في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة201)





علم الإمام سيّد الشهداء (عليه السلام) بحادثة كربلاء

اتّضح لدينا سابقاً بأنّ الإمام عالم ومحيط بكلّ حادثة في المسيرة التأريخية للمسلمين وإلى الأبد ، وعليه : فلم يعد هنالك من معنى للتساؤل عن أنّ سيّد الشُهداء (عليه السلام) كان عالماً بمصيره في كربلاء وسبي نسائه أم لا ، فهذا السؤال مثل من يسأل عن شُعاع الشمس هل يصل إلى ذلك المكان وهو يرى بأُمّ عينيه نورها الذي يضيء كلّ شيء!
ترى ما العمل وقد طرح هذا المبحث منذ القدم لدى العقلاء والمفكّرين؟ الأمر الذي جعلنا نتصدّى للخوض في مثل هذه المباحث ، ولعلّ مثل هذه العُقد والشُبهات قد تسلّلت إلى الكتاب المعروف: «شهيد جاويد» والحقّ أنّ المؤلّف قد اعتمد نهجاً جديداً في طرحه لأبعاد تلك الواقعة ، غير أنّه أخطأ في بعض الاستنتاجات وقراءة الأحداث ، وهذا ما دفعنا لأن نخصّص هذا الفصل لنقد محتوى ومضمون هذا الكتاب ، ولا يسعنا إلاّ أن نذعن ببراعة الكتاب سوى خاتمته التي طرحت هذا السؤال: هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم بأنّه سيُقتل في

(الصفحة202)

كربلاء أم لا؟ في حين فرغنا من إثبات علم الإمام بالغيب وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال لعلي (عليه السلام) : «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لستَ بنبيّ»(1) .
ولمّا كان مؤلّف الكتاب من الباحثين وقد ناشد الجميع تذكيره بالهفوات التي ربّما استبطنها الكتاب ، وقد دوّن عنوانه بغية استلام الرسائل في هذا المجال ، رأينا أنفسنا إتحافه ببعض الاُمور المتعلّقة بالكتاب من خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا ـ لا عن طريق الرسائل ـ فلعلّ كتابه خلّف هاجساً من القلق والاضطراب لدى الرأي العام .
آملين أن يعيد المؤلّف النظر في الطبعات الأُخرى ليتلافى ما فرط منه في ما سبق ، سائلين الإخوة المحقّقين والباحثين التماس العذر لنا في ما يبدر منّا من زلل وتذكيرنا به {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2).

ثلاثة أخطاء رئيسية :
1 ـ إنكار علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحركة .
2 ـ تضرّر الإسلام والمسلمين إثر حادثة كربلاء وشهادة الإمام (عليه السلام)  .
3 ـ لم تكن ثورة الإمام (عليه السلام) سوى دفاعاً عن النفس .

الخطأ الرئيسي الأوّل :
رغم تصريح مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» ـ في الصفحة السادسة من كتابه ـ بأنّ الإمام كان يعلم بأنّه سيُقتل في آخر الأمر ، إلاّ أنّ مباني الكتاب واُسسه قائمة على أساس إنكار علم الإمام بشهادته في هذه الحركة وسبي نسائه وعيالاته ،


(1) الطرائف لابن طاووس: 415 ، وقد تقدّم عن نهج البلاغة في ص 189.
(2) سورة البقرة: الآية 286 .

(الصفحة203)

بحيث لو جرّد الكتاب من هذا المحور لاكتسب صبغة اُخرى ، فالإصرار على إنكار رؤيا الإمام (عليه السلام) وأمره من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) : «يا حسين اخرج إلى العراق . . .»(1)وحديث اُمّ سلمة وحوار محمّد بن الحنفية ، والترديد في دلالة الرواية الصحيحة الواردة في كامل الزيارات بأنّ الإمام (عليه السلام) قال: «مَن لحق بي استشهد . . .»(2)وقوله (عليه السلام) : «هاهنا والله محطّ رحالنا ومسفك دمائنا . . .»(3) وتلاوته لخطبته المعروفة «خُطّ الموت على ولد آدم . . .»(4) في مكّة ، أو خدشه في دلالة الخطبة «كأنّي بأوصالي . . .»(5) أو عدم التعرّض لها ، كلّ هذه الاُمور قائمة على أساس الإنكار ، غاية ما في الأمر أنّه يتعرّض لها من زاوية اُخرى ، بينما يبقى الهدف الأصلي متمثِّلا بإنكار علم الإمام بشهادته ، ولا نرى هذا الكلام جديداً ، فقد تعرّض أرباب المقاتل وأجابوا بما فيه الكفاية ، إلاّ أنّنا لم نلمس مثل هذه الشبهات والشكوك في الكتب التي تعرّضت لحادثة كربلاء .
بالطبع يمكن أن ترد مثل هذه الأُمور في بعض الأوساط الأُخرى التي ليس لها معرفة تُذكر بهذا الشأن وتجهل مقام الإمام ، إلاّ أنّ هذا الأمر يبدو أنّه يحمل نوعاً من الغرابة بالنسبة لعالم التشيّع الذي تثقّفوفَهِم أفكاروملابسات هذه الحادثة الخالدة .

الخطأ الرئيسي الثاني :
لقد اعترف المؤلّف ـ بالتلويح أو التصريح ـ بأنّ حادثة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) قد أدّت إلى الإضرار بالإسلام والمسلمين .


(1) الملهوف لابن طاووس: 128 ، ينابيع المودّدة 3: 60 .
(2) كامل الزيارات: 157  ح 195، وعنه بحار الأنوار 45: 87 ح 23 .
(3) الملهوف لابن طاووس: 139 ، الاحاديث الغيبية 2: 309 .
(4 ، 5) كشف الغمّة 2: 29 ، وعنه بحار الأنوار 44: 366 ـ 367.

(الصفحة204)

الخطأ الرئيسي الثالث :
يفيد التأمّل في الكتاب المذكور أنّه لم تكن هنالك من دوافع لثورة الإمام سوى الدفاع عن النفس ، وذلك لأنّ الإمام وبمجرّد أن يئس من النصر والإصلاح ورأى نفسه في قبضة العدوّ لم يكن له بُدّ من الدفاع عن نفسه .
نعم ، هذه هي أهمّ الأخطاء التي ارتكبها صاحب الكتاب ، ولا يسعنا الخوض في سائر الأخطاء التي لا ترتبط بمنهج هذا الكتاب .
ونخوض الآن في مناقشة الخطأ الأوّل والثاني ، وسيتّضح لدينا من خلال البحث الجواب على الخطأ الثالث ، ولذلك فلا حاجة لعنوان مستقلّ .

الكتاب والخطأ الأوّل :
1 ـ يستنتج من البحث الوارد بشأن دوافع الثورة بأنّ «الإمام ثار من أجل إنشاء الحكومة الإسلامية ، وهذا هو الهدف الأصلي والواقعي في حركته نحو الكوفة ، وذلك لأنّ كافّة الظروف كانت ممهّدة لنيل النصر» .
ويمكن القول بأنّ الهدف الأصلي للكتاب قد تبلور في هذا الأمر ، أي إنشاء الحكومة الإسلامية والقضاء على حكومة يزيد ، ولسنا الآن بصدد دراسة هذه القضية ، وسنتّفق والكاتب في أ نّ هدف الإمام كان يتمثّل بالأخذ بزمام الاُمور ، إلاّ أنّه ذكر في الصفحة السادسة من الكتاب «أنّ الإمام كان يعلم بأنّه سيُقتل فكيف له بذلك العسكر الذي رافقه أن يطيح بحكومة يزيد» .
وبناءً على هذا فلا يمكن الجمع من وجهة نظر الكاتب بين العزم الراسخ بالإطاحة بحكومة يزيد ، والعلم بالشهادة في تلك النهضة ، فهناك تباين بين الأمرين . فقد ظنّ بعدم إمكانية تحقيق الإمام للهدف وتعبئة الجهود من أجله ، بينما كان يعلم بأنّه سيُقتل دون نيل ذلك الهدف ، وحيث كان الهدف الذي ركّز عليه

(الصفحة205)

الإمام (عليه السلام) من وجهة نظر الكاتب هو إنشاء الحكومة ، فلم يجد بدّاً من التنكّر لقضية علم الإمام (عليه السلام) بقتله في هذه النهضة ، ولا نريد أن نقول بأنّ هذا الفصل من الكتاب صرّح بنفي علم الإمام بشهادته ، بل حيث توصّل الكاتب إلى أنّ علم الإمام بشهادته في هذه الحركة يتنافى وهدف الكتاب في قيام الإمام من أجل الإطاحة بحكومة يزيد وإنشاء الحكومة الإسلامية ، فلم يكن أمامه من سبيل سوى إنكار علم الإمام بشهادته في هذه الحركة ، وهذا هو الأساس الذي ابتنى عليه الكتاب .
2 ـ لقد تنكّر الكتاب لكافّة الأدلّة التي تفيد ـ بغضّ النظر عن الأدلّة العامّة التي تصرّح بالعلم المطلق لكلّ إمام ـ علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحركة ، فهو إمّا كان يطعن فيها من حيث السند والاعتبار أو يناقشها من حيث الدلالة ، وهنا لايجب أن ننسى أنّ المؤلّف قال: لم يخرج الإمام من أجل الشهادة أبداً ، ففنّد كلّ ما يفيد هذا الأمر ، فمثلا علّق على عبارة الإمام (عليه السلام) : «من لحق بي استشهد» فقال: لا تعني هذه العبارة أنّ كلّ مَن يلحق بي يُقتل ، في حين لا يفهم العرف واللغة سوى ذلك ، بل يرى أنّ المعنى: مَن يلحق بي إنّما يتعرّض إلى الأخطار والشهادة ، أَوَ لا يعني بهذا أنّه ينكر علم الإمام بما سيقع في كربلاء؟
وبالطبع لا اُريد أن أقول بأنّ كافّة الأدلّة قطعية السند تأريخياً ، رغم القول بصحّتها من قبل كبار أرباب المقاتل ، بل أقول: إنّ كلّ ما بدر من المؤلّف كان اجتهاداً في التأريخ وليس من التأريخ في شيء ، ولم يهدف سوى إنكار علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحركة .
3 ـ كيف لنا أن نفترض عدم تنكّر المؤلّف لعلم الإمام بشهادته ، وهو الذي أورد عنواناً تساءل فيه عن قتل الإمام هل كان بنفع الإسلام أم بضرره ، ثمّ يذهب صريحاً ـ وسيأتي ذلك في مناقشة الخطأ الرئيسي الثاني ـ إلى أنّ قتل الإمام (عليه السلام) وحادثة كربلاء وسبي عيالات أهل البيت إنّما شكّلت ضرراً على الإسلام ، حيث

(الصفحة206)

ذهب أيضاً إلى أنّ القول بالعلم يستلزم الاعتراف بإقدام الإمام (عليه السلام) على عمل لم يتضمّن سوى ضرر الإسلام والمسلمين ، لو كان الإمام عالماً بما ارتكب وما يتنافى والإسلام ، وعليه : فلا مفرّ للمؤلّف من الاعتقاد بعدم علم الإمام بشهادته في تلك النهضة .
وبعبارة أوضح: يعتقد المؤلّف بأنّ حادثة كربلاء قد أضرّت بالإسلام ـ سيأتي الردّ قريباً ـ وعلى هذا الأساس كان لابدّ له من التنكّر لعلم الإمام بما سيجري في تلك الحادثة ، وإلاّ لما ارتكب ذلك الفعل الذي أدّى إلى ضرر الإسلام ، وعليه : فلم يكن للإمام علم ، وإلاّ كان متعمّداً ـ والعياذ بالله ـ للإضرار بالإسلام .
4 ـ يفهم من الأدلّة التي ساقها المؤلّف في إطار حركة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة وإنشاء الحكومة الإسلامية ، أ نّ الإمام لم يكن ملتفتاً إلى الأحداث والوقائع التي ستنطوي عليها حادثة كربلاء . فقد صرّح في ص55 قائلا: «على ضوء المعادلات الطبيعية ـ والمقصود بالمعادلات الطبيعية هنا بقرينة العبارات السابقة واللاحقة: إعداد العدّة والعدد وشعبية الإمام ونصرة الكوفة له و . . . ـ فإنّ الإمام كان يأمل بتحقيق النصر في هذه المعركة والإطاحة بحكومة يزيد» .
ولنا هنا أن نسأله: هل يمكن الجمع بين الأمل ـ الذي يمثّل إحدى الصفات الإنسانية ـ والعلم بالشهادة في هذه النهضة؟ هل يمكن القول بأنّه كان يأمل بالإطاحة بحكومة يزيد والأخذ بزمام السلطة ، كما كان عالماً بأنّه سيُقتل قبل وصوله إلى الكوفة؟ كأن نقول مثلا بأنّ مسافراً انطلق من مدينة قم وهو يأمل بأنّه سيصل طهران في نفس ذلك اليوم ، كما أنّه موقن بأنّه سيموت في حادثة اصطدام خلال الطريق قبل أن يبلغ طهران .
أجل ، لا يمكن الجمع بين العلم بالشهادة في هذه الحركة ، والأمل التامّ بالنصر الذي يتمثّل بالإطاحة بحكومة يزيد .


(الصفحة207)

ولعلّ هناك من يقول: إذن ، فأنتم تتّفقون مع مَن يقول: إنّ الإمام إنّما خرج من أجل القتل ، لا بقصد الاتّجاه إلى الكوفة والقضاء على زعامة الفاسق يزيد؟
وللإجابة على هذا الزعم نقول: لا ننوي فعلاً الدخول في ماهية قضية كربلاء ونبدي بعض وجهات النظر بهذا الخصوص ، بل إنّما نريد الإشارة إلى الأخطاء التي ارتكبها مؤلّف كتاب شهيد جاويد ، كما نريد أن نقول بأنّ أساس الكتاب إنّما وُضع على أساس إنكار علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة في هذه الحركة ، ولكن لا بأس بالإجابة على ذلك الزعم الموهوم .
فقد استبطنت حكومة يزيد الزائفة عدّة خطط وبرامج خطيرة ، فلم يكد المسلمون يتنفّسون الصعداء إبّان عصر الاستبداد والطغيان الذي شهدته حكومة معاوية ، حتّى رأى المسلمون هذا الفاسق شارب الخمر وقد تربّع على عرش السلطة ، السلطة التي جعلت المسلمين يذوقون الأمرّين من هذا الفتى الطائش ـ يزيد ـ ، وقد أخذ الظلم مأخذه من الناس بالشكل الذي جعلهم يرفعون أصواتهم ويصرخون بوجه الظلم ويطلبون النجدة من الرجل الصالح الجدير بزعامة الاُمّة وإمامتها ويرون فيه أملهم المنشود . أمّا الإمام من جانبه فقد كان عالماً بحكومة يزيد التي لا تريد سوى زعزعة أركان الإسلام ومحو آثار القرآن ، وأنّها ستنشد يوماً:

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)

وستجدّد مفاخر الجاهلية وتقضّ مضاجع الدين ، الأمر الذي يجعل الإمام ينهض لممارسة وظيفته تلبية لدعوة الاُمّة ، وهي الوظيفة التي ينهض بها كلّ إمام حسب الظروف والشرائط ، فلم يكن ينبغي للإمام الحسين (عليه السلام) أن يصمّ آذانه عن


(1) روضة الواعظين: 191، الاحتجاج 2: 122 رقم 173 ، الملهوف: 215.

(الصفحة208)

سماع صراخ المظلومين ، ولذلك أعلن عن عزمه على خلاص الإسلام والاُمّة من مخالب يزيد ، حتّى لا يتفوّه أحد بأنّ الاُمّة استغاثت بالإمام ولم يجبها وتهرّب من ممارسة وظيفته ومسؤوليته!
كان هذا الأمر يتطلّب توفير بعض المقدّمات من قَبيل الحركة نحو الكوفة ليعلن للعالم بأنّي لن أخلد إلى السكون والراحة .
نعم ، فالسبيل الذي سلكه يزيد والعلم الذي يعلمه الإمام لم يجعل أمامه من سبيل سوى القيام والثورة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فقد كان عالماً عارفاً أنّه لن يحقّق هدفه ويُنهي حكومة يزيد ويقيم الحكومة الإسلامية ، بل إنّ سبيل التضحية والفداء هو الذي سيسقي شجرة الدين التي جفّت عروقها خلال سنوات حكم معاوية ، وأنّ تضحيته ستنفخ الروح من جديد في جسد الإسلام الذي أصبح جثّة هامدة بلا حركة ، وكان يعلم جيداً بأنّه سيتمكّن بهذه التضحية من أداء دينه للإسلام ،وستتحقّق مقولة جدّه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) «حسينٌ منّيوأنامن حسين»(1) .
إذن ، فالانطلاق نحو الكوفة لزعامة الأُمّة كان من أجل كَمّ الأفواه التي فتحت آنذاك وستفتح اليوم وغد ، على أنّ السبيل كان ممهّداً والظروف مناسبة فَلِمَ لَمْ ينهض الإمام الحسين (عليه السلام) غير أنّ العلم بالشهادة والذي يجعل الهدف يكمن في كربلاء لم يكن يصدّ الإمام عن القيام والثورة ، فالإمام كان يعلم بأنّه سيُقتل في هذه الحادثة ـ وهذا ما سنشير إليه لاحقاً ـ ولكن لابدّ من الانطلاق نحو الكوفة وتمهيد المقدّمات لكي لا تخرج النهضة عن دائرة العقلائية والحسابات التقليدية ، رغم علمه بأنّه سوف لن يصل الكوفة .
إذن ، فالإمام رام بهذه الحركة إفهام العالم بأنّه قام من أجل إحياء الإسلام وإنقاذ الاُمّة المظلومة من قبضة حكومة يزيد ، وأنّه سيُقتل إثر هذا القيام ، ولم يكن


(1) كامل الزيارات: 116 ح 126 ، وعنه بحار الأنوار 43: 270 .

(الصفحة209)

للاُمّة أن تدرك مغزى هذا القيام ما لم ينطلق صوب الكوفة ، أمّا الإمام فقد كان على علم بأنّه لن يصل الكوفة .
وهنا يبرز هذا السؤال: إذا كان الإمام يعلم بأنّه سيُقتل قبل الوصول إلى الكوفة والظفر بإنشاء الحكومة الإسلامية ـ الحسينية ـ فلماذا قام ونهض بالأمر؟ وَلِمَ سلّم أهل بيته للقتل طواعية حيث لم يكن هنالك من احتمال ولو واحد بالمائة بالغلبة والنصر؟
والجواب : لم يكن الأخذ بزمام الأُمور والسيطرة على الحكومة هو الهدف الواقعي للإمام ; لأنّ الإمام كان يعلم بعدم إمكانية تحقّق هذا الأمر ، وأنّه سوف لن يبقى حيّاً قبل أن يصل الكوفة ، بل كان هدفه الأصلي إحياء الإسلام ، وتطبيق القرآن ، وإبقاء عزّة المسلمين وشريعة خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله) ، وإزالة البدعة وإحياء السنّة ، وليس هنالك من سبيل سوى الشهادة لتحقيق هذا الهدف العظيم ـ وهذا ما سنتعرّض له في مناقشة الخطأ الرئيسي الثاني ـ وهذه المهمّة كانت تشكّل وظيفة من وظائف الإمامة التي كان على الإمام السعي للقيام بها ، وأن يُحمل رأسه على الرماح من أجل رفعة الإسلام العزيز .
وعلى العموم ليست هنالك من منافاة بين الحركة نحو الكوفة وتلبية دعوة الاُمّة وإعداد مقدّمات النهضة ، وبين علم الإمام بالشهادة ، وذلك لأنّ الغرض الأصلي هو إفشال مخطّطات يزيد وإحياء الإسلام ، ولم يكن من سبيل لذلك سوى القتال المستميت في كربلاء حتّى الشهادة ، ولم يكن يعلم بهذا الأمر سوى الإمام  (عليه السلام) ، وأنّ هذا الهدف العظيم إنّما يتحقّق في ظلّ الشهادة لا الحكومة .
أمّا حركة الإمام باتّجاه الكوفة إنّما كان يهدف منها توضيح أسباب قتل الإمام ، وليعلم العالم بأسره أنّ الإمام ثار من أجل إنقاذ الاُمّة الإسلامية والحيلولة دون اضمحلال ومحو الدين من قبل حكومة يزيد وأنّه قُتل في هذا السبيل .


(الصفحة210)

ولعلّ الإدراك الحقيقي لفلسفة حركة الإمام والوظيفة التي قام بها قد يتعذّر على الناس لو كان الإمام قال منذ بداية حركته: إنّما انطلق إلى الأرض التي سأُقتل فيها ، كما سيتعذّر عليهم إدراك كيفية قيام الإمام بهدف إحياء الإسلام ، أمّا الإمام فكان يعلم شخصياً بأنّ السبيل الوحيد للانتصار وزعزعة سلطة يزيد وإحياء الإسلام إنّما يكمن بالشهادة والتضحية بالغالي والنفيس .
نعم ، جرت عادة الأئـمّة المعصومين (عليهم السلام) باعتماد بعض الأُمور من أجل إفهام الناس بعض الحقائق والوقائع ، فقد رقد الإمام علي (عليه السلام) في الفِراش بعد أن ضُرب في محراب عبادته ، فهو كان يعلم بأنّ ضربة ابن ملجم قاتلة ، وقد كشف النقاب عن جميع تفاصيلها قُبيل وقوعها ، ولكن كيف له أن يفهم الآخرين بأنّ تلك الضربة قاتلة؟ لاشكّ في أنّه ليس هنالك من سبيل سوى استدعاء الطبيب لفحصه وإبداء وجهة نظره بهذا الشأن ، فلولا فحص الطبيب وتشخيصه بأنّ الضربة قاتلة ولا أمل في الحياة ، فلعلّ هناك من يتساءل لو كان عليّ (عليه السلام) راجع الأطباء وقدّموا له العلاج والدواء فلربما تماثل للشِفاء ونجى من الموت ، وهذا هو جواب أولئك الذين يلتبس عليهم الأمر فيقولون: إذا كان علي يعلم بأنّه سيفارق الدنيا إثر ضربة ابن ملجم وأنّه ميّت لا محالة ، فَلِمَ أخضع نفسه لإشراف وفحص الطبيب؟ ولمَ استعدّ لتلقّي العلاج؟ أوليس هذا دليلا على عدم علمه (عليه السلام) بأنّه سيموت إثر هذه الضربة ، فعلي (عليه السلام) كان يعلم أن لا جدوى من العلاج وأنّه سيُفارق الحياة ، ولكن كيف له أن يفهم الآخرين هذا الأمر ولاسيّما عوام الناس؟ فهل هناك سوى السبيل الذي سلكه الإمام (عليه السلام) ؟ وهذا ما يصدق على واقعة كربلاء وحركة الإمام نحو الكوفة ، الأمر الذي سنتعرّض له لاحقاً .
5 ـ يتّضح من الإجابة التي أوردناها على السؤال في النقطة الرابعة أن ليس هناك أيّة منافاة عقلية وعقلائية بين أساس النهضة من أجل الإطاحة بحكومة

(الصفحة211)

يزيد والعلم بالشهادة في هذه النهضة من أجل تحقيق هذا الهدف .
أمّا المؤلّف ـ وبغضّ النظر عن العلم بالشهادة في هذه الحركة ـ فلم يجد من سبيل للجمع بين تحقيق الهدف وأساس النهضة ، فظنّ أ نّ فرض صحّة هذه الحركة إنّما تتأتّى إذا غضضنا الطرف عن علم الإمام (عليه السلام) بحادثة كربلاء ، ثمّ يستنتج على هذا الأساس أنّ الإمام لا يستطيع أن يطيح بحكومة يزيد من خلال هذا الطريق ، فكيف تأهّب لمثل هذه الحركة ، فالقيام والنهضة لم تعدّ عملية عُقلائية!
وعليه : فيرى المؤلّف أنّنا إذا أردنا أن نسند الثورة لهذا الأساس وجب علينا أن نغضّ النظر عن علم الإمام ، ولمـّا أجبنا على هذا السؤال الوارد بهذا الشأن ، فإنّنا نرى أنّ المؤلّف لم يستطع أو لم يرد أن يشخّص الطريق الصحيح ، فان استند إلى مبناه في أنّ الهدف هو إسقاط حكومة يزيد والأمل بالنصر وإنشاء الحكومة الإسلامية ، وجب عليه القول بعدم علم الإمام بما ستؤول إليه الأحداث ، أو أن يتراجع عن قوله : من أنّ الهدف هو إسقاط حكومة يزيد .
ونخلص من هذا إلى أنّ الإذعان بالعلم يستلزم نسف كلّ ما ورد في الكتاب ، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ الهدف كان يتمثّل بالإطاحة بحكومة الظلم والجور إلى جانب تلبيته لدعوة الاُمّة المتعطّشة إلى الحرية وحكومة العدل ، كما كان عالماً بالأحداث ، وفي ظلّ هذا الأمر يتحقّق الهدف ، لكن ليس في ظِلّ إنشاء الحكومة ، بل بواسطة التضحية ، وهذه حقيقة معنوية ووظيفة إلهيّة كانت معلومة منذ البداية ، وقد قلّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حسيناً (عليه السلام) هذه المسؤولية التأريخية وقَبلها بكلّ رحابة صدر .
وبناءً على هذا ينبغي على المؤلّف الذي ظنّ بأنّ السبيل العقلائي لهذه النهضة يقوم على أساس غضّ النظر عن علم الإمام ، وبالنظر إلى الكلمات والخطب التي أوردها الإمام بشأن علمه بشهادته ; فإنّ الكتاب يكون قد نقض أو نسف تماماً ،

(الصفحة212)

وإلاّ فلا خيار آخر سوى الاعتراف بعدم علم الإمام  (عليه السلام) .
6 ـ لقد تبيّن من خلال الأدلّة السابقة أنّ المؤلّف ـ وأساس الكتاب ـ لا يمكنه أن يقول بعلم الإمام بشهادته في هذه الحركة ، إلاّ أنّنا لم ندّعِ تصريح المؤلّف بإنكار علم الإمام .
1 ) قال المؤلّف في ص 290 و 291 ـ بعد الاتّفاق الذي حصل بين الحرّ بن يزيد والإمام ـ : «لزم الإمام ميسرة الطريق وانطلق» ثمّ أضاف المؤلّف: «فلو سأله أصحابه أين ننطلق؟ ما مصير هذه الحركة؟ أين سنحلّ؟ ماذا سنفعل؟ هل هناك من مشاكل ستواجهنا؟ لا يسع الإمام أن يقدّم من جواب سوى القول: «لا ندري على ما تتصرّف بنا وبهم الاُمور» ، فهل يسع المؤلّف بعد التصريح بنفي علم الإمام بالأحداث والمصير أن يقول: لقد غضضنا الطرف عن علم الإمام ومعرفته بالاُمور ، فما الحاجة هنا لغضّ الطرف ، فالإمام (عليه السلام) قد رأى نفسه في قبضة العدوّ ، ولم يكن له سوى الاتّجاه نحو ميسرة الطريق بعد رفض العدوّ لاقتراحه بالرجوع ، كما تزعم بأنّ الإمام أخذ يلتفت شيئاً فشيئاً أنّه سوف لن يظفر بهدفه المقدّس ، فكيف نغضّ الطرف عن علمه رغم علمه ومعرفته!
لقد غضضت طرفك حين تعذّر عليك الجمع بين العلم وتحقّق الهدف ، أمّا وقد انعدم الأمل ولاحت بوادر انتصار يزيد ، وذلك لأنّه وقع في قبضة العدوّ قبل أن يدخل الكوفة ويتّصل بقواعده الجماهيرية ، وقد أغلق حتّى طريق الرجوع بوجهه! فهل غضّ طرفه عن علم الإمام في ظلّ هذه الظروف ، والجملة التي ذكرتها ـ والتي تفيد عدم اطّلاع الإمام ـ استندت فيها على ما ورد في الكتاب التأريخي الفلاني ، فهل بقي من طريق عقلائي لغضّ الطرف عن العلم!!
نعتقد بأنّ هذه الجملة ليست تفيد عدم علم الإمام بما ستؤول إليه الأحداث في كربلاء فحسب ، بل تفيد أيضاً أنّ الإمام لم يشعر ـ والعياذ بالله ـ بأدنى خطر من

(الصفحة213)

هذه الحادثة المروّعة الخطيرة ، وهو الوقوع في قبضة الحرّ وجيشه المتعطّش للدماء .
لعلّ المؤلّف يقول: أين أوردنا إسم الإمام في جواب على سؤال؟ نقول: ليس هنالك من جواب على تلك الأسئلة سوى تلك العبارة .
أمّا جوابنا على السؤال فنقول: على مَن يطرح الأصحاب أسئلتهم؟ ليس لهم سوى الإمام ، أضف إلى ذلك فإنّك نقلت تلك العبارة من تأريخ الطبري ، فالتأريخ المذكور ينسب هذه العبارة صراحة إلى الإمام ، وهي صريحة بعدم علمه بحادثة كربلاء .
وربّما قال المؤلّف: نعم ، لقد استندت إلى تأريخ الطبري في نقل تلك العبارة ، ثمّ تبعته في قضية عدم اعتقاده بعلم الإمام بالحادثة . فنقول:
أوّلا: هل يصحّ الاستدلال بالتأريخ في المسائل العقائدية المرتبطة تماماً بعلم الكلام ، والتي ينبغي التوصّل إليها من خلال الأدلّة العقلية أو الأدلّة النقلية الموثّقة!
فعلم الإمام ، بالحوادث المستقبلية من المواضيع العقائدية ، وليس للتأريخ أن يبدي وجهة نظره بهذا الشأن سلباً أو إيجاباً .
ثانياً: تأريخ الطبري ليس وحياً مُنزلا ، فهل كلّ ما ورد فيه موثوقاً معتمداً عليه وإن خالف أقوال كِبار محدّثي الشيعة ومؤرّخيهم؟ نعم ، تأريخ الطبري قد اشتمل على مالا يحصى من الأخبار الموضوعة ، وإذا أردت التأكّد فإليك ما أورده العلاّمة الأميني صاحب الغدير بشأن بعض تجنّيات هذا التأريخ ، فقد قال العلاّمة ـ في الجلد الثامن ص 457 ـ 460 ـ حين تعرّض الطبري في تأريخه إلى تأريخ أبي ذرّ قال:
في هذه السنة ـ أعني السنة الثلاثون ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، ثمّ ذكر أسباباً دعت معاوية لنفيه ، ولا

(الصفحة214)

أرغب بالتعرّض لها «فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة »، ثمّ يخوض الطبري في ذكر تلك القصص ، ثمّ يضيف العلاّمة الأميني قائلاً: «ما الذي دفع الطبري للاقتصار على ذكر القصص التي تعذر معاوية ، بينما يتحفّظ عن ذكر العلل والأسباب التي أوردها الآخرون والتي تصوّر بشاعة هذا العمل؟ فهل كان له من هدف سوى إعذار معاوية وإثبات حسن صنيعه؟ فَلِمَ لَمْ ينقل الحقائق المتعلّقة بهذه الحادثة ، والحال أنّها مرتبطة بواقع تأريخ الاُمّة الإسلامية ، لقد ظنّ بأنّ هذه الحقائق ستبقى مستورة إلى الأبد وقد غفل عن وضوحها في كتب الحديث وزوايا التأريخ» ثمّ قال الأميني: «لقد شوّه الطبري تأريخه بالمكاتبات التي نقلها السرّي الكذّاب الوضّاع عن شعيب ، عن سيف ، وذلك لأنّ السرّي اسم لفردين معروفين بالكذب ووضع الأحاديث ، وشعيب ـ على ضوء المختصّين بعلم الرجال كابن عدي والذهبي ـ مجهول ، وسيف ضعيف ومتروك وساقط من الإعتبار ، بل متّهم بالزندقة من قِبل الحفّاظ وأرباب الجرح والتعديل ، لقد نقل الطبري ما يربو على السبعمائة رواية ـ والتي تعادل عدّة مجلّدات من تأريخه ـ عن السرّي ، عن شعيب ، عن سيف ، وغرضه هو إخفاء الحقائق التي وقعت منذ سنة 11 هـ حتّى سنة 37 هـ ، أي عصر الخلفاء الثلاثة ».
ثمّ يخوض العلاّمة الأميني بالتفصيل في هذه الروايات والحوادث المتعلّقة بكلّ سنة في ذلك العصر .
أمّا غرضنا من نقل أقوال العلاّمة الأميني هو أنّه كيف يسعنا اعتبار تأريخ الطبري سنداً تأريخياً قاطعاً ونذعن من خلاله بعدم علم الإمام (عليه السلام) بحادثة كربلاء وما آلت إليه الأحداث!!
ثالثاً: لقد نقلت في هذا التأريخ ـ كما سيأتي لاحقاً ـ بعض القصص التي تفيد على نحو الجزم علم الإمام بشهادته في هذه الحركة ، فلم لم تتبع هذه الاُمور في

(الصفحة215)

تأريخ  الطبري!!
2 ـ قال المؤلّف ـ في ص290 ـ : «يا لها من فاجعة! في أن يمنح الإمام أصحابه حالة السكينة والطمأنينة في ظلّ تلك الأوضاع المزرية التي عصفت بهم ، ثمّ يتّجه بهم في تلك الصحراء الطويلة العريضة إلى موضع لم يتكهّن به» .
وهنا نسأل المؤلّف: «يتّجه بهم إلى موضع لم يتكهّن به» ماذا تعني هذه العبارة؟ أَوَ لا تعني أنّ الإمام لا يدري أين يذهب ، ولا يعلم بأنّ ذالك الموضع هو كربلاء؟ فإذا كان كذلك فهل يمكن التصديق بأنّ الإمام عالم بأنّه سيحلّ في كربلاء ، حقّاً أنّ مثل هذه الحيرة لا تليق بشأن الإمام العالِم بكلّ شيء ولاسيّما تفاصيل وجزئيات حادثة كربلاء ، فهذه الاُمور لا تقود بالتالي إلاّ إلى الحطّ من المنزلة العلميّة للإمام  (عليه السلام) ، لِمَ هبطت بمقام الإمام الى هذه الدرجة بعد تغليف العبارات بهالة من التراجيديا والغمّ؟ في حين تعتقد بأنّ كتابك قد أدّى إلى رفعة مقام الإمام وتقول: «إنّ هذا الكتاب ليس فقط لم يقلّل من شأن مقام الإمام ، بل قد رفع مقام الإمام بشهادة العلماء إلى درجة أرفع ممّا كانت تتصوّره عامّة الناس» .
فهل افتراض عدم العلم والاطّلاع ترفع منزلة الإمام؟ وهل الحيرة والترديد من قِبل الإمام دفعت أولئك العُلماء للإدلاء بتلك الشهادة؟ وهل عوامّ الاُمّة فقط يرون الإمام عالماً عارفاً؟ لا يسعنا هنا إلاّ أن نناشدك بأن تعتبرنا جزءاً من عوامّ الاُمّة .
3 ـ قال في ص301 ـ بعد أن نقل شيئاً يسيراً عن نزول الإمام وصحبه في كربلاء ـ : «لقد تذكّر الإمام حديث والده أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن هذه الأرض ، حيث قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسين ـ حين كان له من العمر ثلاث وثلاثين سنة ـ : سيُقتل هنا ثلّة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وقد ابتليت ثلّة منهم اليوم بهذه الأرض» . أو ليست تلك العدّة المعدودة من أهل البيت التي تحدّث عنها أمير

(الصفحة216)

المؤمنين (عليه السلام) هم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته؟ أَوَ لا ينطبق ذلك الحديث الذي ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل أربع وعشرين سنة بشأن قتل عدّة معدودة من أهل البيت في ذلك الموضع على الحسين (عليه السلام) وأهل بيته؟ لقد نقل الحسين (عليه السلام) ذلك الحديث إلى صحبه ، وبالطبع فإنّه (عليه السلام) كان يحتمل بأنّه هو المعنيّ بالكلام ، فجعل يستعدّ وصحبه لذلك البلاء .
والذي نخلص إليه من عبارات هذه الصفحة من كتاب المؤلّف الذي أثار مثل هذه الاستفهامات :
1 ـ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حين بلغ كربلاء وحاصره العدوّ ، تذكّر ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ صفوة من أهل البيت تقتل في هذا الموضع .
2 ـ لقد أورد أمير المؤمنين (عليه السلام) عبارته بضمير الغائب «هم» في قوله: «مهراق دمائهم . . .»(1) ورغم كون الحسين (عليه السلام) معه إلاّ أنّه لم يعتقد بأنّه المعنيّ بذلك الحديث .
3 ـ لم يتذكّر الإمام (عليه السلام) حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) طيلة مسيره حتّى حلّ في كربلاء و حاصره العدو .
4 ـ حين تذكّر الإمام (عليه السلام) ذلك الحديث ، خشي أن يكون هو وصحبه المصداق للعبارة: «مهراق دمائهم» ورغم جميع القرائن والشواهد من قبيل حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) بشأن تلك الأرض ، وقرينة نزول الإمام فيها ، ومحاولة قتله من قِبَل يزيد ، والمعاملة الفَضّة لعبيدالله بن زياد ومحاصرته للإمام (عليه السلام)  ، وما قاله الفرزدق حين التقاه ، ومئات القرائن الاُخرى ، فإنّ الإمام تذكّر توّاً حين نزل في تلك الأرض أن يكون هو وصحبه المقصودين بذلك الحديث الذي أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل أربع وعشرين سنة ، فرجع الإمام إلى نفسه وأحسَّ بالخطر الذي


(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ«رجال الكشي»: 19 ح 46، وعنه بحار الأنوار 22: 386 ح 27، الأحاديث الغيبية 2: 164 ـ 165، ويأتي مفصّلاً في ص 259 .

(الصفحة217)

يواجهه ، في حين لم تكن كلّ تلك القرائن والشواهد سبباً ليقين الإمام (عليه السلام)  ، أمّا عبارته: «هاهنا والله محطّ رِحالنا . . .» فقد نسبت إليه من قِبل ابن الأعثم المشهور بالكذب .
أمّا العبارات المنمّقة التي اعتمدها المؤلّف ـ في هاتين الصفحتين من الكتاب ـ فهي لا تفيد كون الإمام لا يعلم بقتله في هذه الحادثة ، ولم يستطع تشخيص الواقعة فحسب ، بل وردها على أساس الاحتمال . وهنا نقول: كيف يقرّ المؤلّف بعلم الإمام بالشهادة منذ انطلاقته ، والحال كانت هذه هي النتيجة لدراسة الصفحتين المذكورتين؟ ولعلّ المؤلّف يقول: إنّي لا أنكر التفات الإمام لهذا الأمر ، بل أقول: إنّه لم يطلق هذه العبارة: «هاهنا والله محطّ رِحالنا . . .» وقد نسبها إليه الكذّاب ابن الأعثم . فأقول:
أوّلا: ما أوردناه هو نتيجة التحقيقات في ص301 .
وثانياً: لِمَ التعرّض إلى مقولة ابن الأعثم والإصرار على إثبات عدم صحّتها؟ التعرّض لذلك لا يكون إلاّ لأنّ المؤلّف قد التفت إلى عدم العلم ، وأراد بتضعيف هذه العبارة أن يزعزع أساس علم الإمام ، ويخلص بالتالي إلى أنّ الإمام (عليه السلام) لم يقل: «هاهنا مسفك دمائنا» ، أضف إلى ذلك على فرض أنّ ابن الأعثم كذّاب وضّاع ، فهل لنا أن نرميه بالكذب في الخبر الذي ينقله عن الإمام إذا كان مخالفاً لبعض الواقعيات حسب بعض القرائن؟ وهل هذا هو الاُسلوب الذي ينهجه المؤلّف في استنباطه للأحكام الشرعية؟ مثلا إذا كانت رواية دون سند ، أو كان بعض رواتها من يخدش فيهم ، إلاّ أنّ الرواية موافقة لرواية موثوقة ، فهل تسقط هذه الرواية من الاعتبار؟
هنالك مالا يحصى من القرائن التي تجعل من الطبيعي نسب عبارة «هاهنا والله محطّ رِحالنا» إلى الإمام ، وفرض كذب ابن الأعثم في سائر الموارد لا يعتبر

(الصفحة218)

دليلا على صحّة هذه المقولة ، وليس هنالك ما يدعو إلى تكذيب ابن الأعثم في إيراده لمقولة تنسجم وسائر الموازين العلمية والقرائن الخارجية ، ولا يسعنا إلاّ أن نردّ إصرار المؤلّف على التكذيب إلى مبدئه الأساسي القائم على إنكار علم الإمام بمقتله في هذه  الحادثة .
ومن المناسب هنا أن نشير إلى نقطتين:
النقطة الاُولى: ترى الشيعة الإماميّة أن لا فرق بين الأئـمّة الطاهرين (عليهم السلام) في جميع الامتيازات والفضائل ، فهم متشابهون في القدرة والعلم وما إلى ذلك من الصفات ، وهنا نطرح هذا السؤال: ما الفرق بين أمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام) ؟ فإذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عالماً بواقعة كربلاء ، فما الذي يدعونا للقول بعدم علم الإمام الحسين (عليه السلام) بها ،بحيث يكون هناك فارق في العلم بين الإمامين؟ ولعلّ هناك من يقول:
أوّلا: لقد نقل أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه المقولة كرواية أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ، فما الضير ألاّ يكون الإمام الحسين (عليه السلام) قد سمعها من النبي (صلى الله عليه وآله) ؟
ثانياً: لقد تطرّق أمير المؤمنين (عليه السلام) إجمالا لهذه الحادثة ، ولعلّه لم يقف على تفاصيلها ولا يعلم أنّها بشأن ولده الحسين (عليه السلام)  .
فنقول في الجواب :
أوّلا: لم يتعرّض لها المؤلّف كرواية أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)  ، بل اعتمدها المؤلّف كنقل آخر من قبيل كونها نبوءة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقط .
ثانياً: يفيد ظاهر الكتاب أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مطّلعاً على تفاصيل الواقعة وأنّها بشأن ولده الحسين (عليه السلام)  ، وفي هذه الحالة يبقى سؤالنا قائماً: كيف نقول بالفارق بين إمامين مفترضي الطاعة فنثبت لأحدهما من العلم ما ليس للآخر؟!
النقطة الثانية: من المسلَّم لديك أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أشار إجمالا في معركة صفّين إلى هذه الواقعة ولم يصرّح بشيء بخصوص ولده الحسين (عليه السلام)  ، في حين

(الصفحة219)

أفادت المصادر والروايات أنّه صرّح بإسم ولده الحسين (عليه السلام) وبحضوره ، وقد وردت أغلب هذه الروايات في كتاب البحار للعلاّمة المجلسي (رضي الله عنه) في المجلّد الأربع والأربعين ص252 ـ 266، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة تدحض قضية الإجمال:
فقد قال العلاّمة المجلسي (رضي الله عنه) : «وروي في بعض الكتب المعتبرة عن لوط بن يحيى(1) عن عبدالله بن قيس قال: كنت مع مَن غزا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفّين وقد أخذ أبو أيّوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس ، فشكى المسلمون العطش ، فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين ، فضاق صدره ، فقال له ولده الحسين (عليه السلام) : أمضي إليه يا أبتاه؟ فقال: إمضِ يا ولدي ، فمضى مع فوارس فهزم أبا أيّوب عن الماء ، وبنى خيمته وحطّ فوارسه ، وأتى إلى أبيه وأخبره ، فبكى علي (عليه السلام)  ، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا أوّل فتح ببركة الحسين  (عليه السلام)  ؟ فقال: ذكرت أنّه سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء حتّى ينفر فرسه ويحمحم . . .»(2) .
ولعلّ المؤلّف يقول: ليس هناك من منافاة بين هذه الرواية وما ذكرته ، فقد قلت بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يتطرّق إلى ذكر الحسين (عليه السلام) خلال مروره بأرض كربلاء متوجّهاً إلى صفّين ، ولعلّه صرّح بذلك حين المعركة ، فأقول: لو سلّمنا ذلك ، فالتصريح بالإسم خلال المعركة هل يبقي هنالك من مجال للإجمال ، أو ليس التصريح موضحاً للإجمال؟

نتيجة الأدلّة :
كانت الأدلّة السابقة نماذج تثبت عدم إمكانية تصديق المؤلّف لعلم


(1) لوط بن يحيى هو أبو مخنف الذي يروي عنه الطبري ، وقد أدرك زمان الإمام الصادق (عليه السلام)  .
(2) بحار الأنوار 44: 266 ح 23 .

(الصفحة220)

الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحادثة ، الأمر الذي دوّن من أجله الكتاب .
وبالالتفات إلى ما أوردناه سابقاً فلعلّ هنالك من يقول بأحد الموضوعين التاليين:

الموضوع الأوّل :
لقد ألّف كتاب شهيد جاويد بغضّ النظر عن علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة في هذه النهضة ، وهو عبارة عن دراسة دقيقة تثبت نهضة الإمام على أسس عقلائية ومنطقية من خلال المعادلات الطبيعية .

الموضوع الثاني:
قد يُقال : وهل العلم بالشهادة في هذه النهضة من ضروريات المذهب بحيث يدعو إنكاره إلى مثل هذه الضجّة؟ فما الضير ألاّ يكون الإمام عالماً بموضوع قد يكون من المسلّمات؟!

جواب الموضوع الأوّل :
1 ـ إذا كان هناك انسجام بين الدراسة التي تناولها الكتاب وعلم الإمام ، ورأيتم أنّها ليست منسجمة فحسب ، بل بالتوجّه إلى ما ذكر من أنّ علم الإمام يمكن جمعه مع الحركة المنطقية والعقلائية للإمام ، فما الحاجة لصرف النظر هذا؟ في الواقع يعتبر صرف النظر هذا اعترافاً صريحاً يتعذّر معه الجمع بين الكتاب وعلم الإمام ، وأنّ مضمون الكتاب قد دوّن على أساس عدم علم الإمام .
2 ـ يمكن افتراض موضوع «غضّ النظر عن العلم» من وجهة نظر المباحث العلمية والدراسات العقلية السائدة بين العلماء ، أمّا من ناحية الاُمّة فلا يمكن
<<التالي الفهرس السابق>>