في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة141)

الهدى، وأولادك منك ، فأنتم قادة الهدى والتقى ، والشجرة التي أنا أصلها وأنتم فرعها ، فمن تمسّك بهافقدنجا ، ومن تخلّف عنها فقد هلك وهوى ، وأنتم الذين أوجب الله ـ تعالى ـ مودّتكم وولايتكم ، والذين ذكرهم الله في كتابه ووصفهم لعباده ، فقال عزّوجلّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً . . .} فأنتم صفوة الله من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران، وأنتم الاُسرة من إسماعيلوالعترة الهادية من محمّد (صلى الله عليه وآله) »(1).
فالحديث الشريف أشار استناداً إلى الآية الشريفة إلى عدّة أُمور ، منها: أنّ عليّاً (عليه السلام) وولده هم أئمّة الدين وزعماء الأُمّة وكهف الورى ، وهم الفروع لشجرة الإسلام المُباركة ، وأنّ الله هو الذي حباهم بهذه المقامات من بين آل إبراهيم ، وقد استدلّ النبي (صلى الله عليه وآله) لاثبات هذه المقامات بالآية الشريفة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى  . . . .} .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ آل إبراهيم لا يقتصرون على محمّد (صلى الله عليه وآله) وولد إبراهيم ، بل الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم آل إبراهيم ، وأنّ آل إبراهيم المصطَفون إنّما ينتهون إلى هذه السلسلة الجليلة والعترة الهادية .
فقد استدلّ النبي (صلى الله عليه وآله) بهذه الآية وقال: أنتم صفوة الله من آدم ونوح وآل إبراهيم . فعليّ وأولاده صفوة الله ، ولمّا كانوا كذلك فهم أهل الإمامة والزعامة المتوفّرة فيهم شرائطها .
ونفهم من ذلك أنّهم مبرّأون من كلّ عيب ونقص وجهل ، بل ليس في هذه الشجرة إلاّ الإخلاص والاصطفاء الإلهي ، وهنا لابدّ من القول بأنّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يمثّلون قمّة السموّ والكمال والرفعة العلمية والتقوى والورع والطهارة وكافّة الفضائل الإنسانية ، من قبيل الشجاعة والإقدام والعلم والزهد والكرم وسائر الصفات ; لأنّهم صفوة الله .


(1) تأويل الآيات الظاهرة 1: 106 ح 13، نوادر الأخبار: 126 .

(الصفحة142)

خلاصة الآيات والروايات :
لقد تعرّضت هاتان الآيتان {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى . . . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض . . .} إلى تأريخ الإنسان منذ ظهوره حتّى انقراضه ، كما خاضتا بصورة مقتضبة في زعامة البشرية وأبطالها من الصفوة الذين حازوا شرائطها حتّى تزعّم كلّ واحد منهم عالمه المعاصر ، حيث ابتدأت هذه الزعامة بآدم (عليه السلام) واختتمت بآل إبراهيم (عليه السلام)  .
وقد كانت خلاصة آل إبراهيم قد تمثّلت بالإمامة الإسلامية التأريخية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي اُختتمت به النبوّة ، وقد كان الهدف الأصيل لإبراهيم (عليه السلام) واستمرار دعوته قد تمثّل بظهور الصفوة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)  ، حيث لم تختتم الزعامة بالنبي (صلى الله عليه وآله) من آل إبراهيم ، بل استمرّت في عقبة من بعده من أهل بيت النبوّة الذين عيّنوا من قِبل الله لمواصلة خطّ النبي (صلى الله عليه وآله)  ، ولم يكن هؤلاء سوى الأئمّة الهداة (عليهم السلام)  ، ولا يمثّل هذا الكلام استظهاراً للآيتين الكريمتين ، بل هذا ما عهده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)  ، إذ قال له: أنتم صفوة الله من آدم ونوح وآل إبراهيم . . . الذين خصّكم الله بالآية {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى . . .} .
وعليه فزعماء المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)  ، وحيث كانوا الصفوة المختارة على مدى التأريخ ، كان لابدّ من القول أنّهم مطهّرون مبرّأون من كلّ عيب ودنس ، وهم في مستوى الأنبياء في الإخلاص والإحاطة بالغيب ، بل لمّا كانوا استمراراً لهدف إبراهيم وزعماء الأُمّة إلى الأبد . ينبغي الإذعان بأنّهم الأعلم والأقدر من سائر الزعامات على مرّ العصور ، وهم الجديرون بتطبيق المبادئ الحقّة لرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)  .
وعلى ضوء ما تقدّم فقد اتّضحت شرائط الإمامة وصفاتها العالية ، وأنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم خُلّص عباد الله العالمون بأسرار الدنيا والآخرة ، البعيدون عن كلّ عيب ونقص ، والمتّصفون بالزهد والورع والتقوى والعلم والشجاعة والسماحة ،

(الصفحة143)

فهم الصفوة المختارة من آل إبراهيم ، إبراهيم رائد التوحيد والعبودية المحضة لله ، بل هم صفوة الله إلى الأبد وحملة علمه الذي لا يعرف الانقطاع .

ملاحظة :
الأُسلوب الذي درجنا عليه في الكتاب يتمثّل بالدراسة والتحقيق في القرآن الكريم من أجل إثبات أصالة الإمامة وشرائطها ، فالنهج هو التعمّق في الآية من أجل التعرّف على هذه الاُمور ، الأمر الذي يجعل الكلام يطول أحياناً شئنا أم أبينا ، وقد تجنبنا التعرّض لسائر الآيات التي أوردها علماء الإسلام في مصنّفاتهم بشأن الإمامة خشية التطويل والملل ، وإلاّ فهناك عدّة شواهد معتبرة بشأن الإمامة وشرائطها في القرآن ، ولعلّ من المفيد التعرّض إليها ، غير أنّ طريقتنا في البحث تركّزت على لفت انتباه العلماء إلى المضامين القرآنية .
وهناك ملاحظة أُخرى يجدر الالتفات إليها ، وهي أنّنا قد طرحنا سابقاً سؤالاً في أنّ قيود الإمامة هل هي قيود مفروضة تنسجم والفطرة السليمة في الإقرار بها أم لا؟
وقد اتّضحت الإجابة خلال الأبحاث ، حيث كان البحث يختصّ بشرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن ، وهي الشرائط التي تستسغيها الفطرة السليمة والعقل السليم ، بل أنّ العالم ليتعطّش إلى زعامة مثل هؤلاء الأئمّة ، ولذلك لا نرى حاجة لبحث هذا الأمر بصورة مستقلّة .
وأمّا دراسة عدد الشرائط فلا نرى له من ضرورة ، ويبدو أنّ ما أشار إليه القرآن كاف بهذا الشأن ، ولذلك لم نتطرّق إلى هذه الشرائط بصورة مستقلّة ، وهل أنّ القرآن صدّق أو لم يصدّق ما أورده علماء الكلام بهذا الخصوص . ونتناول الآن بالبحث في علم الإمام .


(الصفحة144)







(الصفحة145)




علم الإمام (عليه السلام)

الزعامة في الإسلام:
اتّضح ممّامرّ سابقاًأنّ الزعامة في الإسلام ليست وليدة الاستفتاء والصراعات السياسية والقفز على المواقع من أجل السيطرة على مقدّرات المسلمين ، بل أنّ الرئاسة الإسلامية منصب إلهي قد فوّضه الله سبحانه في إطار النظام الإسلامي المتكامل إلى الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)  ، وأنّ اشتمالهم على الشرائط جعلت الله يفيض عليهم هذا المقام العظيم الذي لا يسع الآخرين النهوض به .
كما أشرنا إلى طائفة من شرائط الإمامة ، أمّا البحث المهمّ الذي يشغل الأذهان ويحظى باهتمام الجميع فيكمن في علم الإمام والزعيم الإسلامي ، الذي سنسلّط الضوء عليه في هذا البحث ، وهنا تواجهنا بعض الأسئلة بهذا الشأن ، منها:
1 ـ هل الإمام عالم بالغيب ، أم أنّ هذا العلم مختصّ بالذات الإلهية المقدّسة؟ وإن كان عالماً بالغيب ، فما كيفية هذا العلم ، وهل يتوصّل إلى هذا العلم بمجرّد بلوغه مقام الإمامة بحيث يدرك الغيب والخفاء ، أم أنّه يعتمد بعض الوسائط لبلوغ مثل هذا العلم؟


(الصفحة146)

وبعبارة أُخرى : فهل مجرّد بلوغ ذلك المقام يستلزم الوصول إلى مقام معنوي رفيع بحيث لا يمكن أن يخفى عليه شيء ، أم هنالك من المغيّبات ما ليس له إليها من سبيل رغم بلوغه ذلك المقام بغضّ النظر عن الوحي أو الإلهام أو سائر الوسائط؟
2 ـ هل تنحصر علوم زعماء الإسلام وأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) في إطار العلم بالقرآن والأحكام القرآنية والتعاليم الإسلامية في حين ليس لهم مثل هذا العلم بالحوادث المستجدّة ومستقبل المسلمين ومصير الإسلام ، أم أنّ علمهم واسع شامل بخصوص القرآن والأحكام والتعاليم الإسلامية ومستقبل الاُمّة و . . .؟
3 ـ هل للأئمة علم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة أم لا؟ وعلى فرض وجود مثل هذا العلم ، فهل علمهم بالأشياء حضوري أم حصولي؟ وبعبارة أُخرى : هل «إذا شاءوا علموا» كما يقول المتكلّمون بحيث ليس لهم مثل هذا العلم دون هذه المشيئة ، أم أنّ علمهم فعليّ بجميع هذه الأشياء؟
ونتناول الآن دراسة القسم الأوّل ، أي علم غيب الأئـمّة والأنبياء (عليهم السلام) من وجهة نظر القرآن الكريم .

القرآن وعلم الأنبياء (عليهم السلام) :
ليس لأيّ من الأنبياء من إحاطة بأسرار الخلق وتعاليم الدين بصورة تلقائية ، وأنّهم إنّما يتعلّمون كلّ شيء من خلال الوحي والنفحات الربّانيّة ، وقد صرّح القرآن بتعليمه آدم الأشياء ـ ضمن سرد قصّته ـ وأنّ الملائكة أعربوا عن عجزهم العلم بالأشياء دون رفدهم بها من الله {وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}(1) . وقال بشأن عيسى (عليه السلام) : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ


(1) سورة البقرة : الآية 31 ـ 32 .

(الصفحة147)

وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالاِْنجِيلَ}(1) .
وقد ذكرنا سابقاً أنّ علم الأنبياء (عليهم السلام) يستند إلى الوحي ، بينما يستند الأوصياء في علمهم إلى الأنبياء . وعليه : فهم ليسوا فقط لا يطّلعون على الغيب تلقائياً ، بل حتّى علمهم بأسرار النبوّة إنّما هو من تعليم الله ، حتّى علمهم بقصص الاُمم الماضية والأنبياء لا يتأتّى من بذل الجهود والتعرّف عليها من خلال الطرق المتداولة . والوحي هو سبيلهم في الإحاطة بهذه الاُمور ، وقد أفصح القرآن الكريم كراراً عن هذه الحقيقة بشأن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)  ، فعلى سبيل المثال يستعرض القرآن قصّة يوسف من أجل استنباط بعض الدروس والعبر التي لم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) على علم بتلك الأحداث {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(2) .
وبناءً على ما تقدّم فسبيل الأنبياء إلى العلم هو الوحي ، وبغضّ النظر عن الوحي فهم كسائر الناس في التعرّف على الحقائق وتشخيص الاُمور والتعامل مع الحوادث ، كما يبدون أحياناً دون الوحي أفراداً عاديين من حيث العلم ببعض الاُمور وكأنّهم لا يحسنون معرفة الأشياء المحيطة بهم . فنوح (عليه السلام) ـ وهو من أنبياء أولي العزم ، وطبق النظرة الابتدائية دون الاستناد إلى الوحي ـ يرى صلاح ولده ، فيستغيث بالله من أجل إنقاذه من بلاء الطوفان {رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى}(3) ، فأتاه الخطاب الإلهي الحاسم الذي يتضمّن المنع عن مثل هذا الطلب {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(4) .


(1) سورة آل عمران : الآية 48  .
(2) سورة يوسف : الآية 3  .
(3) سورة هود : الآية 45  .
(4) سورة هود : الآية 46  .

(الصفحة148)

فلم يجد نوح بدّاً من الانصراف عن طلبه والاستعاذة بالله من تكرار مثل هذه الطلبات ، {قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ}(1) .
إذن ، فليس هنالك من غبار يشوب هذه الحقيقة في أنّ سبيل الأنبياء إلى العلم هو الوحي ، وليس لهم من سبيل إلى الإحاطة بجميع الحقائق دون ذلك الوحي ، ولا يلزم على النبي كونه نبيّاً أن يلمّ تلقائياً بكافّة الاُمور الغيبية ويحيط خبراً بجميع الحوادث . وهذا هو الأمر الذي كشف القرآن عنه النقاب حين خاطب النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قائلا: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}(2) .
إذن ، فليس صحيحاً القول بأنّ النبيّ لكونه يشغل هذا المنصب الإلهي الرفيع يكون عالماً بالغيب بالذات ، وأنّ مقام النبوّة سيزيل عنه كلّ حجب المجهول ، وبعبارة اُخرى: النبوّة ليست وسيلة لعلم الغيب ، بل النبيّ لا يستغني في كلّ آن عن الإفاضة الإلهية في إدراك المجاهيل ، وهذا من الاُمور التي لا نقاش فيها ، إلاّ أنّنا حين نتتبّع القرآن والآيات الواردة بشأن النبوّة نفهم أنّ البارئ سبحانه قد أفاض عناياته الخاصّة على صاحب هذا المقام ، بما يجعله يقف على جميع الاُمور المجهولة وماضي ومستقبل البشرية والحوادث التي تواجهها في مسيرتها ، حيث اختصّ سبحانه بعض عباده بهذه الإحاطة ، الأمر الذي يجعل صاحب مقام الزعامة الدينية عالماً بالغيب .
وإليك طائفة من الآيات الواردة في علم الغيب ، وهنا يمكننا أن نقسّم الآيات الكريمة إلى ثلاث طوائف:
1 ـ الآيات التي حصرت علم الغيب باللله .


(1) سورة هود : الآية 47  .
(2) سورة هود : الآية 49  .

(الصفحة149)

2 ـ الآيات التي تنفي عن الأنبياء والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) العلم بالغيب .
3 ـ الآيات الدّالة على إفاضة الله لعلم الغيب على أنبيائه .
نكتفي بذكر نموذجين من الآيات الواردة في القسم الأوّل:
1 ـ {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيبَ إِلاَّ اللَّهُ}(1) .
2 ـ {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(2) .
ومن نماذج القسم الثاني من الآيات:
1 ـ {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ}(3) .
2 ـ {قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ}(4) .
وأمّا نماذج القسم الثالث ، فهي:
1 ـ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ}(5) .
2 ـ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}(6) .


(1) سورة النمل : الآية 65  .
(2) سورة الأنعام : الآية 59  .
(3) سورة الأنعام: الآية 50 .
(4) سورة الأعراف : الآية 188  .
(5) سورة الجن : الآية 26 ـ 28 .
(6) سورة آل عمران : الآية 179  .

(الصفحة150)

مفاد الطوائف الثلاث من الآيات :
1 ـ علم الغيب بصورة تلقائية مختصّ بالله ، والله وحده العالم بالغيب بالذات وأنّ جميع الاُمور حاضرة لديه .
2 ـ أنّ الأنبياء لا تتكشّف لهم حجب الغيب بمجرّد بلوغهم النبوّة .
3 ـ توضّح الطائفة الثالثة من الآيات حصر هذه القدرة في الله ونفي علم الغيب عن الأنبياء ، كما تشير إلى ماهية هذا الانحصار وماهية عدم اطّلاع النبي على الغيب ، فهي تشير إلى أنّ الله إنّما يفيض هذه القدرة على رسله فقط ، وأنّه قد حباهم بهذه الكرامة من بين الخلق فأطلعهم على المغيَّبات ، وعليه: فليس للنبيّ تلقائياً من علم بالغيب ، وأنّ الله يفيض هذه الكرامة على أنبيائه بما يكشف لهم الحوادث الخفيّة والحقائق المكنونة ، ويُنير لهم الظلمات من خلال الوحي ، بل يمكن الجزم ـ على ضوء الآية 179 من سورة آل عمران ـ أنّ مقام الرسالة معناه العلم التامّ بالغيب ، وأنّ عمل الرسول هو الاستخبار بعلم المغيَّبات ، حيث يتمكّن بواسطة هذا العلم من قيادة الأُمّة والأخذ بيدها إلى شاطئ الأمان والسعادة في الدارين .
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ الفصل المميّز للرسالة هو بلوغ الرسول منزلة تجعله عالماً بالغيب ، فهل ينطق الرسول عمّا سوى الغيب؟ وهل كشف الحقائق المجهولة وإبانة أسرار الوجود ، وإماطة اللثام عن مستقبل البشرية ومصيرها ، وإزالة الحيرة والاضطراب عن الأُمّة ، وتعريفها بالحوادث إلى يوم القيامة ، وما ينتظرها في ذلك اليوم ، هي أشياء اُخرى خارج ذلك العلم؟ وهل له ممارسة مثل هذه الأُمور بعيداً عن العلم بالغيب؟
نعم ، إنّ بعض الرسل قد لا يبلغون كافّة مراحل كمال العلم الغيبي ، فهم يتفاوتون في تلقّي الإفاضات الإلهية {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(1) ،


(1) سورة البقرة : الآية 253  .

(الصفحة151)

لكن ليس منهم من شذّ عن تلك الإفاضات وحرم منها ، ولم تتح هذه الإفاضات بأكملها إلاّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن كان (صلى الله عليه وآله) ـ على ضوء بعض النصوص القرآنية ـ ليس مطّلعاً على بعض الحوادث {يَسْئَلُكَ الْنَّاسُ عَنِ الْسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ}(1) .
فالنتيجة التي نخلص إليها من مجموع الطوائف الثلاث هي أنّ الغيب الذاتي مختصّ بالحقّ تبارك وتعالى ، وأنّ الوحي هو وسيلة الأنبياء للتوصّل إلى هذا العلم ، ولكي يتّضح الموضوع أكثر لابدّ من تسليط الضوء على هاتين الآيتين:
1 ـ الآية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(2) ، أولا يفهم من هذه الآية انحصار العلم بالغيب بذات الله تعالى؟ ونقول: لو كان المراد أنّه ليس هنالك أحد سوى الله له علم بكيفية أسرار الخلق وعلم الغيب لكان من المناسب أن يحصر هذا العلم به سبحانه لا مفاتحه .
2 ـ لقد وصف سبحانه في بعض الآيات ذاته المقدّسة بعلاّم الغيوب ، أي عبّر بصيغة المبالغة ، كما ورد ذلك في الآية {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(3) .
وهكذا عبّر بهذه الصيغة في سائر الآيات ، أفلا يشعر هذا بأنّ العلم المقتصر على الحقّ تعالى هو العلم بمعنى المبالغة؟

علم الأئمّة (عليهم السلام) :
لقد اتّضح لدينا لحدّ الآن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن يستمدّ علمه بالأشياء من


(1) سورة الأحزاب : الآية 63  .
(2) سورة الأنعام: الآية 59 .
(3) سورة التوبة: الآية 78 .

(الصفحة152)

الإفاضات الغيبية فهو عالم بالغيب ، ولكن ماذا بشأن الأئـمّة؟ هل الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالغيب أيضاً؟ وهل ورد في القرآن ما يفيد استنادهم إلى المدد الغيبي في إمامتهم واطّلاعهم على المغيَّبات ولو عن طريق النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟
لا شكّ أنّ علم الأئـمّة (عليهم السلام) هو حصيلة إرشادات وتوجيهات النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله)  ، كما لا شكّ أيضاً أنّهم لا يستندون في علمهم إلى الوحي ، لكن ليس هنالك من شكّ أيضاً ـ وكما اتّضح من المباحث السابقة ـ في أنّهم عيّنوا من قِبل الله إلى جانب كون إمامتهم ممّا تقتضيه وظيفة مواصلة أهداف الرسالة ، وتطبيق الأحكام الإسلامية وتفصيل أسرار القرآن علاوة على استخلافهم من جانب النبي (صلى الله عليه وآله)  .
وبعبارة أوضح: أنّ الإمامة من الأُصول الرئيسيّة للإسلام وكافّة الشرائع الإلهية ، وأنّ الإمام منصّب من قبل الله للنهوض بأهداف الإسلام وزعامة الاُمّة وتوجيهها في مسيرتها الحياتية ، وخلاصها من مصاعب الحياة ، والأخذ بيدها إلى الصلاح والفلاح ، وهنا لابدّ من معرفة: هل أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالغيب والحوادث الخفيّة وتفاصيل الأُمور ، أم أنّ علمهم يقتصر على القرآن والأحكام؟
قد ذكرنا آنفاً أنّ لهؤلاء الهداة إمامة الأُمّة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)  ، وقد نصّت آية الطاعة {أَطِيعُوا اللَّهَ . . .} بولايتهم للأمر وتشكيل الحكومة الإسلامية ، فهل ينبغي أن يكون الحاكم الإسلامي عالماً بالغيب ، وما رأي القرآن الكريم بهذا الشأن؟

نقطة ضرورية:
لا ندَّعي في هذه الأبحاث أنّ مفاد الآيات الكريمة ـ التي سنعرض لها لاحقاً ـ صريحة في أنّ الإمام بالاستناد إلى الفيض الإلهي عالم بالغيب ، بل ما تفيده الآيات الواردة بهذا الشأن ، هو أنّ الأفراد الذين بيدهم مقدّرات المسلمين على أنّهم

(الصفحة153)

حكّام المسلمين وأئمّتهم لابدّ أن تكون دعائم حكومتهم مستندة إلى الإستمداد الغيبي ، وأنّهم يعتمدون على العلم الغيبي الذي يفاض عليهم ، وأنّ الإمام إنّما يُمارس زعامته بما يفيض الله عليه ، وحيث ثبت في محلّه أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هُم ولاة الأمر والحكّام ، فمن المفروغ منه أن تستند أسس حكومتهم إلى العلم الغيبي .
وبعبارة اُخرى: أنّ الحكومة الإسلامية وتدبير الأُمور على أساس الإطار الإسلامي وتصريف شؤون القضاء وإدارة شؤون البلاد وتعريف الأُمّة بوظائفها وكيفيّة التعامل معها وتوجيهها وإرشادها ، كلّ ذلك لابدّ أن يستند إلى العلم الغيبي ، وعليهم أن يبلغوا الأُمّة ما ألهمهم الله من مكنون غيبه .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم الإسلامي إنّما يستند إلى العلم الغيبي في حكومته وتوجيهه وزعامته للاُمّة ، ولمّا كانت الحكومة الإسلامية للأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان لابدّ من علمهم التامّ بالمغيَّبات والحوادث الخفيّة وما يواجه الإسلام والمسلمين خلال المسيرة .
واستناداً لهاتين المقدّمتين ـ اللتين هما بمثابة الصغرى والكبرى ـ يثبت أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) زعماء الدين مطّلعون على الغيب ، عالمون بالحوادث الواقعة وما يمتّ بصلة لسعادة الاُمّة .
أمّا كبرى هذا الدليل فهي الآيات التي سنتطرّق إليها ، والتي تفيد استناد الحاكم الإسلامي لعلم الغيب ، وأمّا صغراه فهي الآيات السابقة التي صرّحت بأصل الإمامة على غرار أصل النبوّة ، وأنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) من بني هاشم هم أُولو الأمر بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)  .
ونخوض الآن في الآيات التي تمثّل كبرى الدليل ، أي الآيات التي تفيد ضرورة استناد الحاكم الإسلامي في شؤون الحكومة إلى علم الغيب وكونه عالماً بالغيب .


(الصفحة154)

الآية الأُولى :
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}(1) .
واضح أنّ ما أرى الله نبيّه وأراده هو أن تكون حكومته ودعائمها قائمة على أساس ذلك العلم بالمغيّبات ، وقد ذكر كِبار المفسّرين من قبيل الشيخ الطوسي ـ المحقّق المعروف ـ في سبب نزول الآية أنّ الإخوة الثلاثة من بني زريق وهم بشر وبشير ومبشّر سرقوا سيفاً ودرعاً وطعاماً من عمّ قتادة بن النعمان ، فأتى قتادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطلب من عمّه لاسترداد تلك المسروقات ، وقد كان قتادة وجيهاً محترماً لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ; لأنّه شهد بدراً . فبعث السرّاق بأسير بن عروة ـ وكان منطيقاًـ يشفع لهم عندالنبي (صلى الله عليه وآله)  ، فسمع ابن عروة مقالة قتادة ، فقال مُدافعاً: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ هؤلاء الإخوة من أشرافنا ، فلا أرى أن تأذن بأن يساء إلى المسلمين عندك ، فحمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتادة وعنّفه على اتّهاماته . وكان لابدّ للنبي (صلى الله عليه وآله) من العمل بالظاهر من تعنيفه ، لرميه بعض المسلمين بالسرقة دون الإتيان بدليل أو حجّة . . . فترك قتادة المجلس حزيناً ورجع إلى عمّه مغموماً فقال: ليتني متّ ولم أقل للنبي (صلى الله عليه وآله) ما قلت(2) .
فنزلت الآية لتطّلع النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الحقيقة وتحكم بخيانة الإخوة الثلاث وتطلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يستند في حكمه إلى العلم الواقعي ، أي العلم بالمغيّبات ، رغم كون ظاهر الأمر يقتضي بما قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويعنّف قتادة ، إلاّ أنّ الله أشار عليه بالحكم استناداً إلى الغيب وما أراه سبحانه وألاّ يدافع عن الخائن ، فالذي يفيده سبب النزول أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبغضّ النظر عن الوحي لا يحيط ببعض الأُمور الجزئية ،


(1) سورة النساء : الآية 105  .
(2) تفسير القمّي 1 : 150 ـ 151، التبيان في تفسير القرآن 3: 316  ـ 317، مجمع البيان 3: 174 ـ 175 .

(الصفحة155)

إلاّ أنّه يطّلع عليها وعلى تفاصيل سائر الحوادث من خلال الاستمداد من الغيب ، فالغيب من شأنه أن يحدّد الخائن والسارق والبريء . فلايخفى شيء على الحاكم الإسلامي ، وهو عليم بالأسرار الخفيّة ، وأنّ الله قد أراه ما تقوم به حكومته .
وإذا تأمّلنا العبارة «ما أراك الله» التي وردت بصيغة الماضي وطبّقناها على هذه الواقعة ، لإفادتنا عدم وجود أيّ شيء مخفي ومستور على النبي (صلى الله عليه وآله)  ، وهو عليم بالأشياء بنبوّته المستندة إلى المدد الغيبي ، فليس هنالك من ترديد بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في أنّ أولئك الإخوة الثلاث سارقون خائنون .

نظرة أعمق:
رغم أنّ الآية الكريمة ـ بالالتفات إلى سبب النزول ـ مختصّة بحادثة مع النبي (صلى الله عليه وآله)  ، إلاّ أنّ التعمّق في الآية يفيد ضرورة استناد حكومة وزعامة الحاكم الإسلامي ـ الذي نصّبه الله على الخلق ـ إلى علم الغيب وما يريه الله ويكشف له من مكنونات الأُمور ; لأنّ مفاد الآية {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَهُ}ـ مع إلغاء خصوصية هذا المورد ـ أنّ الحاكم الإسلامي لا يحكم إلاّ بما يريه الله ويرشده إليه ، وهذا ما يستلزم الاستنتاج بعلم الحاكم والإمام بالمغيّبات والحوادث الخفيّة ، ولو كانت تلك الحادثة جزئية وفي زمان خاصّ ، وحيث نصّت الآيات السابقة على أ نّ الإمام خليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحوادث الواقعة وزعامة الأُمّة وولاية شؤونها الإسلامية فهو يتمتّع بما يتمتّع به النبي (صلى الله عليه وآله) من علم ، والله أعلم .

الآية الثانية:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(1) .


(1) سورة يوسف: الآية 101 .

(الصفحة156)

الأحاديث بمعنى «الإخبار عن حوادث الزمان» ، فالآية تفيد تعليمه حوادث الزمان بتفاصيلها ، أي العلم الغيبي .

منصب يوسف (عليه السلام) :
إنّ يوسف الصدّيق الذي واجه تلك المصائب والويلات التي ملأت حياته بالألم والمعاناة والحرمان والفِراق ، وبعد أن أثبت خلوصه في عبودية الله وكفاءته حظي بشيء من زعامة مصر وأصبح أميناً لخُزانتها ، وحيث كان من أنبياء الله وقد جعله الله في ذلك المقام وفوّض إليه إدارة الشؤون الماليّة للبلاد ، وجب أن يكون عالماً بخزائن الغيب ومكنوناته وحوادث الزمان والمرجع في تلك الوقائع والأحداث .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم وإن كان دون الزعيم العام وأوطأ درجة منه ، فإن كان يشغل هذا المنصب من جانب الله فهو عالم بالمغيّبات والحوادث الخفيّة . وقد نبّه القرآن الكريم إلى قبس منه في تأويل الأحلام وارتداد يعقوب بصيراً (1)، وعليه : فإنّ الزعامة الإلهية تتطلّب العلم بالمغيّبات والإحاطة بالحوادث سواء كانت هذه الزعامة متمثّلة بيوسف (عليه السلام)  ، أم غيره من الزعماء الربّانيين ، وذلك لأنّ الآية الكريمة صريحة في أنّ مَن تصدّى للملك من قِبل الله لابدّ أن يكون ملمّاً باُسلوب إدارة شؤون البلاد والاستمداد الغيبي .

الآية الثالثة :
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(2) .
يتّضح من التأمّل في قصّة طالوت وجالوت ـ التي ذكرنا تفاصيلها سابقاًـ أنّ


(1) سورة يوسف: الآيات 43 ـ 49 و 96 .
(2) سورة البقرة: الآية 251 .

(الصفحة157)

زعامة الاُمّة إنّما تفوّض إلى الصالحين من الأفراد ممّن تتوفّر فيهم شرائطها ، من قبيل العلم والقدرة و . . . وأنّ الله هو الذي زوّد الملك بتلك القدرة العلمية ، حيث صرّحت الآية قائلة: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} . ولعلّ فاعل «يشاء» ضمير يعود إلى داود ، أي أنّ الله آتى داود كلّ ما شاء من العلم . وربّما عاد الضمير إلى «الله» أي أنّ علم داود من الله ، وقد أفاض الله ما شاء من العلم على داود .
على كلّ حال فالمعنى المستفاد هو أنّ زعيم البلاد ـ الملك ـ ينبغي أن يكون عالماً بالمغيّبات محيطاً بالمكنونات ، وأنّ زعامته لا تستند إلى الطرق والجهود المتعارفة في الحصول على العلم ، بل وسيلته فيها إفاضات الحقّ سبحانه في الوقوف على الأسرار ، سواء كان هذا الزعيم داود ، أو أيّ فرد آخر ينصّبه الله .

الآية الرابعة :
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الْصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(1) . ترى الآية أنّ الإمامة منصب إلهي ، كما تدلّ على أنّ الإمام يتولّى الأمر بالاستمداد الغيبي ، والذي تفيده هذه الدلالة استناد الإمام في زعامته إلى العلم الغيبي .
وبناءً على هذا فللائـمّة الأطهار (عليهم السلام) مثل هذا الامتياز ; لأنّهم مصطفون من قبل الله ، غاية ما في الأمر أن لا سبيل إلى الوحي ، وأمّا سائر السبل فمفتوحة .

ثمرة هذا البحث القرآني :
لقد أصبح الأمر جليّاً بأنّ أئـمّة الإسلام إنّما يستندون إلى الغيب في زعامتهم


(1) سورة الأنبياء: الآية 73 .

(الصفحة158)

وأنّهم مطّلعون على خفايا الأُمور ، ولكن ما مدى هذا الإطّلاع والعلم ، وكيف يتأتّى لهم هذا العلم؟
لا يمكن الاستدلال بهذه الآيات في هذا الخصوص ، ولكن ما يمكن الجزم بقوله هو أنّ علمهم بكيفيّة تؤدّي إلى هدايتهم إلى الصراط المُستقيم وإلى سبل السلام ، وأن تكون هدايتهم صائبة صحيحة تماماً ، فهم الهُداة إلى الحقّ والحقائق المسلّمة ، وذلك بفعل استنادهم إلى الغيب ، وليس هنالك من سبيل إلى خطأ هذه الهداية ، وبالتالي فشل وهلاك الاُمّة {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى}(1) .
كما نعلم من جانب آخر أنّ هؤلاء زعماء إلى الأبد ، وقد تقدّم هذا البحث وثبت في حينه أنّ العالم الإسلامي لابدّ أن يخضع ـ وإلى قيام الساعة ـ في قيادته لمثل هؤلاء الزُعماء .
وبناءً على هذه النتيجة والمقدّمتين فإنّ علمهم بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الأُمّة الإسلامية في المستقبل ، ولاسيّما الحوادث ذات الصلة بكيان الإسلام والمسلمين إنّما تثبت وتوضّح أمرين ، هما:
1 ) أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم الزعماء والقادة إلى الأبد .
2 ) أنّ زعامتهم وبالاستناد إلى المدد الغيبي والعناية الإلهية هي عين الصواب والتي تتضمّن الهداية المطلقة إلى الحقّ .
وأمّا ثمرة هاتين المقدّمتين ; فهي أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الاُمة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وذلك لأنّه لا يمكنهم أن يكونوا زُعماء إلى الأبد ما لم يكونوا عالمين . وإن قُلنا بأنّهم زعماء إلى الأبد ، ولكن ليس من الضروري أن يكونوا عالمين بجميع الحوادث ، فإنّ هذا ينقض الفرض


(1) سورة يونس : الآية 35  .

(الصفحة159)

القائل بأنّ زعامتهم هي عين الصواب .
إذن ، فالعلم والإطّلاع من مستلزمات خلود زعامتهم . كما أنّ ملزوم هدايتهم المطابقة للواقع والبعيدة عن الفساد هو علمهم بجميع الحوادث .
وهنا يبرز هذا السؤال: أيمكن أن تكون توجيهات وهداية الزعيم صائبة ودون شائبة في حين ليس له من علم بالحوادث ، وأنّه يقود الأُمّة إلى سبل السلام ويهديها إلى الصراط المستقيم حين تعترضها بعض الأحداث التي لم يتكهّن بها؟
كيف يمكن الاعتقاد بأنّ الأئـمّة (عليهم السلام) هم الزعماء إلى الأبد ، وأنّ الاُمّة تحذو حذوهم بينما يجهلون عواقب الاُمور والأحداث! وكيف لنا أن نتصور أنّ هدايتهم عين الواقع إلى الأبد وهم جاهلون بالوقائع؟! وعليه : فإنّ افتراض عدم علم الأئـمّة (عليهم السلام) إنّما يستلزم إنكار أصلين قرآنيين مسلّمين ، وهما:
1 ـ الزعامة الأبديّة للإمام .
2 ـ الهداية الواقعية التي تأبى الفساد {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى}(1) . فكأن مفهوم الآية هو أنّ مَن يهدي إلى الحقّ وليس للباطل من سبيل إليه هو الإمام الأبدي ، والإمام الأبدي لن يخطئ ; لأنّ الإتّباع ورد مطلقاً في الآية ، وعليه : فالإمامة دائمة أيضاً ، أمّا نفي العلم بالحوادث المستقبلية عن الإمام الأبدي ذي الهداية الواقعية الصائبة إنّما هو مكابرة وجدل فارغ .

علائم الإمام (عليه السلام) :
بغضّ النظر عن الشرائط التي بحثت في الآيات الماضية التي تكشف النقاب عن علائم الإمام وشرائط الإمام من وجهة نظر القرآن الكريم ، فقد اتّضحت


(1) سورة يونس : الآية 35  .

(الصفحة160)

الأبعاد العلمية للإمام في ما يلي:
1 ـ أنّ الإمام يمارس زعامته من خلال الاعتماد على الغيب .
2 ـ الزعامة الروحية ـ الأشمل من الإمامة والنبوّة ـ ليست سوى المعرفة بالغيب ، ولم تجر المشيئة الإلهية أن يطّلع الناس على الغيب دون الوسيط العالم بسبل السعادة والفلاح ، بل لا يتحقّق هذا الهدف إلاّ في ظلّ صفوة ربّانية ، وهذه هي إرادة الله في أنّه «لاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول»(1) .
3 ـ أنّ أئـمّة الدين عالمون بالغيب خبيرون بما حُجِب عن الأبصار .
4 ـ هدايتهم بالنظر لاعتمادهم على الغيب مطابقة للواقع تأبى الخطأ والانحراف .
5 ـ حدّ الهداية والإرشاد هو المسيرة التأريخية للبشرية ، وعليه : فهم عالمون بحوادث البشرية وعاقبتها .
6 ـ كلّ هذه الاُمور من الفيوضات الغيبية والعنايات الإلهية ، وإلاّ فهم لا يتجاوزون الإمكان العلمي في الحدود الإنسانية .

التصدّي للانحراف :
لقد أشار القرآن في أكثر من آية إلى روح اللجاجة والعناد وعدم التسليم التي تحكم روح الإنسان طيلة عصور الأنبياء  (عليهم السلام) ، لكن أحياناً يخرج عن حالة التسليم الطبيعي ليقع في مستنقع الضلال . فالقرآن يُشير إلى هذا الأمر ، وأنّ هناك طائفة لم تؤمن بنبوّة عيسى (عليه السلام) حتّى همّت بقتله ، بينما ذهبت طائفة اُخرى وسلّمت لأُلوهيّة نبي الله عيسى (عليه السلام)  ، ولذلك جهد القرآن في محاربة هذه الأفكار الضالّة المنحرفة ، والواقع هو أنّ هذا الضلال الذي شمل ملايين النصارى الروم إنّما كان معلولاً


(1) اقتباس من سورة الجنّ : الآيتان 26 ـ 27 .
<<التالي الفهرس السابق>>