في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 101

وضعّفه الشيخ (قدس سره) بأنّ لازمه أن يكون كلّ مالك ضامناً لمال نفسه ; لأنّه يصدق تلف المال مملوكاً له ، بل هو في هذه الجهة أولى من الغاصب ، مع أنّه لا يقال للمالك : أنّه ضامن لمال نفسه .

ويرد على هذا القول أيضاً : أنّ تحقّق المعاوضة القهرية على الطرفين من دون أن تكون تجارة عن تراض في البين ، لا يكاد يصار إليه إلاّ مع وجود دليل قويّ ; لأنّه مخالف للقواعد الأوّلية والضوابط الثابتة في باب المعاملات وأدلّة الضمان ، مثل حديث «على اليد» التي لا دلالة لها على ذلك ، إلاّ على فرض عدم تصوّر معنى للضمان غير ذلك ، مع أنّه ممنوع جدّاً كما سيأتي .

الثالث : ما أشار إليه الأعاظم والمحقّقون ، مثل المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشية المكاسب(1) من أنّه اعتبار ، أي اعتبار عقلائي وشرعي . ومثل تلميذه الكبير المحقّق الإصفهاني في حاشية المكاسب(2) .

وقد أوضحه تلميذه الكبير الآخر سيّدنا الاُستاذ العلاّمة البروجردي(3) على ما في تقريرات مباحثه فيما يتعلّق بكتاب الغصب ، وتوضيحه وتقريبه : أنّ بحث الضمان يغاير بحث اشتغال الذمّة ، فالضمان أمر والاشتغال أمر آخر ، والدليل عليه : أنّ المديون ذمّته مشغولة للدائن ، مع أنّه لا يقال : إنّه ضامن له ، فالمقترض مع اشتغال ذمّته للمقرض لا يكون ضامناً له ، والسرّ فيه : أنّ اشتغال الذمّة لابدّ وأن يكون بأمر كلّي وهو المثل أو القيمة ، فالذمة تكون بمنزلة الذهن الذي توجد فيها الماهية ، فالماهية الكلّية تتشخّص بوجودها في الذهن ، فالموجود فيه أمر كلّي ، وهكذا الذمّة ; فإنّ اشتغالها إنّما هو بأمر كلّي .


(1) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 30 .
(2) حاشية كتاب المكاسب للمحقّق الإصفهاني 1 : 307 ـ 308 .
(3) اُنظر كتاب الغصب للمحقق البروجردي : 128 ـ 130 و 136 و 144 .

الصفحة 102

وأمّا العهدة ، فهي متعلّقة بالموجود في الخارج مع وصف وجوده في الخارج ، فالعين المأخوذة في الحديث قد تعلّقت بنفسها العهدة ، ويعبّرون عن العهدة والضمان في الفارسيّة بـ «عهده دارى» ، كمافي الكفالة التي هي التّعهد بالإضافة إلى إنسان خاصّ وشخص معيّن ، ويترتّب على هذا الضمان الذي هو حكم وضعي اعتباري حكمان تكليفيان :أحدهما :وجوب ردّالعين ما دامت باقية ، ثانيهما : وجوب ردّ بدلها ـ مثلا أوقيمة ـ بعدتلفهاوانعدامها ،ومجموع هذين الحكمين لا يكون في غير مورد الضمان .

وعليه : فلا مجال للتفكيك بينهما وجعل وجوب ردّ العين مع بقائها في مورد غير الضمان أيضاً كالأمانة ـ حيث يجب على الأمين ردّها إلى صاحبها ـ دليلا على عدم ثبوت الضمان مع بقاء العين ، كما يظهر من سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الإمام الخميني ـ دام ظلّه العالي ـ في كتابه في البيع(1) .

فإنّ اللازم ـ كما عرفت ـ ملاحظة مجموع الحكمين ، ألا ترى أنّ جواز التصرّف في مورد الإباحة لا يكون دليلا على عدم ثبوت الملكية التي يترتّب عليها جواز التصرّف أيضاً ; فانّ امتياز الملكية إنّما هو بمجموع الآثار التي لا يوجد في غيرها ، فإنّ منها الانتقال إلى الوارث بعد الموت ، وتعلّق مثل الخمس ببعض مواردها ، وشبههما ممّا لا يوجد في غيرها حتّى الإباحة المطلقة التي يجوز معها التصرف مطلقاً حتّى التصرفات النّاقلة .

وبالجملة : فما يترتّب على الضمان مجموع الحكمين الذي لا يكون في غير مورد الضمان أصلا .

وعليه : فالاتّحاد والهوهوية المعتبرة في القضية الحملية في قوله : «ما أخذت اليد عليها» إنّما هو باعتبار كون الموجود الخارجي نفس ما تعلّق به هذا الأمر الاعتباري الّذي هو الضمان ، فلم يتحقّق اتّحاد الأمر الخارجي مع الأمر


(1) كتاب البيع 1 : 392 ـ 394 .

الصفحة 103

الاعتباري ، بل الاتحاد بين الأمر الخارجي وبين كونه متعلّقاً للأمر الاعتباري ، فالمقام نظير قوله : «هذه الدار مستأجرة» ; فإنّه لا خفاء في تحقّق ملاك الحمل فيها مع كون الاستئجار أمراً اعتبارياً ; لأنّ الاتّحاد إنّما هو بين الدار ، وبين كونها متعلّقة للاستئجار المتعلّق بالدار الخارجية ، كما هو واضح .

ثمّ إنّه ذكر سيّدنا الاُستاذ(1) (قدس سره) أنّه قد يتعلّق الضمان بالكلّي الذي له موطن آخر غير ذمّة الضّامن ، وأثره حينئذ جواز مطالبة المضمون له من الضامن بذلك الكلّي إن لم يقدر على استيفائه وأخذه من المضمون عنه «المديون» ، وليس أثره عند العقلاء والعرف مجرّد اشتغال ذمّة الضامن للمضمون ، ولكن استقرّ مذهب الإماميّة في كتاب «الضمان» على أنّ المراد به هناك هو انتقال الذمّة وتحقّق الاشتغال للضّامن في ظرف خاصّ(2) ، ومنشؤه دلالة الأدلّة الخاصّة والروايات المعتبرة عليه(3) ، وعليه : فما هو مذهبنا في باب الضمان مخالف لما هو مقتضاه بنظر العقلاء .

أمّا فقهاء العامّة ، فحيث لا يرون اعتباراً للروايات التي اُشير إليها ، فلا محالة ذهبوا إلى أنّ المراد بالضمان في كتاب الضمان هو ما عليه العقلاء ، فقالوا : إنّه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة اُخرى(4) ، ولا يكون مرادهم بذلك ثبوت المال في ذمّة شخصين ; كما إذا كان له دين على رجلين ; ضرورة عدم استحقاق الدائن أكثر من مال واحد ودين فارد ، فلا يمكن ثبوته في ظرفين ، وإنّما مرادهم من الذمّة التي أُضيف إليها الضمّ ، هو العهدة التي هي معنى الضمان حقيقة ، ومرجعه إلى ضمّ العهدة إلى اشتغال الذمّة وعدم تحقّق البراءة للمديون بمجرّد تحقّق الضمان ، ففي الحقيقة


(1) كتاب الغصب للمحقق البروجردي : 130 ـ 131 و 141 ـ 147 .
(2) المقنعة : 814 ، النهاية : 314 ـ 315 ، شرائع الإسلام : 2 / 108 ، قواعد الأحكام : 2 / 158 ، جواهر الكلام : 26 / 113 .
(3) وسائل الشيعة : 18 / . 422 ـ 424، كتاب الضمان ب 2 و 3 .
(4) المغني لابن قدامة : 5 / 70 ، الشرح الكبير : 5 / 70 ، المجموع شرح المهذّب : 14 / 252 .

الصفحة 104

يكون في البين اشتغال وعهدة قد تعلّق الأوّل بالكلّي ; لأنّ الثابت في الذمّة لا يكون إلاّ كلّياً ، والثاني بما اشتغلت به ذمة المديون مع وصف اشتغال الذمّة به ; لأنّه يصير حينئذ متشخّصاً ، لأنّ الاشتغال وإن كان بأمر كلّي ، لكن الكلّي المشتغل به ذمّة المديون لا يكون كليّاً ، فهو نظير الماهية الموجودة في الذهن ; فإنّ الماهية وإن كانت كليّة إلاّ أنّها بوصف وجودها في الذهن لا تكون إلاّ جزئية .

ثم إنّ الظاهر عدم تحقّق الضمان بالمعنى الذي ذكرناه في العقد الصّحيح ، خلافاً للشيخ الأعظم (قدس سره)  ; فإنّه حين فسّر الضمان بالنحو الذي عرفت ذكر أنّ العقد الصحيح فيه الضمان ، غاية الأمر أنّ الضمان الثابت فيه هو الضمان بالمسمّى ، ومرجعه إلى أنّه على تقدير تلف المبيع في يد المشتري الضامن يكون دركه وخسارته عليه ، غاية الأمر ثبوت الخسارة بمقدار الثمن ; سواء كان مساوياً للقيمة الواقعية أومخالفاً لها(1) .

وخلافاً للمحقّق الإصفهاني (قدس سره)  ; فإنّه مع تفسيره الضمان بالنحو الذي ذكرناه ، أفاد أنّه قد يكون بتسبيب من الشخص ، كما في مطلق المعاوضات ، لتعهد كلّ منهما والتزامه بأخذ المال ببدله ، ولذا عبّر عنه بضمان المعاوضة ، فليس مجرّد كونه ذا عوض أو مملوكاً بعوض مناط الضمان ، بل تعهّد أخذه ببدله هو المناسب للضمان(2) .

هذا ، ولكنّ الظاهر عدم إطلاقه بنحو الحقيقة في المعاوضات الصحيحة ، وإطلاقه عليها في قاعدة «ما يضمن» لا دلالة له على ذلك ; لعدم كون القاعدة بالعبارة المعروفة ممّا دلّ عليه آية أو رواية أو إجماع ، ولذا اعترض أكثر محشّى المكاسب(3) على الشيخ الأعظم (قدس سره) بلحاظ جعل البحث في مفردات القاعدة مهمّاً ،


(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 183 و 188 ـ 189 .
(2) حاشية كتاب المكاسب للمحقق الإصفهاني : 1 / 307 ـ 308 .
(3) المحقق الخراساني في حاشيته على المكاسب : 30 ، والسيد اليزدي في حاشيته على المكاسب : 1 / 454 ـ 457 ، والمحقق الإيراواني في حاشيته على المكاسب : 2 / 112 ـ 115 .

الصفحة 105

نظراً إلى ما ذكرنا ، وعدم كون الإطلاق فيها ـ على تقدير الإغماض عمّـا ذكرنا ـ حقيقيّاً ; لأنّه يحتمل أن يكون من باب المشاكلة ، كما في آية الاعتداء(1) ، وقد صرّح بذلك المحقّق الخراساني (قدس سره) في تعليقة المكاسب(2) .

هذا ، مضافاً إلى أنّ لازم ذلك التفصيل في أموال المالك من جهة إطلاق الضمان ، فإن كان منتقلا إليه بالإرث ونحوه لا يقال : إنّه ضامن له ، وإن كان منتقلا إليه بالبيع ونحوه من المعاوضات يقال : هو ضامن له ، مع أنّ التفصيل بهذا النحو خلاف ما عليه العقلاء ، كما لا يخفى .

ثم إنّه ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الخميني ـ دام ظلّه العالي ـ في تحقيق معنى الضمان كلاماً ملخّصه : أنّ الضمان المعهود المغروس في أذهان العقلاء ، هو عهدة الغرامة والخسارة ، ففي المثلي بالمثل ، وفي القيمي بالقيمة يوم الإتلاف ، وأنّ ضمان العين ـ بمعنى أنّ نفس العين على عهدة الضامن في المثليات والقيميات ـ خلاف المتعارف والمعهود عندهم ، وفي مثله لابدّ من ورود دليل صريح مخالف لبنائهم وديدنهم .

وأمّا مثل ما ورد في باب الضمانات ـ كضمان اليد والإتلاف ـ كحديث اليد وغيره ، فلا ينقدح في ذهن العرف والعقلاء منه ما يخالف بناءهم في الضمانات ، فلا يفهم من «على اليد ما أخذت»(3) أنّ نفس المأخوذ حال التلف في العهدة ، فضلا عن سائر الروايات ، وفي قوله (عليه السلام)  : «فعليه ما أصابت ـ الدابّة ـ بيدها ورجلها»(4)إذا بني على وقوع ما أصابت الدابّة على العهدة ، يكون ذلك أمراً مستنكراً عند


(1) سورة البقرة 2 : 194 .
(2) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 30 .
(3) تقدم في ص 28 .
(4) الكافي: 7 / 351 ح 2، تهذيب الأحكام: 10 / 225 ح 886، الاستبصار: 4 / 285 ح 1078، وعنها وسائل الشيعة: 29 / 247، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب 13 ح 2 .

الصفحة 106

العرف ، فحمل تلك الروايات على كثرتها على الضمان المعهود المغروس في أذهان العقلاء حمل قريب جدّاً ، موافق لفهم العرف والعقلاء .

قال : بل الظاهر من حديث اليد غير ما أفاده المحقّقون ، ممّا لازمه التعرّض لأداء التالف حتّى يلتزم بأنّ أداء المثل والقيمة أداء للشيء بنحو ، كما أشرنا إليه . والتحقيق : أنّ الغاية المذكورة فيه غاية للضمان ، والعهدة في زمان وجود العين ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله)  : «على اليد ما أخذت» يراد منه أنّ الآخذ ضامن للمأخوذ ; بمعنى أنّه لو تلف تكون خسارته عليه ، وغاية هذا الأمر التعليقي ـ أي عهدة الخسارة على فرض التلف ـ هو أداء نفس العين ليس إلاّ(1) .

أقول : يرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من الفرق بين الثبوت على العهدة الذي هو معنى الضمان ، وبين اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، وإلى أنّ الظّاهر أنّه لا فرق عند العقلاء والعرف فيما يرجع إلى معنى الضمان بين صورة وجود العين ، وصورة تلفها وانعدامها بحيث يكون معنى الضمان في صورة البقاء ثبوت نفس العين على العهدة ، وفي صورة التلف ثبوت المثل أو القيمة على العهدة بحيث يكون ثبوت نفس العين في هذه الصورة مخالفاً لنظر العرف ـ أنّ ظاهر قوله : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»(2) فرض الضمان في صورة التلف مع إضافته إلى المتلف ـ بالفتح ـ ولا معنى له إلاّ كون العين بوجودها الاعتباري بعد التلف ثابتة على عهدة المتلف ـ بالكسر ـ .

فالتعبير بالضمان في قاعدة الإتلاف يرشدنا إلى عدم كون ضمان العين محدوداً ببقائها وعدم تلفها ، بل هو ثابت بعد التلف أيضاً ، ولا يجتمع ذلك إلاّ مع اعتبار بقاء


(1) كتاب البيع : 1 / 506 ـ 508 .
(2) لم نجده في كتب الحديث بهذا اللّفظ ، فمن المحتمل قويّاً كونه من الروايات الواردة في موارد مختلفة ، مثل ما ورد في وسائل الشيعة : 27 / 327 ، كتاب الشهادات ب 11 .

الصفحة 107

العين وثبوتها على العهدة بعد التلف أيضاً ، وجعل الأداء في حديث «على اليد» غاية للضمان في زمان وجود العين فقط ، يوجب حمل الحديث على التعرّض لبعض ما يتعلّق بضمان العين المأخوذة ، وهو خلاف الظاهر جدّاً ، كما لا يخفى .

وخلاصة ما يرد على سيّدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه العاليـ أنّ الضمان بالمعنى الذي أفاده ـ وهو عهدة الخسارة ـ هل هو أمر تعليقي وهو عهدة الخسارة لو تلف ، بحيث تكون التعليقية دخلية في ماهيّته وحقيقته ، حتى لو فرض تحقّق المعلّق عليه لا تبقى ماهية الضمان ، كالواجب المشروط مثل الحجّ ، فإنّ اتصافه بكونه واجباً مشروطاً إنّما هو فيما إذا لم يتحقّق شرطه ; وهو الاستطاعة في المثال ، فإذا تحقّق الشرط يصير واجباً مطلقاً فعليّاً ، وفي المقام لابدّ أن يقال بالضمان مادام لم يتحقّق التلف ، فإذا تحقّق وصارت العهدة منجّزة يخرج عن الضمان .

وعليه : فاللازم أن يقال بأنّه لا مجال للحكم بالضمان في صورة التلف ، مع أنّ قاعدة الإتلاف صريحة في إثبات الحكم بالضمان بعد تحقّق التلف بسبب الإتلاف ; فإنّ الإتلاف في رتبة السبب ، والضمان في رتبة المسبّب ومتفرّع عليه ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا فرق عند العقلاء والعرف بين صورة وجود العين وصورة تلفها في الحكم بالضمان ، بل في كون الضمان بعد التلف نفس الضمان قبله وبمعناه ، من دون تغيّر في معناه أصلا .

وإن كان مراده من الضمان نفس عهدة الخسارة من دون التعليق على التّلف ، وعليه فهو ثابت بعد التلف أيضاً ، فنقول : لابدّ على هذا الاحتمال من حمل الضمان في قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف على كون المراد به مجرّد عهدة الخسارة ، مع أنّه من الواضح أنّ عهدة الخسارة حينئذ لا تكون معنى مغايراً لاشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ; لعدم الفرق بين الأمرين إلاّ في مجرّد التعبير واللفظ ; إذ لا معنى لعهدة الخسارة غير الاشتغال المزبور .

الصفحة 108

وعليه : فاللازم إطلاق الضمان في موارد اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، كما في القرض ونحوه ، مع أنّك عرفت مغايرة الضمان للاشتغال عند العقلاء ; فإنّ ما على الذمة إنّما هو أمر كلّي ، والضمان متعلّق بالأمر الجزئي ، ولا يطلق أحد العنوانين على الآخر ، فلا يقال للمديون : إنّه ضامن ، ولا يقال للضامن : إنّه مديون ومشغول الذمّة ولو بعد تحقّق التلف ، كما في مورد قاعدة الإتلاف ومجريها ، إذن فلا محيص عن أن يقال في مفاد حديث «على اليد» بعد فرض دلالته على الضمان ، بكون العين المأخوذة متعلّقة للعهدة في كلتا الحالتين : حالة الوجود وحالة التلف .

غاية الأمر أنّه بعد التلف يعتبر بقاء العين عند العقلاء وكونها متعلّقة للعهدة ، ولا مانع من كون الموضوع للأمر الاعتباري ـ وهو الضمان ـ أمراً اعتباريّاً آخر ، كالأحكام التكليفيّة الثابتة في موارد الأحكام الوضعية ، مع اشتراكهما في الاعتبار والجعليّة .

ومنه يظهر أنّ أداء العين المجعول غاية للضمان ـ في الحديث ـ مطلقاً ، إنّما يتحقّق بأدائها بنفسها مع بقائها ، وبالمثل أو القيمة مع التلف ، فإنّه بعد فرض ثبوتها على العهدة ، وتعلّق الضمان بنفسها بعد التلف أيضاً ، لا يفرض له أداء إلاّ أداء مثلها أو قيمتها كما هو كذلك عند العقلاء ، فإنّه مع عدم إمكان أدائها بجميع جهاتها من المزايا الشخصية والنوعية والمالية ، ينتقل إلى المراتب النازلة مرتبة بعد مرتبة ، إلى أن يتحقّق أداؤها بخصوص المرتبة المالية التي هي العمدة في أغراض العقلاء في باب الأموال .

ومما ذكرنا ظهر الجواب عن النراقي ـ في عوائده(1)ـ حيث استظهر أنّ الغاية هي أداء نفس العين ، وهو لا يتحقّق إلاّ بحمل الحديث على وجوب الحفظ دون الضمان ، فتدبّر .


(1) عوائد الأيّام : 318 .

الصفحة 109

إذا ظهر ذلك يظهر أنّ تفسير الحديث بالمعنى الذي عرفت ; وهو إفادة الضمان والثبوت على العهدة لا يتوقّف على تقدير كلمة «الضمان» كما تخيّله النراقي (قدس سره) في عوائده ; حيث جعل الضمان في رديف الحفظ أو الردّ على تقدير كون المقدّر هو الوجوب الذي هو من أفعال الخصوص ، فاستشكل في ترجيحه ; حيث قال ما ملخّصه : إنّ الاستدلال بالحديث على ضمان المثل أو القيمة بعد التلف إنّما هو على فرض تقدير الضمان الشامل لردّ العين مع البقاء ، والمثل أو القيمة مع التلف ، ولا دليل على تعيينه أصلا .

واستدلال الفقهاء واحتجاجهم على الضمان خلفاً بعد سلف وفهمهم ذلك ، لا يدلّ على أنّه كان لهم قرينة على تقديره وإن خفيت علينا ; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم ذلك من جميع الفقهاء ولا أكثرهم وإن علم من كثير منهم ـ لا يدلّ على أنّه لقرينة تقدير الضمان ، بل لعلّه لاجتهادهم تقدير جميع المحتملات عند عدم تعيّن المقدّر ، أو لمظنّة شيوع تقديره ، أو لدليل اجتهادي آخر . ونمنع كون المتبادر من هذا التركيب إثبات الضمان ، كما يظهر بالرجوع إلى أمثال هذا التركيب التي ليس الذهن فيها مسبوقاً بالشبهة ، مع أنّه على فرض التسليم لا يفيد ; لأصالة تأخّر حدوث التبادر بعد عدم كون ذلك من مقتضى الوضع اللغوي لهذا التركيب(1) .

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ حمل الحديث على الضمان وتفسيره به لا يحتاج إلى تقدير الضمان ; لأنّ معنى الضمان هو نفس الثبوت على العهدة والاستقرار في الذمّة ، الذي هو وجود وثبوت في عالم الاعتبار ووعائه ، وهذا بخلاف ما لو كان المتعلّق للظرف هو «يجب» الذي هو من أفعال الخصوص ; فإنّه حينئذ يلزم تقدير الردّ أو الحفظ ; لعدم إمكان تعلّق الوجوب بالأعيان الخارجيّة .

كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر بطلان ما أفاده في ذيل كلامه أيضاً ، من أنّ أداء المثل أو


(1) عوائد الأيّام : 316 ـ 317 .

الصفحة 110

القيمة ليس أداء ما أخذت ، بل أداء شيء آخر ، وإطلاق الأداء على أداء غير ما أخذت غير صحيح ، فلا يكون «حتّى تؤدّي» غاية للضمان في صورة التّلف .

والوجه فيه ما ذكرنا من أنّه كما أنّ ثبوت المال على العهدة يكون في وعاء الاعتبار الذي يتفق فيه العقلاء والشارع ، كذلك غاية هذا الأمر الاعتباري هو الأداء الذي له مراتب ، فإن كانت العين موجودة غير تالفة ، فالأداء لا يتحقّق إلاّ بأدائها نفسها ، وإن صارت تالفة فأداؤها بأداء مثلها إن كانت مثلية ، أو قيمتها إن كانت قيميّة .

وبالجملة : أداء المثل مرتبة من أداء ما على العهدة ; وهي العين الخارجية . غاية الأمر أنّه لا ينتقل إلى هذه المرتبة إلاّ بعد تعذّر أداء العين بنفسها ، كما أنّ أداء القيمة أيضاً مرتبة من أداء العين ينتقل إليها بعد تعذّر أدائها بنفسها وبخصوصياتها النوعية ، فدعوى خروج المرتبتين الأخيرتين عن دائرة أداء العين ممنوعة جدّاً ، وعليه : تكون كلمة «حتّى تؤدّي» شاملة لجميع المراتب .

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا من كون مفاد الحديث هو مجرّد الحكم الوضعي ـ وهو الضمان الذي يستمرّ إلى أن يتحقّق الأداء ـ أنّه لا دلالة لهذا الحديث على لزوم حفظ المال المأخوذ ، كما أنّه لا دلالة له على لزوم ردّه ووجوبه بعنوان الحكم التكليفي ; لأنّ هذا الوجوب وإن كان ثابتاً إلاّ أنّ الدليل عليه كونه أثراً للضمان كما عرفت ، وجعل الأداء غاية للضمان لا دلالة له على وجوبه بعنوان الحكم التكليفي ابتداءً ، بل غايته ارتفاع الضمان بسببه ، فيرتفع الحكم التكليفي المترتّب عليه لا محالة .

الجهة الثانية : في محدودة الحكم بالضمان المستفاد من القاعدة :

والبحث في هذه الجهة تارة : من جهة أنّ اليد المحكوم عليها بالضمان ـ بعد وضوح عدم شمولها ليد المالك ; لأنّه لا معنى لكونه ضامناً لمال نفسه ـ هل هي مطلق اليد ولو كانت مأذونة من قبل المالك ، كيد الوكيل مثلا ، أو المستأجر في باب

الصفحة 111

الإجارة ، أو من قبل الشارع كما في اللقطة مثلا ، غاية الأمر خروج هذه الموارد عن القاعدة بالتخصيص ، أو تختصّ بما إذا لم تكن مأذونة لا من قبل المالك ، ولا من طرف الشارع ؟

واُخرى : من جهة شمول الحكم بالضمان للمنافع المستوفاة بل غير المستوفاة أيضاً ، وعدمه واختصاصه بالأعيان .

وثالثة : من جهة شمول الموصول للحرّ وشبهه وعدمه .

ورابعة : من جهة الشمول للأوقات وعدمه .

وخامسة : من جهة المراد من الأداء المجعول غاية ، فنقول :

أمّا من الجهة الاُولى : فالظاهر الاختصاص ، وذلك لانّ كلمة «اليد» وإن كان المراد بها مطلق الاستيلاء ، إلاّ أنّ تقييد المضمون ووصفه بالأخذ ، يخرج اليد المأذونة ; لظهور كلمة «الأخذ» في الأخذ بالقوّة وبالقهر ; أي : الأخذ من دون رضا ، وقد مرّت الإشارة إلى الفرق بين كلمة «الأخذ» وبين كلمة «القبض» ; فإنّ الظاهر كون الثانية أعمّ من الاُولى ، والشاهد ملاحظة موارد الاستعمالات العرفية ; كعدم تعاهد استعمال كلمة «الأخذ» في قبض المبيع من البائع مثلا حتى في المقبوض بالعقد الفاسد ، فاستعمال هذه الكلمة يشعر بل يدلّ على انحصار الحكم بالضمان بما إذا صدق الأخذ ; وهو ما إذا لم يشتمل على رضا المالك أو إذن الشارع .

ولو اُغمض النظر عمّا ذكرنا ، وقلنا بإطلاق كلمة «الأخذ» وشمولها للأخذ بالرّضا أيضاً ، فلا شبهة في انصراف الحديث عن مثل هذا الأخذ ; لأنّه لا يفهم منه الحكم بضمان مثل الوكيل والمستأجر والملتقط أيضاً ، وليس الانصراف بدويّاً حتى لا يكون معتبراً ، وعليه فخروج الأمين الذي لا يكون ضامناً إلاّ مع التعدّي أو التفريط ، لا يكون بنحو التخصيص حتى يستشكل فيه بإباء القاعدة عن التخصيص ، مع أنّه في هذا الاستشكال أيضاً نظر ، كما عرفت سابقاً في قاعدة عدم

الصفحة 112

ضمان الأمين ، فراجع(1) .

نعم ، يبقى في المقام أنّه على فرض التخصيص أو التخصّص ، هل يكون الباقي تحت الحديث ؟ والمقدار الذي تدلّ القاعدة على الضمان فيه ، هل هو خصوص اليد العادية ; أي اليد التي حكم عليها بالحرمة لأجل العدوان ، وهي اليد الموجودة في باب الغصب ; لأنّه عبارة عن الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، وعليه : فتنطبق القاعدة على الغصب ، ولا مجال للاستناد بها في غير كتاب الغصب .

أو أنّ الباقي تحت القاعدة مطلق اليد غير المأذونة من قبل المالك والشارع؟ فتدلّ على الضمان في غير مورد الغصب أيضاً ، كما في المقبوض بالبيع الفاسد ، سيّما مع جهل الطرفين بفساد البيع; فإنّ اليد فيه لا تكون عادية بوجه ، ومع ذلك لا تكون مأذونة من قبل المالك أو الشارع ، ودفع البائع للمبيع مع رضاه وطيب النفس لا دلالة فيه على إذن المالك ; لأنّ الدفع إنّما هو بعنوان كون المشتري مالكاً له ، لا بعنوان أنّ البائع مالك ، وهو يأذن للمشتري في التصرّف ، كما لا يخفى .

وكما فيما إذا اعتقد أنّ مال الغير مال نفسه اشتباهاً ; فإنّ اليد عليه لا تكون يداً عادية ولا مأذونة أصلا .

والتحقيق : أنّه إن قلنا في الحديث بالتخصّص الناشئ من الانصراف ، فهو تابع لدعوى الانصراف ، وأنّ مدّعيه هل يقول بالانصراف إلى خصوص اليد العادية ، أو إلى الأعمّ منها ، ومن اليد غير العادية وغير المأذونة؟

وأمّا إن قلنا بالتخصيص ، فاللازم إقامة الدليل عليه في مقابل عموم القاعدة أو إطلاقها ، وقد ورد الدليل في موارد ثبوت الإذن من المالك ، كما في الموارد المتقدّمة ، أو من الشارع كما في الموارد التي اُشير إليها ، وقد ورد في مورد الأمين


(1) في ص 28 ـ 31 .

الصفحة 113

روايات تدلّ على عدم ضمانه مع عدم التعدّي أو التفريط(1) . وأمّا في مورد المقبوض بالبيع الفاسد ومثله ، وفي المورد الآخر الذي ذكرنا ، فلم يرد دليل على التخصيص والتقييد ، واللازم الرجوع إلى أصالة العموم أو الإطلاق .

ولو فرض أن يكون المخصّص واحداً عنواناً بحسب الواقع ، ودار أمره بين الأقلّ والأكثر ، وأنّه هل هو عنوان اليد غير العادية ، أو عنوان اليد المأذونة؟ فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن والرجوع في الزائد إلى الأصل المذكور ، كما إذا تردّد أمر الفاسق الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو أعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة ، والفرق بكون عنوان الخارج معلوماً في المثال ـ غاية الأمر الشكّ في معناه وثبوت الشبهة في مفهومه ، بخلاف المقام ; حيث لا يعلم الخارج بعنوانه كما ذكرنا ـ لا يكون فارقاً في الحكم وفي لزوم الرجوع في الزائد المشكوك إلى أصالة العموم أو الإطلاق ، فانقدح أ نّه لو بلغت النوبة إلى التخصيص ، لا دليل على أزيد من خروج اليد المأذونة ، ويبقى الباقي تحت القاعدة ، وعليه : فيجوز التمسّك بها في باب المقبوض بالبيع الفاسد أيضاً ، كما فعله الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في المكاسب(2) .

وأمّا من الجهة الثانية : فنقول : أمّا المنافع المستوفاة ، فالظاهر أنّه لا إشكال في ضمانها ، لا لشمول قاعدة حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، وأنّ مال المسلم لا يحلّ إلاّ بطيب نفسه ; لأنّ البحث إنّما هو في ضمانها بملاحظة قاعدة ضمان اليد ، لا بملاحظة مطلق القواعد ، مع أنّه في دلالة مثل قوله (عليه السلام)  : لا يحلّ مال امري مسلم  . . .(3) على


(1) تقدمت في ص 28 ـ 31 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 182 .
(3) الكافي : 7 / 273 ح 12 و ص 274 ح 5 ، الفقيه : 4 / 66 ح 195 ، تفسير القمّي : 1 / 171 ، عنها وسائل الشيعة : 5 / 120 ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 1 و ج 29 / 10 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 3 .

الصفحة 114

الضمان تأمّل وإشكال ، بل لأجل أنّها أيضاً مال مأخوذ ، أمّا كونها مالا ، فلأنّه يبذل بإزائها المال في باب الإجارة ، وقد شاع تفسير الإجارة بأنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ، فالعوض يقع في مقابل نفس المنفعة .

وأمّا اتّصافها بكونها مالا مأخوذاً ، فلأجل تحقّق الاستيلاء عليها ، غاية الأمر أنّ وقوعها تحت اليد إنّما هو بتبع وقوع العين تحتها . ولذا يقولون بأنّ قبض المنفعة في باب الإجارة بناءً على التفسير المزبور ـ وإن كان على خلاف التحقيق ـ إنّما هو بقبض العين ، فهي أيضاً مأخوذة ومقبوضة ، غاية الأمر بتبع أخذ العين وقبضها ، فالقاعدة تشمل المنافع المستوفاة .

وممّا ذكرنا تظهر دلالة القاعدة على ضمان المنافع غير المستوفاة أيضاً ; لأنّ الاستيفاء لا دخل له في صدق الأخذ ; فإنّ الأخذ تعلّق بالمنافع بتبع تعلّقه بالعين ; سواء استوفاها كما إذا سكن في الدار المأخوذة ، أم لم يستوفها كما إذا لم يستفد من الدار المأخوذة شيئاً .

نعم ، ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في حاشية المكاسب إشكالا في شمول القاعدة للمنافع ، وهو : أنّه لا تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، وظاهر قوله (عليه السلام)  : «حتّى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاةً بأداء نفس المأخوذ ، والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها ، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها وإن عرضها الامتناع ابتداءً أو بقاءً ، وفرض اتحاد الموجود التدريجي مع المنفعة ـ فيصدق الأخذ بالاستيلاء على طرف هذا الواحد ، والأداء بأداء طرفه الآخر ـ لا يكاد يفيد شيئاً ; لأنّ المراد ضمان الفائت أو المستوفى ، فأداء ما لم يفت ولم يستوف غير مجد في ارتفاع ضمان المأخوذ باستيفائه ، أو بالاستيلاء عليه مع فواته(1) .

ويمكن الجواب عنه بأنّه تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، أمّا ابتداءً فكما أنّ


(1) حاشية كتاب المكاسب للمحقق الإصفهاني : 1 / 317 ـ 318 .

الصفحة 115

أخذها إنّما هو بتبع أخذ العين ، كذلك أداؤها إنّما هو بأداء العين ، ولذا يصدق في باب الإجارة أنّ المالك أقبض المنفعة بإقباض العين ، فإقباضها إنّما هو بالتبع . وأمّا استدامة فلابدّ من تنزيله منزلة تلف العين ، فكما أنّ الأداء في صورة التلف إنّما يتحقّق باداء المثل أو القيمة ، فكذلك أداء المنافع إنّما يتحقّق بأداء عوضها ، ولا دلالة في الحديث على اختصاص الحكم بما إذا أمكن تحقّق الغاية ، وهو الأداء بقاءً بالإضافة إلى نفس المال المأخوذ ، حتّى يقال بخروج المنافع عن ذلك ; لعدم إمكان صدق الغاية بالإضافة إلى نفسها بقاءً ، بل يكفي إمكان تحقّق الغاية كذلك ولو ابتداءً .

مضافاً إلى أنّ بعض الأعيان أيضاً لا تجرى فيه الغاية بقاءً ، كالعين التي تتلف تدريجاً ، كالثلج في الصيف ; فإنّه لا يمكن أداؤها بقاءً بعد فرض كونها في حال الذوب والانعدام ، ودعوى خروج مثلها عن القاعدة ممنوعة جدّاً كما لا يخفى ، فالإنصاف أنّه لا مجال لإخراج المنافع مطلقاً عن مورد القاعدة .

وربما يستدلّ لضمان هذه المنافع ـ أي المنافع غير المستوفاة ـ بقاعدة التفويت التي هي قاعدة عقلائية ، وهي : أنّ من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن ، بناءً على اعتبارها في الشرع أيضاً ، ولكن حيث إنّ الكلام ليس في الحكم بضمان هذه المنافع مطلقاً ، بل من جهة اقتضاء قاعدة ضمان اليد له وعدمه ، فلا مجال للبحث في غيرها ، مع أنّ شمول قاعدة التفويت لجميع أقسام المنافع غير المستوفاة محلّ نظر ، بل منع .

ثمّ إنّه لو كانت للعين منافع متضادّة غير قابلة للاجتماع في زمان واحد ، كما إذا كان العبد المغصوب عارفاً بالكتابة والخياطة معاً ، فهل يضمن المستولى له الجميع ، أو يضمن الأكثر مالية ، أو أحدها بنحو التخيير ، والتخيير للمالك أو الضامن؟ فيه وجوه واحتمالات : لا يبعد أن يقال بالتفصيل بين ما لو كان المدرك للحكم بالضمان

الصفحة 116

هي قاعدة اليد التي يبحث عنها في المقام ، وبين ما لو كان المدرك له مثل قاعدة التفويت .

فعلى الأوّل : يحكم بضمان جميع المنافع ولو كانت متضادّة ، لأنّ الملاك هو تحقّق الاستيلاء وصدقه ، وقد عرفت أنّ الاستيلاء على المنافع إنّما هو بتبع الاستيلاء على العين ، فإذا كانت للعين منافع يصدق الاستيلاء على الجميع ، والتضادّ بين بعضها الراجع إلى عدم إمكان الاجتماع في الوجود وفي مقام الاستيفاء ، لا يرتبط بمقام الاستيلاء الذي هو الملاك للضمان . وبعبارة اُخرى : التضاد راجع إلى مقام الاستيفاء ، وهو غير دخيل في الضمان أصلا ، مع أنّ ترجيح بعض المنافع على بعض ترجيح من غير مرجّح .

وعلى الثاني : يحكم بضمان خصوص المنفعة التي هي أكثر مالية من غيرها ; لعدم صدق التفويت بالإضافة إلى الجميع ، بعد فرض التضادّ وعدم إمكان الاجتماع ; لأنّ فوت الجميع حينئذ يستند إلى التضادّ ، غاية الأمر أنّه حيث كانت المنفعة التي هي أكثر مالية ممكنة التحقّق والحصول ، فيصدق تحقّق التفويت بالنسبة إليها ويقال بأنّ الاستيلاء صار سبباً لفوتها ، ولولاه لكان للمالك استيفاؤها ، كما لا يخفى .

وأمّا من الجهة الثالثة : وهي شمول الموصول للحرّ وشبهه وعدمه .

فنقول : ربما يناقش في الشمول ; نظراً إلى أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، كما أنّه ربما يجاب عنه بأنّ اليد عبارة عن التصرّف على وجه الاستيلاء والقهر ، وهو أمر عرفي موجود في غصب الحرّ أيضاً ; إذ العرف لا يفرّق من حيث اليد بين كون المغصوب عبداً أو حرّاً ، ولكن منع الشمول المحقّق الرشتي (قدس سره) (1) في كتابه في


(1) كتاب الغصب للمحقق الرشتي : 13 .

الصفحة 117

الغصب ، وملخّص كلامه الطويل في وجه المنع اُمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، وإذا كان الشيء غير واجد لصفة المملوكية ، امتنع تعلّق اليد به على الوجه المزبور كما في الحرّ ، لأ نّه لا يكون قابلا لصفة المملوكية ; لكونه مالكاً والمالك لا يكون مملوكاً ; لتحقّق التضاد بينهما ، وعليه : فلا يدخل تحت اليد المبحوث عنها ، ومن هنا حكم العلاّمة(1) بأنّ لباس الصغير الحرّ المغصوب غير مضمون كنفسه .

ووجهه : أنّ الصغير وإن كان مقهوراً في يد الغاصب ، مع كونه ممّن لا يقدر على نفسه نفعاً ولا ضرراً ، إلاّ أنّ صفة الاختصاص الملكي المأخوذ في معنى اليد عرفاً ، لمّا لم تكن موجودة فيه ، لم يصدق على ذلك القهر اليد ، وإذا لم تتحقّق اليد على الصغير نفسه ، فلا تتحقّق أيضاً بالنسبة إلى لباسه الذي هو لابسه ; لأنّه باعتبار استقلاله الذاتي ومالكيّته يكون صاحب اليد على لباسه .

أقول : يرد على هذا الأمر ـ بعد وضوح بطلان ظاهر صدر كلامه ، من أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، ضرورة أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد التي اُحرز كونها عادية أو غير مأذونة على الاحتمالين المتقدّمين ، واليد الكاشفة عن الملكيّة هي اليد المشكوكة المقرونة باحتمال ثبوت الملكيّة ، واحتمال عدمها ، فكيف يعقل اتّحادهما؟ أنّه لابدّ من توجيه كلامه ، ويجري في هذا المجال احتمالان :

أحدهما : أن يكون مراده (قدس سره) أنّه وإن كانت اليد في القاعدتين : ـ قاعدة ضمان اليد ، وقاعدة أمارية اليد ـ مختلفة لا محالة ، إلاّ أنّ الاختلاف إنّما هو بالإضافة إلى صفة اليد وقيدها ، فاليد في قاعدة الضمان موصوفة بوصف العادية أو غير المأذونة ،


(1) تحرير الأحكام : 4 / 523 .

الصفحة 118

وفي قاعدة الأمارية موصوفة بوصف المشكوكية ، إلاّ أنّ الظاهر وحدة المراد من نفس اليد التي هي الذات الموصوفة في القاعدتين ، فإذا كان المراد من اليد في قاعدة الأمارية ظاهرة في اليد على الشيء ، القابل لصفة المملوكية ; ضرورة أنّه لا تكون أمارة على الملكية ، فاليد على الخمر والخنزير لا تكون أمارة على ملكيّتهما ، كذلك اليد في قاعدة الضمان المبحوث عنها في المقام ; لظهور وحدة المراد في اليد التي هي الموضوع في القاعدتين ، وعليه : فلا تشتمل القاعدة الحرّ ; لعدم شمول قاعدة الأماريّة له .

ثانيهما : ما يشعر به ذيل كلامه ، بل يظهر منه من أنّ الاختصاص الملكي الذي يعتبر في القاعدة مأخوذ في معنى اليد عرفاً ، بحيث لا تصدق اليد بدونه كذلك .

والجواب عن الاحتمال الأوّل : أنّه لا دليل على اتّحاد القاعدتين في المراد من اليد المأخوذة فيهما ; فإنّ اليد في قاعدة الأمارية باعتبار كونها مجعولة أمارة على الملكية، فمقتضى تناسب الحكم والموضوع أن يكون المراد بها هي اليد على ما يكون قابلا لتعلّق وصف الملكيّة به وثبوت المملوكيّة له ; لأنّه لا معنى لكون اليد على غير الملك كالحرّ ونحوه كاشفة عن الملكية وأمارة لها .

وأمّا في قاعدة الضمان المستفادة من حديث «على اليد» فالحكم المجعول فيها هو الضّمان ، ولا دليل على اختصاص موضوعه بخصوص اليد على المملوك ، بعد عموم الموصول وشموله لمثل الحرّ ، وعدم منافاة الحكم بالضمان له أصلا ، فلا مجال لرفع اليد عن العموم .

هذا، مضافاً إلى ما عرفت(1) في أوّل البحث عن القاعدة ، من عدم اختصاص قاعدة أمارية اليد بما إذا كان هناك شك في الملكية وكون ذي اليد مالكاً ، بل تجري


(1) في ص 87 ـ 88 .

الصفحة 119

في مثل ما إذا كانت امرأة تحت رجل وهو مستول عليها ويعامل معها معاملة الزوجة ، ولكن نشكّ في أنّها هل تكون زوجة له شرعاً أم لا؟ فإنّ مقتضى قاعدة الأمارية كون اليد بالنحو المذكور كاشفة عن ثبوت الزوجية ، وكون المستولي زوجاً لها ، فلا اختصاص لليد في القاعدة بما إذا كانت متعلّقة بالملك .

والجواب عن الاحتمال الثاني : وضوح عدم دخالة المملوكية في صدق اليد والاستيلاء بحسب نظر العرف والعقلاء ، فنرى في زماننا شيوع الاختطاف بالإضافة إلى الأفراد ، ويقال له بالفارسية «آدم ربائي» ، فهل يمكن منع تحقّق الاستيلاء في مثله عند العقلاء؟ أو هل تكون اليد في قاعدة ضمان اليد لها معنى غير معناها العرفي ، مع لزوم الرجوع إلى العرف في تشخيص معاني الألفاظ المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية في الأدلّة من الكتاب والسنّة؟ فالإنصاف أنّ المنع في المقام واضح المنع .

الأمر الثاني : من الاُمور التي اعتمد عليها المحقّق الرّشتي (قدس سره) (1) ما أفاده ممّا ملخّصه : أنّه على تقدير تسليم صدق اليد في الحرّ يكون قوله (عليه السلام)  : «حتّى تؤدّي» قرينة على تخصيص الموصول ; لعدم صدق الأداء على دفع دية الحرّ ; لأنّ دفع القيمة أو المثل في الماليّات دفع للعين المغصوبة عرفاً ; لقيام العوض فيها مقام المعوّض في جلّ الفوائد لو لم يكن في كلّها ، بخلاف الدية ; فإنّها ليست عوضاً عن النفس لا حقيقة ولا حكماً ، وإنّما هي حكم شرعي شبه الجريمة .

هذا إذا قلنا بأنّ دفع القيمة أو المثل في الماليّات مستفاد من نفس الغاية . وأمّا لو قلنا بأنّه حكم شرعيّ ، أو عرفي بعد تعذّر الفائتة ; وهو الأداء ، فقد يقال بدلالته على ضمان الحرّ الصغير ووجوب دفع ديته .

ودعوى عدم شمول لفظ الضمان لوجوب دفع الدية ; لعدم كونها عوضاً ،


(1) كتاب الغصب للمحقّق الرشتى : 13 ـ 14 .

الصفحة 120

يدفعها عدم كون لفظ الضمان مذكوراً في الرواية ، بل هو مستفاد من كلمة «على» ، ولا فرق في طريق الاستفادة بينه وبين الماليّات ، مع أنّ اختصاص الضمان بالماليّات أوّل الكلام ، ولذا يقال : إنّ الطبيب ضامن ، وبالجملة : لو سلّم كون الضمان ظاهراً في الماليّات فلا نسلّم أنّ العهدة ترادفه في ذلك .

ولكن يرد على أصل القول أنّ دفع البدل إذا كان حكماً شرعياً مستفاداً من غير الأمر بالأداء ، يحتاج ثبوته إلى دليل شرعيّ ، وهو مفقود في المقام غير ما رواه وهب بن وهب أبو البختري ، عن الصادق (عليه السلام)  : من استعار عبداً لقوم آخرين ، فهو له ضامن ، ومن استعار حرّاً ، صغيراً ضمن(1) . وهذا مع ضعف سنده ; لكون وهب من أكذب البريّة وعامّياً ، غير معمول به ، بل غير ظاهر المراد ; لمنافاته للإجماع على عدم ثبوت الضمان في العارية(2) .

والجواب عن هذا الأمر : أنّه ـ بعد تسليم صدق اليد والاستيلاء على الحرّ ، وصدق الضمان بالإضافة إلى الإنسان أيضاً كالاُمور الماليّة ، ويدلّ عليه ضمان الطبيب المفروض في الروايات(3) ، وفي الفقه في أواخر كتاب الإجارة(4) ، وكذا تدلّ عليه رواية وهب وإن لم تكن معتبرة بالإضافة إلى الحكم المذكور فيها ، وهو ثبوت الضمان في الفقرتين ، لكن أصل التعبير بالضمان فيها مع كون الراوي عارفاً بلغة


(1) اُنظر الكافي : 5 / 302 ح 2 ، تهذيب الأحكام : 7 / 185 ح 814، الاستبصار : 3 / 125 ح 445 ، قرب الإسناد : 146 ح 527 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 94 ، كتاب العارية ب 1 ح 11 ، وج 29 / 246 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 12 ح 2 ، وأخرجه في البحار : 104 / 259 ح 3 عن قرب الإسناد .
(2) كتاب الغصب للمحقق الرشتي : 13 ـ 14 .
(3) الكافي : 7 / 364 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 234 ح 925 ، وعنهما وسائل الشيعة : 29 / 260 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 24 ح 1 .
(4) راجع قواعد الأحكام : 2 / 305 ، جامع المقاصد : 7 / 268 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 72 وتفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الإجارة : 629 ـ 630 .
<<التالي الفهرس السابق>>