في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة3)




ثلاث رسائل


الف : قاعدة نفي الحرج
ب : الفجر في الليالي المقمرة
ج : عدّة المرأة التي أخرجت رحمها

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني مدظله العالي


(الصفحة4)






(الصفحة5)









تمهيد
الكتاب الحاضر بين يدي القارئ الكريم يشتمل على ثلاث رسائل:
الرسالة الأولى: رسالة في قاعدة «لا حرج» ألقاها سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني دام ظلّه الوارف في شهر رمضان المبارك من سنة 1407 هـ ق وحضر هذه المحاضرات عدّة من الفضلاء وترجمت من الفارسية إلى اللغة العربيّة ، وقد نظّمها ورتّبها مع استخراج المدارك ، سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى الواعظي دامت افاضاته ونحن نشكر جهوده في هذا المجال . وتمتاز البحث عن القاعدة في هذه الرسالة عن مشابهاتها بما فيها من البحث استطراداً لمسألة الإمامة حيث ألقى سماحة الشيخ المرجع دام ظلّه أبحاثاً دقيقة في هذه المسألة واستفاد في البحث عن القرآن مع قطع النظر عن الروايات في إثبات إمامة أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين من ولده صلوات الله عليهم أجمعين ، والامتياز الآخر كثرة التتبّع في الأقوال المعتنى بها في القاعدة والإشارة إليها ، وكذلك تنقيح القاعدة ودفع الإشكالات الواردة عليها .
الرسالة الثانية: البحث حول مسألة الليالي المقمرة وعدم تأخير الفجر في

(الصفحة6)

هذه الليالي عن سائرها ، والمقرّر للمحاضرات المرتبطة بهذه المسألة حجّة الاسلام والمسلمين الشيخ اكبر الخادمي الاصفهاني ، فانه قد جدّ واتعب نفسه في تقريرها واعدادها للطبع ونحن نشكر جهوده ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقه أكثر مما مضى .
الرسالة الثالثة: كتبه سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني دام ظلّه بقلمه الشريف في كتاب الطلاق ، ولمّا وصل في بحث العدّة إلى عدّة من لا تحيض ، بحث استطراداً حكم المرأة التي أخرجت رحمها بالعمليّة الجراحيّة لبعض الأمراض ، وبالتالي تصير هذه العمليّة سبباً لأن لا تحيض ، وهذا البحث وإن طبعت ضمن كتاب الطلاق من كتاب تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، لكن لمّا كان نفع هذه المسألة عامّاً ومورداً للابتلاء قمنا بطبعه ضمن هذا الكتاب . نسأل من الله تعالى أن يحفظ الشيخ المرجع دام ظلّه ويديم في عمره الشريف ، وأن يستفيد المشتغلين بالعلوم الدينيّة من وجوده الشريف ومن آرائه العلمية وأفكاره الفقهية والاُصولية والتفسيرية . والسلام .

مركز فقه الأئمة الأطهار  (عليهم السلام)
محمد جواد الفاضل اللنكراني


(الصفحة7)




قاعدة نفي الحرج




(الصفحة8)








(الصفحة9)






قاعدة نفي الحرج


قاعدة لا حرج تدرج عادة إلى جانب قاعدة لا ضرر وفي مستوى واحد تقريباً .
وقد بحثت قاعدة لا ضرر في الاُصول بالتفصيل في خاتمة مباحث الاشتغال ، وقد بحثناها هناك أيضاً بالتفصيل ، ومع أن قاعدة لا حرج لها مزاياها وخصوصيّاتها حيث تشتمل على جوانب غير موجودة في قاعدة لا ضرر ، إلاّ أنها لم تبحث بشكل مفصّل لحدّ الآن ، ونشير إلى إحدى هذه المزايا .

الفرق بين قاعدة «لا ضرر» و «لا حرج»
في قاعدة لا ضرر هناك عدّة احتمالات متصوّرة ، أحدها هو الاحتمال الذي بحثه سيّدنا الأستاذ الأعظم الإمام ـ دام ظلّه العالي ـ وبحثناه أيضاً ، وهو أ نّ «لا» في قاعدة لا ضرر هي «لا» الناهيّة ، وإنّ هذا النهي هو نهي ولائي ، وإذا صحّ ذلك فإنّ قاعدة لا ضرر لا تعتبر حكماً إلهيّاً ولو بالعنوان الثانوي . لكن مثل هذا الاحتمال غير موجود بالنسبة لقاعدة لا حرج ، لأنّ قاعدة لا حرج ـ كما سنبحث أدلّتها إن شاء الله ـ تستمدّ جذورها من القرآن ، ولها أساسها القرآني ، ولا يمكن أن

(الصفحة10)

نعتبرها حكماً ولائيّاً ضمن دائرة ولاية رسول الله بعنوان المتصدّي للأمر كما هو الحال في قاعدة لا ضرر ، فقاعدة لا حرج غير منظور فيها هذا اللحاظ ، وهذه من أكبر الامتيازات التي تمتاز بها قاعدة لا حرج على قاعدة لا ضرر . حيث إنّ قاعدة لا ضرر يحتمل أن لا تكون لها أيّة علاقة بالفقه ، وأمّا قاعدة لا حرج فإنّ مثل هذا الاحتمال غير متصوّر فيها ، ومن هنا فإنّ قاعدة لا حرج تكون ذات أولويّة بالنسبة لقاعدة لا ضرر . ومع الأخذ بنظر الأعتبار لهذه الخصوصيات نقول :
إنّ أوّل من بحث قاعدة لا حرج هو المحقّق ملاّ أحمد النراقي رضوان الله تعالى عليه في كتابه «عوائد الأيّام» وهو من الكتب القيَّمة والمفيدة ، وقد بحثت هذه القاعدة هناك ولكن ليس بالتفصيل ، وفي زماننا الحاضر فإنّ المرحوم آية الله البجنوردي (قدس سره) قد بحثها في كتابه «القواعد الفقهية» الذي يقع في سبعة مجلّدات تقريباً ، وهو من الكتب القيِّمة والنّفيسة جدّاً ، خاصّة إذا أخذنا بنظر الأعتبار شخصية المؤلّف العلميّة حيث يعدّ من أكابر الفضلاء والمحقّقين ، وقد كتب هذا الكتاب بقلم شيّق وأسلوب بليغ .
وكلّ من كتب بعد المرحوم النراقي (قدس سره) في هذا المجال ، تحتم عليه أن يتطرق إلى هذه القاعدة .
وفي بحثنا لهذه القاعدة ، هناك عدّة جوانب يجب أنْ نتعرّض لها ، منها سند هذه القاعدة ، حيث رأينا أ نّ من المناسب أنْ نلاحظ السند أوّلاً قبل كلّ شيء ، ومن ثمّ وبعد ذلك بيان معنى كلمة الحرج ، وحدود هذه الكلمة ، وهذا بحث لاحق يأتي تباعاً ، ويتعيّن علينا في أطار بحثنا هذا أن نتدارس معاني ودلالات المفردات والعبارات ضمن سياق الآيات والروايات . وعلى ضوء ما تحمله هذه العبارات من دلالات ومعاني نكون على أتمِّ الإستعداد في الدّخول في البحث ، إذن أوّل محطّة لابدّ أن نتوقّف عندها في قاعدة لا حرج هي مسألة مدرك هذه القاعدة .


(الصفحة11)

المسألة الأوّلى: مدرك القاعدة ومستندها:
لقد تمسّك العلماء بالأدلّة الأربعة لإثبات هذه القاعدة ، ولكي نرى مدى صحّة هذا الإدّعاء ومدى سقمه ينبغي لنا مناقشة الأدلّة واحداً بعد واحد ، فلنبدأ من كتاب الله تبارك وتعالى .
لقد طرحت هناك عدّة آيات من القرآن الكريم كسند لقاعدة لا حرج:
الآية الأوّلى: الواردة في سورة الحج حيث يقول الله عزّوجلّ: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (1) .
قد يتصوّر الإنسان لأوّل وهلة من قراءة الآية الكريمة «وما جعل عليكم في الدين من حرج» إنّ الخطاب لجميع المكلّفين ولجميع المسلمين ، وهذا ما قد يستدلّ عليه من خلال مفردات الآية الشّريفة .
لذلك ذهب المفسّرون من أهل السّنة مثل صاحب « المنار » إلى هذا المعنى ، وأ نّ المراد من قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً}(2) هم العرب ، بالخصوص ، واستدلّ بذيل الآية حيث يقول: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(3) حيث إنّ العرب كانوا على بُعد من التذكية والتعليم وتلاوة الكتاب ، فبملاحظة هذه النكتة ذكر إبراهيم وإسماعيل في ذيل دعائهما: «إنّ الله هو العزيز الحكيم» أي قادر على أن يجعل العرب البعيد من التعليم والتربية تحت تعليم الرسول وتزكيته إيّاهم بالقدرة التوأم

1  . الحج: 78 .
2  . البقرة: 128 .
3  . البقرة: 129 .

(الصفحة12)

مع الحكمة .
فالمستفاد من هذا الكلام ـ بملاحظة إرجاع الضمائر إلى العرب ـ أ نّ المراد من «ذريتنا» عموم العرب ، وفيه أ نّه لا ينتهي نسب جميع طوائف العرب إلى ذريّة إبراهيم وإسماعيل ، ويزيد الإشكال بملاحظة ورود لفظة «من» الدالّة على التبعيض .
أمّا قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} فالأب هنا إمّا إنّ يكون على الحقيقة ، حيث أن العرب من ذريّة إبراهيم ، أو بحملها على المجاز إذا قصد جميع المسلمين ، فيكون بمعنى المربّي والمعلّم كما يقول المعلّم لتلميذه : يابنيّ .

التّحقيق في المراد من الآية الكريمة
هنا نواجّه عدّة عقبات لا تساعد على الأخذ بالتفسير المتقدّم ، فإنّ ذيل الآية الكريمة يرشدنا إلى أنّ المخاطب في الآية الشريفة ليس عامّة النّاس ، ولا عامّة المكلّفين ، لأ نّ الآية تقول: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فيتّضح أ نّ النّاس ليسوا هم المخاطبين .
هنا توجد ثلاثة عناوين : أحدها : هم المخاطبون في {عَلَيْكُمْ} ، والعنوان الآخر : هو رسول الله ، وهناك عنوان ثالث : وهم النّاس في قوله تعالى : { . . . . شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .
تقول الآية: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} هذا هو العنوان الأوّل ـ {شَهِيداً عَلَيْكُمْ} هو العنوان الثّاني وهم المخاطبون ، ومن ثمَّ تقول الآية {وَتَكُونُوا} أي أنتم المخاطبين {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . إذن النّاس عنوان آخر غير المخاطبين وهو العنوان الثالث .
وهنا يأتي هذا السّؤال: من هو المخاطب في الآية الكريمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ؟ هل هم عامّة النّاس ، أو أ نّهم المخاطبون خاصّة ،

(الصفحة13)

لا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا النّاس ـ وعلى كلّ حال من هم هؤلاء ؟ وما هي دلالة الآية ؟ .
ثمّ إ نّ الآية الكريمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هل تعني: ما جعل على المسلمين من حرج ؟ ما جعل على المكلّفين من حرج ؟ أو ما جعل عليكم من حرج ؟ وهناك نقطة اُخرى يمكن بحثها فيما بعد ، وهي أ نّ الآية هل جاءت في سياق التخصيص ، أم لا ؟ .
فمع الأخذ بنظر الاعتبار مفاد الآية ومدلولها الأوّلي بلحاظ {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} فالسؤال عن الأفراد الذين يشملهم ضمير الآية {كم} ، وهذا بحث جيّد يطرح في هذا المجال ولا بأس من التطرّق إليه .
والبحث الآخر الّذي نودّ التّطرق إليه هنا هو أ نّه بالإمكان تشخيص المخاطبين في هذه الآية بضم آية اُخرى إليها وبحثهما معاً ، ويرتبط هذا البحث بقاعدة لا حرج من جهة ، ومن جهة اُخرى فهو بحث تفسيري دقيق وممتنع .
ومن جهة ثالثة يسلّط الأضواء على موضوع أساسي وأصيل في باب الأمامة ، وبرأيي فإنّ هذا المدلول من كرامات ومعجزات القرآن ، ويتضح هذا المعنى من خلال التدّبر في القرآن الكريم ، حيث يبيّن لنا ماهي مميّزات الإمامة ؟ ومن هي الفرقة التي تترسخ فيها هذه الفكرة ؟ وأيّ من الطّوائف تنادي بها ؟ ومضافاً إلى ذلك تحدّد لنا ميزة خاصّة من ميزات الإمامة ، وهي مسألة علم الإمام بالغيب في خصوص قوله تعالى: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وسنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله .

من هم المخاطبون؟
وقد رأيت من المناسب هنا أن لا نتجاوز بحثنا التّفسيري هذا ، فهو يرتبط بقاعدة لا حرج أيضاً ، حيث إنّ الآية تقول: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}

(الصفحة14)

فهل أ نّ الضمير {كم} يعود على كافّة المكلّفين ، كافّة المسلمين ؟ إذن لماذا تقول الآية {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ؟ فالناس هنا خارج دائرة الخطاب ، فهنا عنوان آخر ومجموعة اُخرى لا ينطبق عليها عنوان الرّسول ولا عنوان النّاس ، ومشخّصات الآية تعكس لنا مشخّصات هذه المجموعة .
والآن نلقي نظرة على هذه المشخّصات ، ومن ثمّ نستعرض آية اُخرى ذات علاقة بهذا الموضوع ، ومن خلال هاتين الآيتين سنتوصّل إلى نتائج باهرة على مختلف الأصعدة .
أحد خصائص الآية الكريمة هي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، فالإجتباء والإصطفاء بمعنى الاختيار والانتخاب ، وما نلاحظه هو أ نّ الله تبارك وتعالى استعمل كلمتي «الإصطفاء والإجتباء» لخواصّه والمقرّبين إليه ، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(1) هنا وردت مفردة الإصطفاء ، وفي آية اُخرى وردت مفردة الإجتباء وهو قوله تعالى: {يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (2) .
أي أنّ الرّسول بما أ نّه رسول ليس له صلاحيّة الإجتباء ، فالإجتباء يعني الإختيار على أساس خصائص ومميّزات محدودة تتوفّر لدى بعض الأفراد ، وقوله تعالى {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إنّكم تتوفّرون على الخصوصيّة أو الميزة التي تجعلكم مجتبون من قبل الله تعالى . والسؤال هو : هل يمكن لنا أن نعمِّم مفهوم {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} على عامّة النّاس أو المسلمين الحقيقيين ، فنقول : إنّ المسلمين مجتبون من قبل الله وأ نّهم مصطفون ؟ ونلاحظ أن هناك ثمّة خصوصيّة وميزة معيّنة ترافق هذا التعبير وهذه العبارة ، فالآية في بدايتها تقول «هو اجتباكم» أي أ نّ

1  . آل عمران: 33 .
2  . آل عمران: 179 .

(الصفحة15)

هؤلاء المخاطبين قد أحرزوا مقام الإجتباء أوّلاً ، ومن ثمّ تقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .

هل كلمة (أبيكم) مجاز ، أم حقيقة؟
والمقصود من الأب هنا هو الأب الحقيقي ، وليس هناك ما يبرّر لنا صرف كلمة «الأب» عن معناها الحقيقي ، فما لم توجد هناك قرينة على المجاز ، لابدّ من حمل كلمة الأب على معناها الواقعي . وهذه قرينة اُخرى على استبعاد أن يكون المراد في ضمير «كم» كافّة المسلمين والإلتزام بأن لفظة: {أبيكم} مجاز .
إذن الآية الكريمة تقول: إنّ هؤلاء هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون ـ ملّة إبراهيم ـ وإبراهيم الأب الحقيقي لهؤلاء ، وهذه خصوصيّة تطرحها الآية الكريمة ، وتعيننا على التعرّف على هؤلاء الأفراد .
{هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} الضمير «هو» يعود على الله ، و «من قبل» يعني في الماضي ، و «في هذا» يعني في القرآن ، أي في الكتب السابقة وفي القرآن أيضاً الله سبحانه وتعالى هو الذي أطلق عليكم اسم المسلمين . ومن ثمّ تخلص الآية إلى أخذ النتيجة من هذا القول ، لتبيّن الهدف من جميع هذه الخصائص ، وهو {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} . اللام هنا لام الغاية {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي على غير المسلمين من اليهود والنصارى ، فهو المقصود هو أ نّكم أيّها المسلمون تكونون شهداء على اليهود والنصارى ، أم أ نَّ المراد هم أنتم الصنف الخاص ، الجماعة الخاصّة ، والاُمّة الخاصّة كونوا شهداء على الآخرين؟ وسنتطرق فيما بعد إلى معنى هذا القول .
وظاهر الكلام هو ما قلناه ، فليس المقصود من الناس هم اليهود والنصارى ، وأما ما يبدو بالنظرة البدوية من أ نّ الله سبحانه وتعالى هو الذي سماكم بالمسلمين ،

(الصفحة16)

لتكونوا أنتم ـ أيّها المسلمون ـ شهداء على النّاس ، بهذا المعنى لابدّ أن يكون الناس من غير المسلمين ، ويحب أن ندخل اليهود ضمن الناس ، في حين أ نّ ظاهر الآية يرشدنا إلى معنى آخر ، فالناس هنا هم المسلمون أنفسهم ، إذن الجملة {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} هو عنوان خاص ومرتبط بجماعة خاصّة . وهذه الجماعة الخاصّة لها عدّة خصائص يمكن أ نّ نستفيدها من الآية الكريمة .
أحد هذه الخصائص التي غفلنا عنها في البداية ، هو نفس هذا الخطاب ـ {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي أ نّكم مكلّفون بطيّ جميع مراحل المجاهدة ، لماذا ؟ لأ نّ الله هو الذي اختاركم ، أنتم لستم أفراداً عاديين تريدون أن تقوموا بتكاليفكم بين الناس العاديين .
ونفس الخطاب هذا لايمكن أن يكون موجّهاً إلى كافّة الناس «وجاهدوا في الله حقّ جهاده» بتعليل «هو اجتباكم » ، أي لا يصحّ القول أن الله سبحانه وتعالى لمّا اجتباكم واختاركم ، القى على عاتقكم مسؤوليّة أكبر وأثقل ، وهل أ نّ هذا التعبير يتناسب مع عامّة الناس ؟ وهل هذا التكليف يمكن أن يتوجّه إلى النّاس كافّة ؟
الآية بنفسها تدلّنا على أ نّ المسألة ليست بهذا الشكل ، والمخاطب والمكلّف المسمّى بالمسلمين وأبناء إبراهيم هم أفراد خاصّ من المسلمين ، فهم من جهة لاينطبق عليهم عنوان الرسول ، ومن جهة اُخرى ليسوا من الناس العادييّن ، وهذا مايدلّنا أ نّهم يحملون عنواناً خاصّاً بين الرسول وبين الناس ، ومسؤوليّتهم أكبر وأصعب بكثير من مسؤوليّة عامّة النّاس .
هذه الآية لوحدها ومن دون أن ندعمها بآية اُخرى أو برواية صحيحة وردت في تفسير هذه الآية ـ وسنتعرّض إليها لتأييد ما قلناه فيما بعد ـ تشير إلى أن هناك عنواناً آخر يتوفّر على جميع هذه الخصائص .
والآن نتطرّق إلى آية اُخرى تساعد في فهم الآية {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ

(الصفحة17)

وَفِي هَذَا . . .} وكما قلت فإن بحثنا معنى تفسيري ويرتبط أيضاً بمسألة الإمامة وبعلم الإمام ، ومن جانب آخر له علاقة بقاعدة لا حرج الّتي هي محل بحثنا بالأساس ، وبما أ نّ هذه الآية الكريمة بالذات هي من أهمّ الآيات التي يستدلّ بها على قاعدة لا حرج ـ فلذلك يجب أنْ تدرس وتناقش بدّقة . . .

الآية الثانية:
يقول الله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}(1) بناءاً على الشواهد التأريخية فإنّ إبراهيم (عليه السلام) هو الذي بنى الكعبة وساعده في ذلك إسماعيل (عليه السلام) وخلال عملية البناء يرفعان أيديهما ويدعوان الله بعدّة دعوات: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ومن هنا يتّضح لنا إنّهما إنّما قاما بهذا العمل بأمر من الله تعالى ، وتزامناً مع امتثالهما لأمر الله رفعا أيديهما بالدعاء بأن يتقبّل منهما ذلك .
الدعاء الثّاني الذي دعوا به هو: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(2) هذا الدعاء يحتاج إلى وقفة وتأمّل ، واستعراض الظروف التي كانت تحيط بالنبي إبراهيم (عليه السلام)عند دعائه بهذا الدعاء ، ففي ذلك الوقت كان إبراهيم (عليه السلام) يمتاز بمقام النّبوة وبمقام الإمامة أيضاً نظراً لمقتضى الآية الكريمة: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (3) ، وبحسب الرّوايات والقرائن فإنّ أهمّ الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم (عليه السلام) هو ذبح إسماعيل (عليه السلام) وتقديمه قرباناً ، وفي الحقيقة فإنّ ذبح إسماعيل من الإبتلاءات التي لم يسبق لها مثيل ، كما أ نّها لا مثيل لها في اللاحق أيضاً ،

1  . البقرة: 127 .
2  . البقرة: 128 .
3  . البقرة: 124 .

(الصفحة18)

حيث يتلقّى أب ونبيّ أمراً من الله تبارك وتعالى أن يذبح إبنه بيده ، ذلك الابن الذي رزقه الله إيّاه في أواخر عمره .
والآن لننظر إلى إسماعيل في غضون تلك الحادثة حيث يعمل مساعداً لإبراهيم في بناء الكعبة ، فيحتمل أن يكون عمر إسماعيل في ذلك الوقت خمس وعشرين سنة إلى ثلاثين سنة ، وبالطبع فإنّ إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الوقت كان حائزاً لمقام النبوّة ، وباعتقادي أ نّه كان حائزاً على مقام الإمامة أيضاً ، ومع ذلك نراه يقول داعياً: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، وهذا تحصيل حاصل بالنسبة لإبراهيم ، ومع ذلك نجده (عليه السلام) يطلب شيئاً محصّلاً ، أو أ نّه يطلب ديمومة ما كان حاصلاً ، وهذا يشبه ما نقول نحن في الصلاة : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
ويشبه الطريقة التي نوجّه بها هذا الدعاء لأنفسنا ونفسّره . فهنا نبحث في الآية الكريمة: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فظاهر الآية أن المقام الذي كان الأب والابن يدعوان الله سبحانه تعالى للوصول إليه ، مقام رفيع جدّاً ، تتوفّر فيه جهتان وخصيصتان :
أحدهما: في قوله ـ مسلمين ـ أي التسليم المطلق بدون أيّ قيد مهما صغر ، وبدون أيّ تعليق ولو مختصر .
الثانية: إنّ الجهة التي نسلّم إليها هي {مسلمين لك} ، وهذا مقام رفيع جدّاً ، وهو المقام الذي يكون فيه الإنسان أمام الله تعالى في حالة من التسليم المحض ، لا في مقام العمل فقط ، وإنّما في مقام الإعتقاد ، وفي مقام الفكر . لأ نّنا قد نرى مسلماً يعيش حالة التسليم في مقام العمل ، لكنّه في مقام الإعتقاد قد يحمل بعض الأفكار غير السليمة ، فقد يذهب هذا الشخص إلى مكّة وهو يعيش حالة التسليم والامتثال ، ولكن قد تخطر في باله بعض الأفكار من قبيل أن يقول لنفسه: أليس من الأفضل أن تبنى هذه الكعبة على سفوح الجبال الخضراء ذات الحدائق ،

(الصفحة19)

ليرتوي الإنسان من الماء البارد هناك؟
وهذا اللون من الخواطر والتفكير معناه أ نّ هذا الشخص ليس لديه تسليم قلبيّ خالص ، فالتسليم القلبيّ الخالص يعني أن لايخطر في باله شيء من هذا القبيل قيد أنملة .
وبعبارة اُخرى: إنّنا في البحوث العلميّة قد تواجهنا ثمّة إشكالات نحاول أن نردّ عليها ، أمّا التسليم الخالص فمعناه أن لا يوجد هناك أيّ إشكال ، وهذا يكشف عن اعتقاد راسخ ، وإيمان ويقين في مستوى عال جداً ، بحيث لا يرقى إليه أيّ إشكال ، فلا إشكال في البين كي يستتبع تبرير .
مثل هذا الإنسان ذو الأيمان الصلب لايرد عليه مثل هذا الإشكال ليبرّره بعد ذلك بأ نَّ الله أعلم بما يصلح ، وأ نّه أحاط بكل شيء علماً ، والأجوبة من هذا القبيل تجاه الواردات القلبية لاتمثّل حالة التسليم المطلق ، فالتسليم المطلق أعلى وأرفع مقاماً ورتبةً بكثير ، ويتمثّل بالانقياد التامّ لله تبارك وتعالى في جميع المجالات .
فعلى سبيل المثال فإن كلام سيدنا آدم (عليه السلام) بحسب الظاهر دون مستوى التسليم المطلق ، حيث طرأ على ذهنه هذا الإشكال وهو: لماذا نهاني الله عن الأكل من هذه الشجرة؟ ولو لم يخطر هذا التسأول على باله لما استطاع الشيطان بوسوسته أن يغيّر شيئاً من الأمر ، ومع التسليم المطلق لايبقى أيّ مجال لخطور مثل هذه الأفكار في مخيّلة الإنسان .
وهنا نقول: إنّ الدعوى المطروحة للبحث هي قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، لقد دعا إبراهيم بهذا الدعاء في أواخر عمره وفي حال بنائه للكعبة رمزاً لتوحيده ومركزه حتّى تقوم القيامة ، ومن ثمّ يكمل دعاءه بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ولنا وقفة طويلة مع هذه الآية ، حيث نرى إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) وفي ظلّ تلك الظروف الحسّاسة دعوا الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذريّتهما ـ أي من

(الصفحة20)

ذريّة الابن والتي تنتهي بالتالي إلى الأب ـ اُمَّة مسلمة ، فجمع بين ذريّة الأب وذريّة الابن بضمير الجمع للمتكلم «نا» ، وهذا الدعاء على وزان قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} لقد أراد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لذريّتهما من إسماعيل (عليه السلام) أن تكون لديها حالة التسليم {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، كما أرادا ذلك لأنفسهما من قبل {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} .
إذن ، تبيّن لنا أ نّ أحد أدعية إبراهيم (عليه السلام) هو أن تكون هناك اُمّة من ذريّة إبراهيم عن طريق إسماعيل مسلمة لله ، ويبدو أ نّ الله تعالى عندما نقل هذا الدعاء عن لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، وسكت قد استجاب لهذه الأدعية بقرينة الآية الكريمة: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، وهنا قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فأجاب الله على الفور {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . أي: لا تتصوّر يا إبراهيم أ نّ الأمر سيكون إلى جميع ذرّيتك ، وأعلم أ نّ الظالم لاينال مقام العهد والإمامة ، فمقام الإمامة ومقام الظالم لا يلتقيان أبداً ، هنا بيَّن الله سبحانه وتعالى المسألة إلى إبراهيم وأجابه بسرعة ، لكنّه بعد أن ينقل دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ويسكت عن بيان النتيجة والجواب ، فإنّ هذا السكوت يعني أ نّ هذا الدعاء مقبول: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَةً لَكَ} مقبول: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}أيضاً مقبول . فما نلاحظه هو أ نّ إبراهيم (عليه السلام) بعد أن استجيبت دعوته بأن يكون هو وإسماعيل مسلمين ، دعا بأن تكون هناك اُمّة ميزتها وخصوصيّتها أنّها {مُسْلَِمةً لَكَ} .

المراد بالظلم في المفهوم القرآني
وكيف كان ، فإنّ الآيتين تشتركان نوعاً في هذه المسألة ، وهي أ نّ إبراهيم في دعائه كان يطمع أن تصير الإمامة والقيادة ـ قيادة المجتمع مثلاً ـ إلى ذريّته ، وتتمثّل
<<التالي الفهرس السابق>>