرفت أنّ معناها ليس إرادة إتيان العبد بـه ، كيف ومن المستحيل انفكاك الإتيان عنها ، بل معناها يرجع إلى إرادة الجعل والتشريع التي يعبّر عنها با لفارسيـة بـ (قانونگذارى) ومن المعلوم استحا لـة عروض التغيّر والانقلاب لها ، بل لا معنى لانقلابها ، كما لايخفى .
وأمّا المقدّمـة الثالثـة: فمقارنـة زمان الشرط والتكليف والامتثال وإن كانت مسلّمةً إلاّ أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الثاني الذي يرجع إلى أنّ الترتّب مستلزم لإيجاب الجمع لايتمّ ، كما سيجيء في الجواب عن المقدّمـة الخامسـة .
وأمّا المقدّمـة الرابعـة: التي يبتنى عليها الترتّب والطوليـة ، فيرد على التقسيم إلى الأقسام الثلاثـة أنّ الإطلاق ليس معناه إلاّ مجرّد أخذ الشيء موضوعاً للحكم مع عدم تقييده ببعض القيود ، فمن أجل أ نّـه فاعل مختار يمكن لـه بيان ما لَـه دخلٌ في موضوع حكمـه ، ومع ذلك فلم يأخذ شيئاً آخر ، يستفاد أنّ ذلك الشيء تمام الموضوع ، فالإطلاق اللحاظي با لمعنى الذي ذكره لا وجـه لـه أصلاً ، بل لا معنى لـه ، وحينئذ فنقول : إنّ الإطلاق با لمعنى الذي ذكرنا على

(الصفحة138)

قسمين : قسم يمكن للعبد أن يحتجّ بـه على المولى ، كما في القيود والتقادير المتصوّرة على القسمين الأوّلين ، وقسم لايمكن للعبد ذلك ، كما با لنسبـة إلى القيود التي يقتضيـه نفس الخطاب ، وهو القسم الثا لث الذي ذكره .
وكيف كان فغايـة هذه المقدّمـة إثبات الترتّب والطوليـة ، وهو لايستلزم الخروج عن إيجاب الجمع ، كما سنبيّن فيما يتعلّق على المقدّمـة الخامسـة .
وأمّا المقدّمـة الخامسـة: التي سيقت لبيان أنّ الترتّب لايقتضي إيجاب الجمع ، فينبغي أوّلاً الإشارة إلى وجـه تأخّر العصيان المشروط بـه خطاب المهمّ عن الأمر بالأهمّ ، ثمّ النظر إلى أ نّـه على فرض الترتّب هل يجدي ذلك في إخراج المسأ لـة عن إيجاب الجمع بين الضدّين أو لا ؟
فنقول : قد يقال ـ كما قيل ـ : إنّ الوجـه في تأخّر عصيان الأمر بالأهمّ عنـه : أنّ العصيان نقيض للإطاعـة والامتثال ; إذ هو ترك المأمور بـه لا عن عذر ، والإطاعـة متأخّر عن الأمر ; لأنّ الانبعاث متأخّر عن البعث ; إذ هو معلول لـه ، والإتيان بمتعلّق الأمر وإن لم يكن متأخّراً عنـه إلاّ أنّ صدق الامتثال والإطاعـة عليـه يتوقّف على تحقّقـه والالتفات إليـه ، وحينئذ فإذا ثبت تأخّر الإطاعـة عن الأمر فيظهر تأخّر العصيان عنـه أيضاً ; لأنّـه نقيض لها ، والنقيضان متساويان في الرتبـة وما مع المتقدّم في الرتبـة يكون متقدّماً في الرتبـة أيضاً .
هذا ، ولكن قد عرفت سابقاً منع اتّحاد النقيضين من حيث الرتبـة ، ولو سلّم فما مع المتقدّم في الرتبـة لايكون متقدّماً في الرتبـة ; لما عرفت سابقاً من أنّ التقدّم والتأخّر بحسب العقل مستند إلى ملاكهما ، ومع عدم الملاك لايحكم با لتقدّم أو التأخّر .
هذا ، والعمدة في منع تأخّر العصيان عن الأمر ما عرفت من أنّ معنى العصيان هو ترك المأمور بـه لا عن عذر ، وهو من الأعدام والأعدام لا تكون

(الصفحة139)

متأخّرة عن شيء ولا متقدّمـة عليـه ; لأنّـه ليس بشيء حتّى يحكم عليـه بحكم وجودي .
ومن هنا يظهر: أ نّـه لايعقل أن يكون خطاب المهم مشروطاً بـه بعد كونـه من الأعدام ، ولايعقل ثبوت التأثير لها أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
وكيف كان فعلى تقدير تسليم الترتّب والطوليـة بين الأمرين فنقول : إنّ ذلك لايجدي في رفع غائلـة استحا لـة طلب الضدّين ، فإنّ شرط خطاب المهمّ إمّا أن يكون نفس العصيان بحسب وجوده الخارجي المتوقّف على مضيّ زمان لايمكن معـه الامتثال في الزمان الباقي ، وهو الذي يترتّب عليـه سقوط الأمر بالأهم ; لأنّ بقاءه مستلزم لتعلّق الطلب بغير المقدور ، كما هو المفروض ، وإمّا أن يكون العنوان الذي ينتزع منـه بعد كونـه متحقّقاً في ظرفـه بحسب الواقع ونفس الأمر ، وهو كون المكلّف ممّن يعصى أو تعقّب العصيان وتأخّره ونظائرهما ، وإمّا أن يكون الشرط التلبّس با لعصيان والشروع فيـه ، وإمّا أن يكون أحد العناوين الاُخر المنطبقـة على أحد الوجوه المتقدّمـة .
إذا عرفت ذلك، نقول: أمّا لو كان الشرط هو العصيان الخارجي الذي عرفت أ نّـه لايتحقّق إلاّ بعد مضيّ مقدار من الزمان لايمكن معـه الامتثال في الباقي ، فمن الواضح أ نّـه بمجرّد تحقّقـه يسقط الأمر بالأهمّ ، كما أنّ قبل تحقّقـه لايكون الأمر با لمهمّ موجوداً ; لعدم تحقّق شرطـه بعد فقبل تحقّق العصيان لايتحقّق الأمر با لمهمّ ، وبعد تحقّقـه لايبقى الأمر بالأهمّ ، فأين يلزم اجتماع الأمرين الذي عليـه يبتنى القول با لترتّب ، وأمّا لو كان الشرط هو العنوان الذي ينتزع من العصيان المتأخّر ، فمن الواضح لزوم طلب الجمع ; لأنّ بمجرّد تحقّق الزوال مثلاً الذي يتحقّق معـه شرط خطاب المهمّ يكون مأموراً بإتيان الأهمّ ويحرّكـه الأمر المتعلّق بـه نحوه ، وبإتيان المهمّ أيضاً لتحقّق شرطـه ، وهكذا لو كان الشرط هو التلبّس

(الصفحة140)

با لعصيان لو كان لـه معنى معقول .
والحاصل: إمّا أن يكون الشرط أيّ شيء كان مؤثّراً في سقوط خطاب الأهمّ ، فلايبقى مجال للترتّب ، وإمّا أن لايكون كذلك ، فيلزم طلب الجمع ، كما هو واضح .

حول أمثلـة الترتّب

ثمّ لايخفى أنّ الفروع التي أوردها في التقريرات للإلزام بصحّـة الخطاب الترتّبي(1) ، مضافاً إلى أنّ غايـة ما يدلّ عليها هو إمكان أن يكون بعض الخطابات مترتّباً على البعض الآخر وفي طولـه ، وهو ممّا لاينكره أحد حتّى القائلين بامتناع الترتّب ; لوروده في الشرع كثيراً ، نظير الأمر با لتوبـة ، المترتّب على تحقّق العصيان والذنب ، وغير ذلك من الموارد الكثيرة ، بل الذي يقول بـه القائل بالامتناع هو عدم تأثير الترتّب في دفع غائلـة طلب الجمع بين الضدّين المستحيل با لبداهـة ، ولايظهر من الفروع ذلك نقول : إنّ معنى النقض بشيء هو أن يكون المنقوض بـه مسلّماً بين المتخاصمين بحيث لا مجال لهما لإنكاره ، وحينئذ فنقول : إنّ مسأ لـة الإقامـة التي أوردها فيها لا تكون مورداً للنقض ; لأنّ الذي ورد في الشرع هو وجوب الصوم والإتمام على تقدير قصد الإقامـة عشرة أيّام ، لا معلّقاً على نفس الإقامـة ، وحينئذ فلو كان ذلك القصد محرّماً ، لتعلّق النذر أو العهد أو اليمين بعدمـه ، فما دام لم يتحقّق لايكون وجوب الصوم والإتمام متحقّقاً ، وبمجرّد تحقّقـه الذي يسقط بسببـه النهي المتعلّق بـه لحصول ا لعصيان بتحقّق الأمر بالإتمام ولكن بعد سقوط النهي كما عرفت .


1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 357 ـ 359.
<<التالي الفهرس السابق>>