في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة121)

انّه جلست مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً في رهط ، معنا الرجال بن عنفوة فقال: إنّ فيكم لرجلاً ضرسه في النار ، أعظم من احد ، فهلك القوم ، وبقيت أنا والرّجال. فكنت متخوّفاً حتّى خرج الرجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوّة فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة.
وبالجملة فكان مسيلمة يزعم أنّ له قرآناً ينزل عليه بسبب ملك اسمه «الرحمن» وكان كتابه مشتملاً على فصول وجملات ، بعضها مرتّب ، وبعضها مشتمل على الحوادث الواقعة له. والقضايا المتضمّنة لأحواله وأوضاعه ، وبعضها جواب عن السؤالات ، ولكن الجميع مشترك في أمر واحد وهو الدلالة على قصور عقل صاحبه ، وضعف مرتبته العلميّة. وجهله بحقيقة النبوّة ، وعدم اعتقاده بعالم الآخرة وما وراء الطبيعة ، ولذا قال في حقّه عمّ أحنف بن قيس ـ بعد ملاقاته إيّاه وسؤال أحنف عنه ـ انّه كيف رأيته ، ما مرجعه إلى أنّه ليس بنبيّ صادق ، ولا كاذب حاذق.
وحكي انّه جاء أبو طلحة اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا: مه رسول الله ، فقال: لا ، حتّى أراه ، فلمّا جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم ، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن ، قال: في نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة ، فقال: أشهد انّك كذّاب ، وانّ محمّداً صادق ، ولكن كذّاب ربيعة أحبّ إليّ من صادق مضر.
ومن جملة قرآنه: «والمنذرات زرعاً ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ، اهالة وسمناً ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه والمعتر فاووه ، والباغي فناووه».


(الصفحة122)

وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع ، نقى ما تنقين ، أعلاك في الماء ، وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين.
وحكى عن كتاب «الحيوان» للجاحظ انّه قال: ما أدري ما الذي دعا مسيلمة إلى أن يذكر اسم الضفدع ، ويجعله من جملة قرآنه الذي يزعم انّه قد أوحى به.
وكان يقول: «والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، انّه لعجب محض ، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون».
وكان يقول: «الفيل وما الفيل ، وما أدريك ما الفيل ، له ذنب وثيل ، وخرطومٌ طويل».
وأيضاً يقول: «لقد أنعم الله على الحملى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى».
وغير ذلك من الكلمات التي دلالتها على قصور صاحبها أقوى من دلالتها على معنى مقصود ، وحكايتها عن صدورها عن المبتلى بمرض حبّ الجاه والرياسة أوضح من حكايتها عن صدورها عمّن يريد كشف الحقيقة ، وبيان الواقعية ، كما هو ظاهر لمن يطلب الهداية ، ويجتنب طريق الضلالة.
وبالجملة: فقد حكي عن ابن عبّاس انّه قال: «كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ضرب بعث اُسامة فلم يستتبّ لوجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولخلع مسيلمة والأسود ، وقد أكثر المنافقون في تأمير اُسامة حتّى بلغه ، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك من الشأن ، وانتشاره لرؤيا رآها في بيت عائشة ، فقال: إنّي رأيت البارحة فيما يرى النائم أنّ في عضدي سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما هذين الكذّابين: صاحب اليمامة وصاحب اليمن ، وقد بلغني أنّ أقواماً

(الصفحة123)

يقولون في امارة اسامة ، ولعمري لإن قالوا في امارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبل ، وإن كان أبوه لخليقاً للامارة ، وانّه لخليق لها فانفذوا بعث اُسامة» إلى آخر الحكاية.
وفي تاريخ الطبري نقلاً عن أبي هريرة: «انّه بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلى أهل اليمامة أبو بكر خالداً ، فسار حتّى إذا بلغ ثنية اليمامة ، استقبل مجاعة بن مرارة ـ وكان سيِّد بني حنيفة ـ في جبّل من قومه ، يريد الغارة على بني عامر ، ويطلب دماءهم ثلاثة وعشرون فارساً ركباناً قد عرسوا ، فبيّتهم خالد في معرسهم ، فقال: متى سمعتم بنا؟ فقالوا: ما سمعنا بكم ، إنّما خرجنا لنثأر بدم لنا في بني عامر ، فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم ، واستحيا مجاعة ثمّ سار إلى اليمامة ، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد ، فنزلوا بعقرباء ، فحلّ بها عليهم وهي طرف اليمامة دون الأموال ، وريف اليمامة وراء ظهورهم ، وقال شرحبيل بن مسيلمة: اليوم يوم الغيرة ، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيات ، وينكحنّ غير خطيّات ، فقالتوا عن أحسابكم ، وامنعوا نسائكم ، فاقتلوا بعقرباء ، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة ، فقالوا: نخشى علينا من نفسك شيئاً ، فقال: بئس حامل القرآن أنا اذاً ، وكانت راية الأنصار مع ثابت بن شماس ، وكانت العرب على راياتها ، ومجاعة أسير مع اُمّ تميم ـ امرأة خالد ـ في فسطاطها ، فجال المسلمون جولة ، ودخل اُناس من بني حنيفة على اُمّ تميم فأرادوا قتلها فمنعها مجاعة ، وقال: أنا لها جار ، فنعمت الحرّة هي فدفعهم عنها ، وترادّ المسلمون ، فكرّوا عليهم فانهزمت بنو حنيفة ، فقال المحكم بن الطفيل: يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة ، فانّي سأمنع أدباركم ، فقاتل دونهم ساعة ثمّ قتله الله ، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ، ودخل

(الصفحة124)

الكفّار الحديقة ، وقتل وحشي مسيلمة وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه.
إذا عرفت ما حكيناه من قصّة مسيلمة ، وما جاء به مضاهياً للقرآن بزعمه يظهر لك أنّ النكات الجالبة في تلك القصّة الماسّة بما نحن بصدده من إبطال ما يدّعيه ، وعدم لياقة ما أتى به بذلك العنوان بأن يتّصف بالمعارضة والمماثلة للقرآن ، وإن كان وضوح ذلك بمكان لا يفتقر معه إلى التوضيح والبيان أمور تالية:
أحدها: انّه كان يزعم انّ النبوّة متقوّمة بالادّعاء ، وانّه ليس لها حقيقة وواقعيّة ، راجعة إلى الارتباط الخاصّ بمبدأ الوحي والبعث من قبله ، وذلك لاستدعائه من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التشريك ، وجعله دخيلاً في نبوّته سهيماً فيها ، ويدلّ عليه أيضاً خلو كتابه عن التحدّي الذي هو الركن في باب تحقّق المعجزة.
ثانيها: اعترافه في مكتوبه الذي أرسله إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في العام العاشر من الهجرة بأنّه أيضاً مثله نبي ورسول ، حيث يقول فيه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله فإنّي قد أشركت الخ» مع أنّ من الواضح أنّ رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن محدودة من حيث الزمان والمكان ، بل كانت رسالة مطلقة عامّة ثابتة إلى يوم القيامة ، ولذا أخبر بأنّه مع اجتماع الإنس والجنّ على الإتيان بمثل القرآن لا يكاد يتحقّق ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وحينئذ فإنّا أن يكون مسيلمة مصدقاً لهذه الداعية ، ومعتقداً لها فلازمه التصديق بعدم وجود رسول آخر ، وبعجزه عن الإتيان بما يماثل القرآن ، وانّ ما أتى به لا ينطبق عليه هذا العنوان ، فكيف يدّعي النبوّة لنفسه أيضاً ، مع اعترافه بالقصور والعجز ، وامّا أن يكون مكذِّباً لتلك الداعية ، ومعتقداً بجواز الإتيان بمثله ، وانّه قد أتى به فلِمَ صدّق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بالرسالة ، ووصفه بأنّه أيضاً نبي مثله في مكتوبه الذي أرسل إليه ، ولعمري انّ هذا

(الصفحة125)

أيضاً دليل واضح على أنّه كان يزعم أنّ النبوّة نوع من السلطنة الظاهرية ، والزعامة الدنيويّة ، وليس لها حقيقة وواقعيّة.
ثالثها: انّ ما أتى به بعنوان الوحي ـ الذي قد اُوحي به إليه بزعمه من الله السبحان ، بواسطة ملك اسمه الرّحمن ، وقد تقدّم نقل جملة منه ـ إن كان الباحث الناظر قادراً على مقايسته مع القرآن ، وتشخيص عدم كونه في مرتبته بوجه ـ كما هو الظاهر لمن له أدنى اطّلاع من فنون الأدب واللغة العربيّة ـ وإلاّ فالديل على عدم اتّصافه بوصف المماثلة والمعارضة ما يستفاد ممّا ذكرنا سابقاً ، وهو انّه لو كانت تلك الجملات المضحكة والكلمات السخيفة قابلة للمعارضة للقرآن لاستند بها المعاندون ـ على كثرتهم ـ وفيهم البلغاء ، والمخالفون ـ مع عدم قلّتهم ـ ، وفيهم الفصحاء ، ولما كان وجه لبقاء المسلمين على عقيدتهم لوضوح عدم كونها ناشئة عن التعصّب القومي ، بل كانت مستندة إلى الدليل والبرهان ، ومن المعلوم انّ قوام الدليل بعدم وجود المعارض ، فمع وجوده لا يبقى له مجال.
فإذن: الدليل الواضح على نقصان مرتبة تلك الكلمات عدم اعتناء المخالف والمؤالف بها ، مع أنّ المعاندين كانوا يتشبّثون بكلّ حشيش لإطفاء نور النبوّه ، وسلب وصف الإعجاز عن المعجزة الباقية الوحيدة ، وتضعيف الاُمّة الإسلامية بكلّ حيلة ، وترويج الملّة الباطلة بكلّ طريقة ، كما هو غير خفي على من له أدنى بصيرة.

2 ـ سجاح بنت الحارث بن سويد :
تنبأت بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجزيرة في بني تغلب فاستجاب لها هذيل ،

(الصفحة126)

وترك التنصّر ، وهؤلاء الرؤوساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر ، فلمّا انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ، ودعته إلى الموادعة ، فأجابها وفثاها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم قالت: نعم فشأنك بمن رأيت ، فانّي إنّما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم.
وكانت راسخة في النصرانيّة قد علمت من علم نصارى تغلب ، وأمرت متابعيه بالتوجّه إلى اليمامة ، والمنازعة مع مسيلمة ، فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة ، وقد غلظ أمر مسيلمة ، فقال: عليكم باليمامة ودفّوا دفيف الحمامة ، فانّها غزوة صرامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة ، فنهدت لبني حنيفة ، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ، وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه مخالفوه فأهدى لها ، ثمّ أرسل إليها يستأمنها على نفسه ، حتّى يأتيها فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وأمنته فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة.
وفي رواية اُخرى: انّ مسيلمة لمّا نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح انزل ، قال: فنحّي عنك أصحابك ، ففعلت ، فقال مسيلمة اضربوا لها قبّة ، وجمّروها لعلّها تذكر الباه ، ففعلوا فلمّا دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال: ليقف هاهنا عشرة ، وهاهنا عشرة ، ثمّ دارسها فقال: ما اُوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن ولكن ائت ما اُوحي إليك ، قال: ألم تر إلى ربّك كيف فعل بالحملى ، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشي ، قالت: وماذا أيضاً؟ قال: أوحي إليّ أنّ الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهنّ أزواجاً ، فنولج فيها قعساً إيلاحاً ، ثمّ نخرجها إذا نشاء إخراجاً ، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً ، قالت: أشهد أنّك نبيّ ، قال: هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم ، إلى أن قال

(الصفحة127)

بذلك اُوحي إليّ ، فأقامت عنده ثلاثاً ثمّ انصرفت إلى قومها ، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحقّ فاتّبعته فتزوّجته ، قالوا: فهل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا ، قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ، فرجعت فلمّا رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال: ما لكِ؟ قالت: اصدقني صداقاً ، قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي قال: عليَّ به فجاء فقال: ناد في أصحابك أنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين ممّا أتاكم به محمّد: صلاة العشاء الآخرة ، وصلاة الفجر ، فانصرفت ومعها أصحابها.
وعن الكلبي انّ مشيخة بني تميم حدّثوه أنّ عامّة بني تميم بالرمل لا يصلّونها.
وفي رواية: صالحها على أن يحمل إليها النصف من غلاّت اليمامة ، وأبت إلاّ السنة المقبلة ، يسلفها فباح لها بذلك ، وقال: خلّفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلّفت جماعة لينجز النصف الباقي.
وكان من جملة ما تدّعي انّه الوحي قولها: «يا أيّها المؤمنون المتّقون لنا نصف الأرض وتعريش نصفها ولكن قريشاً قوم يبغون». ولكنّها أسلمت آخر الأمر وارتدّت عن دعواها النبوّة وأثبتت أنّ دعواها كانت لغرض الزواج من مسيلمة الكذّاب.
والإنصاف: إنّ اجتماع الكذّابين ، وازدواج المنحرفين فيه من الكفاءة في البين ما لا يخفى ، وحال الثمرة الحاصلة أوضح.

3 - عبهلة بن كعب المعروف بالأسود «كذّاب الغسي ذي الخمار» :


(الصفحة128)

لأنّه كان يدّعي الوحي إليه بسبب ملك له خمار ، كان كاهناً شعباذاً ، وكان يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من سمع منطقه ، وهو الذي عبّر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصّة الرؤيا المتقدّمة بصاحب اليمن.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع لباذام ـ حين أسلم وأسلمت اليمن ـ عمل اليمن كلّها وأمّره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتّى مات باذام ، فلمّا مات فرّق عملها بين جماعة من أصحابه ، وكان من تلك الجماعة ابن باذام المسمّى بـ «شهر» إلى أن توجّه الأسود نحو صنعاء اليمن ، وكان معه سبعمائة فارس سوى الركبان ، وقد خرج إليه شهر بن باذام الذي كان عاملاً على صنعاء ، وقاتل معه وقتل ابن باذام ، وغلب الأسود على صنعاء ، وتزوّج امرأته شهر وهي ابنة عم فيروز الذي اسند الأسود أمر الانباء إليه وإلى دازويه ، وفي هذا الزمان كتب إليهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتاب يأمرهم فيه بالقيام على دينهم ، والنهوض في الحرب والعمل في الأسود ، امّا غيلة وامّا مصارمة. فعزموا على قتله ، وأخبروا بعزيمتهم امرأته ، ووافقتهم على ذلك ، وهدتهم على كيفية الوصول إليه بقولها: هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلاّ والحرس محيطون به غير هذا البيت ، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنّكم من دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، وقالت: إنّكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً.
قالوا: ففعلنا مثل ما قالت فنقبنا البيت من خارج ، ثمّ دخلنا وفيه سراج تحت جفنته ، وإذا المرأة جالسة فعاجله واحد وخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فقتله فدقّ عنقه ، ووضع ركبته في ظهره ، فدقّه ثمّ قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه ،

(الصفحة129)

وهي ترى انّه لم يقتله.
فقالت: أين تدعني؟ قال: أخبر أصحابي بمقتله ، فأتانا فقمنا معه ، فأردنا حزّ رأسه ، فحرّكه الشيطان فاضطرب ، فلم يضبطه فقلت: اجلسوا على صدره ، فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة ، وأمرّ الشفرة على حلقه ، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قط ، فابتدر الحرس الباب ـ وهم حول المقصورة ـ فقالوا: ما هذا ما هذا؟ فقالت المرأة: النبيّ يوحى إليه فخمد ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا ، فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثمّ ينادى بالأذان ، فلمّا طلع الفجر نادى دازويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا ، ثمّ ناديت بالأذان وتوافت خيولهم إلى الحرس فناديتهم: أشهد أنّ محمّداً رسول الله وانّ عبلهة كذّاب وألقينا إليهم رأسه.

4 ـ طليحة بن خويلد الأسدي :
وقد نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة التاسعة مع وفد أسد بن خزيمة ، وأسلم ثمّ رجع وارتدّ ، فادّعى النبوّة ، فوجّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ضارر بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك ، وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ ، فاشجوا طليحة وأخافوه ، ونزل المسلمون بواردات ، ونزل المشركون بسميراد ، فما زال المسلمون في نماء ، والمشركون في نقصان ، حتّى همَّ ضرار بالمسير إلى طليحة فلم يبق إلاّ أخذه سلماً إلاّ ضربة كان ضربها بالجراز فنبا عنه ، فشاعت في الناس فأتى المسلمون ـ وهم على ذلك ـ بخبر موت نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة انّ السلاح لا يحيك في طليحة ، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان ،

(الصفحة130)

وارفض الناس إلى طليحة واستطار أمره.
فلمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عينية بن حصن في غطفان ، فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ، وانّي لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ، ومتابع طليحة ، والله لأن نتّبع نبيّاً من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتّبع نبيّاً من قريش ، وقد مات محمّد وبقى طليحة فطابقوه على رأيه ففعل وفعلوا.
ثمّ إنّ أبا بكر لمّا رجع إليه اُسامة ، ومن كان معه من الجيش أمر خالداً أن يصمد لطليحة وعينية وهما على بزاحة ماء من مياه بني أسد ، وخرج إليه عينية مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة ، ووقع بينهم قتال شديد ، وطليحة متلفّف في كساء له بفناء بيت له من شعر ، يتنبّأ لهم والناس يقتتلون ، فلمّا هزّت عينية الحرب وضرس القتال كرّ على طليحة ، فقال: هل جاءك جبرئيل بعد؟ قال: لا ، فرجع فقاتل حتّى إذا ضرس القتال ، وهزّته الحرب كرّ عليه فقال: لا أبا لك أجاءك جبرئيل بعد؟ قال: لا والله ، ثمّ رجع فقاتل حتّى إذا بلغ كرّ عليه فقال: هل جاءك جبرئيل بعد؟ قال: نعم ، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إنّ لك رحاً كرحاه ، وحديثا لا تنساه ، فقال عينية: أظنّ أن قد علم الله انّه سيكون حديث لا تنساه ، يا بني فزارة هكذا فانصرفوا فهذا والله كذّاب ، فانصرفوا وانهزم الناس ، فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا ، وقد كان أعدَّ فرسه عنده ، فلمّا أن غشوه يقولون ماذا تأمرنا ، قام فوثب على فرسه وحمل امرأته ثمّ نجا بها ، وقال من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت ، وينجو بأهله فليفعل ، فلمّا أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلّم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.


(الصفحة131)

وقد أسلم طليحة بعد ذلك حين بلغه أنّ أسداً وغطفان وعامر قد أسلموا ، ثمّ خرج نحو مكّة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومرّ بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة ، فقال: ما أصنع به خلّوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام ، ومضى طليحة نحو مكّة فقضى عمرته ثمّ أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت ، والله لا أحبّك أبداً ، فقال: ما تهمّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنّي بأيديهما ، فبايعه عمر ثمّ قال له: يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير ، ثمّ رجع إلى دار قومه فأقام بها حتّى خرج إلى العراق.
وبالجملة: فيزعم في زمان ادّعائه للنبوّة انّ ملكاً ينزل الوحي عليه واسمه «ذوالنون» أو «جبرائيل» ولكنّه لم يدّع كتاباً لنفسه وكان من جملة ما يدّعي الوحي عليه ما حكاه عنه في معجم البلدان من قوله: «إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئاً فاذكروا الله قياماً فإنّ الرغوة فوق الصريح». والرغوة ـ مثلثة الراء ـ من اللبن ما عليه من الزّبد.
وما حكاه الطبري عن رجل من بني أسد حين أتى به خالداً وسأل عنه عمّا يقول طليحة لهم من قوله: «والحمام واليمام ، والصرد الصوّام ، قد ضمن قبلكم بأعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام» واليمام الحمام البرّي.

5 - النضر بن الحارث بن كلدة :
هو ، وعقبة بن أبي معيط ، والعاص بن وائل السهمي هم الذين بعثتهم قريش إلى نجران ليتعلّموا مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن المناقب عن الكلبي كان النضر بن الحارث يتّجر فيخرج إلى فارس ،

(الصفحة132)

ويشتري أخبار الأعاجم ، ويحدِّث بها قريشاً ، ويقول: «إنّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا اُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزل: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}(1).
ونقل انّ في أيّام الشعب كان من دخل مكّة من العرب لا يجرأ أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان النضر ورفيقاه وأبو جهل يخرجون من مكّة إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معهم ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذِّرون إن باع منهم شيئاً أن ينهبوا ماله.
هذا ولكن الرجل لم يكن له داعية النبوّة ، ولكنّه يزعم إمكان المعارضة مع القرآن ، ولأجل حماقته لم يعتن به المؤرِّخون والاُدباء ، ولم يقع شيء ممّا أتى به بهذا العنوان مورداً لتوجّه من له أدنى خبرة بالبلاغة والفصاحة ، فضلاً عن غيرهما من الشؤون المختلفة الموجودة في القرآن المثبتة لإعجازه ، كما عرفت شطراً منها فيما تقدّم.

6 - أبو الحسن عبدالله بن المقفع الفارسي :
الفاضل المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب ، كان مجوسياً أسلم على يد عيسى بن عليّ عمّ المنصوب بحسب الظاهر ، وكان كابن أبي العوجاء ، وابن طالوت ، وابن الأعمى على طريق الزندقة ، وهو الذي عرّب كتاب «كليلة ودمنة» وصنّف الدرّة اليتيمة ، وكان كاتباً لعيسى المذكور.
وقد زعم بعض انّه عارض القرآن مدّة ، ثمّ ندم عن ذلك ومزّق ما كتبه في هذه

(1) لقمان: 6.

(الصفحة133)

الجهة ، ونقل انّ السبب في ندامته ، ورجوعه عن عزيمته انّه حينما كان يعارض القرآن وصل إلى هذه الآية الشريفة: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي} فقال: إنّ المعارضة مع هذه الآية خارجة عن الاستطاعة البشريّة ، فرفع اليد عنها ومزّق ما كتبه في ذلك.
قال الرافعي صاحب كتاب «اعجاز القرآن» في تعريف الرجل: «زعموا أنّه اشتغل بمعارضة القرآن مدّة ، ثمّ مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره» ثمّ قال: «وهذا عندنا إنّما هو تصحيح من بعض العلماء ، ولما تزعمه الملحدة من أنّ كتاب «الدرّة اليتيمة»(1) لابن المقفع ، هو في معارضة القرآن فكان الكذب لا يدفع إلاّ بالكذب ، وإذا قال هؤلاء انّ الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوّته وفصاحته ، وانّه في ذلك من وزن القرآن وطبقته ، وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر قال أولئك: بل عارض ومزّق واستحيا لنفسه.
امّا نحن فنقول: إنّ الروايتين مكذوبتان جميعاً ، وانّ ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة ، لا لشيء من الأشياء إلاّ لأنّه من أبلغ الناس ، وإذا قيل لك: إنّ فلاناً يزعم إمكان المعارضة ، ويحتجّ لذلك ، وينازع فيه فاعلم أنّ فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين : إمّا جاهل يصدق في نفسه ، وامّا عالم يكذب على

(1) كتب في الذيل في شأن الكتاب: «طبع هذا الكتاب مراراً وهو من الرسائل المنتعة ، يعدّ طبقة من طبقات البلاغة العربية ، ولكنّه في المعارضة ليس هناك لا قصداً ولا مقاربة ، ونحن لا نرى فيه شيئاً لا يمكن أن يؤتى بأحسن منه ، وما كلّ ممتع ممتنع.
وقال الباقلاني: إنّه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة ، وهذا هو الرأي ، فإنّ ابن المقفع لم يكن إلاّ مترجماً ، وكان ينحط إذا كتب ، ويعلو إذا ترجم ، لأنّ له في الأولى عقله ، وفي الثانية كل العقول ، وفي «اليتيمة» عبارات وأساليب مسروقة من كلام الإمام علي (عليه السلام).

(الصفحة134)

الناس ، وأن يكون (فلان) ثالث ثلاثة ، وانّما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس ، لأنّ فتنة الفرق الملحدة إنّما كانت بعده ، وكان البلغاء كافّة لا يمترون في اعجاز القرآن ، وإن اختلفوا في وجه اعجازه ، ثمّ كان ابن المقفّع متّهماً عند الناس في دينه ، فدفع بعض ذلك إلى بعض ، وتهيّأت النسبة من الجملة ، ولو كانت الزندقة فاشية أيّام عبد الحميد الكاتب ، وكان متّهماً بها ، أو كان له عرق في المجوسيّة لما اخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة ، لا لأنّه زنديق ، ولكن لأنّه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة .
وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً انّ حكم قابوس بن وشمگير ، وقصيصه هي من بعض المعارضة للقرآن ، فكأنّهم يحسبون أنّ كلّ ما فيه أدب وحكمة وتاريخ واخبار فتلك سبيله ، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ومثل قولهم : إنّ القصائد السبعة المسمّاة بالمعلّقات هي عدم معارضة للقرآن بفصاحتها» (انتهى كلامه) وحديث قتله معروف مذكور في التواريخ والسير .

7 ـ أبو الحسين أحمد بن يحيى «المعروف بابن الراوندي» :(1) :
وقد وقع الخلاف في ترجمة الرجل بين العامّة والخاصّة ، بحيث إذا قصرنا النظر على خصوص الطائفة الاُولى ، وما ترجموه به الرجل لكان اللاّزم الحكم عليه

(1) في هامش اعجاز القرآن : «توفى سنة 293 على رواية أبي الفداء ، وفي كشف الظنون سنة 301 ، وفي وفيات ابن خلكان سنة 345 وقيل 350 ولعلّ الأولى أقرب ، وكان هذا الرجل من المعتزلة ، ثمّ خالفهم فنبذوه ، واشتدّوا عليه ، فحمله الغيظ على أن مال إلى الرافضة ، قالوا : لأنّه لم يجد فرقة من فرق الاُمّة تقبله ، ثمّ ألحد في دينه ، وجعل يصنّف الكتب لليهود والنصارى وغيرهم في الطعن على الإسلام ، وهلك في منزل رجل يهودي اسمه أبو عيسى الأهوازي ، وكان يؤلِّف له الكتب» .

(الصفحة135)

بأنّه من الملاحدة ، والطاعنين على الإسلام ، بل على جميع الأديان ، وإذا لاحظنا ما قاله الخاصّة في شأنه ـ سيّما بعض الأعلام الأقدمين ـ لكان اللاّزم الرجوع عن ذلك ، والحكم بخلافه ، بل بأنّه من خواصّ الشيعة وأعلامهم ، ولا بأس بإيراد كلام الفريقين ، ونقتصر ممّا قاله العامّة على ما أورده الرافعي في كتابه «اعجاز القرآن» متناً وهامشاً بعين ألفاظه ، قال بعد العنوان المذكور :
«كان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام ، فبسط لسانه في مناقضة الشريعة ، وذهب يزعم ويفتري ، وليس أدلّ على جهله ، وفساد قياسه ، وانّه يمضي في قضية لا برهان له بها من قوله في كتاب «الفريد»(1) : إنّ المسلمين احتجّوا لنبوّة نبيّهم بالقرآن الذي تحدّى به النبيّ ، فلم تقدر على معارضته ، فيقال لهم : اخبرونا لو ادّعى مدّع لمن تقدّم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن ، فقال : الدليل على صدق بطلميوس واقليدس : انّ اقليدس ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوّته تثبت؟» .
ثمّ أجاب الرافعي عنه بما ليس بجواب بل الجواب عنه ما ذكرناه في ردّ بعض الأوهام السابقة . ثمّ قال : «وقد قيل إنّ الرجل عارض القرآن بكتاب سمّاه «التاج» ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب ، مع أنّ أبا الفداء نقل في تاريخه انّ العلماء قد أجابوا عن كلّ ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من كفرياته ، وبيّنوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة ، والذي نظنّه أنّ كتاب «ابن الراوندي» إنّما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة ، كما صنع في سائر

(1) فيه أيضاً : «وفي تاريخ أبي الفداء «الفرند» وهو تصحيف وهذا الكتاب وضعه ابن الراوندي في الطعن على النبي ، وقد ردّوا عليه ونقضوه» .

(الصفحة136)

كتبه كالفريد ، والزّمردة ، وقضيب الذهب ، والمرجان(1) فإنّهما فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلّها اعتراض على الشريعة والنبوّة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح ولا يقيم وزنها علم راجح(2) وقد ذكر المعرّي هذه الكتب في رسالة الغفران ، ووفي الرجل حسابه عليها ، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع . وناهيك من سجع المعرّي الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى ، وممّا قاله في التاج : «وامّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلاً ، وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : «أفّ وتفّ ، وجورب وخفّ ، قيل وما جورب وخفّ؟ قالت : واديان بجهنّم» وهذا يشير إلى أنّ الكتاب كذب واختلاق ، وصرف لحقائق الكلام كما

(1) في هامش الاعجاز : «يخيّل إلينا أنّ ابن الراوندي كان ذا خيال ، وكان فاسد التخيّل وإلاّ فما هذه الأسماء ، وأين هي ممّا وضعت له؟ والخيال الفاسد أشدّ خطراً على صاحبه من الجنون ، لأنّه فساد في الدماغ ، ولأنّه حديث متوثب ، فما يملك معه الدين ولا العقل شيئاً ، وأظهر الصفات في صاحبه الغرور» .
(2) فيه أيضاً : «كتبنا هذا للطبعة الاُولى ، ثمّ وقفنا بعد ذلك على أنّ كتاب التاج يحتجّ فيه صاحبه لقدم العالم ، وانّه ليس للعالم صانع ولا مدبِّر ولا محدث ولا خالق ، امّا كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه «الدامغ» قالوا إنّه وضعه لابن لاوي اليهودي ، وطعن فيه على نظم القرآن ، وقد نقضه عليه الخيّاط وأبو علي الجبائي قالوا : ونقضه على نفسه ، والسبب في ذلك انّه كان يؤلّف لليهود والنصارى الثنوية ، وأهل التعطيل بأثمان يعيش منها ، فيضع لهم الكتاب بثمن يتهدّدهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته .
قال أبو العبّاس الطبري : إنّه صنّف لليهود كتاب «البصيرة» ردّاً على الإسلام ، لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامراء ، فلمّا قبض المال رام نقضه حتّى أعطوه مائة درهم اُخرى ، فأمسك عن النقض . امّا ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلاّ ما نقله صاحب «معاهد التخصيص» قال : اجتمع ابن الراوندي هو وأبو علي الجبائي يوماً على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا علي ألا تسمع شيئاً من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي : أنا أعلم بمخازي علومك ، وعلوم أهل دهرك ، ولكن اُحاكمك إلى نفسك فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة ، وتشاكلاً وتلاؤماً ونظماً كنظمه ، وحلاوة كحلاوته؟ قال : لا والله ، قال : قد كفيتني فانصرف حيث شئت . ويقال : إنّ ابن الراوندي كان أبوه يهوديّاً فأسلم ، والخلاف في أمره كثير وبلغت مصنّفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً» .

(الصفحة137)

فعلت الكاهنة ، وإلاّ فلو كانت معارضته لنقض التحدّي ـ وقد زعم انّه جاء بمثله ـ لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة ، كما أصبنا من ذلك لغيره(1) (انتهى ما في كتاب الاعجاز) .
ونقل انّ الكتب التي صنّفها هي :
1 ـ التاج في قدم العالم .
2 ـ الزمرد في إبطال الرسالة .
3 ـ نعت الحكمة في الاعتراض بالباري تبارك وتعالى من جهة تكليفه للعباد .
4 ـ الدامغ في الطعن على نظم القرآن .
5 ـ القضيب في حدوث علم الباري .
6 ـ الفريد في الطعن على النبيّ .
7 ـ المرجان في اختلاف أهل الإسلام .
وحكى أنّه قد نقض على أكثر كتبه ، وردّه أبو الحسن الخيّاط وأبو علي الجبائي ، هذا حال الرجل في محيط العامّة .
وأمّا أصحابنا فقد ذكر المحدِّث القمّي (قدس سره) في كتاب «الكنى والألقاب» الرجل ووصفه بالعالم المقدّم المشهور ، له مقالة في علم الكلام ، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وله من الكتب المصنّفة نحو من مائة وأربعة عشر كتاباً ، قال : «وكان عند الجمهور يرمى بالزندقة والإلحاد ، وحكى عن الروضات انّه قال : وعن ابن شهرآشوب في كتابه المعالم انّ ابن الراوندي هذا مطعون عليه جدّاً ،

(1) فيه أيضاً : في ص111 ج2 من هامش الكامل أسماء الذين كانوا يطعنون على القرآن ، ويصنعون الأخبار ويبثّونها في الأمصار ، ويضعون الكتب على أهله .

(الصفحة138)

ولكنّه ذكر السيِّد الأجلّ المرتضى في كتابه الشافي في الإمامة انّه إنّما عمل الكتب التي قد شنع بها عليه مغالطة للمعتزلة ليبيّن لهم عن استقصاء نقصانها ، وكان يتبرّأ منها تبرّءً ظاهراً ، وينتحى من علمها وتصنيفها إلى غيره ، وله كتب سداد ، مثل كتاب الإمامة ، والعروس ثمّ قال : ساق صاحب الروضات الكلام في ترجمته وفي آخره انّ صاحب رياض العلماء قال : ظنّي أنّ السيّد المرتضى نصّ على تشيّعه وحسن عقيدته في مطاوي الشافي أو غيره» انتهى .
ومن ذلك يظهر أنّ رمي الجمهور له بالزندقة والإلحاد إنّما كان لأجل استبصاره ، واتّباعه لمذهب الحقّ ، واختياره التشيّع والعقيدة الصحيحة ، ولذا طعنوا عليه بأنّ اختياره لذلك إنّما هو لأجل انّه لم يجد فرقة من فرق الاُمّة تقبله ، تلويحاً بأنّه ليست الشيعة من فرق الاُمّة الإسلامية والحكم هو العقل والوجدان ، والحاكم هو الدليل والبرهان .

8 ـ كاتب رسالة «حسن الايجاز» :
وهو كتيِّب صدر من المطبعة الانكليزية الامريكانيّة ببولاق مصر سنة 1912 الميلاديّة ، فإنّه ذكر في رسالته انّه يمكن معارضة القرآن بمثله ، وأتى بهذا العنوان جملاً اقتبسها من القرآن ، مع تغيير بعض ألفاظه ، وحذف بعض آخر ، مثل ما ذكر في معارضة سورة الكوثر من قوله : «انّا أعطيناك الجواهر ، فصلِّ لربِّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر» وما ذكر في معارضة سورة الفاتحة من قوله : «الحمد للرحمن ، ربّ الأكوان ، الملك الديّان ، لك العبادة وبك المستعان ، اهدنا صراط الايمان» وزعم أنّ هذا القول واف لجميع مقاصد سورة الفاتحة ، ويمتاز عنها

(الصفحة139)

بكونه أخصر منها .
أقول : لابدّ قبل المقايسة بين جمله ـ التي أتعب بها نفسه ، مع كونها مقتبسة من الكتاب ـ وبين السورتين من بيان معنى المعارضة ، وتعليم هذا الكاتب الجاهل وهدايته إلى حقيقة هذه اللفظة ، وتوضيح مفهومها ، وانّ المألوف في معارضة كلام من نثر أو نظم ماذا؟ أفيصدق معنى معارضة الشعر ـ مثلاً ـ بأن يأتي المعارض بذلك الشعر ، مع تغيير في بعض ألفاظه بوضع لفظ آخر يتّحد معناه معه مكانه ، فإذا كانت حقيقة المعارضة متحقّقة بذلك ، فلا يكون من له أدنى اطّلاع من لغة ذلك الشعر عاجزاً عن الشعر والإتيان بالمعارض ، وإن لم يكن له القريحة الخاصّة الشعرية الباعثة له على ذلك بوجه أصلاً ، بحيث لا يكاد يقدر على الإتيان ببيت من عند نفسه ، وهل تكون المعارضة مع الكاتب بتبديل بعض الألفاظ ، وحذف البعض الآخر ، فإذن تكون معارضة كلّ كلام بهذه المثابة ممكنة جدّاً ، أكانت المعارضة بهذا النحو غير مقدورة لمعاصري نزول الكتاب من الفصحاء البارعين ، والبلغاء المتبحِّرين .
وكان مضيّ ثلاث عشر قرناً من حين النزول لازماً لأن يعلو مستوى العلم ويدرج البشر مراتب الكمال ، ليظهر كاتب هذه الرسالة ، ويقدر على الإتيان بالمعارض بمثل ما ذكر ، بعدما لم يكن في تلك القرون من كان قادراً على الإتيان بمثله ، وإذا كان الأمر كذلك فكان ينبغي له ادّعاء النبوّة والتحدّي بما أتى به من الكلمات ، لأنّ المفروض عدم قدرة غيره على الإتيان بمثله وإلاّ لأتى به .
فمتى ينزل البشر عن مركب الهوى والعصبية المهلكة ، ومتى يلقى زمام اُمور عقائده وأفعاله على العقل السليم ، ومتى ينكشف له انّ إضلال الناس بما لا يعتقد به

(الصفحة140)

من أشدّ المعاصي وأعظم الجرائم ، وممّا لا يستأهل لأن يعفى عنه ، ويغضّ منه ، ولكن الأسف ـ كماله ـ من جهل الناس ، وبعدهم عن الحقائق ، وتخيّلهم أنّ مثل كاتب الرسالة ممّن له حظّ وافر من العلم ، ولا يقصد من نشر رسالته إلاّ نشر العلم ، وكشف الحقيقة ، مع أنّه من الواضح كون مثله أجيراً لعمّال الاستعمار ، ناشراً لأفكارهم السخيفة ، ونواياهم السيّئة التي لا تنتهي إلاّ إلى خذلان المسلمين ، وتضعيف عقائدهم ، ونهب أموالهم ، والسلطة عليهم ، كما هو ظاهر .
ولعمري انّ مثل ذلك ممّا يوجب الطمأنينة للنفس بأنّ البشر مع ادّعائه السير الكمالي ، والرقي العلمي لا يكون إلاّ في القوس النزولي ، والسير الانحطاطي ، فإنّ العرب في الجاهلية ـ مع شدّة تعصّبهم ، وبعدهم عن الحقائق والمدنيّة ـ قد عرفوا حقيقة المعارضة ، واعترفوا بعجزهم عن الإتيان بما يماثل القرآن ، مع كون امتيازهم في ذلك العصر ، من حيث البلاغة والفصاحة فقط ، فلذا آمن به بعض ، وقال غيره : «إن هذا إلاّ سحرٌ يؤثر» ، وامّا في هذا العصر فلا معرفة لمثل الكاتب بهذه الحقيقة ، فتراه يأتي بمثل ما ذكر بعنوان المعارضة ، ويفتخر بهذا المبلغ العلمي ، وهذه الدرجة من الإدراك .
وبالجملة : فمعنى المعارضة الراجعة إلى الإتيان بما في عرض الكلام الأوّل ، وفي رتبته ودرجته عبارة عن الإتيان بكلام مستقلّ في جهاته الراجعة إلى ألفاظه وتركيبه واسلوبه ، ومع ذلك كان متّحداً مع الكلام الأوّل في جهة من الجهات ، أو غرض من الأغراض ، وهذا المعنى لا يكون موجوداً في الجمل المذكورة .
مع أنّه سرق قوله في معارضة سورة الكوثر من مسيلمة الكذّاب الذي يقول : «انّا أعطيناك الجماهر ، فصلِّ لربك وجاهر ، إنّ مبغضك رجلٌ كافر» وكم من
<<التالي الفهرس السابق>>