في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة221)

قبوله ; لأنّ الكتاب إنّما دوّن لغرض استفادتها ، فليس للاُمّة أن تغضّ النظر عن علم الإمام وتدرس المباحث دون الأخذ بنظر الاعتبار ذلك العلم .
3 ـ أين ذكر الإدّعاء بغضّ النظر عن علم الإمام بشهادته في النهضة من مباحث الكتاب أو مقدّمته ، في حين لم ينس الكاتب الإشارة إلى المواضيع التي ليست بذات أهمّية ، أو لا يستحق موضوع علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه النهضة والذي تعتقد به الاُمّة الإسلامية إذا غضّ الكتاب طرفه عن ذكره بحيث دوّن بما يتنافى وذلك العلم من ذكر تلميح أو تصريح في أوّل صفحة من الكتاب؟
4 ـ هل من فائدة تُذكر لكتاب أسّس بنيانه على فرض غير صحيح ومخالف للواقع؟ يمكن أن يُقال: إنّ فائدته كما ذكرنا في الصفحة السادسة هو دراسة النهضة الحسينيّة على المستوى العالمي غير الشيعي إلى جانب نفعه لأهل الإيمان من خلاله اعتماده الموازين العُقلائية .
والجواب : لو أذعنّا لهذا الزعم ، كان لابدّ أن ينشر الكتاب بإحدى لغات العالم الحيّة ويقتصر على العالم البعيد عن التشيّع ، ولا ينبغي أن يطّلع عليه العالم الشيعي فتجرح مشاعره ، وللزم من ذلك أن يقول: إنّنا نقدّم هذا الكتاب للعالم غير الإسلامي ، بدلا من العبارة التي ذكرها في ص7: «إنّنا نقدّم هذا الكتاب إلى المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي بصفته فرضية تأريخية حول نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) » .

جواب الموضوع الثاني :
لا بأس هنا من الالتفات إلى بعض المواضيع المهمّة وإن تعرّضنا لشرحها آنفاً:
1 ) هل يقتصر علم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) على أحكام الإسلام وتعاليم الدين وقوانين الشرع بالاستناد إلى الاجتهاد في القرآن الكريم وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)  ، أم أنّهم

(الصفحة222)

مفسّرون للقرآن ولهم معرفة تامّة بالغيب وأسرار وبطون القرآن والأحكام والسنّة النبويّة؟
2 ) هل الإمام عالم بالموضوعات وتفاصيلها أم لا؟ والاعتقاد بهذا الأمر جزء من ضروريات المذهب أم لا؟ وهل الموضوعات على درجة واحدة ، أم هنالك فوارق بينها؟
3 ) إذا افترضنا عدم علم الإمام بالموضوعات ، ولم يكن الاعتقاد بهذا الأمر من ضروريات الدين ، فهل الإمام الحسين (عليه السلام) كان عالماً بوقائع حادثة كربلاء في نهضته أم لا؟
هذه أسئلة يبدو أنّ دراستها وتحقيقها في غاية الأهمّية ، وأهمّها هو السؤال الثالث الذي يجب دراسته حتّى تنكشف حقيقة الأمر ويزال الالتباس عن ذهنيّة الاُمّة المسلمة المناصرة لرسالة الإمام وإبعاد الشبهات عن نهضة سيّد الشهداء  (عليه السلام) ، التي ـ لا سمح الله ـ ستؤدّي إلى التقليل من أهمّية مقام الولاية .
وإليك جواب السؤال الثالث:

جواب السؤال الثالث :
أوّلا: إذا افترضنا جدلا بعدم علم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) بالحوادث والموضوعات ، وقلنا من وجهة نظر المباني الدينيّة: إنّ الاعتقاد به ليس ضروريّاً ، ولكن لا يمكن هنا إنكار حقيقة ، وهي أنّه لا يمكن إخضاع كافّة الموضوعات لمقياس واحد ، فإذا افترضنا أ نّ الإمام لا يعلم اسم الشخص الفلاني ، أو أين تقع الأرض الفلانية ، أو وجود الكهرباء ، فهذه الاُمور لا تمتّ بصلة من قريب أو بعيد إلى أساس الإسلام ومصير الاُمّة الإسلامية . ولكن هل لنا أن نفترض عدم علم الإمام بالموضوعات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسعادة المسلمين وحياتهم وتؤثّر

(الصفحة223)

مباشرة على المسيرة الإسلامية؟ وهل يمكننا القول بصراحة بأنّه لايجب أن يحيط الإمام (عليه السلام) علماً بمثل هذه الاُمور؟
بالاستناد إلى هذا التفكيك في الموضوعات ، يبدو من الواضح ضرورة الاعتقاد من وجهة نظر الدين بأنّ مثل هذه الحوادث ليست بخافية على الإمام (عليه السلام) وإلاّ تعرّض كيان الإسلام إلى خطر السقوط والزوال ، وعليه : فلا يمكن إصدار نفس الحكم بشأن كافّة الموضوعات .
فإن قُلنا أيضاً بعدم امتلاكنا للدليل على علم الإمام بهذه الحوادث وتشخيصه لها ، فإنّنا لابدّ أن نعتقد بأنّ إمكان خطأ الإمام في تشخيصه لمثل هذه الحوادث من شأنه أن يسدّد بعض الضربات الموجعة إلى الإسلام والمسلمين ، فهل تجب طاعة واتّباع مثل هذا الإمام؟ أولا تنصرف الآية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ}(1) إلى شيء آخر؟ أو لا تجب طاعة اُولي الأمر في الحوادث؟ هل تجب الطاعة للولي الذي يجوز عليه الخطأ؟
والآن نسأل هذا السؤال: واقعة كربلاء مِصداق لأيّ من الحوادث والموضوعات المذكورة آنفاً؟ هل هذه الواقعة المأساوية أمر جزئي لا مساس له بالإسلام والعالم الإسلامي؟ وهل كانت مصادمة عاديّة بين زعيم صالح وزعيم جبّار؟ أم أنّها كانت حادثة جوهرية ذات تأثير بالغ على مصير الإسلام؟
الجواب واضح تماماً ، فلا شكّ أنّ حادثة كربلاء كانت حادثة بالغة الخطورة على الإسلام والمسلمين ، وعلى ضوء ما أوردناه فإنّ علم الإمام (عليه السلام) بهذه الحادثة يبدو منطقياً تماماً ، كيف ينسب الجهل إلى الإمام وأنّه ورد ميداناً لم يتكهّن به حتّى سبّب ذلك ضرراً على الإسلام حسب رأي البعض! وكيف يحمل يزيد وزر تلك الأضرار والخسائر ؟! وكيف تجب طاعة الإمام في هذه الحركة التي لم يكن


(1) سورة النساء: الآية 59 .

(الصفحة224)

يعلم  بعاقبتها؟!
يرى المؤلّف أنّ الإمام لم يكن على علم بعاقبة تلك الأُمور! ثمّ حذا حذو الطبري في أنّه لو سُئل: أين نذهب؟ أين سننزل؟ ما عاقبة هذا الأمر؟ لما أجابهم إلاّ بالقول: «لا ندري على ما تتصرّف بنا وبهم الأُمور» . كما يرى المؤلّف أنّ عاقبة الأمر لم تكن سوى تلك الخسارة العظيمة التي سدّدها يزيد الفاسق إلى الإسلام والمسلمين .
إذن ، فهو يعتقد بأنّ الإمام قد ارتكب عملا لا عن علم انطوى على تلك النتيجة الخاسرة ، إلاّ أ نّ الخسارة يتحمّلها يزيد وهو المسؤول عنها!
وعلى هذا فإنّ الأفراد الذين تخلّفوا عن الركب وعلى ضوء ذلك المصير معذورون في تركهم الإمام! هل هنالك من مسؤولية تقع على عبيدالله بن الحرّ الجعفي! طبعاً ليس أمامنا من سبيل سوى الإذعان باطّلاع الإمام (عليه السلام) وعلمه بكافّة تفاصيل الحوادث .

طريق مغلق ؟!
لعلّ هنالك من يسألنا : لم تحشرون أنفسكم في طريق مسدود ، فأنتم تقولون بأنّ الإمام (عليه السلام) كان عالماً بعاقبة النهضة ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يلقي بنفسه في تلك التهلكة المميتة؟ كيف أقدم الإمام على تلك الحادثة ولم يتريّث رغم إضرارها بالإسلام والمسلمين؟ لِمَ لَمْ يستجب لنصائح ابن عباس ومحمّد بن الحنفية؟ ولِمَ لَمْ يتمكّن من التقى الإمام في مسيره عن ثني الإمام عن عزمه؟ فنقول في الجواب:
أوّلا: أنّ حادثة كربلاء ليس فقط لم تضرّ بالإسلام والمسلمين ، بل ـ سنثبت في الفصل القادم إن شاء الله ـ أنّ هذه الحادثة كانت الخطوة الاُولى لاستعادة الإسلام حيويّته ، كما كانت الضربة الموجعة التي وجّهت لحكومة يزيد الغاشمة .

(الصفحة225)

وعليه : فالنهضة الحسينية كانت اللبنة الأساس لإقامة الحياة الإنسانية القائمة على أساس مفردات العزّة والكرامة والشجاعة ورفعة الإسلام والمسلمين .
ومن هنا فإنّ طاعة الإمام  (عليه السلام) واجبة على كلّ مسلم وإنسان حرّ غيور ، والتخلّف عنه وعدم الالتحاق به يعدّ أسوأ أنواع إلقاء النفس في التهلكة والقضاء على كيان الإسلام والمسلمين ، والموت معه هو الموت من أجل العدل والحرية والإسلام والقرآن والتوحيد .
فحركة الحسين (عليه السلام) أنصع صفحة ذهبية في التأريخ علّمت الناس دروس التضحية والكفاح ، وفضحت أساليب الأعداء وما يضمرون من شرٍّ وعدوان للإسلام ، ولذلك فإنّ عزمه الذي يستند فيه إلى المصلحة الإسلامية التي رسمها له الحقّ والنبيّ وأمير المؤمنين لم يكن ليضعف لأقوال ابن عباس وأمثاله ، فهؤلاء لا يعلمون خطورة وظيفة الحسين (عليه السلام) ؟ أمّا الإمام (عليه السلام) فقد كان يعلم أين يتّجه وماذا سيحدث .
ثانياً: هناك بعض الأسناد والوثائق التأريخية التي استدلّ بها المؤلّف ، ونذكرها بأجمعها:
1) لقد نقل الطبري في تاريخه عن أبي مخنف لقاء الإمام لزهير بن القين وقال: «قال زهير لصحبه حين رجع من عند الإمام: مَن أَحبّ منكم أن يتبعني ، وإلاّ فإنّه آخر العهد . إنّي ساُحدّثكم حديثاً: غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم ، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم ، فأمّاأنافإنّي أستودعكم الله ، قال: ثمّ والله ما زال في أوّل القوم حتّى قُتل»(1) .
إنّ هذا النقل من الطبري جدير بالتأمّل ، فهو موثوق تماماً من حيث السند ;


(1) تاريخ الطبري 4: 299 .

(الصفحة226)

لأنّه يروي عن أبي مخنف الذي يرى البعض أنّه يأبى الخدش والطعن ، وزهير هو ذلك الرجل الذي كان يتحاشى لقاء الإمام حين رجع من مكّة بعد أن أدّى مراسم الحجّ ، إلاّ أنّه التقى الإمام صدفة ، كان زهير يأبى لقاء الإمام والالتحاق بركبه ، فما الذي سمعه خلال ذلك اللقاء؟ وماذا رأى؟ حتّى يعود إلى خيمته ويودّع صحبه ، أو لم يكن يدرك بأنّه سيرد ميداناً يحصل فيه على الشهادة؟ ألم يذكّره الإمام (عليه السلام) بتلك القصّة ويبيّن له حقيقة الأمر؟ أفقال له الإمام (عليه السلام) : إذا وقفت إلى جانبي فإنّي لأرجو أن أنتصر وأستولي على الكوفة وستصبح من أعيانها وأشرافها في الحكومة؟ لو كان هذا ما قاله الإمام لزهير لما ودّع قومه وقال: إنّه آخر العهد ، فالواقع هو أنّ الإمام (عليه السلام) قد أخبره بواقع الأمر .
إذن ، فالإمام كان عالماً بعواقب الأُمور وقد أخبر بها زهير ووعده بالشهادة ، وهذا هو الأمر الوحيد الذي من شأنه تفسير حديث زهير ، ولم يكتف الرجل بهذا المقدار ، بل تطرّق إلى معركة بلنجر وحديث سلمان ، وعليه : فسلمان كان يعلم بهذه الحادثة أيضاً ، سلمان الفارسي(1) الذي تربّى على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله)  .
ولا اُريد أن أقول بأنّ سلمان كان على علم بكلّ تفاصيل الحادثة ، إلاّ أنّه كان على يقين بتلك الواقعة المريرة على الحسين  (عليه السلام) ، وكان يعلم أنّ زهيراً أيضاً سيشارك فيها ، وكان زهير أيضاً على يقين بأنّ المراد بالحديث كربلاء وشهادته هناك . فهل ما زال الإمام يفكّر بتحقيق النصر والقضاء على الحكومة الظاهرية ليزيد وتسلّم مقاليد الحكم؟ فسلمان كان يعلم بتلك الحادثة التي سيحصل فيها زهير على الشهادة دفاعاً عن إمام الإسلام والمسلمين ، بينما ليس للحسين (عليه السلام) مثل هذا العلم وتفاصيل الحركة مجهولة بالنسبة له ، وليس لديه ما يقوله سوى: «لا ندري على ما تتصرّف بنا وبهم الاُمور» .


(1) ذكر ابن الأثير في الكامل 4: 42 أنّه سلمان الفارسي، وكذا المفيد في الإرشاد 2: 73 وغيرهما .

(الصفحة227)

2 ـ نقل ابن الأثير في الكامل حادثتين ، وسنورد عباراته ثمّ نناقشها ، فقد قال: «فلمّا أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ـ في منزل زُبالة ـ ومسلم بن عقيل ـ في منزل الثعلبية ـ أعلم الناس ذلك وقال: قد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام ، فتفرّقوا يميناً وشمالا حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤا معه من مكّة ، وإنّما فعل ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله فأراد أن يعلموا علامَ يقدمون .
ثمّ سار حتّى نزل بطن العقبة ، فلقيه رجل من العرب فقال له: أنشدك الله لما انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف ، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القِتال وطّؤا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فلا أرى أن تفعل ، فقال: إنّه لا يخفى عليّ ما ذكرت ، ولكنّ الله ـ عزّوجل ـ لا يغلب على أمره ، ثمّ ارتحل منها»(1) .
فالذي نخلص إليه هو أنّ الإمام (عليه السلام) لم يشعر بأيّ تردّد حين أخبر بقتل رسوله مسلم بن عقيل ولم تضعف إرادته ، ثمّ يواصل مسيرته رغم تصريحه بعدم وجود جيش لنصرته في الكوفة وأنّ أشياعه لم يفوا بعهودهم ، فهل يفهم من كلامه (عليه السلام) : «خذلنا شيعتنا» أنّ البعض قد تخلّى عن نصرتنا؟ أم قصده زال مركز ثقلنا ولم نعد نمتلك القوّة الشعبية الموالية هناك؟ وما إن سمع البعض مقالة الإمام حتّى تفرّقوا يميناً وشمالا ، فهل بقي من أمل بالنصر فلم تقطع الصلة لحدّ الآن بين القيادة والجيش؟ أفلا يعني رفع البيعة والتخيير بالبقاء والانسحاب أنّ باب النصر قد أُغلق؟ فلِمَ واصل الإمام حركته ولم يتردّد حتّى بلغ كربلاء! لِمَ رجع مَن التحق به في الطريق ممّن يبحثون عن الطعام الدسم ، بينما واكبه من انطلق معه من مكّة ممّن سمع خطبته


(1) الكامل لابن الأثير 4: 43 .

(الصفحة228)

«خُطّ الموت . . .»(1) وقد أُحيطوا علماً بالحوادث والوقائع التي لم تزيدهم سوى قوّة وصلابة؟ أوَ لا يعني انصراف ذلك النفر استحالة النصر وبقاء أولئك الأصحاب لعلمهم منذ البداية بتلك الحادثة المروّعة؟
ثمّ أخذت الأخبار المحزنة تتقاطر عليهم ، حتّى إذا بلغوا العقبة ، انبرى لهم ذلك الرجل العربي البليغ الذي صوّر للإمام أوضاع الكوفة «أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف . . .» إلاّ أنّ هذا الكلام المنطقي لم يكن له أدنى أثر على إرادة الإمام حتى قال: «ولكن الله عزّوجلّ لا يغلب على أمره »، أي هناك وظيفة لابدّ أن أقوم بها وليس لي من إرادة مقابل إرادة الله ، فهل ما زال الإمام (عليه السلام) لا يعلم عواقب الاُمور راجياً النصر وتشكيل الحكومة الإسلامية فيواصل مسيرته، أم كان هناك شيء آخر يدفع الحسين (عليه السلام)  ؟
لقد ردّ الإمام (عليه السلام) على ذلك الرجل: أنّه لا يخفى علينا ما ذكرت إلاّ أ نّ طريقنا لا يعرف الرجوع ، وليس لي سوى التسليم للحقّ ، فالله لا يغلب على أمره . فهنالك رسالة مُلقاة على عاتقي ولابدّ لي من النهوض بها ، أولم يتحدّث الإمام عن مشيئة الله؟ أفلم يكن عالماً بشهادته؟ الشهادة التي أرادها الله لحسين (عليه السلام) فتقبّلها بقبول حسن .
نعم ، لم يكن هناك من شيء خافياً على الحسين  (عليه السلام) ، ولم يكن هناك من عامل يمكنه أن يثني الإمام عن عزمه ، حيث نراه يحثّ الخطى بعد ذلك الحوار ليواصل مسيرته ويقوم بوظيفته .
3 ـ أورد ابن الأثير في الكامل قصّة الأفراد الأربعة الذين أتوا الإمام (عليه السلام) من الكوفة والتقوه في «عذيب الهجانات» فقال بعد أن ذكر التفاصيل: «فقال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس خلفكم ، فقال له مجمع بن عبدالله العائذي وهو


(1) يأتي في ص 232 .

(الصفحة229)

أحدهم: أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم ، وملئت غرائره فهم ألْبٌ واحد عليك ، وأمّا سائر الناس فإنّ قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك ، وسألهم عن رسوله قيس بن مِسهر ، فأخبروه بقتله وما كان منه ، فترقرقت عيناه بالدموع ولم يملك دمعته ، ثمّ قرأ: {فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا }(1) ، اللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك وغائب مذخور ثوابك»(2) .
فالذي نخلص إليه من هذا الحوار واستشهاد الإمام (عليه السلام) بالآية ، هو أنّ الإمام أشار إلى هدفه في إحقاق الحقّ وإجابة دعوة أهل الكوفة ، فقد كان أوّل سؤال سأله أولئك الأفراد هو خبر أهل الكوفة وحالتهم الروحية ، هل هم متأهّبون لدخولنا؟ إلاّ أنّ إجابتهم كانت مثبّطة ، فقد وقفت الآلاف التي بعثت لك برسائلها إلى جانب العدوّ ، فالأشراف قد أعظمت رشوتهم ، أمّا الضُعفاء فهُم متعطّشون لبسط العدل والقسط ، ولكن ليس لديهم القدرة على اتّخاذ القرار في المجتمعات الفاسدة ، فالضعف الماليّ والحرمان وضعف الإرادة تجعلهم خاضعين لإرادة الدولة ، فهم مع الإمام قلباً وضدّه سيفاً ، فإذا قلنا: ما زال الإمام حتّى في ظلّ هذه الظروف يأمل بتحقيق النصر ، لا نرى أيّ منطق وعقل يوافقنا على ذلك ، مع ذلك لم تتزلزل إرادة الإمام (عليه السلام) ولم ينثنِ عن عزمه ومواصلة مسيرته .
ومن هنا يعلم بأنّ هناك هدفاً أسمى يسعى الإمام إلى تحقيقه ، فالإمام (عليه السلام) لم يقترح على الحرّ الرياحي الرجوع والانصراف ، في حين لم يكن الحرّ يعلم بهدف الإمام ، وأولئك القادمون من الكوفة كانوا يظنّون أيضاً بأنّ الحسين (عليه السلام) إنّما يروم السيطرة على الكوفة ، ولذلك أشاروا عليه بالانصراف ، بينما كان الإمام عالماً بما


(1) سورة الأحزاب: الآية 23 .
(2) الكامل لابن الأثير 4: 49 ـ 50 .

(الصفحة230)

أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ولذلك حين يخبر بشهادة قيس يتلو {فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنْتَظِرُ . . .} .
فمنشأ هذه الأسئلة وتلاوة الآية هو ما ذكرناه من غرض الإمام (عليه السلام) في إسقاط حكومة الجور والظلم وإعلام العالم بأنّنا نريد تطبيق القرآن وأحكام الإسلام ، ولذلك عزمنا على الإطاحة بهذه الزعامة الفاسقة ، فإن قتلنا فذنبنا هو أنّنا نريد إعلاء كلمة الله . وإنّا لعالمون بأنّنا لا نتمكّن من تحقيق أهدافنا سوى بالقتال والشهادة ، فقد سأل أربعة أفراد من أهل الخبرة ـ أجوبتهم تدلّ على أنّهم من أهل الخبرة ـ ليدلوا بشهادتهم على عدم استعداد أهل الكوفة وجيشها لمواكبة مسيرة الإمام فلا من عدد ولا عدّة ، وبالنتيجة لتعلم الدنيا بأنّ الحسين (عليه السلام) لبّى دعوة الاُمّة ، في حين لم تصمد الاُمّة وتمارس وظيفتها وهو فقط الذي واصل مسيرته حتّى الشهادة ، وما زال هدفه لم يتحقّق إلاّ بالشهادة التي أخبرها به جدّه وأبوه .
إذن ، فالدافع من السؤال عن أهل الكوفة إقرار خبراء الاجتماع بالأوضاع الاجتماعيّة التي يعيشها أولئك الناس واستماتتهم في الدفاع عن حكومة يزيد حتّى لا تصدر محكمة التأريخ أحكامها جزافاً ، وتعلم بأنّ هنالك علّة لم تدع الإمام ينصرف عن مواصلة حركته ، العلّة التي لا يعرفها الناس بينما يعلمها الإمام ، والتي يكشف السؤال عن قيس وتلاوة الآية سرَّها في عدم تسليم الإمام والانسحاب من الميدان والقتال حتى الشهادة ، وما إن يتلو الإمام الآية حتّى يبتهل «اللهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة» .
4 ـ جاء في الإرشاد للمفيد: «روى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبدالله إنّ قِبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك ، فقال له الحسين (عليه السلام) : إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء ، أما إنّه تقرّ عيني ألاّ تأكل من برّ

(الصفحة231)

العراق بعدي إلاّ قليلا»(1) .
فالقصّة مثيرة حقّاً ، كيف أخبر هؤلاء الناس بقضية عمر بن سعد؟ لِمَ طُرح ابن سعد كقاتل للإمام الحسين؟ كان سلوك عمر يوحي بصلاح ظاهره ، فلم يكن آنذاك ما يشير إلى اقترافه هذه الجريمة البشعة ، فكيف اتّفق الناس على أنّه قاتل الحسين؟ فهل ذلك سوى ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبيه سعد بن أبي وقّاص؟ وكانت مقالة على درجة من الجزم بحيث كان الجميع يناديه بقاتل الحسين حين يروه في الأزِقّة والأسواق ، حقّاً ليس هناك شيء آخر ، فسيأتي اليوم الذي يرتكب فيه هذا الفرد ـ الذي لا يفارق زيفاً الجماعة ـ تلك الجريمة ويسوّد وجه التأريخ .
أمّا عمر بن سعد فقد كان مطمئناً لنفسه بحيث يهزأ بكلّ مَن يتفوّه بذلك الكلام ، ولا يراه إلاّ سفيه خفيف العقل ، حتّى ظنّ بأنّ اللغط قد كثر وأنّه لم يطق التحمّل فيحدّث الإمام (عليه السلام) بذلك الحديث: «إنّ قِبلنا ناساً سُفهاء» كيف لي أن أكون قاتلا ؟ ولم أُقارف أيّ جرم لحدّ الآن! فهل هذا إلاّ منطق السفه والسخف؟
أمّا الإمام (عليه السلام) فردّ عليه قائلا: «هؤلاء ليسوا سُفهاء بل حلماء »، يعلمون قاتل إمامهم ، ويرون تلطّخ يدك بدمي .
هذا هو الحوار بين الإمام الحسين (عليه السلام) وعمر بن سعد منذ زمان بعيد عن الطف ّ، فالإمام يصدّق ما قالوه ، ويفهم قاتله بأنّه عالم بما ستؤول إليه الأحداث ، ولو كانت الاُمّة تعلم هذه الاُمور على نحو الإجمال فإنّ الحسين (عليه السلام) محيط بالتفاصيل ، فيخبره بما ينتظره . فالعراق مذبحي وميدان صولتك . وستقدم على قتلي طمعاً بدنيا الريّ إلاّ أنّك لا تبلغ ما ترجو . إنّك لن تعمّر بعدي وستدخل النار بقتلي .
ولك أن ترى ـ عزيزي القارئ ـ ما أورده مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» وله


(1) الإرشاد 2: 132 .

(الصفحة232)

نفسه أن يراه ، هذا الحوار بين الحسين وعمر بن سعد ، فقد كان (عليه السلام) عالماً بتفاصيل واقعة كربلاء ، فالاُمّة كانت تعلم بأنّ الحسين (عليه السلام) يقتل في المعركة وقاتله عمر بن سعد ، أمّا الحسين (عليه السلام) فقد كان يعلم دافع عمر بن سعد من قتله ، كما كان يعلم بأنّ ابن سعد سوف لن يظفر ببغيته ، فهل يمكن بعد هذا أن تزعم بأنّ الإمام لم يكن يعلم بتلك الحادثة؟ أو أنّه يعلم بشهادته ولكن ليس في هذه النهضة؟ فكلّ هذه الأسرار عرضها الحسين لعمر بن سعد ثمّ قال بأنّه لم يكن يعلم ، حتّى حين اقترب من كربلاء بحيث لو سُئل: أين نذهب ، وماذا سيحصل ، وأين سننزل وما العاقبة؟ لأجاب : «لاندري على ما تتصرّف بنا وبهم الاُمور؟!» أو نقول: احتمل الأصحاب أخيراً حين وردوا كربلاء أنّ المعنيّ بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ المقتول من أهل البيت بكربلاء هو الحسين (عليه السلام) » .

5 ـ خطبة «خُطّ الموت . . .»
«خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى اشتياق أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيِّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفّينا اُجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّبهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(1) .
أفلا تفيد هذه العبارة «كأنّي بأوصالي . . .» التي أوردها الإمام في


(1) الملهوف لابن طاووس: 126، مثير الأحزان: 41، كشف الغمّة 2: 29، وعنها بحار الأنوار 44: 366 ـ 367 .

(الصفحة233)

مكّة ـ حسب ما نقل في اللهوف ـ علم الإمام بمصيره؟ وإضافة إلى ذلك ، ألا تكشف عن مكان مصرعه وشهادته؟ قد يُقال بأنّ الإمام إنّما أورد هذه الخطبة في يوم عاشوراء حين أصبحت شهادته حتمية ، لا أنّه أوردها في مكّة فنقول: لعلّ الإمام (عليه السلام) أورد خطبتين : أحدهما حسب نقل اللهوف في مكة ، والاُخرى حسب مقتل الخوارزمي(1) في كربلاء ، ولعلّ الاختلاف في المضمون يؤيّد ما ذهبنا إليه ، وكما ترد نفس المضامين والألفاظ مع قليل من التغيير في القرآن ونهج البلاغة ; فإنّ هذا الأمر يفيد مقصوداً آخر يختلف عن السابق ، ولعلّ خطبة الإمام (عليه السلام) تكرّرت من أجل إفادة مقصد خاصّ ، كما يمكننا القول بأنّ الخطبة واحدة وقد أوردت في مكّة ، وهنالك عدّة اُمور للترجيح منها:ـ
1 ) تصريح صاحب اللهوف بإيراد الخطبة في مكّة ، بينما لا يصرّح الخوارزمي بإيرادها في عاشوراء ، بل أوردها ضمن أحداث عاشوراء .
2 ) ما المرجّح لنقل الخوارزمي على نقل اللهوف ، بحيث يميل المؤلّف إلى صدورها في عاشوراء؟ بل الترجيح للّهوف حيث نقل المحقّق الجليل والفقيه الكبير والمحدّث الشامخ المرحوم الحاج الميرزا محمّد أرباب الإشراقي في كتابه القيّم «الأربعين الحسينية» أنّ هذه الخطبة قد رُويت عن عدد كثير من عُلماء الإمامية ومنهم السيد بن طاووس في كتاب اللهوف والشيخ جعفر بن محمّد المعروف بابن نما والشيخ علي بن عيسى في كتاب كشف الغمّة ، وقد صرّح الجميع بأنّ الإمام (عليه السلام) ألقى هذه الخطبة حين عزم على الخروج من مكّة إلى العراق .


(1) «أيُّها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف; وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه كأنّي أنظر إلى أوصالي تقطّعها وحوش الفلوات غبراً وعفراً ، قد ملأت منّي أكراشها ، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته وعترته، ولن تفارقه أعضاءه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بها عينه، وتنجز له فيه عدته . (مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي 2: 8).

(الصفحة234)

3 ـ يحكم الذوق السليم والمعرفة بالفصاحة العربية بأنّ عبارة اللهوف أفصح وأقدم من عبارة الخوارزمي ، فإسنادها إلى الإمام أنسب ، كما أنّ ابن طاووس صرّح بأنّ الخطبة قد وردت في مكّة ، ولا يسع المؤلّف إلاّ أن يقول بأنّ العبارة التي وردت في اللهوف «فإنّي راحل مصبحاً» دليل على أنّ الخطبة أو البعض منها «مَن كان باذلا مهجته» ـ التي وردت في اللهوف ولم ترد في الخوارزمي ـ لم ترد في مكّة ، وذلك لأنّ حركة الإمام (عليه السلام) كانت عند زوال يوم التروية لا صباحاً ، إضافة إلى أنّ الحركة لم تقرّر قبل ليلة ، بل بحكم الجبر والاضطرار فإنّ الإمام عزم على الحركة فجأة ، ولم تكن هناك من وقفة بين العزم والحركة .
ونقول في الجواب: ليس هناك من منافاة بين الحركة عند الزوال وكلمة «مصبحاً» ; لأنّ هذه الكلمة كثيرة الاستعمال بمعنى «غداً» ومن أين يعلم أنّ الإمام (عليه السلام) لم يعزم على الحركة عندما رأى نفسه مضطرّاً؟ بل كان الإمام مستعدّاً للإتيان بمناسك الحجّ والتوجّه إلى عرفة ، ولم يكن هنالك أيّ قرار مسبق بالحركة إلى العراق قبل زوال يوم التروية ، لقد نقلت أنت هذا الموضوع من إرشاد المفيد والطبري ، والحال أنّه:
أوّلا: في قبال المفيد (قدس سره) والطبري هناك عدد كبير من العلماء والفضلاء ـ ممّن ذكرناهم سابقاً ـ صرّحوا بأنّ العزم على الحركة كان منذ الليلة التي سبقتها ، وليس هنالك ما يدعونا لاعتماد نقل المفيد وإهمال نقل اللهوف وسائر المشاهير .
ثانياً: ما يفيده الإرشاد وتأريخ الطبري أنّ حركة الإمام كانت عند زوال يوم التروية بعد الخروج من الإحرام ، وليس هنالك من تعرّض إلى وقت العزم على الحركة وزمان الخروج من مكّة ، بل نقل الطبري عن أبي مخنف أ نّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبدالله بن عباس فقال: ياابن عمّ ، أُشيع بين الناس أنّك ذاهب إلى العراق؟ فأجابه (عليه السلام) : لقد عزمت على المسير منذ اليوم أو يومين إن شاء

(الصفحة235)

الله . فتكلّم ابن عباس عن هذا الأمر وانصرف ، ثمّ عاد إليه عند الليل أو الغد وأبدى له نصائحه بالانصراف عن هذا السفر(1) . أوَلا تصرّح هذه القصّة ـ التي نقلها الطبري عن أبي مخنف ـ بأنّ العزم على الحركة كان قبل يوم أو يومين؟ فلماذا نقول: كانت الحركة مفاجأة وقد دفعه الاضطرار إلى ذلك ، حيث كان قصده الأساسي الإتيان بمناسك الحجّ ، وعليه : يمكن الجمع بين إيراد الخطبة في الليل مع الحركة صباحاً والعزم عليها ، وهذا ما حصل في الواقع ، وذلك لأنّه عزم على الحركة في الليل وأورد الخطبة .

سؤال:
إذا كان الإمام (عليه السلام) عازماً على الحركة قبل يوم أو يومين وكان يعلم أنّه لا يتوقّف في مكّة حتّى إتمام مناسك الحجّ ، فلِمَ أحرم للحجّ واتّجه إلى عرفة؟

جوابه:
أنّ عمل الإمام (عليه السلام) هذا يستند إلى مصلحة ، ورغم أنّه قرّر الحركة وكان يعلم بعدم أدائه لكافّة أعمال الحجّ ، كان من الضروري أن يحرم للحجّ وينضمّ إلى الجماعة الإسلاميّة في تلك المراسم ، ثمّ يبدّل إحرام الحجّ عمرة ليعلم الناس أن ليس هنالك من حصانة له في ظلّ هذه الحكومة الغاشمة ، وليس له أمن في الحرم الآمن الذي تؤمن فيه الحيوانات ، وهكذا يكشف الإمام (عليه السلام) عن بعض خطط هذه الحكومة ومؤامراتها والتي تهدف إلى إحياء العهد الجاهلي ، ولتعلم الأجيال الإسلامية القادمة بسلب أمن الحرم من قبل هذه الحكومة ، وأنّها لم تمهله حتّى لأداء مناسك الحجّ . أضف إلى ذلك أنّه ليس من المعلوم أنّ الإمام (عليه السلام) أحرم للحجّ ،


(1) تاريخ الطبري 4: 287 .

(الصفحة236)

بل يستفاد من رواياتنا وكذلك تأريخ الطبري(1) أنّه أحرم للعمرة ، ولم يكن قد عزم على الحجّ منذ البداية .
أجل ، فإنّ هذا الكلام يفيد عدم الترديد في خطبة «خطّ الموت . . .» حسب نقل اللهوف .

المؤلّف والإقرار بالعلم :
نفترض ـ مماشاة للمؤلّف ـ أنّ هناك تقطيعاً في الخطبة وأنّ الإمام (عليه السلام) لم يورد «من كان باذلا فينا مهجته» في مكّة ، إلاّ أنّه يتّفق معنا في أنّ هذه العبارة «وكأنّي بأوصالي . . .» قد أوردها في مكّة ، وهنا نسأل المؤلّف: أو لا تدلّ هذه العبارة على شهادة الإمام في هذه الحركة؟ أو لا تكشف أيضاً عن موضع الشهادة؟ هل هناك


(1) 1 ـ جاء في كتاب وسائل الشيعة ج14 ص 310 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلى بلاده ، قال: لا بأس ، وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم ، وإنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً .
2 ـ وعنه، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس ، عن معاوية بن عمّار ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ .
3 ـ في تاريخ الطبري 4: 289 أنّه وروى أبو مخنف أنّ الحسين (عليه السلام) طاف عند الظهر بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّ من شعره وحلّ من عمرته، ثم توجّه نحو الكوفة .
نعم ، يشمّ من عبارة المفيد في الإرشاد 2: 67 ، أنّ الحسين (عليه السلام) أحرم للحجّ ثمّ أبدلها للعمرة ، ولكن لا اعتبار لهذه الرواية أمام الروايات المذكورة ، فإحرام الإمام (عليه السلام) كان للعمرة ولم يبدأ بمناسك الحجّ ، وقد حصل مراد الإمام (عليه السلام)  ، لأنّ عدم الاشتراك في مراسم الحجّ لمن أقام أشهراً في مكّة ولا تستغرق المناسك سوى بضعة أيّام يفيد إبرازه لموقفه حيال الجهاز الحاكم وفضح سياسة يزيد القائمة على أساس انتهاك الحرمات وسلب الحرم الإلهي أمنه ، فأفهم (عليه السلام) الاُمّة أنّ يزيد وبدلاً من إحياء شعائر الله وتعظيمها يهدف ترويع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مركز التوحيد لا  لذنب سوى اتّباعه للحقّ والقرآن .

(الصفحة237)

من معنى لأن يقول الإمام في عاشوراء: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء؟!» أو ليست العبارة تكهّن ونبوءة عن أمر خفيّ سيحدث قريباً بين النواويس وكربلاء؟
وهنا نسأل: أو لا تدلّ هذه العبارة على علم الإمام (عليه السلام) ؟ لو كانت هذه الحادثة ستقع بعد عشر سنوات فهل يصحّ من الإمام أن يطلق الآن في حركته عبارة «كأنّي بأوصالي . . .»؟ بل هل يعقل إطلاق مثل هذه العبارة في هذا الوقت؟
إذا كان الأمر كذلك فإنّ لسان حال الإمام هو أنّي سأتّجه إلى الكوفة من أجل الإطاحة بحكومة يزيد ، ولا أدري هل سأحقّق هذا الهدف أم لا ؟، إلاّ أنّي أرجو النصر ، أيّها الناس ـ الذين تهبّون لنصرتي ـ اعلموا بأنّي سأُقتل بعد عشر سنوات في كربلاء .
نحن لا يسعنا أن نتأمّل خطبة الإمام (عليه السلام) بهذا الشكل ، فكيف تقيّم أنت الخطبة؟ على كلّ حال ; فإنّ خطبة «خُطّ الموت . . .» قد أوردت في مكّة ، وقد صرّحت بذلك رواية اللهوف الموثوقة ، وأنّ الإمام قد قال في مكّة: «وكأنّي بأوصالي . . .» التي تفيد علم الإمام التامّ بحادثة كربلاء ، والسلام على من اتّبع الهدى .
6 ـ قال المُفيد في الإرشاد : «روى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن يزيد، عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل»(1) .
فالرواية تكشف عن حرارة مستعرة داخل الإمام قد ملأت قلبه الشريف حزناً وألماً حين يصوّر قتل يحيى ، كما ألّمت هذه الكلمات قلب ولده علي بن


(1) الإرشاد للمفيد 2: 132 .

(الصفحة238)

الحسين . كان الإمام عالماً بمصيره ناعياً نفسه في هذه الحركة ، ولكن كيف له بالتصريح علناً وعلي بن الحسين وزينب الكبرى يسمعان ما يقول؟ وما عساه أن يفعل والحادثة وشيكة الوقوع .
فالإمام (عليه السلام) يرى ميدان كربلاء وقد أحاط به جيش عبيدالله بن زياد وهم متعطّشون للارتواء من دمه الطاهر ، كما يرى سهام الغدر التي ستصوّب إلى نحر ولده الرضيع وسائر الفتية الذين يضرّجون عمّا قريب بدمائهم ، بل يرى حوافر الخيل التي ترضّ صدره ثمّ يحزّ رأسه ويُهدى من العراق إلى الشام إلى باغ من بُغاة بني اُمية .
ليت شعري ماذا عسى الإمام أن يفعل ، فإن أماط اللثام وصوّر الأحداث تعالت الأصوات بالنحيب والبُكاء الذي يرقّ له قلبه ، وإن فضّل السكوت فلا مناص من حركة تلك القافلة التي ستُواجه تلك الأحداث المروّعة دون أن تكون قد تصوّرتها وتأهّبت لها ، ولم يكن من اُسلوب يمكن اتّباعه بهذا الشأن سوى ذلك الذي اعتمده الإمام ، فلم يكن أن تسير القافلة غافلة عمّا سيواجهها ، لابدّ من لفت انتباه القافلة لتلك الأحداث ليستعدّ البعض للقتال الذي تطيح دونه الرؤوس ، كما تتأهّب النساء للسبي والأسر . فكيف يبدأ وماذا يقول؟ ليس هنالك أفضل من التذكير بحادثة النبيّ يحيى التي من شأنها علاج هذه المشكلة .
نعم ، بإمكان حادثة يحيى (عليه السلام) أن تكون الفصل الأوّل من قصّة حادثة الطفّ ، وهل نذكر تلك الحادثة جملة واحدة ونلفت النظر إلى تكرار حوادث التأريخ؟ كلاّ . فالقول مرّة واحدة قد لا يؤتي أُكله ولابدّ أن أثير تلك الحادثة في عدّة منازل ، ليعلم الركب ويستعدّ لتلقّي الأخبار المؤلمة التي سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد آن أوانها .
وهنا نتساءل لماذا لا يتحدّث هذا الزعيم الذي ينهض بمسؤولية إمرة الجيش

(الصفحة239)

وقيادته من أجل تحقيق النصر ، عن معارك الإسلام والانتصارات الباهرة التي حققّها جدّه وأبوه في تلك المعارك ، لم لا يتحدّث عن معركة الجمل؟ لو كان يأمل بالنصر لكان من المناسب الحديث عن تلك المعارك لا عن حادثة يحيى! الإمام (عليه السلام) يمثّل قمّة الأدب والبلاغة ، وعليه أن يتكلّم بما ينسجم ومقتضى الحال ، لو كان هناك من أمل بالغلبة والنصر ; فإنّ مقتضى الحال يتطلّب من الإمام التحدّث عن قضية أبناء الطلقاء عند فتح مكّة وكسر شوكة أبي سفيان ، ليشتدّ عزم الأصحاب في خوض المعركة ، فيزيد ابن ذلك المدحور المهزوم في معارك الإسلام . إذن ، فإثارة الإمام لحادثة يحيى تفيد شيئاً آخر يجعل الحسين (عليه السلام) يحثّ الخُطى لاستقباله .
نعم ، هذه هي الطريقة التي تجعل سيد الشُهداء (عليه السلام) يحطّم حاجز الصمت ويخرج من تلك الحيرة العظيمة ، ولذلك يتكلّم خلال المسيرة عن الموت والشهادة إلى صحبه ، ثمّ أخذ الإمام يخوض في التفاصيل أكثر فأكثر كلّما اقترب من أرض كربلاء . فقد نقل مثلا رؤياه إلى ولده عليّ بن الحسين وهو يسترجع كثيراً ، ثمّ أخبره بأنّه سمع منادياً ينادي «القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم»(1) . ونرى أنّ الإمام إنّما يهدف من هذه الكلمات إلى إعداد صحبه ولاسيّما أهل بيته إلى ما سيواجههم من حوادث ، ولذلك يردّ عليه «لا نبالي نموت محقّين» (2).
نعم ، كان الإمام (عليه السلام) يعلن عن هذه الأحداث رغم أنّ المسافة كانت بعيدة نسبياً عن يوم عاشوراء وأرض كربلاء . على كلّ حال أدرك الجميع أنّه آن الأوان لتلك الروايات والأحاديث والأخبار التي صرّح بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)  .
ثمّ تحدّث الإمام عن الموت أيضاً حين التقى الحرّ بن يزيد ـ طبق نقل الطبري


(1 ، 2) تاريخ الطبري 4: 308 .

(الصفحة240)

في ذي حُسم وعذيب الهجانات بعد وصول رسالة عبيدالله إلى الحر (1). وتأكيده على التضييق على الحسين حسب نقل اللهوف . فقال: «فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما»(2) .
نعم كان محور الكلام هو الموت ، فقد قال في مكّة: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات» ويتكلّم خلال مسيرته عن شهادة يحيى بن زكريا ، ويمرّ بقصر بني مقاتل فيخبر ولده عليّاً برؤياه وحديثه عن الشهادة . ويواصل حديثه عن الشهادة في عذيب الهجانات وذي حُسم . فلمّا دخل كربلاء أخبرهم عن مصارعهم وقال: «هاهنا والله محطّ رحالنا ومسفك دمائنا»(3) .
وليت شعري لماذا يصرّ البعض على أنّ ابن الأعثم الكاذب هو الذي نسبها إلى الحسين  (عليه السلام) . وعلى فرض كذب ابن الأعثم ، فإن نسب إلى الإمام عبارة تؤيّدها جميع القرائن القطعية والشواهد ، فهل نصّ على أنّ الإمام لم يقلها حتّى ولو كانت قريبة من حادثة عاشوراء التي زعمتم بأنّ شهادته أصبحت فيها حتمية! .
أيّها المؤلّف العزيز ناشدتك الله أن تعيد النظر في ما أوردت ولا تفرّط بالحسين  (عليه السلام) ، فليس لنا من عزّة وعظمة سوى في الحسين  (عليه السلام) ، ليس لنا من سبيل لإيقاظ الاُمّة سوى الحسين  (عليه السلام) ، كما ليست لنا من مجالس يمكنها النهوض بأهداف الإسلام سوى مجالس الحسين  (عليه السلام) . فالعنصر المقتدر الذي من شأنه حشد الطاقات وصهرها في بوتقة واحدة وهو أبو الأحرار سيد الشهداء (عليه السلام)  . ليس هناك من ملاذ لما نواجه من مخاطر وصعاب في حركتنا الإسلامية سوى مصائب الحسين (عليهما السلام)  ، بل


(1) تاريخ الطبري: 4 / 305 .
(2) الملهوف لابن طاووس: 138 .
(3) نفس المصدر: 139 .
<<التالي الفهرس السابق>>