في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة281)

وفيها جهات من الإشكال .
الثاني : ظاهر الرواية الخامسة : أنّ أبا بكر بنفسه كان قد جمع في قراطيس وسأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتّى استعان عليه بعمر ، وظاهر الرواية الاُولى وبعض الروايات الاُخر أنّ الجمع قد وقع بيد زيد بن ثابت ، وانّه لم يصدر من أبي بكر في هذه الجهة إلاّ الأمر والمطالبة والاستدعاء ، ويظهر من بعضها أنّ المتصدّي لذلك هو زيد بن ثابت ، وعمر بن الخطّاب .
الثالث : ظاهر الرواية الاُولى أنّ الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ، وأخبره بأنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن في يوم اليمامة هو : عمر بن الخطّاب ، وأنّ زيداً امتنع من ذلك أوّلاً . وظاهر الرواية الثانية عشر : أنّ زيد بن ثابت لقى عمر بن الخطّاب وأخبره بعزمه على جمع القرآن ، وقال عمر له : انتظر حتّى أسأل أبا بكر فمضيا إليه ، فأخبره بذلك ، فنهاهما عن العجلة حتّى يشاور المسلمين ، وظاهر الرواية الرابعة : أنّ أبا بكر فرق على القرآن أن يضيع ، فأمر عمر بن الخطّاب ، وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد لجمع القرآن .
الرابع : ظاهر الرواية الاُولى انّ الذي جمع القرآن ـ بعدما أمر به هو زيد بن ثابت فقط ، وانّه الذي فوّض إليه ذلك وتتبّع القرآن بأجمعه من الرقاع واللخاف والأكتاف والعسب وصدور الرجال . وظاهر مثل الرواية السادسة : انّه أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب ، وزيد بن ثابت فقال : اجلسا على باب المسجد واكتبا ما شهد به شاهدان .
الخامس : ظاهر الرواية الخامسة والسابعة عشر أنّ الذي استند إليه عثمان في جمعه ، واعتمد عليه هي الصحف التي كانت عند حفصة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي التي

(الصفحة282)

كتبت في زمن أبي بكر ، وكانت عنده في حياته ، ثمّ عند عمر زمن حياته ، ثمّ انتقل إلى حفصة ، وظاهر مثل هذه الرواية التاسعة انّه قام عثمان بعد عمر فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتّى يشهد عليه شاهدان ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات ـ وهي الرواية العشرون ـ بأنّه اعتمد في ذلك على ما أتاه به الرجل من اللوح والكتف والعسيب ، وعلى اخباره بأنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
السادس : صريح الرواية السابعة عشر ، والسادسة والعشرين : أنّ الآية التي فقدها زيد بن ثابت ، ووجدها عند خزيمة بن ثابت ، هي آية واحدة من سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ، وصريح مثل هذه الرواية الاُولى أنّ ما وجد عند خزيمة آيتان من البراءة ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية الاُولى انّ إلحاق ما جاء به خزيمة كان في زمن أبي بكر ، وظاهر الرواية التاسعة انّ الإلحاق كان في زمن عثمان ، وظاهر البعض الآخر كالرواية الثالثة انّ الإلحاق كان في زمن عمر ، مضافاً إلى أنّ ظاهر بعض الروايات انّه قبل ما جاء به خزيمة من دون أن يقترن بشهادة شاهدين ، نظراً إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أجاز شهادته بشهادة رجلين ، وفي بعضها انّه قبل لاقترانه بشهادة عمر ، وتصديقه إيّاه في كون ما جاء به من القرآن ، مع أنّ كلاًّ منهما يناقض مع ما يدلّ على أنّه لا يقبل إلاّ ما شهد به شاهدان ، لأنّ الظاهر أنّ الشاهدين غير المدّعى فهما بضميمة المدّعى ثلاث نفرات فأجازه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته بشهادة رجلين لا تدلّ إلاّ على كونه قائماً مقام اثنين في مقام الشهادة ، لا قبول دعواه من دون بيّنة ، أو كونه معدوداً من الشاهدين ، فيكفي الشاهد الواحد كما لا يخفى . ومضافاً إلى عدم

(الصفحة283)

احتياج الأمر إلى الشهادة ، أصلاً ، وذلك لأنّ المفروض بحسب تعبير الرواية كون الموجود عند خزيمة هي التي فقدها زيد ، ومع وضوح كون المفقود هو الموجود عنده لا حاجة إلى الشهادة ، كما لا يخفى على اُولي الدراية  .
السابع : ظاهر الرواية الخامسة عشر : انّ الذي أرسل المصاحف إلى البلاد هو عمر بن الخطّاب ، وظاهر البعض الآخر ، كالرواية السابعة عشر انّ الذي بعث مصحفاً إلى كلّ اُفق هو عثمان  .
الثامن : ظاهر بعض الروايات ـ كالرواية السابعة عشر ـ انّ عثمان عيّن للكتابة والنسخ زيد بن ثابت  ، وسعيد بن العاص  ، وعبد الرحمن بن الحارث  ، وعبدالله بن الزبير  ، وظاهر الرواية العشرين : انّه عيّن زيداً للكتابة  ، لأنّه أكتب الناس  ، وسعيداً للإملاء  ، لأنّه أفصح الناس  ، وظاهر الرواية الواحدة والعشرين انّه أمر بأن يملي هذيل  ، ويكتب ثقيف  ، والرواية الثالثة والعشرين : انّه لم يتحقّق إملاء هذيل ، وكتابة ثقيف ، وظاهر الرواية الرابعة والعشرين ، والخامسة والعشرين: أنّ الإملاء كان من اُبيّ بن كعب ، والكتابة من زيد بن ثابت ، والإعراب من سعيد بن العاص ، كما في الاُولى منهما ، وزيادة عبد الرحمن بن الحارث كما في الثانية منهما .
هذه هي عمدة الاُمور التي تكون الروايات المتقدّمة متناقضة فيها ، وهنا بعض الاُمور الاُخر يظهر بالتأمّل ودقّة النظر ، ومع هذه المناقضات كيف تصلح هذه الروايات للركون والاعتماد عليها في هذا الأمر الخطير ، الذي لا يساعده شيء من العقل والنقل ، كما سيظهر عن قريب إن شاء الله تعالى .
إن قلت: هذه الروايات مع كونها متكثّرة جدّاً ، وإن لم تكن متّصفة بوصف

(الصفحة284)

التواتر لما ذكر من ثبوت المناقضة والمعاندة بينها ، إلاّ أنّ اتّصافها بوصف التواتر المعنوي ، الذي مرجعه في المقام إلى اتفاقها على عدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ووقوعه بعده إجمالاً ، وإن لم تعلم كيفيّته وخصوصيّاته ، وانّه وقع بيد الأوّل أو الثاني ، أو الثالث ، أو غيرهم ممّا لا يكاد ينبغي أن يُنكر ، ولو نوقش في هذا الاتّصاف فلا أقلّ من اتّصافه بالتواتر الإجمالي الذي يرجع إلى العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ونفس الأمر ، وهو يكفي للقائل بالتحريف ، بعد اتّفاقها على عدم تحقّق الجمع في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قلت: الاتّصاف بالتواتر الإجمالي ـ كما اعترف به ـ فرع تحقّق العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ، أو بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) ، وبدون تحقّق هذا العلم لا مجال لهذا الاتّصاف أصلاً ، ونحن نمنع تحقّقه ، لعدم ثبوت العلم واليقين وجداناً لا بصدورها عن المعصوم ، لعدم كون شيء من تلك الروايات منسوبة إليه ، وحاكية لقوله ونحوه ، ولا بالمطابقة للواقع ، لأنّ الوجدان يقضي بعدمه فدعوى التواتر ولو إجمالاً ممّا لا يدّعيها المنصف .
الجهة الثانية ـ معارضتها مع روايات اُخرى:
انّ هذه الروايات معارضة بما يدلّ على أنّ القرآن كان قد جمع وكتب في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذه الروايات أيضاً كثيرة:
1 ـ روى البخاري في إحدى رواياته ، عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أربعة كلّهم من الأنصار: اُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . وروى في موضع آخر مكان اُبيّ بن كعب أبا الدرداء .


(الصفحة285)

2 ـ روى الخوارزمي في محكي مناقبه عن عليّ بن رياح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واُبيّ بن كعب .
3 ـ روى الحاكم في «المستدرك» بسند على شرط الشيخين ، عن زيد بن ثابت قال: كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلِّف القرآن من الرقاع .
4 ـ وفي «الاتقان»: أخرج أحمد وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جبان ، والحاكم عن ابن عبّاس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ، ولم
تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطوال؟
فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزل عليه السورة ذات العدد ، فكان إذا اُنزل
عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة
التي يذكر فيها كذا وكذا: وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت
براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، فظننت أنّها
منها ، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبيّن لنا انّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما
ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتهما في السبع
الطوال(1) .


(1) قال السيوطي في «الإتقان» في خاتمة النوع السابع عشر: «أخرج أحمد وغيره من حديث وائلة بن الأسقع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اُعطيت مكان التوراة ، السبع الطوال ، واُعطيت مكان الزبور ، المئين ، واُعطيت مكان الإنجيل ، المثاني ، وفضّلت بالمفضل» ، وهذه الرواية تدلّ على انقسام السور القرآنية في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولسانه بالأقسام الأربعة ، واختصاص كلّ قسم منها بعنوان خاصّ . وقال السيوطي فيه أيضاً في خاتمة النوع الثامن عشر الذي تعرّض فيه لجمع القرآن وترتيبه: «السبع الطوال أوّلها البقرة وآخرها براءة كذا قال جماعة ، لكن أخرج الحاكم والنسائي وغيرهما عن ابن عبّاس قال: السبع الطوال: البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف . قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها . وفي رواية صحيحة ، عن ابن أبي حاتم وغيره ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير انّها ـ يعني السابعة ـ يونس ، وتقدّم عن ابن عبّاس مثله في النوع الأوّل ، وفي رواية عند الحاكم انّها الكهف . والمئون ماوليها ، سمّيت بذلك ، لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها ، وقال الفراء: هي السورة التي آيها أقلّ من مائة آية ، لأنّها تثنّى أكثر ممّا تثنّى الطوال والمئون ، وقيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر ، والخبر حكاه النكزاوي . وقال في جمال القرّاء: هي السور التي تثنيت فيها القصص ، وقد تطلق على القرآن كلّه وعلى الفاتحة كما تقدّم . والمفصل ما ولى المثاني من قصار السور سمّي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة ، وقيل: لقلّة المنسوخ منه ، ولهذا يسمّى بالمحكم أيضاً ، كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: إنّ الذي تدعونه المفصل هو المحكم وآخره سورة «الناس» بلا نزاع» .
وسيأتي في المتن رواية ابن عبّاس التي عبّر فيها بالمحكم ، ويحتمل أن يكون مراده خصوص السورة المفصلة .

(الصفحة286)

5 ـ خرّج البيهقي وابن أبي داود ، عن الشعبي انّ الجامعين للقرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ستّة: اُبيّ وزيد بن ثابت ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعيد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمع بن جارية .
6 ـ خرّج ابن سعيد في محكي «الطبقات»: أنبأنا الفضل بن ذكين ، حدّثنا الوليد بن عبدالله بن جميع قال: حدّثتني جدّتي عن اُمّ ورقة بنت عبدالله بن الحارث وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وكان رسول الله قد أمرها أن تؤمّ دارها ، وانّ رسول الله حين غزا بدراً قالت له: أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم واُمرّض مرضاكم ، لعلّ الله يهدي لي شهادة؟ قال: «إنّ الله مهّد لك شهادة» .
7 ـ عن محمّد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)خمسة نفر من الأنصار: معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، واُبيّ بن كعب ، وأبو


(الصفحة287)

الدرداء ، وأبو أيّوب .
8 ـ ابن عبّاس: جمعت المحكم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بناءً على أن يكون المراد بالمحكم هو مجموع القرآن ، وامّا بناءً على أن يكون المراد به هو خصوص السور المفصّلة ـ كما تقدّم في عبارة السيوطي ـ فالرواية لا تدلّ على تعلّق الجمع بمجموع القرآن ، لكن الظاهر أنّ هذا الاحتمال بعيد .
9 ـ الرواية السادسة من الروايات المتقدّمة المشتملة على التعليل بأنّه قُتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جمعوا القرآن .
10 ـ روى مسروق ، ذكر عبدالله بن عمر ، وعبدالله بن مسعود قال: لا أزال أحبّه سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، واُبيّ بن كعب .
هذه هي الروايات الواردة الظاهرة في أنّ الجمع للقرآن قد تحقّق في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
أضف إلى ذلك ما ذكره محمّد بن إسحاق في الفهرست من أنّ الجمّاع للقرآن في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وسعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد ، وأبو الدرداء عويمر بن زيد ، ومعاذ بن جبل بن أوس ، وأبو زيد ثابت بن زيدبن النعمان ، واُبيّ بن كعب بن قيس ملك امرؤ القيس ، وعبيد بن معاوية ، وزيدبن ثابت .
وما قاله الحارث المحاسبي(1) في محكي كتاب «فهم السنن» ممّا هذا لفظه:

(1) هو الحارث بن أسد المحاسبي ، ويكنّى أبا عبدالله ، من أكابر الصوفية ، كان عالماً بالاُصول والمعاملات ، وهو استاذ أكثر البغداديّين في عصره ، توفي ببغداد سنة 243هـ  .

(الصفحة288)

«كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرّقاً في الرقاع والأكتاف والعسيب وإنّما أمر الصدِّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها القرآن منتشراً فجمعها جامع وربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء» .
الجهة الثالثة ـ ثعارضتها مع الكتاب والعقل:
إنّ هذه الروايات التي استند إليها القائل بالتحريف مخالفة للكتاب والعقل:
أمّا مخالفتها للكتاب: فلأنّه قد وقع في الكتاب العزيز تعبيرات لا تلائم إلاّ مع تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتميّز السور بعضها عن بعض ، وحصول التأليف والتركيب بين الآيات ، بل وبين السّور ، وذلك مثل التعبير بـ «السورة» في آيات متعدّدة كآيات التحدّي بالسورة ، أو بعشر سور ، فإنّ هذا التعبير لا يلائم مع تفرّق الآيات وتشتّتها ، وعدم تحقّق التأليف والتركيب بينها ، ضرورة أنّ السورة عبارة عن مجموعة آيات متعدّدة مركّبة منضمّة متناسبة من حيث الغرض المقصود منها ، فالتعبير بها لا يناسب إلاّ مع التميّز والاختصاص .
ومثل التعبير عن القرآن بـ «الكتاب» كما في آيات كثيرة التي منها قوله تعالى في سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين) وفي سورة إبراهيم: (كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) وقد وقع هذا الإطلاق في لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل حديث الثقلين المعروف بين الفريقين ، فإنّ لفظ «الكتاب» ظاهر في المكتوب الذي كان مجموعاً مؤلّفاً ، ولو نوقش في هذا الظهور بملاحظة أصل اللغة فلا مجال للمناقشة بالنظر إلى العرف العام الذي القي عليهم مثل هذه التعبيرات ضرورة أنّ ظهوره في المجموع المؤلّف ممّا لا ينبغي الارتياب فيه بهذا

(الصفحة289)

النظر ، فتدبّر .
وامّا مخالفتها للعقل فلأنّ الدعوة الإسلاميّة كانت من أوّل شروعها مبتنيّة على أمرين ، ومشتملة على جهتين: إحداهما: أصل النبوّة والسفارة والوساطة ، ثانيهما: كونه خاتمة للنبوّات والسفارات ، ومرجع الأخير إلى بقاء الدين القويم إلى يوم القيامة ، واستمرار الشريعة المقدّسة ودوامها ، بحيث لا نبيّ بعده ، ولا ناسخ له أصلاً ، حلال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة .
ومن الواضح: انّ الإتيان بالمعجزة المثبتة لهذه الدعوى لابدّ وأن يكون صالحاً لإثبات كلا الأمرين ، وقابلاً للاستناد إليه في كلتا الدعويّين ، فالمعجزة في هذا الدين تمتاز عن معجزات الأنبياء السالفين ، وتختصّ بخصوصيّة لا توجد في معجزات السفراء الماضين ، ولأجله تختلف ـ سنخاً ونوعاً ـ مع تلك المعجزات غير الباقية ، والاُمور الخارقة للعادة التي كان الغرض منها إثبات أصل النبوّة .
ومن المعلوم أيضاً: أنّ هذا الوصف إنّما يختصّ به القرآن المجيد ، ولا يوجد في معجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّه هو المعجزة الوحيدة الخالدة والدليل الفذّ الباقي إلى يوم القيامة ، فالقرآن من حين نزوله كان ملحوظاً بهذا الوصف ، ومنظوراً من هذه الجهة التي ليس فوقها جهة ولا يرى شأن أعظم منها ، كما لا يخفى .
ومع وجود هذه الخصوصيّة ، وثبوت هذه العظمة كيف يمكن توهّم انّه لم يجمع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعتن بشأنه ـ من جهة الجمع ـ الرسول الأعظم ، ولا أحد من المسلمين ، مع شدّة اهتمامهم به وبحفظه وقراءته وتعليمه وتعلّمه ، وتدريسه وتدرّسه ، وأخذ فنون المعارف والأحكام والقصص والحِكم وسائر الحقائق منه؟! وهل يتوهّم من له عقل سليم ، وطبع مستقيم أن يوكل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر جمع القرآن

(الصفحة290)

إلى من بعده ، سيّما مع علمه بأنّ الذي يتصدّى للجمع بعده هو الذي لا يكون متّصفاً بوصف العصمة ، بل وأعظم من ذلك ـ ولا حظَّ له من العلم والمعرفة بوجه ـ إذ لا محالة يكون جمعه ناقصاً من جهة التحريف ، ومن جهة عدم تحقّق التناسب الكامل بين الآيات ، ومن الواضح مدخليّته في ترتّب الغرض المقصود منه ، ضرورة أنّ ارتباط أجزاء الكتاب ، ووقوع كلّ جزء في موضعه له كمال المدخليّة في ترتّب غرض الكتاب ، خصوصاً في القرآن الذي كان غرضه أهمّ الأغراض من ناحية ، وعدم كونه منحصراً بعلم خاصّ ، وفنّ مخصوص من جهة اُخرى ، فإنّ التناسب في مثله لو لم يراع لا يتحقّق الغرض أصلاً .
فلا محيص عن الالتزام بتحقّق الجمع والتأليف في عصره ، وكون سوره وآياته متميّزة بعضها عن بعض ، خصوصاً مع أنّه في القرآن جهات عديدة يكفي كلّ واحدة منها لأن تكون موضعاً لعناية المسلمين ، وسبباً لاشتهاره بين الناس ، حتّى الكافرين والمنافقين ، وذلك:
مثل بلاغته وفصاحته التي هي الغرض المهمّ للعرب في ذلك العصر ، ووضوح كون بلاغته واقعة في الدرجة العليا ، وفصاحته حائزة للمرتبة القصوى ، ومن هذه الجهة كان موضع توجّه لعموم الناس ـ المؤمن وغيره ـ المؤمن يحفظه ويقرأه لإيمانه ، والتلذّذ بألفاظه المقدّسة ، ومعانيها العالية ، والكافر والمنافق يمارسه رجاء معارضته ، والإتيان بمثله ، وإبطال حجّته .
ومثل الجهات الاُخر ، كالأجر والثواب المترتّب على حفظه وقرائته وتعليمه بل وعلى مجرّد النظر إلى آياته وسوره ، وكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرغباً في حفظه ومحرّكاً للمؤمنين إلى الرجوع إليه ، وكون الحافظ له شأن عظيم ، ومرتبة خاصّة بين

(الصفحة291)

المسلمين وغير ذلك من الجهات .
ولا بأس هنا بذكر كلام السيِّد المرتضى ـ قدّس سرّه الشريف ـ في هذا الشأن ، وكلام البلخي المفسِّر من علماء العامّة ، والجواب عمّا أورد عليهما المحدِّث المعاصر في كتابه الموضوع في التحريف .
قال السيّد المرتضى: «إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن ، لأنّ القرآن كان يحفظ ويدرّس جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وانّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويُتلى عليه ، وانّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود ، واُبيّ بن كعب ، وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث» .
وقال البلخي في تفسيره المسمّى بـ «جامع علم القرآن» ـ على ما نقله عنه السيّد ابن طاووس في محكي «سعد السعود» ـ ما لفظه: «وانّي لأعجب من أن يقبل المؤمنون قول من زعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن الذي هو حجّة على اُمّته ، والذي تقوم به دعوته والفرائض التي جاء بها من عند ربّه ، وبه يصحّ دينه الذي بعثه الله داعياً إليه ، معرفاً في قطع الحرف ، ولم يجمعه ولم يصِنه ، ولم يحفظه ، ولم يحكم الأمر في قراءته ، وما يجوز من الاختلاف وما لا يجوز ، وفي إعرابه ومقداره وتأليف سوره وآيه ، هذا لا يتوهّم على رجل من عامّة المسلمين ، فكيف برسول ربّ العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم)» .
وأورد المحدِّث المعاصر على السيّد المرتضى:
أوّلاً: بأنّ القرآن نزل نجوماً ، وتمّ بتمام عمره (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن صحّ ما نقله فالمراد

(الصفحة292)

درس ما كان عنده من السور .
وثانياً: بأنّ قعود أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيته بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) لجمع القرآن وتأليفه خوفاً من ضياعه ممّا لا يقبل الإنكار بعد استفاضة الأخبار بذلك ، وكيف يجتمع هذا مع كونه مجموعاً مؤلَّفاً مرتّباً متداولاً بين الصحابة في حياته .
وثالثاً: بما ملخّصه أنّ ما نقله انّ ابن مسعود ، واُبيّ وغيرهما . . . فإنّما هو من خبر ضعيف ، رواه المخالفون ، ثمّ ذكر طائفة من الروايات المتقدّمة الدالّة على أنّ الجمع وقع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأورد على البلخي:
أوّلاً: بالنقض على مذهبه ، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علمه بأنّه يموت في مرضه ، وتختلف اُمّته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة ، وانّه يرجع بعده يضرب بعضهم رقاب بعض ، كيف لم يعيّن لهم من يقوم مقامه ، ولا قال لهم: اختاروا أنتم حتّى تركهم في ضلال مبين إلى يوم الدين ، فإذا جاز توكيل هذا الأمر العظيم إليهم مع اختلاف الآراء وتشتّت الأهواء جاز توكيل أمر جمع القرآن وتأليفه إليهم .
وثانياً: بأنّا نسلّم أنّ القرآن بتمامه كان عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرّقاً ، وانّما فوّض أمر الجمع والتأليف الذي هو سبب لبقائه وحفظه إلى من فوّض إليه جميع اُموره واُمور اُمّته بعده ، واحتياج الناس إليه بحيث يختلّ عليهم أمرهم لولاه إنّما هو بعده ، وليس في ذلك تنقيص في نبوّته أصلاً ، بل في ذلك إعلاء لشأن من فوّض إليه الأمر ، وتثبيت لإمامته ، وإعلام برفعته ، وقد امتثل ما أمره به فجمعه بعده ، وحينئذ فإن أراد أنّ ما كان بأيديهم إنّما نسخوه من هذا المجموع المعيّن ، لا من الأماكن المتفرّقة من الصدور والألواح ففيه:


(الصفحة293)

1 ـ انّه لم يكن مرتّباً ، وإنّما ألّفه ورتّبه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد هجروا مصحفه .
2 ـ إنّ ما تقدّم بطرقهم المستفيضة صريح في أنّهم جمعوه من الأفواه والألواح المتفرّقة .
والجواب:
امّا عن إيراده على السيّد المرتضى (قدس سره) انّ نزول القرآن نجوماً وتماميّته بتمام عمره الشريف لا ينافي ما أفاده السيّد المرتضى بوجه ، خصوصاً بعد ملاحظة ما قدّمناه من أنّ القرآن كان من حين نزوله متّصفاً بأنّه المعجزة الوحيدة الخالدة التي يتوقّف أساس الدين ، وأصل الشريعة على بقائها ووجودها بين الناس ، كما نزلت إلى يوم القيامة .
وسيأتي البحث عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) وامتيازه عن المصحف المعروف وانّه لا يتفاوت معه في شيء يرجع إلى أصل القرآن وآياته أصلاً ، وما نقله من أنّ ابن مسعود واُبيّ . . . لا يكون الاعتماد فيه على ضعاف الأخبار العامّية ، بل على الأمر المعروف بين المسلمين من وجود مصحف لكلّ واحد منهم ، وظهور كون جمعهم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصره .
وامّا عن إيراده على البلخي: فإنّ النقض بمسألة الخلافة على طبق عقيدته فاسد ، خصوصاً لو كان مستنده ما ينسبونه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تجتمع اُمّتي على خطأ» كما هو واضح ، واختلاف المسألتين وتفاوتهما ، وانحصار الإعجاز في الكتاب ممّا لا ريب فيه ، وانّ المراد من الجمع والتأليف الذي فوّض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره إلى من فوّض إليه جميع اُموره ، إن كان الجمع بنحو يرجع إلى ترتيب الآيات والسور بحيث لم يكن في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) مواقع الآيات مبيّنة ، ولا مواضعها مشخّصة ، فنحن نمنع ذلك

(الصفحة294)

حتّى يحتاج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التفويض إلى عليّ (عليه السلام) ، وإن كان المراد الجمع في محلّ واحد ، كقرطاس ومصحف فهذا لا ينافي ما ذكره البلخي بوجه ، ولا يرجع إلى عدم كون القرآن مرتّباً في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
الجهة الرابعة ـ مخالفتها لضرورة تواتر القرآن:
إنّ هذه الروايات الدالّة على أنّ القرآن قد جمع بيد الخلفاء وفي زمنهم ، وانّ الاستناد في ذلك كان منحصراً بشهادة شاهدين ، أو شاهد واحد إذا كان معادلاً لشخصين: مخالفة لما قدّمناه ـ سابقاً ـ من ثبوت الإجماع ، بل الضرورة على أنّ طريق ثبوت القرآن منحصر بالتواتر ، وانّه فرق بينه وبين الخبر الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) المشتمل على حكم من الأحكام الشرعيّة .
ومع هذه المخالفة كيف يمكن الأخذ بها والالتزام بمضمونها ، وتفسير الشهادتين بالحفظ والكتابة ـ كما عن بعضهم ـ مع أنّه مخالف للظاهر ، ولنفس تلك الروايات; لا يجدي في رفع الإشكال ، وانّ القرآن لا يثبت بغير طريق التواتر .
الجهة الخامسة ـ استلزامها للقول بالتحريف:
إنّ الاستناد إلى هذه الروايات لعدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيد المعصوم ، واستكشاف وجود النقص في القرآن من هذا الطريق لا ينطبق على المدّعى بل اللازم على المستدلّ أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة أيضاً ، وذلك لقضاء العادة بأنّ المستند ـ وهي شهادة الشاهدين ـ لا يكون مطابقاً للواقع دائماً ، ضرورة أنّ الالتزام بكونها كذلك ، ودعوى حصول القطع بأنّ كلّ ما شهد به شاهدان ، أو من بحكمهما ، على أنّه من القرآن مطابق للواقع في غاية البُعد ، بل الظاهر هو العلم الإجمالي بتحقّق الكذب في البعض ، خصوصاً مع ثبوت الدواعي

(الصفحة295)

من الكفّار والمنافقين على تخريب الدين ، والسعي في اضمحلاله وانهدام بنائه ، وحينئذ فيعلم ـ إجمالاً ـ بوجود الزيادة في القرآن كالنقيصة .
ودعوى: أنّ الآية بمرتبتها الواقعة فوق مراتب الكلام البشري فيها قرينة على كونها من القرآن ، وعدم كونها كلام البشر .
مدفوعة: بأنّه على ذلك لا تكون شهادة الشاهدين مصدّقة للآية ، وكونها من كلام الله ، بل كانت الآية مصدّقة لها ، ولكونها شهادة مطابقة للواقع ، وعليه فلا حاجة إلى الشهادة أصلاً ، وهو خلاف مفاد الروايات المتقدّمة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا ـ بطوله وتفصيله ـ بطلان هذه الروايات ، وعدم إمكان الأخذ بمضمونها ، وانّه لا محيص عن الالتزام بكون الجمع والتأليف الراجع إلى تميّز الآيات بعضها عن بعض ، وتبيّن كون الآية الفلانية جزء من السورة الفلانية ، بل وموقعها من تلك السورة ، وانّها هي الآية الثانية منها ـ مثلاًـ أو الثالثة أو الرابعة وهكذا ، وكذا تميّز السور بعضها عن بعض واقعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وعصره بأمره واخباره ، غاية الأمر تفرّقها وتشتّتها من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها كالعسيب واللخاف ومثلهما .
نعم لا ينبغي إنكار ارتباط جهة من القرآن بأبي بكر وكذا بعثمان:
أمّا ارتباطه بأبي بكر: فهو انّه قد جمع تلك المتفرّقات التي كان شأنها مبنيّاً من جميع الجهات ، وكانت خالية من نقاط الإبهام والإجمال بتمام المعنى في قرطاس أو مصحف الذي هو بمعنى القرطاس ، أو قطع الجلد المدبوغ ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات المتقدّمة بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين ، وقد عرفت تصريح الحارث المحاسبي بذلك ، وانّ جمع أبي بكر بمنزلة خيط ربط الأوراق

(الصفحة296)

المتفرّقة الموجودة في بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يبعد الالتزام بما في بعض تلك الروايات من كون المصحف الذي جمع أبو بكر فيه القرآن هو الذي كان عنده زمن حياته ، وكان بعده باختيار عمر ، وانتقل منه إلى حفصة بنته زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال والاشتباه إنّما نشأ من الخلط ، وعدم تبيّن مفهوم كلمة «الجمع» الواقعة في الروايات ، وتخيّل كون المراد من هذه الكلمة هو الذي يكون محلّ البحث في المقام ، ومورداً للنقض والإبرام ، ولابدّ من التوضيح وإن كان المتأمِّل قد ظهر له الفرق ممّا ذكرنا فنقول:
أمّا الجمع الذي هو محلّ البحث في المقام هو الجمع بمعنى التأليف والتركيب وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها ، وفي موضعها من تلك السورة ، والجمع بهذا المعنى لا يكون إلاّ وظيفة النبيّ ـ بما هو نبيّ ـ ولم يتحقّق إلاّ منه ، ولا معنى لصدوره من غيره ، حتّى في عصره وزمن حياته ، ومنه يظهر أنّ الروايات الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص معيّنين في زمن النبيّ لا يكون المراد بها هذا المعنى ، فإنّ مثل اُبيّ بن كعب لا يقدر على ذلك ، وإن كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرورة أنّه من شؤون القرآن وما به تقوم حقيقته ، ولا طريق له إلاّ الوحي .
وامّا الجمع الوارد في الروايات المتقدّمة ، أعمّ من الروايات الدالّة على عدم تحقّقه في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والروايات الدالّة على تحقّقه في زمنه من ناحية الأشخاص فالمراد به هو جمع المتفرّقات والمتشتّتات من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها ، غاية الأمر أنّ الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بمعنى القدرة على تحصيل القرآن بأجمعه ، وحصوله له كذلك .
وبعبارة اُخرى كان عنده جميع القرآن في الأشياء المتفرّقة ، والجمع بعد حياته

(الصفحة297)

بمعنى جمعه في اللوحين والقرطاس والمصحف .
فقد ظهر أنّ الجمع ـ بمعناه الذي هو محلّ الكلام ـ بعيد عن مفاد جميع الروايات بمراحل ، وانّ المتّصف به لا يكون غير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجه ، فالروايات وكذا التواريخ الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أجنبيّ عن المقام بالمقدار الذي تكون الروايات التي هي مورد لاستدلال القائل بالتحريف كذلك ، وعدم الالتفات إلى ذلك صار موجباً للخلط والاشتباه والانحراف عن مسير الحقيقة كما عرفت .
وامّا ارتباطه بعثمان الذي اشتهر إضافة القرآن وانتسابه إليه ، واشتهر عنه حرق مصاحف غيره ، حتّى سمّي بحرّاق المصاحف ، وانتقد عليه من هذه الجهة ـ فليس لأمر يرجع إلى الجمع والتأليف بالمعنى الذي ذكرنا من تميّز الآيات والسور وتبيّن بعض كلّ واحدة منهما عن البعض الآخر ، بل الظاهر ـ كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة ـ انّ ارتباطه بعثمان إنّما هو من جهة أنّه جمع المسلمين على قراءة واحدة ، بعد تحقّق اختلاف القراءة بينهم ، من جهة اختلاف القبائل والأمكنة في اللحن والتعبير .
قال الحارث المحاسبي: «المشهور عند الناس انّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار ووقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لمّا خشى الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فامّا قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي اُنزل بها القرآن» .
نعم يقع الكلام في أنّ القراءة الواحدة التي جمع عثمان المسلمين عليها ماذا؟ وانّه

(الصفحة298)

اعتمد في ذلك على أيّ شيء؟
يمكن أن يقال: إنّ تلك القراءة هي القراءة الواحدة المتعارفة بين المسلمين ، التي أخذوها بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عرفت في مبحث تواتر القراءات من أنّ استناد جميع القراءات إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر موهوم فاسد ، وانّ أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ على فرض صحّتها وجواز الالتزام بها ـ لا ارتباط لها بباب القراءات السبعة بوجه .
وقد ذكر عليّ بن محمّد الطاووس العلوي الفاطمي في محكي كتاب «سعد السعود» نقلاً عن كتاب أبي جعفر محمّد بن منصور ، ورواية محمد بن زيد بن مروان في اختلاف المصاحف: «انّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت ، وخالفه في ذلك اُبيّ وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ثمّ عاد عثمان فجمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأخذ عثمان مصحف اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ، ومصحفاً لأهل المدينة ، ومصحفاً لأهل مكّة ، ومصحفاً لأهل الكوفة ، ومصحفاً لأهل البصرة ، ومصحفاً لأهل الشام» .
وقال الشيخ أبو عبدالله الزنجاني ـ بعد نقل هذه العبارة ـ: «إنّ مصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري يقول في وصف مسجد دمشق: وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفّان . ويظنّ قويّاً انّ هذا المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لنين غراد ، وانتقل الآن إلى انگلترا ، ورأيت في شهر ذي الحجّة سنة 1353الهجرية في دار الكتب العلويّة في النجف مصحفاً بالخطّ الكوفي كتب على آخره: كتبه علي بن أبي

(الصفحة299)

طالب في سنة أربعين من الهجرة ، ولتشابه أبي وأبو في رسم الخط الكوفي قد يظنّ من لا خبرة له انّه كتب علي بن أبو طالب بالواو» .
هذا ولكن الاستناد إلى رأي مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعيد خصوصاً مع ملاحظة وجود مصحف له (عليه السلام) لا يحتاج معه إلى شخص آخر أو شيء آخر ، إلاّ أن يكون الاستناد إلى الرأي دون المصحف ، لأجل كون مصحفه زائداً على القرآن وآياته كما سيظهر ، فلعلّه (عليه السلام) لم يرض أن يجعله باختيارهم لعدم صلاحيّتهم لملاحظته والنظر فيه ، كما يساعده الاعتبار .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: انّ لفظ «الجمع» الذي يستعمل في مسألة جمع القرآن يكون له أربعة معان ، وقد وقع بينها الخلط ، ولأجله تحقّق الانحراف الذي أدّى إلى الالتزام بالتحريف ، الذي يوجب تزلزل الدين ، وضعف المسلمين ، كما عرفت في أوّل المبحث ، وهذه المعاني الأربعة عبارة عن:
1 ـ الجمع بمعنى التأليف والتركيب وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها وفي موضعها من تلك السورة وكونها آية ثانية له ـ مثلاً ـ أو ثالثة أو رابعة وهكذا ، والجمع بهذا المعنى هو محلّ البحث والكلام وقد عرفت أنّ الجامع بهذا المعنى لا يكون إلاّ النبيّ بما أنّه نبيّ . وبعبارة اُخرى لا طريق له إلاّ الوحي ولا يصلح اسناده إلى غير النبيّ بوجه . وسيأتي له مزيد توضيح في الجواب عن الشبهة الثالثة للقائل بالتحريف فانتظر .
2 ـ الجمع بمعنى تحصيل القرآن بأجمعه من الأشياء المتفرّقة المكتوب عليها ومرجعه إلى كون الجامع واجداً لجميع القرآن من أوّله إلى آخره وهذا هو الجمع المتحقّق في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمنسوب إلى غيره من الأشخاص المعدودين ، وربما

(الصفحة300)

يراد من الجمع بهذا المعنى جمع القرآن بجميع شؤونه من التأويل والتفسير وشأن النزول وغيره ، وهو المراد من الجمع الذي تدلّ الروايات الكثيرة الآتية على اختصاصه بمولانا أمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلِّين ـ  .
3 ـ الجمع بمعنى جمع المتفرّقات وكتابتها في شيء واحد كالقرطاس والمصحف بناءً على مغايرته للقرطاس ، وهذا هو الجمع المنسوب إلى أبي بكر ، ويدلّ بعض الروايات المتقدّمة على نسبته إلى عمر بن الخطّاب .
4 ـ الجمع بمعنى جمع المسلمين على قراءة واحدة من القراءات المختلفة التي نشأت من اختلاف ألسِنة القبائل والأماكن ، وهذا هو المراد من الجمع المنسوب إلى عثمان كما عرفت آنفاً .
وعدم الخلط بين هذه المعاني يرشد الباحث ويهديه إلى الحقّ ويبعّده عن الانحراف المؤدّي إلى التحريف وما رأيت أحداً يسبقني إلى البحث في مسألة جمع القرآن بهذه الكيفيّة فافهم واغتنم .

<<التالي الفهرس السابق>>