في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة21)

فيهم كما اختصّها الله سبحانه وتعالى به وتلطّف بها عليه حيث نصبه بقوله تعالى: {جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، ولكن في تلك الآية فإنّ القضيّة طرحت بصيغة السؤال ، حيث سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي هل للبعض من ذرّيتي نصيباً في الإمامة والقيادة قيادة الإمامة ، فجاء الردُّ من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهو قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
ويبدو لنا إذا قارنّا بين هذه الآية وتلك ـ خاصّة بعد الأخذ بنظر الاعتبار ـ ما أشرنا إليه من أ نّ الآيات: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ . . .} تحكي عن الظروف التي انطلق الدعاء في أجوائها . حيث تصوّر لنا الآية أ نّ إسماعيل كان شابّاً ذا نظارة وممتلئاً بالطاقة والحركة ، وبإمكانه مساعدة إبراهيم في بنائه للبيت الحرام ، وبناءاً على أ نّ هذه الآية جاءت بعد الآية التي يقول فيها تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، فعمر إبراهيم (عليه السلام) يدلّنا على أ نّ هذه الآيات في تسلسلها الزمني تأتي متأخّرة عن تلك الآية ـ والآن إذا قرنّا بين الآيتين ، نرى أ نّه في الآية الأولى يسأل إبراهيم ربّه قائلاً: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فيردّ عليه تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
في الحقيقة هنا حصل إبراهيم على معيار أو ملاك معيّن حيث فهم أ نّ المرشّح لأمر الإمامة بالجعل الإلهي والعطاء الإلهي يجب أن لايمت إلى الظلم بأيّة صلة . واستناداً إلى الرّوايات ، وكذلك بحكم التناسب أو السنخية الموجودة بين الحكم والموضوع فإنّ عدم التلبّس بالظلم هو شرط ليس فقط عند التصدّي لأمر الإمامة ، بل يجب أن يكون الإمام غير متلبّس بالظلم في الماضي أيضاً ، أي أن يكون بعيداً عن الظلم طوال عمره . والمقصود من الظلم هنا ليس المعنى المتداول بيننا وفي استعمالاتنا العرفيّة . والظلم له معنى خاص ، وفهم العامّة للظلم هو أن يسرق شخص مال شخص آخر ، أو أن يضرب إنسان إنساناً آخر بلا أي مبرّر ،

(الصفحة22)

فنحن نعبرّ عن هذه المصاديق بالظلم .
أمّا القرآن فإنّه يعدّ أيّ عملية تمّرد ، أو أيّ عصيان أو مخالفة تجاه الله تبارك وتعالى ظلماً . بدءاً بالشرك وحتّى المعاصي والمخالفات المتعارف عليها . يقول القرآن الكريم في الشرك: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(1) في حين نحن لانعتبر الشرك ظلماً ، ولكنّ القرآن لايعدّ الشرّك ظلماً فحسب ، بل إنّه ظلم عظيم .
وإلى جانب ذلك نلاحظ أنّ القرآن الكريم في حديثه عن المعاصي والذنوب يعبر بقوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}(2) ، ومن هنا فإنّ ظلم النفس يدخل في إطار معصية الله تبارك وتعالى ومخالفة أوامره ونواهيه ولايمكن تصور أيّ معنى آخر للمفهوم الذي طرحه القرآن الكريم ، ألا وهو مفهوم الظالم لنفسه . فالظلم من وجهة نظر القرآن الكريم والأنبياء (عليهم السلام) له معنى أوسع وأشمل من المعنى الذي نتصوّره نحن ، وفهم الأنبياء للظلم يختلف عما نعبّر عنه بالظلم .

شرط العصمة في الإمام
هنا تكوَّن لدى إبراهيم الملاك والمعيار في مسألة الإمامة ، وعرف أنّ الذي يتولّى منه الإمامة والذي تجعل له الإمامة وتختص به لابدّ وأن يكون طوال عمره نزيهاً عن الظلم ، ولا يمت للظلم بأيّ صلة ، وبالطبع فإن من تتوفّر فيه هذه الشخصيّة ويتجسّد هذه المعنى في شخصيّته لابدّ وأن يكون أحد مصاديق قوله تعالى: {مسلمة لك} .
إذن الشخصيّة التي هي دائماً وأبداً في مقام التسليم إلى الله تعالى ، ولاتخرج عن دائرة التسليم في أيّ وقت من الأوقات هذه الشّخصية هي التي بمقدورها الأرتباط

1  . لقمان: 13 .
2  . النساء: 64 .

(الصفحة23)

بالإمامة وأن تكون من سنخ الإمامة  ، ومن هنا يتّضح لنا السبب الذي دفع بإبراهيم أن يدعو بهذا الدعاء {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، لأ نّ الله قد قال بأنّه {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، واقصى الظالم ـ ولو ارتكب الظلم لحظة واحدة ، أو في جانب ، أو بُعد واحد ـ عن مسار الإمامة ، بناءاً على الملاك والضابطة راح إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يدعوان الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذرّيتهما اُمّة مسلمة له ، أي أن تكون ذرّيتهما بمستوى الإمامة ولها صلاحيّة الإمامة .
وهنا نقطة لابدَّ من الإشارة إليها ، وهي أنّ قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} تقابل تماماً ما جاء على لسان إبراهيم (عليه السلام) في دعائه {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، إذن في الحقيقة دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وما طلباه من الله عزّوجلّ كان بناءاً على تلك الضابطة ، وذلك الملاك الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لإبراهيم في الإمامة . فلم يسأل إبراهيم (عليه السلام) الله تعالى: هل سيحصل أحد من ذرّيتي على منصب الإمامة؟ وإنّما عرض المسألة هذه بصيغة الدعاء . فدعا الله أن يجعل من ذرّيته من يتوفّر فيه شرط الإمامة والملاك المعتبر فيها .
سؤالٌ: وهنا قد يتبادر هذا السّؤال إلى الأذهان ، وهو أ نّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) في دعائهما {واجعلنا مسلمين لك} وفي قولهما {وتقبل منّا} و {أرنا مناسكنا} في جميع هذه الموارد الدعاء يختصّ بهما ، ويعود عليهما بالذات ، ولكن في دعائهما {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هنا الطلب لايخصّهما ، فما علاقة فحوى الدعاء بإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ؟
الجواب: الإجابة عن هذا السّؤال لها علاقة بموضوع الإمامة ، فعندما وجد إبراهيم (عليه السلام) نفسه تتوفّر فيه شروط الإمامة ، أحبَّ بوازع من رغبته في هداية المجتمع وإرشاد البشريّة عبر مراحلها التاريخية حتّى قيام الساعة ، أن يحتفظ بمنصب الإمامة السامي في ذرّيته ، أيّ أن يتصدّى جماعة من ذريّة إبراهيم

(الصفحة24)

في المستقبل منصب الإمامة وقيادة المجتمع من بعده . وإلاّ لو أردنا تجاوز هذه النقطة إلى مسألة إمامة هذه الاُمّة المسلمة ، تبقى هناك علامة استفهام كبيرة ، فما معنى أن يدعو إبراهيم وإسماعيل بهذا الدعاء ، ويطلبان من الله عزّوجلّ هذا الطلب؟
وماذا يعني أ نّنا ندعو الله تعالى أن يجعل في أبنائنا وأحفادنا أفراداً صالحين ومتديّنين؟ ولماذا لاندعو بالخير لجميع أبناءنا؟ ولماذا لم يدعُ إبراهيم لجميع ذريّته؟
إذن ، من هنا نتوصّل إلى هذه الحقيقة وفي قوله {ومن ذرّيتنا} ، يعني أ نّ الأمر ليس أمراً عامّاً ، ولايمكن أن يشمل جميع أفراد الذريّة ، ولايمكن لجميع الذريّة أن تشترك في هذا الأمر ، إذ أنّ الذرية بأجمعها لايمكن أن تتوفّر فيها مواصفات وشروط الإمامة ، فالإمامة أمر خاصّ ومحدود بعدّة قليلة ممّن يمكنهم أن يتصدّوا لهذا الأمر ، ولذلك جاءت {من} الذي مفاده التبعيض .
وكذلك في الآية الاُخرى التي أجاب فيها الله سبحانه وتعالى على سؤالِ إبراهيم بقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، فهناك أيضاً طرحت المسألة مشتملة على «من» {ومن ذريتي} . وهذا يدلّ على أ نّ المسألة مسألة خاصّة ، وليست عامّة ، وإلاّ لكان الدعاء عامّاً ، وهذا ما يوافق مقتضى طبع الإنسان الذي إذا أراد أن يدعو ، فإنّه يدعو للجميع .
وبناءاً على ذلك ، كان المفروض أن يكون الدعاء بهذه الصورة «الهي اصلح جميع ابنائنا القريبين والبعيدين واجعلهم من المتّقين والمتديّنين» ، وأمّا قوله: {ومن ذريّتنا} ، فالظاهر أ نّه يستتبع هدفاً خاصّاً ، وهذا الهدف الخاصّ هو مسألة الإمامة ليس إلاّ ، والتي تتناسب مع قوله {مسلمة لك} ، ولها علاقة أيضاً بقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
مضافاً إلى وجود شواهد اُخرى في الآية التالية تؤيّد هذا المعنى ، وهو أ نَّ إبراهيم (عليه السلام) كان ينظر في هذه الآية إلى جماعة خاصّة من ذريّته ، وليس المقصود من

(الصفحة25)

دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) بحق هؤلاء أن يكونوا اُناساً مؤمنين ومتديّنين ، إذن الهدف أكبر وأهمّ ، وهو مسألة الإمامة ، فمسألة الإمامة ليست مسألة عامّة يمكن لأيّ شخص أن يتّصف بها ، وبرأيي أ نّ الآية الكريمة رائعة في تعبيرها فما الذي أراد إبراهيم وإسماعيل أن يقولا في هذا الدعاء؟
ويبدو جليّاً من خلال الشواهد والقرائن أ نّ إبراهيم (عليه السلام) كان يقصد في دعائه جماعة من بني هاشم ، نسمّيهم بعترة الرسول (صلى الله عليه وآله)  ، فإبراهيم في حال بنائه الكعبة وإحداث عمارة الايمان وتأسيس مركز التوحيد ، يدعو لإمامة هؤلاء ، ولعلّ السّنخية بين الأثنين [بين الكعبة والإمامة] أنّ إمامة هؤلاء لها علاقة ببقاء وديمومة مركز ورمز التوحيد ، ولها الدور الأساسي في حفظ الكعبة وبيت الله . . . إنّ إمامة هؤلاء تعطي للناس المعنى الصحيح للحجّ والمناسك ، كما أ نّ إمامة هؤلاء لها علاقة وثيقة بالكعبة .
إذن يجب أن نلاحظ ظرف الدعاء ، لماذا صدر هذا الدعاء عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) عند بنائها للكعبة؟ فقد كان بامكانهما أن يدعوا بهذا الدعاء في وقت آخر ، أمّا في ذلك الوقت بالخصوص وفي تلك الظروف الخاصّة ، فإنّ مثل هذا الدعاء يشعرنا أ نّ هناك إرتباطاً تامّاً وصلةً وثيقة بين إمامة هذه الامّة المسلمة له {اُمّة مسلمة لك} ، وبين الكعبة مركز التوحيد ورمزه ، وأ نّ الإمامة هي التي بمقدورها أن تحقّق هدف التوحيد بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وتنجّز الهدف من بناء الكعبة ، وقد شاهدنا عن كثب فداحة الخطب ، الخطب في المسارات البعيدة عن مسار الإمامة والأئمّة (عليهم السلام) .

المراد من الأب والذّرية
وبعد أن تقول الآية: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ

(الصفحة26)

الرَّحِيمُ}(1) نلاحظ أن الدعاء يستمر: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) هنا وبعد أن دعوا الله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} طلبا من ربّ العزّة أن يبعث في هذه الاُمّة المسلمة ، رسولاً يكون منهم ، وهناك تأكيد من قبل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)على كلمتي: {من ذريتي} ، والآية التي قرأناها سابقاً والتي سنعود إليها فيما بعد بلحاظ حديثنا عن قاعدة {لا حرج} يقول فيها تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
إذن ، فهل من الصحيح أن نغضّ الطرف عن كلّ هذه الشواهد ، ونقول بأنّ الأب هنا يعني الأب الروحي ، وأ نّ الذريّة هم الأتباع؟ كما في قول المعلّم لتلميذه : يابنيّ ، هذا الكلام لايتناسب مع القرآن الكريم ، وهذا الكلام قد نجد له ما يبرّره إذا كنّا غير محتفظين على المعنى الحقيقي للقرآن ، أمّا عندما يرد في الآية السابقة قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} وفي هذه الآية قوله: {من ذريّتنا} والآية التي تتحدّث عن الإمامة والتي وردت فيها عبارة: {ومن ذريّتي} ، فهل يصحّ الإعراض عن كلّ هذه الدلائل؟
إنّنا إذا استطعنا أن نحتفظ بالمعنى الحقيقي لهذه المفردات وأن نهتدي إلى مغزاها خلال المعنى الحقيقي لها سنتوصّل بالتالي إلى الهدف الأساسي الذي يرده القرآن الكريم ، بقطع النظر عن الروايات الواردة في تفسير هذه الآيات ، وإلاّ فمع الإستعانة بالروايات في هذا الباب ـ والتي سأذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله ـ مضافاً إلى الروايات في المسألة الاُخرى لايبقى هناك أدنى شكّ أو ترديد في المراد من الآيات .
ولكن ما اُريد قوله أنّه حتى لو لم تكن هناك هذه الروايات ، ولو كنّا نحن وظاهر القرآن ، نحن والنصّ ، نحن والقرآن الذي يقول عنه العلاّمة الطباطبائي (قدس سره):

1  . البقرة: 127 ـ 128 .
2  . البقرة: 127 ـ 128 .

(الصفحة27)

إن القرآن الذي فيه بيان كلّ شيء لابدَّ وأن يبيّن بعضه بعضاً (1) . أي من خلال التمعّن في الآيات مجتمعه ، ومن خلال التوفيق والملائمة فيما بينها ، يتّضح لنا المعنى بصورة كاملة . فإبراهيم (عليه السلام) يقول: إنّ الرسول منهم ، وأنّهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يعني إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) من ذريّة إبراهيم وإسماعيل ، والاُمّة كذلك من ذريّة إبراهيم وإسماعيل . أي: ابعث فيهم رسولاً بينهم ممّن يتّصف بمقام الإمامة ، واعطه ميزة اُخرى وهي ميزة الرسالة والنّبوة ، فميزة النّبوة تختص بأحدهم ، وأمّا ميزة الإمامة فتتعلّق بهم جميعاً ، فالرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى اختصاصه بمنصب الرسالة فإنّه يختصّ أيضاً بالإمامة ، فالرسول (صلى الله عليه وآله) تتوفّر لديه كلتا الجهتين: الإمامة والرسالة {وابعث فيهم رسولاً منهم} ، وضمير الجمع للغائب [ هم] يدل على قوله {ومن ذريتنا} بقرينة الآية السابقة .
هنا يعترضنا السّؤال التالي : ما هو الدّور الذي يؤدّيه الرسول في هذه الاُمّة المسلمة؟
الجواب: أ نّ دور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو دور المعلّم والمربّي والمزكّي ، وهؤلاء تلامذة الرسول (صلى الله عليه وآله) {يتلو عليهم} على الاُمّة المسلمة {آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

حلّ التعارض الظاهري بين الآيات
هنا قد يثبّ إلى الأذهان هذا السؤال وهو: أ نّ التعبير بقوله: { يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة } قد ورد بنفسه ومن دون تغيير في آية اُخرى مطلعها قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ

1  . الميزان 3: 36 .

(الصفحة28)

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ . . .} (1) ، أليس المراد بالمؤمنين هنا جميع المؤمنين؟ وقوله تعالى: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فقد كرّر الشطر الثّاني منه في الآية {لقد منَّ الله . . .} في حين أ نّ الآية الثانية تفيد العموم ، ولا تختصّ بالأئمّة (عليهم السلام) قطعاً .
ويمكننا أن نجيب على هذا الإشكال بتقديم إشارة ومقدّمة وهي أ نّ الآية الثانية [{لقد منَّ الله على المؤمنين}] تنتهي بقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ، أمّا في الآية التي نحن بصددها [{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا . . .}] إنتهت بقوله {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} ولم تختم بما اختتمت الآية السابقة .
وهذا ما يوصلنا إلى الجواب وهو: إنّنا نلاحظ أ نّ الدروس التي نتلقّاها والمسائل العلميّة التي نبحثها تنطوي على مراحل ، فالذي يدرس كتاب المعالم يدرس الاُصول ، والذي يدرس الرسائل هو أيضاً يدرس الاُصول ، والكفاية أيضاً هي من علم الاُصول ، وكذا الحال بالنسبة للذي يدرس الاُصول الخارج مدّة عشرين سنة ، فهو أيضاً يدرس الاُصول ، ولكن دروس الاُصول هذه تختلف فيما بينها اختلافاً شاسعاً ، فلا نستطيع أن نقارن بين هذه الدروس من حيث المرحلة والرتبة .
ومن هنا نقول: إنّ كون الرسول معلّماً وكونه مزكّياً ومربّياً يختلف باختلاف التلاميذ ، ففي الآية: {لقد منَّ الله على المؤمنين . . .} عندما نلاحظ تتمّتها وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} تتّضح لدينا نقطة مهمّة جدّاً ، وهي أ نّ تزكية وتعليم الرسول لهؤلاء ، إنّما كانت لإخراجهم من الظلالة التي تحيط بهم من جوانب مختلفة ، فالهدف من تربية وتزكية وتعليم الرسول هو إنقاذ هؤلاء

1  . آل عمران: 164 .

(الصفحة29)

من الجهل الذي يعيشوه ، وإنقاذهم من العشوائية التي يتخبّطون فيها ، سواء على الصعيد الفكري ، أو على الصعيد السلوكي والعملي ، وهذا ما يتمثّل بالشرك والسلوك اللا إنساني والمنحرف الذي كان يمارسه هؤلاء ، إذن تعليم الرسول وتربيته وتزكيته في هذه الآية تشمل الجميع بقرينة قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} .
ولكن نفس هذا المربّي والمعلّم عندما يكون تلاميذه على حدّ تعبير الآية الكريمة {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فإنّ دروس التّربية والتعليم تكون في قمّة مدارج التعليم والتربية ، وفي آخر مراحل التربية والتزكية ، ولذا لانجد في هذه الآية عبارة: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} وإنّما اكتفت الآية بالتطرّق إلى التربية والتعليم بالذات ، وهذا هو عين الحقِّ والصواب . إذ لا يمكننا القول أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ربّى علياً (عليه السلام) كما ربّى غيره من النّاس العاديين ، فهل بمقدورنا أن نقول: إنّ العلم الذي علّمه الرسول (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ، علّمه سلمان (رحمه الله) أيضاً ؟
وهنا لابأس من الإشارة إلى الرواية التي ذكرناها في بحث التعادل والترجيح عن كتاب سليم بن قيس الهلالي ، فقد ورد في الفقرة الأخيرة من هذه الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «علّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) الف باب من العلم ، يفتح من كلّ باب ألف باب»(1) .
إذن نعود فنقول : هل التعليم الّذي يتلقّاه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس التعليم الذي يتلقّاه عامّة النّاس عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟ وهل التربية نفس التربية والتزكية ، أو أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعليمه لعلي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) يعلّمهم آخر مراحل التعليم والتربية والتزكية ؟


1  . بحار الأنوار 38: 331 .

(الصفحة30)

أمّا بالنسبة إلى التربية والتزكية العامّة فيلاحظ فيها مقتضى حال النّاس واستعدادهم ، إذن فتكرار قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} في الآية التي تتحدّث عن البعثة العامّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لايعني أ نّ المقصود من قوله تعالى: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هنا هم «المؤمنين» الذين تحدّثت عنهم الآية بقولها: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ . . .} بحيث يكون أفراد {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هم المسلمين العاديين ، كلاّ . . إنّما المقصود من الأمّة المسلمة هم جماعة خاصّة لها صلاحيّة الإمامة ، وإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) دعوا الله سبحانه وتعالى لهذه الاُمّة بالإمامة ، كما أ نّهما طلبا من الله تعالى أن يرسل فيهم واحداً منهم يكون معلماً ومربياً حتّى على مستوى هذه الاُمّة المسلمة والتلاميذ المرموقين .

موقعية العترة من الرّسالة
ومن هنا نستنتج أن أساس الإمامة بالنّسبة لأئمتنا (عليهم السلام) الذين هم من ذرية إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يقع في عرض رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) صلوات الله وسلامه عليه ، فكلاهما في دعاء واحد وفي زمن واحد دعا به كل من إبراهيم وإسماعيل ، وأمّا غيرهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل فلم يستحقوا مقام الإمامة .
ثمّ إنّ الآية الكريمة: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} حيث كلمة «المؤمنين» المحلاّة بالألف واللام تفيد العموم . فلا فرق في آية: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ} بين ذريّة إبراهيم (عليه السلام) وغير ذريّة إبراهيم ، تجعلنا نميز الخطّ العامّ لكلّ آية ونفهم الهدف الذي تتوخّاه كلّ آية ونفرق بينهما . فبالنسبة للآية: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يلاحظ فيها جميع المؤمنين ، وأمّا بالنسبة للآية التي تتناول دعاء إبراهيم وإسماعيل بحقِّ ذريّتهما فنلاحظ فيها كلمة: {من ذرّيتنا} . وكما قلنا سابقاً فإنّ ظاهر الآية بقطع

(الصفحة31)

النظر عن الروايات أو الرواية التي نحن بصدد عرضها هنا يحمل في نفسه هذا المعنى بالشكل الذي بّيناه .

هل المراد بالذّرية هم العرب بالخصوص؟
بعض المحققين والعلماء والمفسّرين من أهل السّنة من أمثال صاحب المنار الذي استوقفته هذه المسألة أراد أن يحمل عنوان {الاُمّة المسلمة} على المعنى الظاهري الذي يتبادر للذهن في الوهلة الاولى ، أي بمعنى المسلمين ، في هذه الحالة كيف سيتعامل مع {من ذريتنا}؟ ذلك أن المسلمين لايختصّون بذريّة إبراهيم ، بل لايختصّون بالعرب ، حيث يتواجد المسلمون في شرق العالم وغربه ، ويتوزّعون على شعوب وقوميّات مختلفة ، ويتكلّمون بلغات شتّى ، وإذا أراد أن يأخذ بما نقوله نحن ويفهم الآية بالشكل الّذي فهمناه ، فسوف يتزلزل أساسهم الفكري والعقيدي ، فإذا كان المقصود من ذريتنا في هذه الآية الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) وإمامتهم . فهذا يعني التراجع عن متبنّياتهم العقائدية . إذن ماذا يريد أن يقول في مثل هذه الحالة؟
يستفاد من آخر كلام له ، أنه فسَّر {من ذرّيتنا} بالعرب ، أيّ كلّ العرب ، ويستدلّ صاحب المنار على ذلك بآخر الآية والتي جاء فيها: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، حيث يقول: إن هذه العبارة تشير إلى مسألة ، وهي أن العرب ـ عرب الصحراء ـ بعيدون عن الحضارة ، فالعربي الذي يأبى الرضوخ لأيّ لون من ألوان النظم الإجتماعية كيف يمكنه تلقّي التعليم والتزكية والتربية؟ فجميع الضمائر من قبيل: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} { ويتلو عليهم } تعود على العرب ولكن أين العرب من تلاوة آيات الكتاب؟ وأين العرب من التربية والتزكية؟ فالعربيّ الذي أنس الحرب والقتال والغارة كيف يتسنى له الآن أن يتعلّم ويترّبى

(الصفحة32)

ويتلى عليه آيات الكتاب ؟
فبحسب الظاهر هناك منافاة بين الإثنين ، بين العرب وبين كلّ من التربية والتزكية والتعليم وتلاوة آيات الكتاب . إذن كيف دعا إبراهيم (عليه السلام) بمثل هذا الدعاء؟ وكيف طلب من الله أن يبعث بين العرب رسولاً بكونه معلّماً ومربّياً ؟ فلا يوجد أيّ نوع وفاق أو تقارب بين سلوكهم وتفكيرهم وبين هذه القضايا ، فهم بعيدون كلّ البعد عنها .
يقول صاحب المنار : إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) كانا ملتفتين إلى هذه النقطة ، ومع ذلك قالا في آخر دعائهما: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وبالطبع هناك معاني عديدة للعزّة ، وأحدها هي القدرة ، والعزيز هو القادر ، فقول: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}بمعنى إنّك أنت القادر ، أي تستطيع بقدرتك أن تعلِّم وتربِّي هؤلاء العرب الذين هم بعيدون عن الحضارة ، وبعيدون عن التربية والتعليم . صحيح أن الأمر بذاته يعدُّ أمراً صعباً ولا يتناسب مع هؤلاء ، ولكن ليست هناك أيّة صعوبة إزاء عزّتك وقدرتك ، فبقدرتك يمكن حلّ هذه المسألة ، خاصّة إذا كانت القدرة مصحوبة بالحكمة والتدبّر والتعقّل ، لا بالخشونة والغلظة والإجبار والإكراه ، فإذا كانت هناك قدرة تصحبها الحكمة يمكن حلّ هذه المشكلة .
إذن فصاحب المنار أراد أن يخصّص قوله: {من ذريّتنا} بالعرب ، ومن ثمّ حلَّه بذيل الآية: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : هل أن كلّ العرب هم ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)؟ وهل تنتهي كافّة القبائل العربيّة بإبراهيم وإسماعيل؟
الآية تقول: { ومن ذرّيتنا } أي ليس كل الذّرية ، وإنّما بعض ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)؟ ما علاقة «ذريّتنا» بالعرب حتّى تكون شاملة لكلّ العرب؟ وبوجود «من» التي تفيد التبعيض تبدوا المسألة أصعب من السابق . فما هو المبرّر

(الصفحة33)

والأساس في قولنا: إنّ بعض الذريّة هم العرب ، وكلّ الذريّة هم أيضاً عرب؟ فالعرب كانوا عبارة عن طوائف وقبائل متعدّدة ، وأحد هذه الطوائف هم بني هاشم ، وينتهي نسبهم إلى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، أمّا كلّ العرب من حيث النسب والأصل فليسوا من إبراهيم (عليه السلام) وإن كانوا يعودون إلى زمن إبراهيم ، ومن هنا فإنّ هذا النوع من التفسير مردود .
وهناك تفسير ثالث أرى أنه أفضل ممّا ذهب إليه صاحب المنار ، وهو أن نغضّ الطرف عن عبارة: {من ذرّيتنا} ونفسّر قوله {أمَّة مسلمة} بالمجتمع الإسلامي ، والاُمّة المسلمة ، لأن هذا التفسير على الأقلّ يعطي تصوّراً صحيحاً للمجتمع الإسلامي حيث يجمع بين العرب وغير العرب ، وفي الحقيقة هناك ثمّة سنخية بين هذا التفسير وآية: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ، أمّا حصرنا للآية في العرب فلا يمكن الأخذ به ، لأنه لا يتطابق لا مع ظاهر الآية ولا يوافق الآية الاُخرى آية: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ . . . . } لأ نّ في آية ، { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ليس المسألة مسألة العرب ، وإنّما المقصود هم المسلمين وأتباع الرسول (صلى الله عليه وآله)  ، سواء كانوا عرباً ، أو لم يكونوا ، كسلمان الفارسي (رحمه الله) الذي يمثّل أوضح مصاديق المؤمنين في ذلك الوقت ، وكان فارسيّاً وبعيداً عنه العروبة تماماً .
إذن محصّل القول : إنّ الأساس الذي يجعلنا نتعامل مع هذه الآية [الآية 127 من سورة البقرة] بخلاف تعاملنا في فهم آية { لَقَدْ مَنَّ اللهُ علينا . . . } يكمن في عبارة {ومن ذريّتنا} ، وبرأيي أ نّ المعنى الذي طرحناه كان على مستوى من الوضوح . وقد أشار بعض الإخوة إلى أنّ أحد كتب التفسير تعرض إلى نفس هذا المعنى مستعيناً في ذلك بالرّوايات ، لكن لا على نحو التفصيل الذي أوردناه ، وقد راجعت التفسير بنفسي فوجدته قد ذهب إلى ما ذهبنا إليه بمنهجية تختلف عن منهجيتنا بالإفادة من الروايات .


(الصفحة34)

الرّوايات الشّريفة
والآن نستعرض رواية تتناول تفسير الآية: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ}والآيات التي تليها ، ويمكن من خلالها التأكّد من المعنى الذي ذكرناه قبل قليل ، هذه الرواية نقلها العيّاشي في تفسيره ـ وتفسير العيّاشي من التفاسير القديمة جداً ، لكنّه بحسب الظاهر لم يصل إلينا بكامله ـ ينقل العيّاشي عن أبي عمرو الزّبيدي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: أخبرني عن أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله) من هم؟ قال (عليه السلام): «اُمَّة محمّد بنوّ هاشم خاصّة» . [ والظاهر هنا أن المراد من كلمة «بنو هاشم» ليس كلّ بني هاشم وإنّما خصوص الأئمّة المعصومين والعترة الطاهرة (عليهم السلام) وهذا ما سيتّضح بقرينة السؤال التالي الذي يسأله الراوي من الإمام (عليه السلام)] .
قلت: «فما الحجّة في اُمَّة محمّد إنّهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟» .
فقال (عليه السلام): «قول الله عزّوجلّ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ . . .} فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل . . .الخ»(1)؟ .
هنا يستدلّ الإمام المعصوم (عليه السلام) بدليل من القرآن ، وكما هو واضح لديكم فإنّ تعامل الأئمّة (عليهم السلام) مع القرآن على نمطين:
أحدهما: هو تفسيرهم للقرآن ، ولعلّ تفسير الإمام للقرآن من وجهة نظرنا غير منسجم مع ظاهر الآيات ، ولكن على ضوء مبادئ واُصول التفسير يبقى رأي الإمام (عليه السلام) كقرينة على اتجاه معيّن في التفسير ، وذلك استناداً إلى حديث الثّقلين وسائر الأدلّة المطروحة في هذا الباب .
والنمط الآخر في تعامل الإمام (عليه السلام) مع القرآن ، هو استشهاده بالقرآن ، وفي هذه الحالة يكون الإمام (عليه السلام) متمسكاً بظاهر الآية ، فالإمام المعصوم إذا استدلّ بالقرآن ،

1  . تفسير العيّاشي: ج 1 ص 60 .

(الصفحة35)

فمعناه أن القرآن يجب أن يدلّ على ذلك المعنى بغض النظر عن كلام الإمام (عليه السلام) وحديثه ، وإلاّ فمن غير المعقول أن يستدلّ (عليه السلام) بالقرآن ومن ثمّ يقول: بأ نّ المراد من قوله تعالى معنى غير المعنى الظاهر للآية ، فهذا لايعتبر استدلالاً ، إنّما هو تعبّد ، ولابدّ من قبوله ، وأمّا في مقام الاحتجاج فيكون الباب مفتوحاً للاستدلال ، ومعنى الاستدلال هو أنَّ القرآن في نفسه يظهر من خلاله هذا المعنى ، وإلاّ فلا يبقى هناك أيّ معنىً للاستدلال بالقرآن .
وهنا يطلب السّائل من الإمام (عليه السلام) الدّليل ، مع العلم أن قول الإمام (عليه السلام) حجّة حتّى لو لم يأت بالدليل ، ولكن أحياناً بل مكرّراً يقدّم الإمام (عليه السلام) الدليل حتّى في المسائل الفقهيّة . حيث نرى في باب الوضوء أن زرارة يطالب الإمام (عليه السلام) بالدليل في أن مسح الرأس غير منظور فيه استيعاب الرأس كلّه ، فيجيبه الإمام (عليه السلام) معلّلاً: «لمكان الباء»(1) في قوله تعالى في آية الوضوء: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}(2) حيث جاء بالباء ، بخلاف ما إذا تتحدث عن الغسل {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} حيث لا يوجد هناك (باء) ، وهذا يعني أن الإمام يريد أن يبين لزرارة: إنك إن أمعنت النظر بالآية وتحريت الدّقة فيها حينذاك يكون بإمكانك أن تفرّق بين المسح والغسل ، ففي الغسل تطرح مسألة الاستيعاب وأمّا في باب المسح فإن الباء تفيد التبعيض ، وبناءاً على هذا فإنّ المسح يكون على بعض الرأس دون البعض الآخر .
نعود إلى بحثنا ، فالراوي يسأل الإمام (عليه السلام) عن دليله في أ نّ المقصود باُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) هم أهل البيت النّبي خاصّة؟ فقال (عليه السلام): قول الله عزّوجلّ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ، فهذه الآيات دليل على أن الاُمّة المسلمة

1  . وسائل الشيعة ج 3 الصفحة: 364 ، الحديث 3878 .
2 المائدة: 6 .

(الصفحة36)

هم عترة الرسول (صلى الله عليه وآله)  . ثمّ يصل الإمام (عليه السلام) إلى هذه النتيجة فيقول: فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما اُمّة مسلمة [أي من تلك الاُمّة] من الجماعة الخاصّة ، من بني هاشم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . . . إلى آخر الحديث .
وكما ترون فإنّ الإمام (عليه السلام) قد استدلّ بهذه الآية ، ومعنى استدلاله هو أ نّ ظاهر الآية يتضمّن هذا المعنى ، وبناءاً على ذلك يتّضح أ نّ قول الإمام من أ نّ المقصود من الاُمّة هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ليس من باب التعبّد أو التفسير أو التأويل .

من الذي سمّاهم بالمسلمين؟
تقول الآية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الكلام يدور عن الأب ، فمن هم أؤلئك الذين كان إبراهيم أباهم ، وهم ذرّيته؟
في الآيات التي بحثناها سابقاً عبَّر عنهم القرآن الكريم وعلى لسان إبراهيم بقوله: {ومن ذرّيتنا} ، وأمّا في هذه الآية بما أن ضمير المتكلم يعود على الله سبحانه وتعالى لذلك عبّرت عنهم الآية الكريمة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، هنا الضمير «هو» قد يبدو لأوّل وهلة أ نّه يعود على إبراهيم ، ولكن في الواقع أ نّ «هو» يعود على الله سبحانه وتعالى ، والموضوع له ثمَّة علاقة بإبراهيم ، على اعتبار أ نّ الآية لها علاقة ومدخلية بدعاء إبراهيم ، ولكنّنا لا نستطيع أن نرجع الضمير «هو» على إبراهيم باعتبار تكملة الآية ، حيث جاء فيها: {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا . . .}أي في الكتب الإلهية السابقة وفي القرآن أيضاً ، ومن هنا لا يحقّ لنا أن نربط الضمير بـ«إبراهيم» لأ نّنا لا نستطيع أن نقول بأن إبراهيم هو الذي أطلق على أئمّتنا (عليهم السلام)تسمية الاُمّة المسلمة . إذن لابدّ وأن نرجع الضمير إلى الله سبحانه وتعالى الذي

(الصفحة37)

صرّح بهذه الحقيقة على لسان القرآن: {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا . . .}استجابة لدعاء إبراهيم .

مؤيّدات وقرائن على التفسير المختار
ثمّ إنّ القرآن الكريم ، يذكر الهدف من ذلك بقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وقلنا فيما سبق أ نّ الآية تطرح ثلاث عناوين: أحدها هو عنوان الرّسول ، والآخر هو النّاس ، والعنوان الثالث هم المخاطبين بقوله: {أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أيّ ذرية إبراهيم (عليه السلام) ، وقلنا : إنّ هناك قرائن كثيرة يفهم منها أ نّ المخاطبين هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) .
أحد هذه القرائن هو ما تطرّقنا إليها في الآيات السابقة من سورة البقرة ، وهو قوله: {ومن ذرّيتنا} وقد عبرّ عنهم في هذه الآية بـ{أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
القرينة الاُخرى هي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، فالإجتباء إنّما يتمُّ بشروط ومواصفات خاصّة .
والقرينة الثالثة هي قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .
وهناك قرينة أخيرة قد أشرت إليها سابقاً ، ولكنّها بحاجة إلى شرح وتوضيح ، وهي نفس قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، فالأمر بالجهاد هنا ليس موجّهاً إلى عامّة النّاس ، لماذا؟ لأنّ القرآن تحدّث عن الجهاد في موارد كثيرة ، الجهاد في سبيل الله ، ومن أجل الأموال والأنفس ، فالجهاد مع ما فيه من الصعوبة ، إلاّ أنّه يخصّ الجميع ، ولا يقتصر على جماعة دون جماعة . وكلّ واحد منّا يمكنه أن يكون على نحو معيّن من المجاهدة ، ولكن للجهاد درجات ومراتب .


(الصفحة38)

الجهاد في الله والجهاد في سبيل الله
فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1) يشعرنا أ نّ المجاهدة في الله غير المجاهدة في سبيل الله ، حيث أن لها آثاراً ، وآثارها هي قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، فالذي يجاهد على حدّ تعبير القرآن (فينا) ، أي في كافّة الأبعاد الإلهيّة وفي جميع الاُمور التي تمّت إلى الله سبحانه وتعالى بصلة يقول عنه الله سبحانه وتعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي نرشدهم إلى السبيل التي تؤدّي بهم إلى الله ، فالقرآن الكريم أشار في هذه الآية الشريفة إلى المجاهدة في أعلى مراتبها ، حيث يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ثمّ يضيف قائلاً: {حقَّ جهاده} .
هل يحقُّ لنا هنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه أغلب المفسّرون من أن المراد في هذه الآية هو أن تصلّوا وتصوموا؟
هل لنا أن نحمل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} على فعل الطاعات واجتناب المعاصي؟
هل يوجد هناك ثمّة آية اُخرى في القرآن الكريم عبَّر فيه سبحانه وتعالى عن الطاعة والمعصية بمثل هذا التعبير؟
لا شكّ أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعبّر عن مقام شامخ ورفيع . ولذلك نرى أن القرآن الكريم لم يكتفِ بالمجاهدة في الله ، بل أضاف إليه قوله: {حقَّ جهاده} ، والآن كيف يمكن لنا أن نفسّر ذلك كلّه بأن القرآن يريد أن يقول: ألزموا جانب الطاعة ولا ترتكبوا المعاصي؟
أضف إلى ذلك قوله تعالى في تتمة الآية: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} فإنّه لابدَّ وأن يتطابق مع ما تقدّم من الكلام ، وأن يكون من سنخه ، وبناءاً على ذلك فهل يصح أن نفسّر

1  . العنكبوت: 69 .

(الصفحة39)

الآية بهذا المعنى ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا اجتباكم كامَّة بكامل أفرادها ، إذن عليكم أن تطيعوه ولا تعصوه؟ وهنا نتساءل: ألم يتوجب على الاُمم السابقة اجتناب المعصية؟ فما هي الميزة في قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} التي يتوجب من خلالها لزوم الطاعة واجتناب المعصية؟ فالاُمم الاُخرى السابقة هي الاُخرى أمرت بأن تلزم جانب الطاعة وتجتنب المعصية .
الآية هنا تخاطب الأئمّة (عليهم السلام) وتقول: بأنّكم قد اجتباكم الله واختاركم من دون خلقه ، ولذلك فإنّ المسؤوليّة الملّقاة على عاتقكم والواجبات المنوطة بكم تختلف عن عامّة النّاس وعامّة المسلمين . أنتم عليكم أن تكونوا مصداقاً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} بل يؤكد في الآية الاُخرى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أنكم لابدّ وأن تجسّدوا أعلى مراتب الجهاد في الله لقوله تعالى: {حقَّ جهاده} ، لماذا؟
لأ نّ الله عزّوجلّ هو الذي اجتباكم ، أنتم قادة الاُمّة أنتم المتصدّون لمقام الإمامة ، وبديهيّ أن المسؤوليّة الملقاة على عاتق من اجتباهم الله واختارهم هي مسؤوليّة عظمى ، وتختلف كثيراً عن المسؤولية الملقاة على عاتق عامّة النّاس ، فإذا قارنّا هنا بين الآيتين ، آية {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وآية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لرأينا أن الخطاب هنا لايمكن أن يكون موجهاً لعامّة النّاس ، بل هو خطاب خاصّ موجّه إلى الذين اجتباهم الله تبارك وتعالى(1) .


1  . اشكال وجواب قد يقال: إنّ آية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والثّانية عامّة تشمل جميع المخاطبين من المؤمنين ، فكذلك الاولى .
فنقول إنّ: {اتَّقُوا اللهَ} غير {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ولا توجد هناك أية علاقة بين الإثنين .
فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} خطاب عام للجمع ، والجميع مكلّفون بالأخذ به ، أما الآية محل البحث فقد اثبتنا بالقرائن العديدة أنها تخصّ عدة معينة من المؤمنين ، ولعلّ في الآية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} من المعاني مالا يمكن أن ندرك كنهها بعقولنا .

(الصفحة40)

ومن هنا ، يبدو جلّياً ومن خلال منطوق الآية والآيات التي تحدثت عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، أن المخاطبين في هذه الآية هم الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ولو لم تكن هناك أيّة رواية في تفسير هذه الآيات فإن التدبّر في القرآن يكفي للتوصّل إلى هذا المعنى ، ومزيداً للأطمئنان نستشهد برواية في تفسير هذه الآية لرفع أية شبهة يمكن أن ترد في هذا المجال .

رواية اُصول الكافي
في كتاب اُصول الكافي يوجد باب في أن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) شهداء الله على خلقه ، الرواية الرابعة في هذا الباب رواية عالية السند ، وإن كانت هناك ثمَّة مناقشة في السند ، ولكنّنا حققنا فلم نجد أيّ إشكال أو مناقشة في واقع الأمر .
الرواية عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، وقد ناقش البعض في إبراهيم بن هاشم ، ولكنا حققنا في مجال الفقه في شخصيّة هذا الرجل وتبيّن لنا أ نّ الرجل ثقة ، وإمامي ، وصحيح الرّواية ، وإبراهيم بن هاشم هذا يروي عن محمد بن أبي عمير عن ابن اُذينة عن بريد العجلي ـ وكلّهم من الرّواة المعروفين ، إذن الرواية جيّدة السند ، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما معنى قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ومن هو المخاطب في هذه الآية الشّريفة؟
قال (عليه السلام): «إيّانا عنى ونحن المجتبون» .
ثمّ يسأله الرّواي عن الآية: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
فأجابه (عليه السلام) بقوله: «إيّانا عنى خاصّة» .
فإبراهيم أبوهم حقيقة ، ثمّ سأله عن معنى قوله تعالى: {سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} ، فأجاب (عليه السلام): «الله سمّانا مسلمين من قبل في الكتب الذي مضت وفي هذا القرآن» وعن معنى الآية الكريمة: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
<<التالي الفهرس السابق>>