في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة21)

الإلهية المقدّسة إذن ليست لها إرادة استثنائية بالنسبة إلى نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، والأمر راجع إليهنّ وإرادتهنّ الخاصّة في الوضع والحال الذي يكن عليه من السعادة أو الشقاء ، بل أرشدهنّ إلى اتّباع سبيل الخير والصلاح ليحظين بالأجر المضاعف ، وحذّرهنّ إن سلكن طريق الإعوجاج فإنّ لهنّ عقاباً مضاعفاً ، فالأمر إذن إليهنّ في تحديد المنهج الذي يبنين حياتهنّ على أساسه .
وعلى ما سبق نستخلص من هذه الآيات الشريفة نتيجتين مهمّتين:
1 ـ فصل وعزل نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن أيّ دور في القضايا الاجتماعية الحسّاسة وشؤون المسلمين العامّة ، وأمرهنّ بانتهاج خطّ سلمي يمضي بالتي هي أحسن ، واتّخاذهنّ دور ربّة البيت المنصرفة إلى شؤون بيتها وتهذيب نفسها بالفضائل بعيداً عن الأهواء الدنيوية الشيطانية .
2 ـ انتفاء الدلالة على تعلّق الإرادة الإلهية بنزاهة نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وكونهنّ حالة متميّزة ومتفوّقة ، ففي هذا المضمار لهنّ الخيار ، إلاّ أنهنّ إن أرَدْنَ الاحتفاظ بشرف اللقب فعليهنّ اتّخاذ طريق الصلاح .

الآية الخاصّة ، آية التطهير:

في معرض هذه الآيات نلتقي بجملة معترضة تحكي تعلّق المشيئة والإرادة الربّانيّة بأمر عظيم ، فيتغيّر أسلوب الحديث وشكل الخطاب الإلهي في هذه الجملة ، فالحديث يدور حول مشيئة الباري تعالى وإرادته التكوينية ، ومفاد هذه الجملة هو: حَتَم القضاء وحَكَم بوجود بيت وأسرة تسمّو فوق قمم الفضيلة والطهارة وأعلى مراقي الإنسانية

(الصفحة22)

والقدرة والكفاءة . . .
ففي جملة قصيرة ـ تغيّر فيها ضمير جمع المؤنث إلى جمع المذكر «كُم» ـ يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
فقد قضت إرادة الله أن يكون أهل البيت(عليهم السلام) ـ الصفوة من بيت النبوّة ـ هم الوحيدين المنزّهين عن كلّ نقص وعيب وسوء ورجس ، وأن تشع في نفوسهم وأرواحهم أنوار الطهارة والصفاء التي لا تزول ، نزاهة وطهارة تمكن الدين القيم من العطاء النقي الخالص إلى الأبد .
إذن نحن هنا أمام الكلام في الإرادة التكوينية والقضاء المحتوم ، إرادة انبعاث بيت وأسرة ، في أعلى مستويات الإنسانية البعيدة عن الزلل والخطأ والانحراف والتحريف والأمراض النفسية والخصال القبيحة ، وكلّ عيب أو نقص . . . المتحلّية بجميع الكمالات من الصفاء والطهارة والتقى والزهد ، وكلّ فضيلة وكمال نفسي وروحي . . .
ومن البديهي أنّ قضاء الله وإرادته الأزلية لم تتعلّق بهذا الأمر عبثاً ولغواً ، بل هي مقدّمة لإعداد هذه الوجودات القدسية لدور إسلامي خطير ما هو إلاّ قيادة المسلمين وهدايتهم(1) .


(1) لا يخفى بأنّ المقصود هو النهوض بدور رسالي في هداية الاُمّة ، وهو أعمّ من الإمامة والقيادة السياسية ، وهذا الدور يتطلّب العصمة والطهارة ، فالزهراء(عليها السلام)لم تكن إماماً ولكن الآية شملتها للدور الذي أوكل بها على صعيد الدفاع عن الإمام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)والنهوض بمخاصمة القوم ومحاججتهم ، أو بلحاظ كونها الوعاء الطبيعي لاستمرارية خط الهدى عبر الأئمّة(عليهم السلام) من ولدها . . . وسيشير المؤلِّف ـ حفظه الله ـ إلى شيء من خصوصيات الزهراء(عليها السلام)وموقعها في الآية الشريفة في آخر الكتاب .

(الصفحة23)

وعلى هذا ، فإنّ هذا الخطاب لا يمكن أن يشمل نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)بدليلين ـ فضلاً عن الأدلّة الأخرى التي سيأتي بيانها لاحقاً ـ هما:
1 ـ لا دلالة في الآيات المتعلّقة بنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) على إرادة الله سبحانه تنزيههنّ ، بل إنّها صرّحت من خلال كلمة «تُردن» بأنّ أمر بلوغ مرتبة الأجر المضاعف أو نيل العقوبة المضاعفة منوط بهنّ وبإرادتهنّ الخاصّة ، فإنّ إرادتهنّ لها المدخلية التامّة في مصيرهنّ ، ومع ثبوت هذا الأمر لا يعود لفرض دور في تدخّل الإرادة الربّانية بشكل تكويني خصوصاً لصالح نزاهتهنّ وطهارتهنّ أيّ معنى .
وبعبارة أوضح: كيف يمكن أن تتعلّق الإرادة الإلهية المحتومة بنزاهة نساء النبي(صلى الله عليه وآله) وطهارتهنّ من كلّ الخبائث والأرجاس ، مع أنّ الآيات صرّحت باحتمال انصرافهنّ إلى الدنيا وسقوطهنّ في حبائل زينتها ممّا لا يجتمع وشأنية الاقتران برسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ بحيث طالبتهنّ تلك الآيات الشريفة بالتخلّي عن رداء الفخر والاعتزاز ، الذي نلنه بمقام الزوجية إذا ما اخترن طريق الدنيا; ليصبح شأنهنّ كسائر نساء المسلمين دون امتياز وفخر يضفيه لقب «اُمّ المؤمنين» ، هل يتوافق هذان الأمران ويقبلان الاجتماع والالتقاء في موضوع واحد؟ كلاّ  . . . ومن هنا يُعلم أنّ نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) خارج دائرة إرادة الباري التكوينية ، التي قضت بطهارة أهل البيت(عليهم السلام) ، وأنّ مصيرهنّ يتعلّق بإرادتهنّ الخاصّة وسلوكهنّ الشخصي لا غير .
2 ـ إنّ رسالة هذه الآيات الشريفة من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبي

(الصفحة24)

قُلْ لاَِزْوَاجِكَ} حتّى قوله: {وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ}(1) هي بيان واجب وتكليف نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وانحصاره بدور ربة البيت المتديّنة العفيفة ، لا التدخّل في أمور المجتمع والخوض في القضايا السياسية ، أمّا آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} فهي حاكية عن إرادة الباري عزّوجلّ في خلق وإيجاد بيت وأسرة طاهرة مطهّرة ليُوكّل إليها دور وتُناط بها وظيفة اجتماعية سياسية غاية في الأهمّية ، كيف يمكن إذن أن يكون هذا القسم من الآية شاملاً لزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) ؟ مع أنّنا نلاحظ تغيّراً واضحاً في أسلوب الخطاب الذي تحوّل فجأةً إلى ضمير «عنكم» بعد تتالي عشرين ضميراً لجمع المؤنّث!
كانت هذه إشارة موجزة إلى أن آية التطهير لا تدلّ على طهارة زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) ونزاهتهن .
وهذه النتيجة تنسجم مع رؤية العارفين بالقرآن الكريم وأسلوبه ومنهجه ، فقد خلصوا إلى أنّ دور زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا يتجاوز مدلول هذه الآيات التي بحثناها من التزام بيوتهنّ والقيام بشؤونها والتحلّي بلباس التقوى .
وسنتناول هنا بعض النماذج من آراء هذه الطبقة الممتازة ، ومن الأنسب أن تكون الرؤية الأولى لواحدة من هذه النسوة أنفسهنّ اللاتي توجّه إليهنّ الخطاب في تلك الآيات ، ونرى أن نقدّم شيئاً في ترجمة شخصية هذه المرأة العظيمة .


(1) الأحزاب : 28 ـ 33 .

(الصفحة25)

رأي اُمّ سلمة :

لابدّ لنا قبل عرض رأي هذه المرأة الصالحة في هذه القضية الحسّاسة من نقل بعض صفاتها وخصائصها دفعاً لأيّ وهم قد
يخدش بموضوعيتها في تبنّي رأيها من الآيات ومن هذه القضية ، ولا  يحمل الرغبة التي أبدتها في قصّة حديث الكساء محمل الهوى
ورغبات النساء .
بعد اُمّ المؤمنين خديجة الكبرى(عليها السلام) تأتي أمّ سلمة رضوان الله عليها على رأس قائمة النساء اللآتي كنّ يلقن زوجات للنبي(صلى الله عليه وآله) ،
لقد كانت أكثرهنّ أمانة حتّى إنّها استُودعت أمانات وودائع الإمامة ، وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «أفضلهنَّ ـ نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)  ـ خديجة بنت خويلد ، ثمّ اُمّ سلمة بنت الحارث»(1) ، لقد كانت الوحيدة من بين نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) التي ما توانت عن نصرة
أمير المؤمنين(عليه السلام)والدفاع عنه ، ولم تدّخر وسعاً في كشف الحقائق
وإعلانها .
وكان أهل البيت(عليهم السلام) يرونها أهلاً لاطّلاعها وائتمانها على أسرارهم، وهي نفسها التي نقلت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحاديث زاخرة بفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) ، ولم يكن تعصّب هذا وذاك ليمنعها عن الصدع بالحقّ .
ولعلّ نزول هذه الآية «آية التطهير» في بيتها ـ باتّفاق الفريقين ـ

(1) الخصال 2: 419 ح13 ، بحار الأنوار: 22 / 194 ح7 .

(الصفحة26)

خير شاهد على فضلها ومنزلتها ، وكما سيأتي في البحث حول المراد من البيت في «أهل البيت» هو بيت أمّ سلمة رضوان الله تعالى عليها ، وهو أحد بيوت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وقد ذكر في الآيات محلّ البحث في موردين بصيغة الجمع ، وكيف كان فقد عدّ هذا البيت المبارك منبعاً وأساساً لإطلاق هذا العنوان «أهل البيت» ، الذي تحوّل بعد ذلك إلى مصطلح خاصّ(1) ، بحيث اُضيفت الثلّة الخاصّة من أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله)المشمولة بآية التطهير إلى ذلك البيت ، وهذا بحدّ ذاته أفضل شاهد على مكانة ومنزلة أمّ سلمة .
ويكفي لإثبات تمتّعها بروح مطمئنّة ونفس مذعنة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)أنّها كانت تصرّح بقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) لها أنّ هذه الآية لا تشملها ، وأنّها ليست من أهل البيت الذين أرادتهم الآية الشريفة .
ويسعنا القول: إنّها كانت من الوثاقة والعدالة والمنزلة بحيث كانت أحاديثها مستنداً لكثير من أعلام الشيعة ورجالاتها فيما اتخذوه من مواقف تجاه أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وعلى سبيل المثال نذكر زيد بن صوحان ، الذي استشهد في حرب الجمل ، وقد حضر أمير المؤمنين مصرعه فلقّاه مضرّجاً بدمه وهو في حال النزع يجود بنفسه ، فقال له: رحمك الله يا زيد قد كنت خفيف المؤونة عظيم المعونة ، فرفع زيد رأسه وأخذ يقول بصوت خافت: «وأنت فجزاك خيراً يا أمير المؤمنين ، فوالله ما علمتك إلاّ بالله عليماً وفي اُمّ الكتاب عليّاً حكيماً ، وأنّ الله في

(1) بحيث انصرف المدلول المكاني للكلمة «البيت» إلى معنى علمي ومقصود معنوي ونوري خاص . . . وسيأتي البحث في ذلك لاحقاً .

(الصفحة27)

صدرك لعظيم ، والله ما قاتلت معك على جهالة ، ولكنّي سمعت أمّ سلمة زوج النبيّ(صلى الله عليه وآله) تقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «مَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» فكرهت والله أن أخذلك فيخذلني الله»(1) .
وتُعدّ الرسالة التي كتبتها إلى عائشة في واقعة الجمل أفضل شاهد على علمها وفضلها ومعرفتها بالقرآن ، إلى جانب بلاغتها وفصاحتها ، وأنّها امرأة عالمة عارفة بالقرآن ، مطيعة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، آمرة بالمعروف ، ناهية عن المنكر ، معلنة للحق وساعية له ، لا مغرضة ولا طامعة ، تكنّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) خالص الولاء والوفاء ، متحرّقة لنصرة الإسلام وإنقاذ الأمّة من الفتنة ، كتبت لعائشة تقول:
«إنّك جُنّة بين رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبين اُمّته ، وإنّ الحجاب دونك لمضروب على حرمته ، وقد جَمَعَ القرآن ذيلك فلا تَنْدَحيه ، وسكّن عُقَيراك فلا تُصحريها ، لو أذكرتك قولةً من رسول الله(صلى الله عليه وآله) تعرفينها لنُهشت بها نَهْشَ الرقشاء المطرقة ، ما كنت قائلةً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) لو لقيك ناصّة قَلُوص قعودك من منهل إلى منهل قد تركت عُهَيْداه وهتكت ستره ، إنّ عمود الدين لا يقوم بالنساء ، وصَدْعه لا يُرأبُ بهنّ ، حُمادَيات النساء خفض الأصوات وخَفرُ الأعراض ، اجعلي قاعدة البيت قبرك حتّى تلقينه وأنت على ذلك»(2) .


(1) اختيار معرفة الرجال ، المعروف برجال الكشي: 66 ـ 67 الرقم 119 . قاموس الرجال 4: 557 ـ 558 ، بحار الأنوار 32: 187 ح138 .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 6 : 219 ـ 220 .

(الصفحة28)

رأي زيد بن صوحان :

عندما وصلت عائشة مع صحبها إلى البصرة لإثارة الفتنة وإشعال الحرب ، كتبت إلى زيد بن صوحان تؤلّبه على أمير المؤمنين(عليه السلام) ، (وقد أثبت ابن الأثير هذه الرسالة وجوابها في الكامل في التاريخ) وقد أدرجها صاحب قاموس الرجال أيضاً في ترجمة زيد(1) ، وهكذا سائر كتب التراجم مع اختلاف يسير ، ونحن هنا ننقل نص «الكامل»:
«من عائشة اُمّ المؤمنين حبيبة رسول الله(!) إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان: أمّا بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا ، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن عليّ» .
أمّا زيد ، وهو أخو صعصعة ومن كبار التابعين ، وهو كاُويس القرني ، الذي لم يحظ بصحبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولكن الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)بشّره بالجنّة(2) ، وقد أبلى بلاءً حسناً في الدفاع عن أمير المؤمنين(عليه السلام)في جهاده الناكثين في حرب الجمل ، فقد كتب في جوابها:
«أمّا بعد ، فأنا ابنك الخالص ، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلاّ فأنا أوّل من نابذك»(3) .
وهذا الجواب يكشف بوضوح إحاطة عموم المسلمين بوظيفة

(1) قاموس الرجال 4: 558 .
(2) قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يسبقه عضو منه إلى الجنّة ، فقطعت يده يوم مؤتة ، وقتل مع عليّ(عليه السلام) يوم الجمل (ج1 من الأحاديث الغيبية / مؤسسة المعارف الإسلامية ، وقد ذَكر له عشرين مصدراً) .
(3) الكامل في التاريخ 3 : 216 .

(الصفحة29)

وبواجب كلّ فئة منهم ، ففي رؤية زيد كان يمكن لعائشة أن تكون اُمّاً للمؤمنين وتتمتّع بمميّزات هذا اللقب ، إذا ما قرّت في بيتها وانشغلت بدور ربة البيت ، وإن لم تفعل فليست للمؤمنين باُمّ ولا يمكن لزيد أن يكون ابناً لها .
لقد أشار زيد إلى ما رسمه القرآن الكريم في آيات النساء وخطّه كمنهج وبرنامج عملي لنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وذكّر عائشة به ، فطالبها بالرجوع إلى بيتها ، وأن تترك أمر الرجال للرجال ، ودون ذلك فلا حرمة لها ولا حقّ لها بالافتخار بلقب «اُمّ المؤمنين» ، بل إنّ زيداً أشار إلى وظيفة اُخرى تترتّب على عموم المسلمين في مثل هذه الحالات ، وهي الأخذ على يد الناكث ، وسل السيف في وجه عائشة ومنابذتها حتّى يردّها إلى بيتها ويجتثّ الفتنة . ويذكر الطبري أنّ زيداً كان يقول عقب هذه الرسالة:
«رحم الله اُمّ المؤمنين ، اُمرت أن تلزم بيتها واُمرنا أن نقاتل ، فتركت ما اُمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما اُمرنا به ونهتنا عنه»(1) .
ونرى هنا أنّ زيداً يعلم بأنّ الآية الكريمة {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }تأبى لعائشة ما تكلّفته من دور ، وتحظر عليها ما تصدّت له من مهمّة ادّعت أنّ الوظيفة والواجب الشرعي يمليه عليها ، فركبت جملها وخرجت تدّعي الطلب بدم عثمان! وهو يعلم كذلك أنّ آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ . . .} أوكلت أمر زعامة الاُمّة وإمامتها لأمير المؤمنين الذي هو من «أهل البيت(عليهم السلام)» ، وأنّ عليه نصرة هذا الإمام والدفاع

(1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري 4: 477 .

(الصفحة30)

عنه حينما تشتدّ المحنة ويحتدم الصراع في ميادين الحروب .
إنّ حديث وفعل زيد ، كلامه وموقفه العملي ، يكشف عن علمه بأنّ قضايا الإسلام المصيرية لم توكل إلى النساء ، وبأنّ آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ . . .} لم تطهّر عائشة ولم تنزّهها; لأنّها ما نزلت في شأنها ، لذا فهو عَجِبٌ ومذهول ، عَجَبُ استنكار وذهولُ رفض من تصرّفات عائشة .
فما كان لزيد أن يتردّد ويرتاب في موقف عائشة لو أنّه كان يرى أنّ آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ . . .} قد نزلت في اُمّهات المؤمنين وشملتهنّ ، وأنّ الإرادة التكوينيّة لله سبحانه وتعالى عصمتهنّ عن الرجس والعيب والخطأ ، وما كان ليصنّف عملها هتكاً لحدود الله ومخالفة لأحكامه ، وكأنّي به يقول: إنّ عمل عائشة هو حجّة على الآخرين إذ نزّهها الله ، وأراد إرادة تكوينية أزلية أن لا ترتكب خطيئةً ولا خطأً ، فلا يصحّ أن نشكّ في أعمالها ونتردّد في مواقفها ، ولكنّنا نجد في المقابل أنّ جملة واحدة مختصرة من اُمّ سلمة أقنعته بتولّي أمير المؤمنين(عليه السلام) وطاعته ما قاله حال استشهاده . لماذا يعتمد زيد بن صوحان رضوان الله عليه حديث اُمّ سلمة في حقّ عليّ(عليه السلام)ويبادر في اتخاذه حجّة ، وفي المقابل يصنِّف سلوك عائشة هتكاً لحرمات الإسلام ومخالفة للشريعة الغرّاء؟ هل الأمر إلاّ رؤيته وفهمه بأنّ آية التطهير لا تشمل عائشة وزوجات النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ الرعاية الربّانيّة في العصمة والتنزيه تشمل عليّاً(عليه السلام) وبقية أهل البيت(عليهم السلام)فقط ، وأنّ اُمّ سلمة رضي الله عنها صارت أهلاً للثقة والاعتبار; لتمسّكها بالوظائف وعملها بالواجبات التي شرعها القرآن الكريم لخصوص نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فبلغت

(الصفحة31)

ذلك المستوى من الوثاقة بحيث ضحّى الرجل بنفسه وبلغ الشهادة في سبيل الدفاع عن أمير المؤمنين(عليه السلام)اعتماداً على حديث نقلته رضوان الله عليها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حقّ عليّ(عليه السلام)وفضله؟

موقف ابن عبّاس :

لمّا هزم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أصحاب الجمل بعث عبدالله بن عبّاس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلّة العرجة .
قال ابن عبّاس: «فأتيتها وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة ، فطلبت الإذن عليها فلم تأذن ، فدخلت عليها من غير إذنها ، فإذا بيت قفار لم يعدّ لي فيه مجلس! فإذا هي من وراء سترين فضربت ببصري فإذا في جانب البيت رحل عليه طنفسة ، فمددت الطنفسة فجلست عليها ، فقالت من وراء الستر: يا ابن عبّاس أخطأت السنّة! دخلت بيتنا بغير إذننا وجلست على متاعنا بغير إذننا ، فقال ابن عبّاس(رحمه الله): نحن أولى بالسنّة منك ، ونحن علّمناك السنّة وإنّما بيتك الذي خلّفك فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) فخرجت منه ظالمة لنفسك غاشية لدينك عاتبة على ربّك عاصية لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلاّ بإذنك ، ولم نجلس على متاعك إلاّ بأمرك . . .»(1) .
إنّ قول ابن عبّاس هذا ـ وهو حبر الأمّة ومفسِّر القرآن ـ يبيّن أنّ الآيات الواردة في نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) حظرت عليهنّ التدخّل في القضايا

(1) اختيار معرفة الرجال ، المعروف برجال الكشي: 57 ـ 58 الرقم 108 ، قاموس الرجال 6 : 419 ـ 420 ، بحار الأنوار 32: 269 ح210  .

(الصفحة32)

السياسية ، وأنهنّ يفقدن اعتبارهنّ بل ويفقدن حتّى ما للمرأة المسلمة العادية من احترام إذا ما تخلّفن عن الالتزام بهذه الآيات والأحكام .
كانت هذه نماذج من فهم وانتزاع وعمل بعض رموز الطبقة الاُولى من شخصيات الإسلام حول آيات نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ذكرناها على سبيل المثال لا الحصر توخّياً للاختصار وحذراً من الإطالة .

المهمّة والدور الآخر :

سبق أنْ بيّنا أنّ ممّا أرادته آية التطهير هو إناطة دور ومهمّة خاصّة بأهل البيت(عليهم السلام) ، مهمّة تتطلّب الطهارة والنزاهة في أعلى سطوحها وأرفع مستوياتها ، وسنرى أنّ هذه المهمّة ليست إلاّ إمامة المسلمين وقيادتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)  ، هذا ما صرّح به أهل البيت(عليهم السلام)مراراً وتكراراً ، وهنا سنذكر بعض النماذج التي ذكر فيها أئمّة الحقّ والهدى آية التطهير في معرض استدلالهم على حقّهم فيما تناولوه وتصدّوا له من مناظرات ومحاججات حول الخلافة:

1 ـ في سقيفة بني ساعدة:

بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) تنازع المهاجرون والأنصار ، وكان أوّل من تجمّع في السقيفة عدّة من الأنصار من الذين نهضوا بنصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله)عند هجرته إلى المدينة ، وكان سعد بن عبادة أكثرهم سعياً لتولّي الخلافة والاستحواذ عليها ، ولكن أبا بكر وعمر لم يدّخرا

(الصفحة33)

وسعاً في إيصال أنفسهما سريعاً إلى السقيفة(1) حتّى لا تذهب جهود سنين متمادية قضياها في التخطيط والعمل لهذا اليوم ، تذهب أدراج الرياح باستباق الأنصار! وفي ذلك الجمع الغاصّ والمحفل الملتهب والأجواء المضطربة بدأ أبو بكر الكلام فخطب ، وكان آخر ما اقترحه أن تكون الإمرة للمهاجرين والوزارة للأنصار ، ولكن اقتراحه هذا سقط بمعارضة حبّاب بن منذر الذي كان من زعماء الأنصار ، وكاد الأمر أن يتمّ على هوى سعد بن عبادة ووفقاً لمراده ، لولا تدخّل ابن عمّه بشير بن سعد الخزرجي في موقف مفاجئ رجّح فيه أن تكون الزعامة للمهاجرين ، وأن يوكل الأمر إلى أحد رؤوس قريش ، ولم يكن بشير هذا على ما يرام مع ابن عمّه سعد ، وما كان موقفه يخلو من دواعي المنافسة والحسد له ، وبعد جدل ومناظرة وخبط ولغو امتدّ طويلاً ووسط غوغاء وفوضى ومعارضة هذا وذاك خُلعت الخلافة على أبي بكر . . .
طرب عمر لهذا الحدث وانتشى ، ورأى أنّ أحلامه السعيدة في طريقها للتحقّق من خلاله ، وأنّه سيكون فارس الميدان وله فرس السبق في الساحة الإسلامية ، ولكن في الوقت نفسه كان هاجس عليّ(عليه السلام)يقضّ مضجعه ، ترى هل يشمّر ابن أبي طالب(عليه السلام) عن ساعده ويطالب بحقّه؟ وحسماً لهذا القلق عمد إلى دار عليّ(عليه السلام) واقتاده إلى أبي بكر(2) ، فامتنع

(1) اُنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 7  .
(2) هذا قول ابن أبي الحديد ، والكلام ليس في معرض البحث حول بتر التاريخ وتحريفه ، وإلاّ فالمقام ملي بما ينبغي بيانه حول هذه الواقعة الأليمة . . .

(الصفحة34)

عليّ(عليه السلام) عن البيعة وأصرّ على امتناعه ، ولم يكن عمر ليخلّي سبيل أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فما كان من شبل ابن أبي طالب(عليه السلام) إلاّ أن فجّرها في وجهه: «احلب يا عمر حلباً لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً ، ألا والله لا أقبل قولك ولا اُبايعه»(1) .
وهنا نعق المرتزق الأجير أبو عبيدة ، ولم يكن يملك من دليل لدفع الخلافة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ حداثة سنّه! وفي ردّ هذه الأباطيل والترّهات نهض أمير المؤمنين(عليه السلام) باحتجاجه القاصم ، وكان ممّا استدلّ به آية التطهير ، وهذا نصّ حديثه صلوات الله عليه: «يا معشر المهاجرين ، الله الله ، لا تُخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحنُ أهلَ البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم . أما كان منّا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنّة ، المضطلع بأمر الرعية ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعداً» فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعَتْه منك الأنصار يا عليّ قبل بيعتهم لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ، ولكنّهم قد بايعوا(2) .

إلتفاتة أدبية :

يرتكز الاستدلال هنا على نقطة أدبية لطيفة جاءت في كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، إذ يقول سلام الله عليه: «نحنُ أحقُّ بهذا الأمر» وهي جملة

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 11  .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 12  .

(الصفحة35)

اسمية ذات مبتدأ وخبر تخلّلتهما عبارة «أهل البيت» وقد وردت في حديث أمير المؤمنين(عليه السلام) بفتح «أهلَ» على ما ورد في نقل ابن أبي الحديد ، خلافاً للقاعدة النحوية التي توجب رفع «أهل» على البدلية ، وهذا ممّا يدلّ على الاختصاص وإشارتها للآية الكريمة {لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ . . .} كما جاءت في الآية منصوبة للاختصاص ، من قبيل قوله «نحن معاشرَ الأنبياء . . .»(1) حيث جاءت «معاشرَ» منصوبة للاختصاص وإفادة الحصر .
من هنا يصبح معنى قول أمير المؤمنين(عليه السلام) هو: إنّنا أهل البيت ـ  ولا غير ـ أحقّ منكم أيّها المهاجرون بالزعامة والخلافة ، وأنّه ثوب لا يليق إلاّ بنا على نحو الحصر ووجه التعيّن ، كما ذهبت الآية فيما قرّرته من أنّ الطهارة وبالتالي الزعامة محصورة ومختصّة بأهل البيت ، وهكذا نجد أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو في معرض الاستدلال والمحاججة على أحقّيته بالخلافة في ذلك المحفل المُصطنع وأمام ترّهات أبي عبيدة ، يكتفي بالاحتجاج بآية التطهير لإثبات حقّه ، مع المندوحة والسعة وما هو مبذول لديه ومبثوث في أيدي المسلمين من فضائل وكمالات ومرجّحات تشكِّل شهادات وبراهين قاطعة على أعلميته وأعدليّته وأقربيّته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وبالتالي وجوب وضرورة تقدّمه وتأخّر غيره . . . مع كلّ ذلك نجده سلام الله عليه يكتفي بسوق هذه الآية والاحتجاج بها ، وقد كانت دلالة هذه الآية من الوضوح والتسالم بحيث عقّب بشير بن سعد قائلاً: لو كان هذا الكلام سمعَتْه منك الأنصار يا عليّ

(1) بحار الأنوار 67 : 231 ح47  .

(الصفحة36)

قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ، ولكنّهم قد بايعوا .

2 ـ في الشورى :

يروي السيّد هاشم البحراني قدّس الله نفسه الزكية ـ وهو من أجلّة علماء ومحدِّثي القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري ، وله مؤلّفات كثيرة ، منها تفسيره المعروف «البرهان» ـ في كتابه «غاية المرام» في الصفحة 265 عن ابن بابويه القمي حديثاً معتبراً عن عامر بن واثلة ، وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وضمن تلك الرواية نلمح هذه العبارة ، ثمّ ذكر ما احتج به أمير المؤمنين(عليه السلام) على أهل الشورى ، فقال في ذلك: نشدتكم هل فيكم أحدٌ أنزل الله فيه آية التطهير على رسوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . . .} ؟ قالوا: اللهمّ لا»(1) .
ويلاحظ هنا أنّ أُسلوب المولى سلام الله عليه في المحاججة لا يكتفي بالتقرير بل يأخذ شكل الاستفهام ، وأنّه يدين القوم بألسنتهم وبما لا يمكنهم إنكاره ، فيقول: هل نزل في أحد منكم آية التطهير؟
إذن فإمامنا العزيز سلام الله عليه أشار في موضعين حسّاسين إلى الآية الكريمة ، وأنّها تثبت استحقاقه وتعيّن الأمر فيه بمفهوم: أنّ آية التطهير حسمت مسألة القيادة ، وأن من قصدتهم الآية هم الوحيدون

(1) في كتاب الاحتجاج للطبرسي هناك رواية أخرى عن الإمام الباقر(عليه السلام) في احتجاجات أمير المؤمنين(عليه السلام) على الستّة أصحاب الشورى ، يذكر فيها أمير المؤمنين(عليه السلام)آية التطهير في جملة ما احتجّ به على القوم ، ج1 ص192 .

(الصفحة37)

القادرون على إمامة المسلمين والنهوض بزعامتهم:
الأوّل: عند وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وفي خضم تعيين الخليفة ، ولم يكن قد مضى الكثير في ذلك الحين من زمن نزول الآية .
الثاني: في شورى عمر السداسية التي أوكل إليها تعيين الخليفة من بعده ، وتمكّن بالاحتيال بها من إقصاء عليّ(عليه السلام) عن حقّه مرّة ثالثة هناك في تلك الشورى ، التي تشكّلت بعد ثلاث عشرة سنة تقريباً من وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وثلاث عشرة سنة وبضعة شهور على نزول آية التطهير ، نجد أنّ علياً(عليه السلام) يذكّرهم بها ، ويطرح من جديد أولويته بخلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانفراده دونهم بهذا الحقّ من خلال التذكير والاستدلال بآية التطهير الشريفة .

3 ـ في خلافة الإمام الحسن(عليه السلام) :

عندما آلت الخلافة إلى السبط الأكبر الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام)قام خطيباً فقال:
«أيّها . . . الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ،  . . . أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله ، وأنا ابن السراج المنير ،  . . . وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(1) .
نرى هنا كيف أنّ ثاني أئمّة المسلمين في معرض استدلاله على كفاءته ولياقته لمسند الإمارة والخلافة يشير ـ فضلاً عن تميّزه النَسَبي ـ

(1) الأمالي للشيخ الطوسي: 270 ح501 ، بحار الأنوار 43: 361 ح3 .

(الصفحة38)

إلى آية التطهير ويستشهد بها .
ولو لم تكن هذه الآية في معرض تعريف وتحديد خصائص القائد ومميّزاته وما يجب أن يتحلّى به من العدالة والعصمة والبراءة من كلّ عيب ونقص لما استدلّ واستشهد بها ثاني أئمّة الهدى صلوات الله عليه لإثبات حقّه ومشروعيّة تصدّيه لهذا المقام .
إنّ هذه الشواهد الحيّة تفيض دلالة على مكانة أهل البيت(عليهم السلام)واختصاصهم بالولاية والإمامة ، وخروج الزوجات من هذا العنوان . . .


(الصفحة39)


النكتة الثانية:

البحث في شأن نزول الآية وترتيبها

سنتعرّض في هذا المبحث لأمرين مهمّين:
1 ـ هل جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ  . . .} نزلت بصورة منفصلة عن آيات النساء ، أم أنّها جاءت في سياق تلك الآيات وأعقبتهنّ؟
2 ـ وإن كان نزولها منفصلاً ، فلماذا جاء ترتيبها بعد آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ولم تنفرد بآية مستقلّة؟

1 ـ استقلالية جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ  . . .} :

حتّى نقف على موقع الآية من حيث الاستقلال والانفصال ، لابدّ أن نركِّز التحقيق على شأن النزول ، إذ سيتّضح لنا أنّ جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} نزلت في شأن خاصّ ولقضيّة هامّة ، وواقعة وظرف زماني ومكاني منفصل تماماً عن ظرف آيات النساء ، ومن الطبيعي أن لا سبيل للبحث في شأن النزول إلاّ بتتبّع الأخبار الواردة عن طرق العامّة والخاصّة . وغاية ما نستفيده من البحث القرآني والتدبّر في تلك الآيات أنّ جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} لمّا جاءت في إثر آيات النساء ، وعقب آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ . . .} فلا مناص من القول بأنّها نزلت جميعاً في واقعة واحدة ، إذ أنّنا نعتقد بأنّ منهج تدوين القرآن الكريم ـ الذي تمّ

(الصفحة40)

بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ وترتيب الآيات فيه خاضع لقاعدة خاصّة يحكمها ترابط الآيات ، وطبقاً لهذا الأصل المتّفق عليه فنحن نرى أن آية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ  . . .} نزلت في حال توجّه الخطاب الإلهي لزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)بجملة من الوظائف والواجبات المفروضة عليهنّ .
من هنا يتّضح أنّه لا سبيل للتحقّق من نزول هذا المقطع {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} بشكل منفصل عن بقيّة الآيات إلاّ بتتبّع الروايات التي تتحدّث عن شأن نزول هذه الآية .
ومع كثرة هذه الروايات ـ حتّى إنّ المحدّث الكبير السيّد هاشم البحراني نقل في «غاية المرام» إحدى وأربعين منها من طرق العامّة ، وأربعاً وثلاثين رواية من طرق الإماميّة(1) ـ لابدّ في البداية من سرد بعض هذه الروايات ، ونرى أن نبدأ بما روي من طرق العامّة .

القسم الأوّل : روايات العامّة

هذه مجموعة من الروايات المعتبرة ، المرويّة بأسانيد معتمدة وفق قواعد أبناء العامّة في الجرح والتعديل وتصحيح الأسانيد ، ممّا ذكر في كتاب «تفسير ابن كثير» الذي يُعدّ من أشهر تفاسيرهم ، نسردها بحذف الإسناد توخّياً للاختصار .
1 ـ تقول أمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان في بيتها ، فأتته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ببرمة فيها خزيرة ، فدَخَلتْ عليه بها ، فقال لها: أُدعي زوجك وابنيك ، قالت: فجاء عليٌّ وحسنٌ وحسينٌ ـ رضي الله

(1) غاية المرام: 287 ـ 300 .
<<التالي الفهرس السابق>>