في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة121)

المعنوية العالية هي رجس .
والآن ، بعد أن اتّضح معنى الرجس بالاصطلاح القرآني نرى أنّ جميع عوامل الشقاء قد اُطلق عليها الرجس ، فهو العلّة الاُولى لجميع الأمراض الروحية التي تحول بين المرء وإدراكه الحقائق ، وتدفعه للتمرّد والطغيان والمكابرة على الرضوخ للحقّ ، وعدم الإذعان للقيم المعنوية حتّى ينتهي الأمر به إلى الكفر والإلحاد ، إنّ «الرجس» يعرّي الإنسان عن جميع الفضائل ويخلفه روحاً مُشبعة بالآفات والأسقام ، وقد جعل القرآن «ضيق الصدر» عنواناً جامعاً لهذه العلل .
على هذا فإنّ مؤدّى آية التطهير هو أنّ الله سبحانه شرح صدور «أهل البيت»(عليهم السلام) ، ولم يبتلهم بضيق الصدر ، وصوّر قلوبهم سليمة معافاة من الأمراض الروحية التي جعل بينها وبينهم فاصلاً وبوناً لا يسمح بسريان الداء وتسرّبه إليهم .
إنّ «أهل البيت»(عليهم السلام) الذين انفصلوا عن الآفات والأمراض التي تحول بين المرء والإذعان للحقّ وتدفعه للتمرّد عليه ، تجدهم بتلك القلوب النقيّة والصدور الرحبة في حالة من الانقياد المحض لإرادة الباري تعالى ، والاستعداد التام لتلقّي القيم المعنوية وفهم دقائق أسرارها ، وقد سلكت بهم تلك الفاصلة وهذه الرحابة إلى قمّة الإنسانية الشامخة ، وجعلتهم صفوة الله التي تسبح في بحر الفضائل والكمالات . وما هذا الفاصل وتلك الرحابة إلاّ من فضل الله {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلامِ . . .}(1) .


(1) الأنعام : 125  .

(الصفحة122)

لذا فإنّ عدم تلوّثهم بالذنوب معلول لسعة صدورهم ورحابتها وامتلاء أرواحهم بالفضائل والكمالات وتعلّقها ، هكذا يتبيّن أنّ آية التطهير شاهد صدق على عظمة أرواح هذه الصفوة ، وبرهان حقّ على سمو أفكارهم وتحرّرهم من قيود الآفات الروحية وخلاصهم من تبعات الأمراض الأخلاقية ، وما هذه العظمة إلاّ موهبة إلهية ، وهي التي نزّهتهم عن الذنوب وطهّرتهم عن المعاصي ، وهي التي فتحت أبواب الفضائل والخيرات أمامهم لينهلوا منها الغاية والحدّ الأقصى ، فالإنسان العظيم لا يجاور الرذائل ، والفكر السليم لا يستمدّ من الخرافات والأباطيل ، والنفوس القويّة والهمم العالية لا تتمكّن منها الاضطرابات الروحية ولا يمكنها أن تصبوا إلى المعاصي ، وآية التطهير عنوان وعلامة على تمتّع «أهل البيت»(عليهم السلام)بهذه الكمالات الروحية الدافعة إلى الخير والمانعة للشرّ ، فلعمري إن كانت هذه المواهب الجمّة والفيوضات الزاخرة التي نزلت على «أهل البيت»(عليهم السلام) جبراً فأيّ الفيض لا يكون كذلك ومتى وفيمن تتحقّق حالة الإرادة والاختيار؟!
فعندما نرى عليّاً(عليه السلام) يمثِّل القمّة في التقوى ، فلأنّه ينطلق من تلك الركائز ، وإذا كان يقول: «والله لو اُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته» (1) ، وإذا كانت الدنيا عنده أزهد من عفطة عنز(2) وأهون من ورقة في فم

(1) نهج البلاغة: 473 ، الخطبة 224 ، بحار الأنوار 75 : 360 ح76 .
(2) نهج البلاغة: 30 ، الخطبة 3  .

(الصفحة123)

جرادة تقضمها(1) ، وكعراق خنزير في يد مجذوم(2) ، وكانت قيمة الرئاسة والإمرة عنده دون شسع نعل بالية(3)! فكلّ ذلك لما أشارت إليه آية التطهير من المنح والمواهب الإلهية التي منّ الله بها على أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فنوّره بالعلم والمعرفة ، وأذهب عنه الرجس وطهّره تطهيراً ، فتسامى على هذا العالم وتعالى عن هذه الدنيا وحلّق في سماء المجد والعظمة في الآفاق التي أرادها الله له وللعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين . وهكذا إذا وجدنا ابنه الحسين(عليه السلام) يقدّم رضيعه ذا الأشهر الستّة وفتاه ذا الثمانية عشر ربيعاً قرابين على طريق محبّة الله وفي سبيل إنقاذ عباده من جور يزيد وتحريرهم من استبداده ، ويتلو ذلك بسوق نسائه وعقائل بيته الشريف اُسارى لبني اُمية وابن آكلة الأكباد ، فذلك لتلك المواهب والنعم التي سبقت له من الباري عزّوجلّ وجعلته ـ كنتيجة للابتعاد عن الرجس ـ عاشقاً لله ، مسلّماً لأمره وإرادته ، هائماً في حبّه ومؤثره على التعلّق بالدنيا وحبّ فلذات كبده!

تقرير حقيقة

وما كان هذا اللطف الخاصّ ليأتي عبثاً وخبطاً مزاجياً لا يخضع لقاعدة وأساس ومعيار ، ولا يظنّن أحد أنّ العناية الإلهية تنصب دون حكمة وبشكل عشوائي لا يراعي استعداد الإنسان وقابليته لتلقّي هذا

(1) نهج البلاغة: 473 ، الخطبة 224 .
(2) نهج البلاغة : 702 ، الحكمة 236 . بحار الأنوار 40 : 337 ح21 و 73 : 130 ح135 .
(3) انظر نهج البلاغة: 70 ، الخطبة 33  .

(الصفحة124)

العطاء الكبير ، وأنّ الأمر شمل «أهل البيت»(عليهم السلام)لمجرّد كونهم أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) وقرابته! كلاّ إنّ هذا التصوّر وهم باطل . إذ إنّ أرضية العطاء والاستعداد لتلقّي العناية واللطف الخاصّ أمر بيد الإنسان ورهن رغبته وإرادته ، فهو الذي يصنع نفسه ويهيّئ حاله لتكون على ذلك المستوى ، وهذا بحث يطول نتركه لمقام آخر ونكتفي بالإشارة إلى آية قرآنية أومأت إلى السرّ في العطاء الإلهي الخاصّ والعناية المتميّزة ، تفتح آفاق التحقيق والبحث أمام القارئ الكريم: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً}(1) ، فالآيتان تقرّران أنّ سرّ الإنعام الإلهي ومفتاح تلقي الفضل الخاصّ هو طاعة الإنسان وعمله في سبيل حياة خالدة ، وذلك بامتثاله أوامر الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) . إذن مردّ السعادة والتكرّم بالفيض الإلهي يعود للإنسان نفسه ومدى سعيه لتحقيق أرضية أكثر استعداداً لتلقّي المزيد من الفيض والعطاء الإلهي غير المجذوذ ولا المحظور .


(1) النساء : 69 ـ 70  .

(الصفحة125)


النكتة الخامسة:

المقصود من «أهل البيت» في آية التطهير

تُرى هل هو البيت العتيق (الكعبة) وجميع المسلمين (أهل القبلة) هم أهله ، أم هو بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأهله هم عشيرته وعائلته ، أم هم كلّ من يمتّ إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بصلة قرابة أو نسب ممّن لا يُستقبح اجتماعهم تحت غطاء واحد ، ويصحّ تواجدهم وعيشهم في نفس البيت ، فيشمل هذا العنوان نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأبناءه بالإضافة إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ(عليه السلام)؟ أم أنّ «أهل البيت» ينصرف إلى المعني العرفي المتداول الذي يطلق على عيال المرء وأزواجه ، فلا يعدو بذلك نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أم أنّ هناك معنى آخر صرفت إليه هذه العبارة؟
هذه أقوال ممّا طرحه وذهب إليه كبار المفسِّرين ، ولكنّنا نرى أنّها لا تنطبق مع المعنى الواقعي لكلمة «أهل البيت» في الآية الكريمة .
إنّ كلمة «أهل البيت» هي عنوان مشير وتحكي عن حادثة وقعت .
وبعبارة اُخرى: إنّ كلمة «البيت» تشير إلى بيت من بيوت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، والألف واللام عهدية ، وأهل البيت هم الذين كانوا مجتمعين في الزمان والمكان المعيّنَيْن (حين نزول الآية وفي بيت اُمّ سلمة وفقاً لتعيين الروايات) ، فنزلت الآية في شأن ذلك الجمع تقريراً لفضلهم

(الصفحة126)

ومنزلتهم وفقاً لمفادها ـ كما سبق إثباته ـ ، فصار ذلك الجمع يُعرف بـ  «أهل البيت» ، وعلى هذا الفرض فإنّ «أهل البيت» إشارة إلى الخمسة المجتمعين في بيت اُمّ سلمة .
وفي بداية الأمر حين نزول الآية لم تكن هذه العبارة تحمل إلاّ معنى الإشارة ، ولكن بمرور الزمن صار لها معنى علمي حتّى غدت عنواناً خاصّاً للخمسة المجتمعين في ذلك البيت ، ويمكن القول: إنّ هذا الفرض هو الأرجح والأكثر تطابقاً مع الواقع من بين جميع الاحتمالات التي افترضها المفسِّرون ، وها نحن نعرض مزيداً من التوضيح .

المدّعى

تحديداً لنطاق البحث نقول: إنّ المدّعى هو: أنّ «أهل البيت» هم الخمسة أصحاب الكساء الذين كانوا مجتمعين في بيت اُمّ سلمة . والحدث وإطلاق المصطلح هو نظير «يوم الدار» الذي يشير إلى اليوم الذي جمع فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) عشيرته في دار أبي طالب(عليه السلام)(1) ليعلن نبوّته ودعوته ، وأصبحت كلمة «يوم الدار» عنواناً خاصّاً لتلك الواقعة وذلك اليوم ، وكلمة الدار تشير إلى دار أبي طالب(عليه السلام) . هكذا أصبحت عبارة «أهل البيت» تحمل وتتضمّن معنى علمياً للخمسة الذين دخلوا تحت الكساء في دار اُمّ سلمة .


(1) عندما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)  .

(الصفحة127)

أدلّة وإثباتات المدّعى

1 ـ إنّ الآيات التي ذُكر فيها لفظ «البيت» التي سبقت آية التطهير أو لحقتها جاءت على صيغة الجمع المحلّى بنون النسوة «بيوتكنّ» ، وهذا ممّا يعني أنّ «البيت» إشارة إلى بيت معيّن من تلك البيوت (بيوت الزوجات) أو حجرة من تلك الحجرات ، وحيث إنّ المراد من «بيوتكنّ» هو بيوت زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) فلابدّ من أن يكون «البيت» من ذلك النسيج أيضاً ، وبدخول «ال» التعريف على أحد تلك البيوت تعيّن أنّ المراد هو بيت اُمّ سلمة ، وممّا تظافرت واتّفقت عليه وشهدت به الروايات من الفريقين أنّ الآية نزلت في ذلك المكان التاريخي . وبملاحظة ما سلف بيانه وإثباته في قضية ترتيب الآيات وانتظام النصوص القرآنية ، وأنّ ذلك من الوحي وممّا أمر به النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله)وأمضاه ، فإنّ هذا الدليل سيحتلّ موقعه وستتجلّى حجّته .
2 ـ إنّ مبادرة واندفاع اُمّ سلمة رضوان الله عليها وحرصها الشديد على الاستفهام من النبيّ(صلى الله عليه وآله) وسؤاله عن مدلول الآية فور نزولها وهل هي مشمولة بها أم لا؟ والجواب السلبي التي تلقّته عن سؤالها يدلّ على أنّها كانت تعيش وهماً ، وأنّ شبهة اعترتها وجعلتها تستفهم ، وما لذلك الوهم وتلك الشبهة من مدخل وعلّة إلاّ كونها انتزعت من عبارة «أهل البيت» التي جاءت في الآية مفهوم «الساكنين في بيتها» ، فحيث كان المراد من «أهل البيت» المجتمعين في بيتها فقد ظنّت أنّ الخطاب شملها أيضاً . وإن قيل: إنّ منشأ سؤال اُمّ سلمة هو انتزاعها معنى زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) من عبارة «أهل البيت» وإنّ استفهامها كان من هذا المنطلق ، فإنّه مدفوع بكون احتمال شمول الآية لعموم الزوجات كان

(الصفحة128)

منتفياً لدى اُمّ سلمة إذ استفهمت عن حالها فقط ، ولم تفرض بأيّ وجه أن تكون بقيّة الزوجات مشمولات أيضاً .
3 ـ إنّ آية التطهير ـ وفقاً للروايات المعتبرة والمشهورة ، وممّا تسالم عليه الجميع ـ تشمل شخص النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيضاً ، وحيث إنّ معنى عبارة «أهل البيت» وفقاً لجميع الوجوه الاُخرى غير قابل للانطباق على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلا مناص من الإذعان بالمعنى القائل: إنّها تقصد المجتمعين في ذلك البيت المعيّن «بيت اُمّ سلمة» .
4 ـ لقد ذكرت عبارة «أهل البيت» في موضع آخر من القرآن الكريم ، وقد استُعملت في ذلك الموضع أيضاً بمعنى المجتمعين في أحد بيوت النبيّ إبراهيم(عليه السلام) ، إذ كان إبراهيم(عليه السلام) مختلياً بزوجته سارة في الحجرة ، فهبطت الملائكة المرسلة إلى لوط النبيّ في مهمّة ما وجعلت طريقها على دار إبراهيم ، هبطت على إبراهيم الذي كان واقفاً في داره بينما كانت زوجته سارة جالسة لتبشّرهما بحمل سارة وبمولود عزيز هو إسحاق وبحفيد عزيز يأتيهم من إسحاق! فتذهل سارة من هذه البشارة وكيفيّة تحقّقها في زوجين بلغا سن اليأس! فتجيب الملائكة عن سؤال سارة وعجبها {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}(1) .(2)


(1) هود : 73  .
(2) إشارة إلى الآيات الكريمة (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ . . . إِنَّ هَذا لَشَيءٌ عَجِيبٌ)(هود: 70 ـ 72) التي ذكرت القصّة ، وتفصيلها في التفاسير ، وتعميماً للفائدة نلخّص ما جاء في إحداها ، ذكر صاحب الميزان أعلى الله مقامه أنّ الرسل هم الملائكة ، وظاهر السياق أنّ البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم أنّها البشارة بإسحاق ، فتسالموا هم وإبراهيم ، ثمّ قدّم إليهم عجلاً مشويّاً فلم يأكلوا منه ، وذلك أمارة الشرّ ، فقالوا: (لاَ تَخَفْ إِنَّا اُرْسِلنَا إِلى قَوْمِ لُوط) فعلم أنّهم من الملائكة الكرام المنزّهين عن الأكل والشرب ، وبينما كان يكلِّمهم ويكلِّمونه في أمر الطعام وامرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين إبراهيم وضيفيه وما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ، ففاجأها الحيض فبشّرتها الملائكة أنّها ستلد إسحاق ، وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد ، فعجبت واستنكرت ذلك فقالوا لها: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ)  . . . (الميزان في تفسير القرآن 10 : 332 ـ 337) .

(الصفحة129)

فهل يصحّ أن نصرف المقصود من «أهل البيت» في هذه الآية إلى أهل القبلة أو زوجات إبراهيم(عليه السلام) أو أقربائه؟ من المقطوع به أنّ الجواب منفيّ . إنّ فصول القصة وتوالي أحداثها لممّا يقتضي هذا التعبير ويفرض استعمال مثل هذا الإطلاق ، فدخول الرسولين على شكل ضيفين وامتناعهما عن الأكل ، والخوف الذي انبعث في قلوب أهل البيت وأصحاب الدار من هذا الموقف ثم انكشاف العلّة في ذلك وكونهما من الملائكة جعل من هذا التعبير أفضل اسلوب وألطف وأبلغ عبارة لنقل بشارة البارئ تعالى لإبراهيم وسارة من خلال نسبته للدار والبيت الذي يأويان إليه لاستراحتهما .
5 ـ هناك شواهد من الأحاديث الشريفة تثبت المدّعى:
أ ) في رواية أحمد بن حنبل أنّ اُمّ سلمة قالت: كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)في بيتي وكنت اُصلّي في مخدعي إذ نزلت آية التطهير ، فأدخلتُ رأسي في البيت فقلتُ: وأنا معكم يارسول الله؟(1) ويتّضح من هذا المقطع من الرواية أنّ البيت كان فيه مخدع ، وأنّ اُمّ سلمة كانت منشغلة فيه بالعبادة

(1) المسند لأحمد بن حنبل 10: 177 ح26570 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3: 492 .

(الصفحة130)

حين نزول الآية ، فأطلّت برأسها من المخدع وسألت انضمامها وشمولها بالعناية الإلهية . وهذا يعني أنّ أمّ سلمة انتزعت من عبارة «أهل البيت» في الآية أنّ المجتمعين تحت ذلك السقف حظوا بالمكرمة ، فأرادت غيضاً من فيض ، فأطلّت برأسها وسألت النبيّ(صلى الله عليه وآله) : وأنا معكم؟ فإن لم تكن آية التطهير تشمل كلّ من كان في ذلك البيت ، وتحت ذلك السقف ما كانت أمّ سلمة لتطمع وتطمح في أن تشملها الآية هي أيضاً . إذن كلمة «البيت» في الرواية تُعدّ قرينة على أنّ المراد من «أهل البيت» في الآية هو عنوان أهل البيت المجتمعين في دار اُمّ سلمة والمتواجدين تحت ذلك السقف(1) .
ب ) جاء في رواية ابن جرير أنّ اُمّ سلمة قالت: «وأنا جالسة على باب البيت فقلت أنا: يارسول الله ألست من أهل البيت؟» (2) ترى لِمَ كان سؤال اُمّ سلمة هذا؟ هل كانت في شكّ من كونها إحدى زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟! كلاّ بطبيعة الحال ، ولكن وجه الاستفهام في سؤال اُمّ سلمة يفهم من كلامها ـ رضي الله عنها ـ حيث قالت: وأنا جالسة على باب البيت فقلت: يارسول الله أَلست من أهل البيت؟» تعني الساكنين والمجتمعين في تلك الدار وتحت سقف واحد .
وعلى هذا الأساس فهمت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ من كلمة «أهل البيت» هذه المجموعة المتواجدة تحت غطاء واحد . وبما أنّها كانت قريبة

(1) راجع المراد من مصطلح «العنوان المشير» الذي جاء توضيحه في الصفحة 15 هامش 1 ، وسيأتي لاحقاً تفصيله .
(2) جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري 22: 7 ، تفسير ابن كثير 3: 493 .

(الصفحة131)

منهم ومجاورة لهم; لذلك استفسرت بأنّ الآية التي نزلت في هذه المجموعة تشملها أم لا .

احتمال وجيه في خروج اُمّ سلمة عن مورد الآية

يستفاد من الروايتين المذكورتين أنّ خروج اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ عن مورد الآية لم يكن خروجاً تعبّدياً ، بل التقدير الإلهي والمشيئة الربّانية اقتضت أن تكون هذه المرأة خارج الدار في وقت نزول الآية المباركة «آية التطهير» ، وبالفعل كانت المرأة في ذلك الوقت خارج الدار أو مجاورة لها ، الأمر الذي دعاها أن تبذل جميع الجهود وتتوسّل بكلّ شيء لعلّها تحظى بهذا الشرف العظيم وتدخل ضمن عِداد المجتمعين تحت الكساء!
ولكن لا رادّ لقضاء الله ، حيث لم تكن اُمّ سلمة رغم عظمتها مؤهلة لحمل هذا الوسام الفاخر; ولذا كان الأجدر بها أن تنسحب من هذا الميدان وتتوجّه إلى الدعاء والتوسّل ، والشاهد الحي لهذا الاحتمال حديث جابر بن عبدالله الأنصاري ، هذا الرجل العظيم الذي كان يحمل بعض أسرار القرآن والعترة ، الذي يقول: «نزلت هذه الآية على النبيّ(صلى الله عليه وآله) وليس في البيت إلاّ فاطمة والحسن والحسين وعليّ(عليهم السلام): {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): اللّهم هؤلاء أهلي»(1) .
على هذا ، فإنّ زوجة النبيّ الفاضلة ليست من «أهل البيت»(عليهم السلام)

(1) شواهد التنزيل 2: 29 ح648 ، مجمع البيان 8 : 138 ، تفسير نور الثقلين 4: 277 .

(الصفحة132)

«والعاقل تكفيه الإشارة» ، إذ لم تكن في الدار التي نزلت فيها الآية ، كما ظهرت في هذه الرواية أيضاً لفظة «البيت» كقرينة على أنّ المراد من أهل البيت هو بيت اُمّ سلمة .

تسمية جديدة

لقد كان هذا مفاد عبارة «أهل البيت» عند نزول الآية هو: «النازلون دار اُمّ سلمة ، المجتمعون في بيتها» ، ولكن بمرور الزمان وتقادم الأيّام أخذت العبارة لنفسها عنواناً تاريخياً .
فالحادثة في يومها الأوّل وقعت ـ باتفاق جميع العلماء المحقّقين من السنّة والشيعة ـ عندما اجتمع أربعة أشخاص بدعوة من النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) في دار زوجته الفاضلة ، ولم تكن لائحة المدعوّين تتجاوز الأسماء المباركة ، لـ «عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)» ، ولم يكن من سبيل لتحديدهم وتعريفهم إلاّ إطلاق هذه الأسماء النورانية عليهم ، ولكن مع نزول الآية الشريفة بأمر البارئ عزّوجلّ وإرادته فقد خلع على هذه الثلّة المباركة أعظم فضيلة ومنقبة ، وصارت الألسن تتناقل تسميتهم الجديدة «أهل البيت»(عليهم السلام) شيئاً فشيئاً حتّى تعيّن كعنوان أساسي لهم .
إنّ عبارة «أهل البيت» التي انبثقت كمعنى تاريخي من حادثة معيّنة ، تحوّلت بمرور الزمان إلى عنوان ولافتة مفعمة بالفخر والفضيلة ، وأصبحت متعيّنة في النبيّ وصهره وأبنائه ، ومن مختصّات ألقابهم صلوات الله عليهم أجمعين . وما هذا وذاك إلاّ لأهمّية الموقف والعظمة التي سجّلتها آية التطهير!


(الصفحة133)

إنّ العبارة بحدّ ذاتها وبصرف النظر عن مدلولها المقترن بالمناسبة ، لا تحمل أيّة فضيلة ولا تعني أيّ تفوّق وكمال ممّا تحمله كلمات من قبيل «عالم ، عادل ، شجاع» ، ولكن مفاد آية التطهير المتدفّقة نوراً وفضيلة هو الذي خلع الفخر والعظمة على مصطلح «أهل البيت» وبلغ به قمّة تحكي معنى أكثر رقياً وسموّاً حتّى من تلك القمّة! وهذا هو السرّ في تحوّل الكلمة إلى عَلَم لهذه الثلّة المباركة .
إذن ، مع مرور الزمن ، بدأت تحفّ بهذه العبارة حيثية أخرى ، وصارت لها موضوعية مستمدّة من موضوع إثبات الفضيلة التي نطقت بها آية التطهير ، وصار «أهل البيت» اللقب الخاص لصفوة الله وخاصّته . ولم تجر كلمة أهل البيت على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله) كعنوان لأسرته قبل نزول آية التطهير في نطاق ما تحرّيناه ، ولكن بعد نزولها فقد تكرّر إطلاقه(صلى الله عليه وآله)هذا اللقب «أهل البيت» عند إرادته ذكر عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) ، وكأنّه(صلى الله عليه وآله) كان من البهجة والسرور بنزول آية التطهير بحيث كان يتحيّن الفرص ليستعيد ذكراها ويجدّد العهد بها ، فيكرّر ذكر عبارة «أهل البيت»! أو كأنّه يريد إخراج هذا المسمّى وما يعنيه من فضيلة وفخر لأعزائه الأربعة من خلال تكرار النداء والتصريح بهذا اللقب السامي والوسام الربّاني ، اللقب الذي يعادل الدنيا وما فيها ، ومن خلال ترديد الآية التي تضع عترته(صلى الله عليه وآله) في قمّة الهرم الإنساني ، حيث نشاهده(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حين نزول الآية ولمدّة ستّة أشهر أو أكثر ، وحينما كان يخرج لأداء صلاة الصبح يجعل طريقه على دار

(الصفحة134)

فاطمة(عليها السلام) وينادي بذلك النداء العظيم: «الصلاة يا أهل البيت»(1) .
نعم ، إنّ الادّعاء بأنَّ تقادم الزمن وحركة التاريخ لم يضفيا على أحد ـ ومن خلال آية التطهير ـ أيَّ فضيلة ولم يلبسا حُلّة الفخر والعزّ لأحد مهما كان ، ولم يظهرا له أيّ امتياز . نعم إنّ مثل هذا الادّعاء الواهي والتفكير المتشتّت والمبعثر بعيد عن روح الفضيلة وطلب الحقيقة ، إضافة إلى أنّه بعيد عن منهج العلماء ومنطق المحقّقين ، بل الواقع أنّ مرور الزمن وتعاقب الأيّام أزالا الستار عن الفضيلة التي اُريد لها أن تُحجب ، وأبرزاها على أحسن صورها وأجمل حالاتها . كما أظهر كلمة «أهل البيت» كعنوان ذهبي يزيّن صفحة التاريخ البشري . لقد كان الرسول(صلى الله عليه وآله)ومن خلال ترديده للآية المباركة يهدف إلى تحقيق عدّة أغراض:
الأوّل: لكي لا يطمس هذا العنوان الذهبي والوسام الإلهي .
الثاني: صيانة لهذا العنوان من سطو الطامعين ولصوص السياسة الذين يحاولون أن يتبرقعوا ويتزيّنوا بهذا الوسام العظيم والشرف الرفيع والذي لم يكونوا أهلاً له .
الثالث: وليعلم الجاهلون بالحقائق القرآنية مَنْ هم أصحاب هذا العنوان الرفيع .


(1) ذكر العلاّمة المجاهد عبد الحسين شرف الدين في رسالته «الكلمة الغرّاء» ص20 أنّه قد أخرج الإمام أحمد في ص568 ح14042 من الجزء الرابع من مسنده عن أنس بن مالك: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)وعن أبي الحمراء سبعة أشهر (جامع البيان في تفسير القرآن 22 : 6) ، وفي رواية ذكرها النبهاني وغيره ثمانية أشهر (الدرّ المنثور 5: 199) .

(الصفحة135)

الرابع: وليعلم العالم بأسره مَنْ هم أولئك القوم الذين نزلت في حقّهم آية التطهير ورفعتهم فوق ذرى المجد والفضيلة ، ونزّهتهم وإلى الأبد عن كلّ دنس وجهل وشكّ؟
وليعلم الجميع مَنْ هم قادة الإسلام الحقيقيّون ، وأيّ منزلة من منازل الفضيلة يرتقون؟
وليعلم أمثال عكرمة أنّ النظريات التي تفرزها نار العصبية والحقد والحسد لا تستطيع أن تحرف مسير الإنسانية الواعية والقلوب المؤمنة عن جادّة الحقّ والحقيقة .
وليعلم بعض المفسِّرين الذين ابتلوا بداء العصبية ، أنّ القرآن الكريم لا يخضع وبأيّ شكل من الأشكال لمثل تلك الأفكار والنظريات المنحرفة ، وأنّ هذا الكتاب المقدّس حصر طريق الوصول إلى الفضيلة به لا بسواه ، وأنّ تعاليمه الإلهية وقوانينه العالية لا تنسجم مع الأفكار المنبعثة عن الهوى ، والناجمة عن القناعات الشخصية والآراء الفردية .
وأخيراً لكي يتسلّح طالبو الحقيقة بالبرهان الساطع والدليل النيّر المستند إلى كلام سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله)  .

ثمرة التحقيق :

إنّ هذا الأسلوب المبتكر في تحقيق كلمة «أهل البيت» جديرٌ أن يصون البحث ويخرجه من حالة القال والقيل ، وإنّ أخذ هذا الأسلوب بنظر الاعتبار واعتماد نتائجه يؤدّي إلى أن يصبح البحث والجدل في مفهوم «أهل البيت» لغواً لا فائدة فيه ، وأن لا موضوع حينئذ للبحث عن سعة وضيق هذا المفهوم ، من قبيل: ماذا تعني كلمة الأهل؟ ومَنْ هم

(الصفحة136)

أهل البيت؟ وهل الآية تشمل نساء النبيّ أم لا؟ وكذلك التعصّب الفكري لحصر هذا المفهوم بنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) . كلّ ذلك لا يتعدّى ـ بعد هذا التحقيق ـ عن كونه ادّعاءً فارغاً وأمراً عارياً عن الحقّ والحقيقة . وإذا كان هناك بحث في كلمة «أهل البيت» فيمكن أن يدّعى أنّ مصطلح «أهل البيت» قرينة لـ «أهل بيت النبوّة» ممّا يجعل دخول النساء في نطاقه أمراً له وجه ما; لأنّ التداول العرفي للعبارة يشمل النساء أيضاً ، ولكن التحقيق الدقيق حدّد كون «أهل البيت» في آية التطهير عنواناً مشيراً يقصد الخمسة المتميّزة المجتمعة في أحد بيوت النبيّ(صلى الله عليه وآله) في دار اُمّ سلمة ، تماماً كما هي عبارة «أصحاب الكساء» في كونها عنواناً مشيراً إلى العظماء الخمسة(عليهم السلام) .
إذن فكما أنّ أحداً من العلماء والمحقّقين ، وأيّاً من أهل الحلّ والعقد لم يبحث في مفهوم كلمة «الكساء» ، وتسالموا على أنّ «أصحاب الكساء» عنوان يشير إلى المجتمعين تحت ذلك الغطاء ، كذلك لا ينبغي البحث في مفهوم كلمة «أهل البيت» ، إذ لا أهمّية للكلمة بنفسها ، ولم تكن معنيّة في ذاتها ، إذ لم يكن مفهوم «أهل البيت» هو موضوع آية التطهير ، ولم يكن هذا المفهوم هو الذي نزلت الآية بعصمته وطهارته ، حتّى نبحث ـ بعد ذلك ـ في شمولها لزوجات النبيّ من عدمه؟
فهذه العبارة لم تكن إلاّ إشارة إلى الأشخاص الخمسة ، وحتّى اُمّ سلمة التي كانت شاهداً نزيهاً على الحدث بقيت مستثناة وخارجة عن كساء القدس الذي شمل تلك النخبة والصفوة . ولعلّ الأمر يقتضي مزيداً من التوضيح .


(الصفحة137)

مزيد من التوضيح

إنّ الأحكام والتبعات التي تُحمل على موضوع ما ، تُحمَل تارةً بصورة قضيّة حقيقيّة واُخرى على نحو القضيّة الخارجيّة ، كما يصطلح في لغة أهل الفنّ والاختصاص . ففي القضايا الخارجية قد يحدّد موضوع القضية الأشخاص المعينين في الخارج صراحة ، وقد يشير إليهم إشارة خاصّة تحت عنوان ما يرمز إليهم ويدلّ عليهم ولا يمكن أن يضمّ غيرهم .
على سبيل المثال قد يأخذ شكل القضية الصورة التالية: «يجب احترام العالم» هذه قضية حقيقية ، هنا يجب البحث في مفهوم العالم ، وعلى قدر ما يسع هذا المفهوم من مصاديق فيجب احترامهم ، أي كلّ من يكون عالماً فيجب احترامه .
وقد يأخذ شكل القضية صورة اُخرى وتكون على هذا النحو: «احترم زيداً وعمرواً» هذه قضية خارجية ، ومن يجب احترامه في هذه القضية هما زيد وعمرو ، اللذان هما اسما عَلَم لشخصين معيّنين ، وقد يقال في نفس هذه القضية الخارجية: «احترم الشخصين ذوي الجبّة الخضراء» ، والقضية هنا جعلت «الجبّة الخضراء» عنواناً يشير إلى زيد وعمرو ، ومن ينبغي احترامه في هذه القضية هما زيد وعمرو فقط ، ولا يصحّ بحال أن تكون «الجبّة الخضراء» محور البحث في هذه القضية! بحيث يُبحث في مفهوم «الجبّة» و«الخضراء» وفي إضافة الجبّة إلى الخضراء ، ثم يتمّ ـ في ضوء ذلك ـ استنتاج أيّ الناس يجب احترامهم؟!
إذن البحث في القضايا الحقيقية يتناول المفهوم ويتعرّض لطبيعة موضوع الحكم ، ولكن في القضايا الخارجية ـ سواء في حالة التصريح

(الصفحة138)

بتعيين الموضوع أو حالة الإشارة له ـ لا ينبغي البحث في مفهوم ما وقع موضوعاً للقضية ، فيُبحث ـ وفق المثال ـ عمّن يجب احترامه ، إذ من المسلّم أنّ الاحترام يجب أن لا يكون إلاّ لزيد وعمرو ، ولا يتجاوز الحكم عن موضوعه بأيّ نحو من الأنحاء . إنّ آية التطهير التي جعلت «أهل البيت»(عليهم السلام) مورد اهتمامها وطهّرتهم من الرجس والذنب طهارة أزلية ـ من قبيل المثال الثالث لقد انصب اهتمام الآية على عنوان «أهل البيت»(عليهم السلام) ولكن باعتباره عنواناً مشيراً إلى المجتمعين في دار اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ وكناية عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسنين(عليهم السلام) .
كما أنّ الجبّة الخضراء في المثال عنوان مشير لزيد وعمرو . وإذا كان الاحترام في المثال الثالث منحصراً بزيد وعمرو ، وغيرهم خارج عن هذا الحكم ، كذلك في آية التطهير ، فإنّ العناية الإلهية لا تشمل غير هؤلاء الخمسة ، وغيرهم خارج عن حكم الآية . وعلى هذا فلا شكّ ولا ترديد ولا يبحث في أنّ أهل البيت مَن هم؟ وما هي سعة وضيق هذا المفهوم؟ وأنّ التطهير يشمل أيّ الأفراد؟
نعم ، كما أشرنا سابقاً أنّ الكلمة في حين نزول الآية كانت عنواناً مشيراً ، ولكن بمرور الأيّام اصطبغت بصبغة التعيّن وأصبحت لقباً واسماً مشخّصاً لهؤلاء الخمسة(عليهم السلام) ، بحيث كلّما ذكرت هذه الكلمة يتبادر إلى الذهن أصفياء الله تعالى وهم الرسول الأكرم وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) .
كما أنّ مصطلح «خاصِف النعل» والذي استعمله الرسول(صلى الله عليه وآله)في بادئ الأمر كعنوان مشير إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وبعد ذلك تحوّل إلى لقب خاصّ لأمير المؤمنين(عليه السلام)  .


(الصفحة139)

بعد هذا التحليل والتحقيق المبتكر من نوعه نستطيع القول: إنّا سحبنا البساط من تحت أقدام المتعصّبين والجهّال واللااُباليين بحيث أصبحت أيديهم جذّاء وحجّتهم باطلة ودعواهم عارية عن الدليل .
وبعد ذلك لا حاجة إلى الادّعاء العاري عن الدليل والقول بأنّ أهل البيت اصطلاح قرآني خاصّ بالخمسة من «أهل البيت»(عليهم السلام)(1) .
لأنّنا أثبتنا سابقاً أنّه لم يستعمل في هذه الكلمة أيّ اصطلاح . وما ورد فيها لا يخرج عن كونه عنواناً مشيراً إلى هذه الثلّة المختارة المجتمعة في بيت أمّ سلمة . والشاهد على أنّ كلمة «أهل البيت» لم تستعمل في القرآن كاصطلاح خاصّ بالخمسة من «أهل البيت»(عليهم السلام)هو ورود هذه الكلمة في قصّة إبراهيم(عليه السلام) وزوجته(2) ، ولو كانت هذه الكلمة خاصّة بأهل البيت وأنّها استعملت بحقّهم كمصطلح ، فلا معنى لاستعمالها في القرآن الكريم في حقّ أفراد آخرين غيرهم .

تساؤل :

إذا كانت كلمة «أهل البيت» خاصّة بهؤلاء الخمسة فقط فحينئذ يطرح السؤال التالي: ألم يكن سائر الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) من أهل البيت ، وأنّ آية التطهير تشملهم بالعناية والفضيلة؟
إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تظهر بين مطاوي كلمات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام):
فما نُقِلَ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن طريق أبي سعيد الخدري حيث قال(صلى الله عليه وآله):

(1) كما ذهب إلى ذلك السيّد الطباطبائي في تفسير الميزان 16: 312 .
(2) في ص128 .

(الصفحة140)

«نزلت هذه الآية فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة»(1) .
أو ما ورد عنه(صلى الله عليه وآله) بعد نزول الآية: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي ، فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(2) .
وهذان النوعان من التعبير ـ المنقولان عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ يوحيان أن عنوان «أهل البيت» في الآية الشريفة يشير إلى الخمسة أصحاب الكساء على نحو الحصر ، وقد ذهب الإمام الصادق(عليه السلام) إلى هذا الرأي (اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة) معقّباً أنّ ربط بقيّة الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)بآية التطهير وشمولهم بمدلولها وما تخلعه على مخاطبيها من العصمة والطهر يتمّ من خلال دخولهم (عليهم السلام) في قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ}(3) .
إنّ نطاق آية التطهير ـ بناءً على قول الصادق(عليه السلام)ـ لا يتجاوز الخمسة الذين نزلت في شأنهم ، وإذا كانت عبارة «أهل البيت» مطلقة ـ باصطلاح أهل الفنّ ـ بحيث تشمل جميع الأئمّة(عليهم السلام) فما كان الإمام الصادق(عليه السلام) ليستدلّ بآية {اُولوا الأرحام . . .} ويلجأ إلى الربط بين الآيتين ليخلص إلى نتيجة عصمة جميع الأئمّة وطهارتهم ، والقول:
«نحن تأويل آية التطهير»(4) إذن فـ «أهل البيت» هم أولئك النفر

(1) جامع البيان في تفسير القرآن 22: 5 ، مجمع البيان 8 : 138 ، تفسير نور الثقلين 4: 277 ، الدرّ المنثور 5 : 198 .
(2) جامع البيان في تفسير القرآن 22: 6 ، مجمع البيان 8: 138 ، تفسير نور الثقلين 4 : 276 كما وردت بهذا المضمون روايات أخرى ، راجع نفس المصدر .
(3) الأنفال : 75  .
(4) إذ يقول (في رواية عبد الرحمن بن كثير): «نزلت هذه الآية في النبيّ وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام) ، فلمّا قبض الله عزّوجلّ نبيّه(صلى الله عليه وآله) كان أمير المؤمنين ثمّ الحسن ثمّ الحسين(عليهم السلام) ، ثمّ وقع تأويل هذه الآية (واُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعض فِي كِتابِ اللهِ) وكان علي بن الحسين(عليهما السلام) ، ثم جرت في الأئمّة من ولده الأوصياء(عليهم السلام) ، فطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله عزّوجلّ» (علل الشرائع: 205 ب156 ح2 ، تفسير نور الثقلين 4: 273) .
<<التالي الفهرس السابق>>