جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
الدولة الاسلامية « کتابخانه « صفحه اصلى  

<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>


(الصفحة61)

الصواب وملبسهم الاقتصاد ، عظم الخالق في نفوسهم فصغر مادونه في أعينهم . . . حاجاتهم خفيفة ونفوسهم عفيفة . . . وصبراً في شدّة ، وطلباً في حلال . . . خاشعاً قلبه قانعاً نفسه»(1) .

* الثالث: البيان
أشار القرآن الكريم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) صراحةً إلى صلاح بعض الأعمال بالنظر إلى أهمّيتها وعظم خصائصها . فقد أعلن القرآن صراحة ـ وبعد تصويره لحالة مجاهدي صدر الإسلام ـ ما سيكتب لهم من عمل صالح بفعل بعض الخصائص ـ التي سنشير إليها ـ فقال بهذا الشأن: {مَا كَانَ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الاَْعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .


1 . نهج البلاغة: 303 ، الخطبة 193 .
2 . سورة التوبة ، الآيتان 120 ـ 121 .

(الصفحة62)


السيطرة على النفس

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة تتطلّب وجود الولاة الأتقياء الأحرار من كافّة الأهواء والميول النفسية وغير ذلك ، أمر الإمام علي (عليه السلام) الذي أرسى دعائم النموذج التامّ للحكومة الإسلاميّة ـ واليه مالكاً الأشتر قائلاً:

«فَامْلِك هَواكَ»
وقد ذكرنا سابقا ما يتعلّق بالتقوى وحفظ النفس و كبح جماحها ، ونريد أن نتعرّف هنا على الرابطة بين ملك الهوى ـ الواردة في وصيّة الإمام ـ والعمل الصالح . وهل ملك الهوى هو ذات العمل الصالح ، والعمل الصالح هو ملك الهوى ، أم أنّهما مفهومان منفصلان؟
يمكننا القول بأنّ السيطرة على النفس هي إحدى مصاديق الأعمال الصالحة ، وأنّ العمل الصالح لا يقتصر على العمل باليد والرجل وسائر الأعضاء الظاهرية من جسم الإنسان . «فالأعمال القلبية» هي عمل أيضاً ، وأفضل دليل يمكنه تأييد صحّة هذا الاحتمال ما أورده القرآن: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (1) .
فقد بيّنت العبارة في الآية «نهى النفس» بصورة فعل ، وهذا بدوره ما يفيد البُعد العملي للنفس الإنسانية ، أي أنّ الإنسان ينبغي أن ينهى نفسه عن الهوى ويمنعها من الشطط ، بغية الانطلاق نحو السموّ والتكامل .
ونخلص على هذا الأساس إلى أنّ كبح جماح النفس والأخذ بزمامها يعدّ من

1 . سورة النازعات ، الآيتان 40 ـ 41 .

(الصفحة63)

الأعمال الصالحة وأهمّها; وهي الأهمّية التي كشف رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حقيقتها حين قال:«لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»(1) .
وبالمقابل فإنّ هناك من لا يرى السيطرة على النفس جزءاً من الأعمال الصالحة ، بل يعتبرها مقدّمة له ، أي أنّ الإنسان إذا أراد أن يقوم بعمل صالح وجب عليه قبل ذلك أن يكبح جماح نفسه ويمسك بهواها .

تهذيب الغرائز

لا تتّفق المدرسة الإسلاميّة ونظرية «فرويد» في إطلاق العنان للغرائز الجنسية بصفته العامل المهمّ في صنع التأريخ ، كما تختلف والرهبنة المزيّفة التي ترى في الوصول إلى الحقائق يكمن في قمع هذه الغرائز ، وتعتقد بأنّ هذه الغرائز قد أودعت لدى الإنسان من جانب الحكيم الخبير ، فهي ليست مصدراً للشرّ والفساد والحيلولة دون نيل الحقائق ، وللإنسان أن يشبعها على ضوء الطرق المشروعة ووفقاً للضوابط الإسلاميّة .
ومن الطبيعي أن يؤدّي الالتزام بالمبادئ الإسلاميّة والضوابط الشرعية إلى تهذيب هذه الغرائز وصدّها عن الانحراف الذي يتنافى والاُسس الإسلاميّة .
والذي يمكن أن نخلص إليه هو أنّ الإسلام يتبنّى منهاج التوازن في الغرائز لا قمعها أو إطلاق العنان لها ، الأمر الذي جعل الإسلام يهبّ لمجابهة التحلّل الجنسي

1 . تفسير الميزان: 5 / 270 ، وروى نحوه محمّد بن جرير الطبري في كتابه صريح السنّة: 29، والهيثمي في مجمع الزوائد: 1 / 208، والمنذري في الترغيب والترهيب: 3 / 497 .

(الصفحة64)

من جانب ويرفض الرهبنة من جانب آخر . وهذا ما نلمسه في خطابه (عليه السلام)لمالك:
«وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ» .

الإسلام وأدعياء حقوق الإنسان

إنّ أدعياء حقوق الإنسان ـ الذين يرفعون لواء مساواة كافّة أفراد النوع الإنساني في الحقوق ـ لا يهملون هذه المساواة من الناحية العملية فحسب ، بل لايعتقدون بذرّة من قيمة واعتبار للأقلّيات التي تعيش في بلدانهم ، فهم لا يكتفون بعدم توفير الدعم والإسناد لهذه الأقلّيات في اكتساب قوتها وعيشها بأمن وسلام فقط ، بل يمارسون بحقّها أبشع أساليب الفتك والتنكيل والإبادة الجماعية .
ولو تصفّحنا أوراق التأريخ لرأينا أوربا ـ التي تدّعي التمدّن والحضارة والتقدّم ـ وفي العصر الراهن واستنادا لبعض الشواهد قد ارتكبت ما لا يحصى من الجرائم والجنايات ، فقد أحال هتلر أكثر من ستّة ملايين يهودي في مختلف معتقلات أوربا على يد السفّاح «آيشمن» وسائر عتاة النازية إلى رماد ، بعد أن ألقوا بهم بتلك الأفران الرهيبة ، ناهيك عمّا مارسه النصارى في القرون الوسطى الذي يزعمون اتّباعهم للسيّد المسيح (عليه السلام) الذي دعاهم للرحمة والرأفة والمودّة ، حيث لم ينفكّوا عن قتل الأقلّيات من أتباع الأديان الاُخر ، وأفضل شاهد على ذلك حروبهم الصليبية التي شنّوها لقرون متتالية ضدّ الإسلام والمسلمين ، وقتلوا الملايين من أبناء الأُمّة الإسلاميّة .
أمّا قوّات الاحتلال الإسرائيلية التي أحرقت الأخضر واليابس من ممتلكات المسلمين ومارست أبشع أساليب الأذى والإساءة لمقدّساتهم فلم تقف وحشيّتها

(الصفحة65)

عند هذا الحدّ ، بل اندفعت أكثر من هذا وأوغلت في جريمتها لتحرم أصحاب هذه الأرض حتّى عن ممارسة أبسط حقوق الحياة وجعلتهم يعيشون الأمرّين ، فقد أصبح القتل والنفي والاعتقال والتعذيب من المفردات اليومية التي شحن بها القاموس الإسرائيلي .
وهنا ينفرد الإسلام بأساليبه الإنسانية النبيلة . وأقرب نموذج نحتذيه يكمن في المعاملة الكريمة التي تعتمدها الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية بقيادة زعيمها التأريخي الإمام الخميني (رضي الله عنه) تجاه الأقلّيات الدينية في البلاد والتي ذاقت ومازالت تذوق طعم المساواة والحرّية . ولا غرو فقد خاطب الإمام علي (عليه السلام) واليه قائلاً:
«وأشْعِر قلبَكَ الرحمةَ للرعِيَّةِ ، والمحبّةَ لهم ، واللُطفَ بهم ، ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تَغتنمُ أَكْلَهُم ، فإنَّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين ، أو نظيرٌ لك في الخلق ، يَفرُطُ منهم الزلَلُ ، وتَعرِضُ لهم العِلَلُ ، ويُؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطِهِمْ من عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مثلَ الذي تحبّ وترضى أن يُعطِيكَ اللّهُ من عَفوِهِ وصَفحِهِ ، فإنَّكَ فوقَهُم ، ووالي الأمر عليكَ فَوقَكَ ، واللّهُ فوقَ مَن ولاّكَ ، وقَدْ استكفاكَ أمرَهُم وابتلاكَ بِهِم» .
فالإمام (عليه السلام) يوصي مالكاً بالنظر بعين العدل والمساواة لكافّة أبناء المجتمع دون أن يكون هناك من امتياز لأحد على آخر . هذه هي الصفة التي تميّز الحكومة الإسلاميّة عن سائر الحكومات ، بينما تقف الحكومات الاستكبارية والدول التي تدّعي الحرّية وتتبنّى أُطروحة حقوق الإنسان ـ والتي وضعت حسب زعمها حجرها الأساس ـ في الخندق المقابل المعاكس للإسلام تماماً ، فهي لا تجرّد الأقليّات الدينية والطبقات المحرومة من أبسط حقوقها فحسب ، بل لا تتورّع عن التشبّث بمختلف الذرائع والحجج من أجل استجوابها على الدوام وتعريضها لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل .


(الصفحة66)

دوافع الفساد والتلوّث
نفهم بعض الدوافع التي تسوق الإنسان إلى ممارسة الفساد والرذيلة من خلال عبارته (عليه السلام): «وتَعرِضُ لهم العِلَلُ» فأغلب المفاسد والرذائل التي ترتكب من قبل الأفراد وإن كان بعضها يستند إلى العمد والشقاء و . . . إلاّ أن بعض الحالات ـ التي ليست بالقليلة ـ هي الدوافع التي تكمن وراء هذه الأعمال . فلو أخذنا على سبيل المثال قضية شيوع الزنا ، فإنّها وإن كانت معلولة لضعف الإيمان ، إلاّ أنّه لاينبغي التنكّر إلى دور النقص العاطفي الذي يسود بعض الاُسر وضعفه بين الأزواج ، إلى جانب الفوارق الروحية بينهما وحالات الزواج المفروضة القسرية وغيرها ، والتي يعتبر كلّ واحد منها عاملاً في الجنوح نحو هذه الرذيلة البشعة .

مفهوم العصمة والعدالة والفسق
لابدّ من الخوض في بعض المصطلحات الفقهية للتعرّف على عباراته (عليه السلام)الواردة بهذا الشأن . يصطلح فقهياً بـ «الفاسق» على الفرد الذي لا يتورّع عن ارتكاب الذنب والمعصية ، فهو يمارس الرذيلة متى ما عرضت له . وبالمقابل هنالك الأفراد الذين مارسوا الرياضة الروحية في السيطرة على النفس حتّى خلقوا لأنفسهم ملكة جعلتهم يجتنبون المحرّمات ويقبلون على الفرائض والواجبات ، ويطلق على مثل هذه الحالة العدالة ، بينما يوصف صاحبها بالعادل . وهي ليست من الصفات الملازمة للإنسان ، على الدوام ، فلعلّها تزول بعد مدّة من الزمان ولا تعدّ فاعلة أمام بعض المعاصي والإغراءات بالشكل الذي تحول دون التلوّث بالفساد ومقارفة الرذيلة .
فقد لا يرتكب مثل هؤلاء الأفراد المعصية من أجل مائة دينار ، لكن لايستعبد ـ على سبيل المثال ـ عدم اهتزازه والتغرير به تجاه مبلغ أكبر قد يصل إلى

(الصفحة67)

المليون دينار . كما يمكن للبعض الآخر أن يملك هواه إذا ما اُغري ببعض المناصب من قبيل إدارة مؤسّسة أو الإشراف على منظّمة ، بينما يسلس لنفسه القياد إذا ما عرضت عليه وزارة معيّنة . فالإنسان العادل واستناداً لملكة العدالة لا يقارف المعصية في حالة العلم وعدم النسيان ، إلاّ أنّه قد يرتكبها تحت طائلة الغفلة والنسيان ، لكنّ هذه المقارفة لا تعدّ ذنباً و معصية لدى الله ، كما لا يؤاخذ عليها ولا تسلخه من عدالته التي سرعان ما يعود إليها .
وأمّا «العصمة» فهي ملكة دائمية ملازمة للمعصوم (عليه السلام) ـ خلاف العدالة ـ تحول دونه ودون الوقع في الذنب عمداً وسهواً على الدوام ، واستنادا لهذه الملكة فإنّ المعصوم (عليه السلام) لن يقارف الذنب أبداً .

هل المعصوم لا يستطيع مقارفة الخطيئة؟
ما يردّده الفقهاء من أنّ المعصوم (عليه السلام) لا يرتكب الذنب ، ولا يقارف المعصية أبداً ، أيراد بذلك أن المعصوم (عليه السلام) قادر على ارتكاب الذنب ولا يذنب ، أم أنّه ليس بقادر فلا يذنب؟
إذا كانت عصمة المعصوم (عليه السلام) تعني عدم القدرة على إرتكاب الذنب ، فإنّ مثل هذه العصمة لا تعدّ فضيلة ومنقبة له عمّن سواه ، أمّا إن كانت تعني عدم ارتكاب الذنب رغم القدرة على مقارفته فهي فضيلة ومنقبة .
وهنا يطرح سؤال ، وهو أنّه كيف يمكن تصوّر هذه الحالة ، أي عدم الذنب مع القدرة؟ للإجابة على هذا السؤال وتوضيح مفهوم العصمة على أنّها مقام إلهي وفضيلة تميّز صاحبها عمّن سواه ، نرى من الضروري إيراد هذه المقدّمة:
إنّ بعض الأفراد العاديين غير المعصومين يتحلّون بالعصمة تجاه بعض الذنوب ، أي أنّهم لم ولن يقارفوها في ذات الوقت الذي يمتلكون القدرة على

(الصفحة68)

ارتكابها . فكشف العورة عمل قبيح ومخالف للقوانين الإسلاميّة ، وكلّ عاقل قادر أن يبدي عورته أمام الملأ العام إلاّ أنّه لا يقدم ـ إن كان بكامل عقله ـ على مثل هذا العمل أبداً فلِمَ لا يرتكب العاقل مثل هذه الرذيلة؟ لأنّ قبح هذا العمل الشنيع واضحة لديه تماماً . وبناءً على هذه النظرة يمكننا أن نكتشف سرّ العصمة لدى الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) .
فقد ذكرنا سابقاً أنّ الأنبياء والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) لا يقارفون المعصية قط ، فالمعصومون (عليهم السلام) لا يرتكبون الذنب رغم قدرتهم على ارتكابه ، وكيفية ذلك اتّضحت ممّا أوردناه قبل قليل ، فالعاقل الذي يقف بصورة تامّة على قبح عمل لا يقارفه أبداً ، وبتركه لعمل وآخر يتحصّل لديه نوعٌ من العصمة ، والمعصومون (عليهم السلام)يمتلكون هذه العصمة بصورة أوسع وأشمل ، وذلك لإحاطتهم التامّة بقبح وشناعة جميع الذنوب ، وعليه فهم لا يقارفونها ويتخطّون الحدود الشرعية أبداً .
وبناءً على ما تقدّم ندرك أنّ الأنبياء والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في الوقت الذي يملكون القدرة على مقارفة القبائح والحرمات ، ولكن حيث يتمتّعون بالرؤية الربّانية والمعرفة التامّة بحسن الأعمال وقبحها استناداً لمصادر الوحي ، فإنّهم لايرتكبون ما يخالف الشرع أبداً ، ويتحلّون بالعصمة عن ارتكاب القبائح عمداً وسهواً .

العصمة في النسيان
قلنابأنّ ميدان عصمة المعصومين (عليهم السلام) أوسع ممّا عليه عامّة الأفراد من ناحيتين:
الاُولى: أنّ للمعصومين (عليهم السلام)عصمة مطلقة تجاه كافّة الأعمال .
والثانية: أنّهم لا يتخطّون المقرّرات الشرعية حتّى في حالة السهو والنسيان .
ولعلّ هناك من يسأل: ما سرّ العصمة في حالة النسيان؟ بعبارة اُخرى ما

(الصفحة69)

الضير في أن يقارف المعصومون (عليهم السلام) الذنب حال النسيان و يعملوا بما يخالف الشرع؟ أو ليس النسيان مرفوعاً عن الأُمّة ، فما يرتكب حين السهو والنسيان لايعدّ معصية يؤاخذ الإنسان عليها؟
نحن نعلم بأنّ كلّ واحد من الأنبياء (عليهم السلام) وعلى ضوء الوصف القرآني بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ، غير أنّهم في نفس الوقت زعماء الأُمّة وقادة المجتمع ، فلو خرج هذا الزعيم عن الجادّة ، ولو في حالة السهو والغفلة والنسيان ، فإنّ موقعه سيختلّ في نظر الأُمّة وتضعف قاعدته الشعبية رغم أنّ خروجه ليس بمعصية .
فلو قارف الأنبياء (عليهم السلام) الذين تزعّموا المجتمعات البشرية طيلة التأريخ عملاً ولو على نحو السهو والنسيان لأدّى ذلك لا محالة إلى هبوط منزلتهم ولدبّ الضعف والوهن في زعامتهم .
ومن هنا نقول بأنّ للأنبياء والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) عصمة تحول دونهم في ارتكاب القبيح على نحو العمد أو الخطأ أو النسيان .

تعنيف الاُمّة بمثابة محاربة الله

يرى الإمام علي (عليه السلام) أنّ تعنيف الأُمّة وظلم العباد بمثابة محاربة اللّه ، وسنثبت لاحقاً أنّه ليس للظلمة والطواغيت من عاقبة سوى الفشل والسقوط والانهيار; وذلك لأنّه لا طاقة لأحد أمام الله ـ الذي يفيض القدرة على من يشاء ـ ولا غنى لحاكم عن عفوه ورحمته:
«ولا تَنصِبَنَّ نفسَكَ لحربِ الله ، فإنّه لا يَدَ لكَ بنقمَتِه ، ولا غِنى بكَ عن عَفوِه ورحمَتِه ، ولا تندمَنَّ على عفو ، ولا تَبْجَحَنَّ بعقوبة ، ولا تُسْرِعَنَّ إلى بادرة وَجَدْتَ منها مَنْدوحَةً» .


(الصفحة70)


الدكتاتورية والاستبداد

إنّ خصلة التكبّر والغطرسة التي تنبع من الاغترار بالذات والاعتزاز بها إلى جانب حبّ التسلّط والفرعنة إنّما تقود الإنسان إلى الطغيان والاستبداد بالرأي وفرض أفكاره على الآخرين . وإذا ما اشتمل الحاكم على هذه الخصلة وأخذ بزمام الاُمور ودار دفّة الحكم بهذه الذهنية فإنّه لا يلجأ في خاتمة المطاف إلى الغطرسة والكذب والرعب وإضاعة الحقوق فحسب ، بل سيقضي على الدين ـ الإسلام الحنيف ـ ليحيل عزّة المسلمين ذلاًّ وسعادتهم بؤساً وشقاءً:
«ولا تقولنّ: إنّي مُؤَمَّر آمرٌ فأُطاع ، فإنَّ ذلك إدغالٌ في القلب ، ومَنْهَكَةٌ للدين ، وتقرّبٌ من الغِيَرِ» .

مناهضة الاستكبار

قلنا: إنّ جذور الغطرسة والاستبداد تعود إلى التأثّر بالذات والعجب بها إلى جانب حبّ التسلّط والهيمنة ، ونضيف إلى ذلك هنا أنّ مصدر كلّ هذه الأمراض هو الجهل البشري ، فلو وقف الإنسان على آليته الروحية والجسمية ، والتفت إلى مدى ضعفه وعجزه مقابل الذات الربوبية المقدّسة ، وأيقن أنّ كلّ مالديه منه وإليه سبحانه وأنّه «بحوله وقوّته يقوم ويقعد» لهرب من هذا الطغيان والتفرعن ، ولشعر بالخجل من هذا التمرّد والشموس .
ولذلك يذكِّر الإمام علي (عليه السلام) بالتأمّل في نفسه والالتفات إلى موقعه ، من خلال استحضار عظمة اللّه وجبروته كي لا يخالجه أدنى شعور بالكبر والرفعة:


(الصفحة71)

«وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً ، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ ، وَيَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ» .

التفرعن والتباهي

قد يعيش الإنسان سكر القدرة ، فتذهب به الظنون الباطلة إلى نسيان كونه مخلوقاً من مخلوقات الله ، فيحسب أنّ قدرته قد تضاهي قدرة الله المطلقة .
يقول الإمام (عليه السلام) بشأن هذه الظنون التي تسوق الإنسان الى الهاوية:
«إيّاكَ ومُساماةَ اللّهِ في عَظَمَتِه ، والتَشَبُّهِ بِهِ فِي جَبَروتِهِ ، فإنّ اللّهَ يُذِلُّ كلَّ جبّار ، ويُهِينُ كلَّ مختال» .
لقد أتى (عليه السلام) بلفظه «التشبّه» التي تفيد الدقّة في روعة تصوير هذا المفهوم; وذلك لأنّ التشبّه والتشابه وإن كانت من مادّة التشبيه والشبه ، إلاّ أنّ الشبه لايتضمّن المعاني اللطيفة والظريفة التي تكمن في لفظة «التشبّه» .
يقال أحياناً: «زيد كالأسد» ، فقد جعل زيد شبيه الأسد ، ووجه الشبه بينهما الشجاعة ، فيقال: زيد في الشجاعة كالأسد ، فقد استفدنا من هذا الوجه في الشبه من أجل وصف شجاعة زيد ، وقد كان الوصف يستهدف كون زيد شجاعاً ويشبه الأسد في هذه الشجاعة .
ولذلك ليس هنالك من إشكال في بيان هذا الهدف فحسب ، بل كان من الصواب والمنطق أن تستعمل كلمة الشبيه والشبه .
وأحياناً لا يراد بهذا الشبه الغرض الحقيقي ، بل المراد الشبه الكاذب والخيالي

(الصفحة72)

البعيد عن الحقيقة والواقع . فهنا لم يعد مجال لكلمة «شبيه»; لعدم وجود شبه في هذه الحالة ، غاية ما في الأمر هناك نوع شبه كاذب وخيالي بعيد عن العقل و المنطق ، ولذلك يستفاد هنا من مفردة «التشبّه» أي أنّنا نبيّن موضوعاً لا واقعية له فنتحدّث عن شيئين لا يتشابهان واقعاً ، بل يروم الإنسان ليبدي التشابه الظاهري بين هذين الشيئين .
فنقول على سبيل المثال: «لقد أصبح الدهن ماءً من الحرارة» إلاّ أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ شبه واقعي بين الدهن والماء ، بل حيث سال الدهن جعلنا بينه وبين الماء شبهاً ، وأردنا أن نقول: إنّ هذا الدهن قد أصبح شبيه الماء ظاهرياً بفعل حالة السيولة والانسياب .
أو نقول: «طُرِح الخبز خارج المائدة فجَفَّ كالخشب» . هنا أيضاً ليس هناك من شبه حقيقي بين الخبز والخشب ، بل قلنا بنوع من التشابه بين هذين الاثنين ـ الخبز والخشب ـ من ناحية الجفاف .
أو أن نقول: «إنّ هذا اللحم لم ينضج كما ينبغي فهو صلب كالبلاستيك» . فالواقع ليس هناك من شبه بين الاثنين ، ولم نرد سوى عكس صلابة اللحم . ففي هذه الحالات لا يوجد شبه بقدر ما هنالك نوع من التشبّه .
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ معنى كلمة «التشبّه» واستعمالها اللغوي يكون حيث عدم وجود الشبه الواقعي بين شيئين ، إلاّ أنّه يراد إبراز وجود مثل هذا الشبه .
ولذلك اعتمد الإمام علي (عليه السلام) من خلال دقّة تصويره وروعة بيانه هذه المفردة بشأن الأفراد الذين يزعمون الجبروت ويحاولون التشبّه بأمر يعدّ من مختصّات الذات الإلهية المقدّسة .
فالمراد أنّه لا يسع أحد التشبّه حقّاً بمقام كبرياء الله في جبروته وعظمته ، أي ليس من شأن المخلوق أن يكون كالخالق قط ، لكن لهذا المخلوق أن يعتقد بمثل هذا

(الصفحة73)

الشبه في ظنّه وزعمه فيخوض بإظهار هذا الأمر ، فقد قال (عليه السلام):
«إيّاك ومساماة الله في عظمته ، والتشبّه به في جبروته» فهو يحذِّر منه و يذمّ عاقبته .
وتفيد هذه القضية معنى آخر يجعلنا نقف بصورة أعمق على المفهوم الذي أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو أنّ قدراتنا مهما بلغت ـ وإن كانت هذه القدرة موظّفة في خدمة الإسلام وفي ظلّ الحكومة الإسلاميّة بغية تطبيق الأحكام الشرعية وإقامة العدل الإلهي ونشر الحقّ والقسط ـ فهي أيضاً ليست قدرة مستقلّة وقائمة بذاتها .
نعم ، هي ليست قدرة ذاتية يعتنى بها وتتقوّم بنفسها ، أو أنّها منبعثة من كياننا ووجودنا ، بل هي كسائر القدرات الدنيوية التبعية وفي طول قدرة البارئ تبارك وتعالى ، وهذا أمر مفروغ منه فليس لنا من قدرة في عرض القدرة الإلهية .
وإنّنا لنؤكّد هذا المعنى الذي نعيش الإيمان به على مستوى اليقين ، بحيث نسند قدرتنا في أدنى الأعمال والحركات حتّى من قبيل الجلوس والقيام ، ولذلك لاننفكّ نردّد «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»(1) وإلاّ فأين نحن من هذا القيام والقعود؟ فلولا حول الله وقوّته لما صعد نَفَس ولا نزل . إنّنا نؤمن بأنّ كلّ حول وقدرة لله وحده «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»(2) .
وعليه نخلص إلى أنّ كلّ قدرة نتمتّع بها في هذه الدنيا ـ فردية كانت أم اجتماعية ـ هي قدرة في طول القدرة الإلهية وظلّها . فكلّ قدرة لدينا هي ذرّة يسيرة من تلك القدرة الإلهية الأزلية ، وقد أُودعناها كأمانة ولا ندري إلى متى ستدوم ومتى تسلب منّا . فهل بعد هذا لأحد أن يسلب الله هذه القدرة ويرى لنفسه

1 . الوسائل: 6 / 361 ، أبواب السجود ب13 .
2 . الكافي: 2 / 425 ، 521 ، 523 ، 525 و 530 .

(الصفحة74)

شمّة من جبروت الله المختص به فيحسب أنّ قدرته في عرض القدرة الإلهية؟
ولو استعنّا بمثال من عالم الطبيعة فَمَثَل قدرة هذا الفرد والقدرة الإلهية مثل الشمس المنيرة وذلك الكوكب الصغير الذي يستمدّ نوره من تلك الشمس .
نعلم أنّ السماوات قد ملأت بآلاف الكواكب الصغيرة والكبيرة كالكرات الباردة المظلمة التي تكتسب ضياءها من الشمس ، فإن شوهدت منيرة ساطعة فإنّ نورها قد اقتبس من الشمس ، ولو لم تطلع عليها هذه الشمس لبقيت باهتة مظلمة متعذّرة الرؤية .

مضاعفة خطأ من اعتقد بحصانته من الخطأ
أجل ، هناك تحذير شديد من قبل الإمام (عليه السلام) إلى أولئك الأفراد الذين يحصلون على بعض المناصب الدنيوية من مغبّة نسيان أنفسهم والخروج عن حدودهم ، بهدف إعادتهم إلى رشدهم وعدم إيغالهم في الوهم والخيال .
ويمكننا أن ندرك عمق وأهمّية هذا التحذير العلوي إذا ما أيقنّا بأنّ ليس للإنسان من حصانة تجاه اللبس والخطأ أبداً . فالإنسان ليس بمعصوم وهو معرَّض للخطأ على الدوام ، وقد يمارس بعض الأخطاء التي تجرّ عليه الويلات أحياناً ، وقد تبدو هذه الويلات على درجة من الخطورة حين لا يمتلك هذا الفرد من نيّة سيّئة فحسب ، بل حين يرد الميدان ظنّاً منه بإسداء الخدمات وما يجعل الآخرين يعيشون في رفاهية من العيش والأمن والسلام; غير أنّ أخطاءه التي تفرزها الوساوس الشيطانية على درجة من الضلال بحيث لا تستتبع سوى الفساد والانحراف .
وهنا تتفاقم هذه المسألة وتتّخذ طابعاً أكثر مأساوية ، ولعلّ نشوء هذه الأخطاء غالباً ما يعود إلى تلك اللحظات التي يعرض فيها الخطأ بينما يرى صاحبها

(الصفحة75)

أنّه محصَّن من كافّة الأخطاء .
وهنا ينبغي التأمّل في كيفية حركة الإنسان نحو الخطأ دون أن يعلم ذلك ، ويبدو أنّ مشكلتنا أنّنا نصاب بالخطأ ، الذي يفرزه عمى البصيرة وحسن الظنّ في أكثر القضايا التي نتعايش معها ، في حين لا نشعر بأيّ خطر و مصيبة سنتعرّض لها ، والحال أنّ المصيبة محدقة بنا من كلّ صوب .
فعلى سبيل المثال نرى فرداً مريضاً طريح الفراش يئنّ ليلاً ونهاراً من شدّة الألم لسنوات ، إلاّ أنّنا وبسبب شعورنا بالصحة والعافية وعدم وجود أيّ توعّك في صحّتنا لا نفكِّر أبداً في أنّ مثل هذه الصحّة والعافية ليست دائمة لنا . لا نرى أنّنا سنصاب يوماً بمثل هذا المرض أو ما هو أسوأ منه ، وكأنّنا قد استثنينا من قانون المرض . فهل فكّر مثل ذلك المريض الذي كان يتمتّع بكلّ أسباب الصحة والسلامة أنّه سيكون طريح الفراش؟
بإمكانكم أن تزوروا جميع المستشفيات وتتحدّثوا إلى كافّة المرضى فسترون بأنّ أحداً لم يفكّر منهم حين كان سالماً بأنّه سيرقد يوماً ما في المستشفى .
وعليه فالإنسان إنّما يغفل حتّى عن القضايا البديهية التي تتربّص بجميع الأفراد ، بل قيل عن هذا الإنسان: إنّه يقضي عمره في الغفلة ، وأيّ غفلة؟ غفلة عن القضايا التي ليس في حدوثها ما يثير العجب والدهشة ، فهي قضايا طبيعية يمكن حدوثها في كلّ آن . فإذا غفل الإنسان العادي الفاقد للقدرة في حياته اليومية عن وقوع مثل هذه القضايا العادية ، فما ظنّك به إذا شعر بتنامي شوكة قدرته وغرق في بحر غفلته؟!
فالواقع أنّ أعظم آفات القدرة هي هذه الغفلة والأخطاء الجسام التي تجرّها على الأفراد بالمناسبة ، فمن المتعذّر أن ينال الإنسان قدرة ولا يتأثّر بها ويفقد توازنه من جرّائها .


(الصفحة76)

فالإنسان مبتلى بهذا الضعف الروحي الذي يجعله بمجرّد نيله لهذه القدرة يتصوّر أنّها خالدة له وليس هنالك ما يدعو لزوالها ، والحال ما أكثر ما تسلب هذه القدرة بُعيد لحظات . فهو اليوم وزير ومحافظ ، إلاّ أنّه ولمجرّد فعل بسيط يعزل غداً عن هذا المنصب . وقد لمسنا النماذج العينية لهذا الأمر في ثورتنا الإسلاميّة المباركة ، وما هو من التأريخ ببعيد .

العدل والإنصاف ومقارعة الظلم

نورد قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لنتعرّف على مفهوم إنصاف الله ، وإنصاف الناس ، فقد قال (عليه السلام):
أَنصِفِ اللهَ وأنصفِ الناسَ من نفسِكَ ، ومِن خاصَّةِ أهلِكَ ، ومَن لَكَ فيه هوًى من رعيّتِكَ ، فإنَّك إلاّ تَفْعلْ تَظْلِمْ .
يتضمّن كلامه (عليه السلام) موضوعين مهمّين جديرين بالتأمّل:
الأوّل: أن نمتثل التعاليم الإلهية بما فيها الأوامر والنواهي .
الثاني: استحضار النعم الإلهية وأداء شكرها والامتنان لله بالتفضّل بها علينا ، فهناك الأفراد الذين يمارسون حياتهم اليومية وهم يتمتّعون بكامل الصحّة والسلامة والعافية ولايفكِّرون في قيمة هذه النعمة ، وبالتالي لا يشكرون الله عليها ، وهذا هو السرّ الذي يقف وراء قولهم بعدم شعور الفرد بقيمة العافية مادام يتمتّع بها ، فالإنسان الذي يمتلك الأسنان السالمة في مضغه للطعام ، ويراها تقوم بعملها بشكل عادي كلّ يوم ، لا يلتفت إلى نعمة وجودها ، بل لا يكلّف نفسه عناء التفكير بها ولو لبرهة عابرة من الزمان ، ولكن ما إن تتصدّع سلامة هذه الأسنان وتعاني من تسوّس أو ألم في العصب حتّى تظلمّ الدنيا في عينيه ، ولم تعدّ مشكلته في

(الصفحة77)

تعذّر تناوله للطعام فحسب ، بل يصرعه وجعها بما يعيقه عن القيام بأدنى الأعمال ، وقد تصل به الحالة لأن يؤثر هذا الوجع على سمعه وبصره والذي يقود بالتالي إلى عدم قيام الدماغ بممارسة أنشطته العادية .
أو عندما يمتلك الإنسان أرجلاً سالمة ويتنقّل بها من مكان إلى آخر بكلّ نشاط وفعّالية ، لم يخطر بباله ولو للحظة واحدة طوال ساعات مسيره قيمة هذه النعمة ، نعمة وجود الأرجل السالمة! أمّا هذا الشخص إذا تعرّض أحد أسنانه للألم وأثّر ذلك في عصب أسنانه فسوف يُقيم الدُّنيا ويقعدها وتظلمّ الدنيا في عينيه ، وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ ، بل سيتعذّر عليه مضغ الطعام بسهولة ، وسيطرحه الألم على الأرض ويجلس في أحد زوايا البيت ، وسيصعب عليه أداء أيّ عمل .
وما دام الإنسان يشعر بوجع أسنانه فإنّ ذلك سيؤثّر على أنشطة بقيّة الأعضاء ، فهو لم يعد يسمع جيّداً ولا يبصر جيّداً ، وحتّى أنّ دماغه سوف يضعف عن العمل . وسوف لا يفكِّر حينئذ إلاّ بوجع الضرس الذي أَلَمَّ به ، وعندها سيتذكّر أيّ نعمة عجيبة كانت لديه ، إنّها نعمة الأسنان الموجودة في الفم ، حيث كان قبل الألم لم يُعيرها أيّة أهمّية ، وقلّما يستشعر دورها في حياته . أو إذا تعرّضت رِجْلاه إلى ضرر ، وفَقَد القدرة على الحركة والمشي ، فلابدّ هنا أن يفقد ذلك النشاط وتلك الحيوية ، ويصبح جليس داره ، وعند ذلك يفهم قيمة هذه النعمة ، نعمة وجود الأرجل التي يمشي بها على الأرض!
وأحياناً قد يُصاب الإنسان بوعكة صحّية خفيفة إلاّ أنّها تؤلمه وتعذّبه ، حتّى كأنّ حياته باتت مشلولة .
وكلّنا يستفيد من عيونه منذ بزوغ الفجر وحتّى وقت النوم ، فإذا كان البصر سالماً يستطيع الإنسان أن يؤدّي وظائفه على أكمل وجه ، إنّ معظم الأعمال التي ينجزها الإنسان يستفيد فيها من هذه القوّة البَصَرية ، ولم يفكِّر ولو مرّة واحدة أنّ

(الصفحة78)

هذين الجسمين الكرويّين الشفّافين ـ اللذين هما بهذا التركيب المعقّد والعجيب ـ هما من نِعَم الله العظيمة التي لا تعدّ ولا تحصى ، وأنّهما إذا أُصيبتا بضرر فأيّ نعمة عظيمة سيفقدها ، وأيّ معاناة وآلام سيتجرّعها .
إنّ هذا الشخص لا يفهم حجم الخسارة والألم الذي يصيبه عندما يتعرّض هذا البناء العجيب لخلل ولو كان صغيراً ، وبعبارة ثانية فإنّ هذا الإنسان عندما يصبح غير قادر على الرؤية أو تمييز الأشياء ومعرفتها ، فسوف يعرف قدر نعمة البصر وحجم الضرر الذي تعرّض له ، وكيف أنّه صار موجوداً ضعيفاً لا يقوى على فعل شيء ، وكم هو حجم المشكلات التي تواجهه والعذاب النفسي الذي يعيشه ، في حين لم يكن من قبل يتصوّر أو يخطر بباله ما حدث له!
إنّه لم يخطر بباله أنّه يمكن أن يتضرّر بصره وما سيعانيه إثر هذا الضرر ، إنّه لم يخطر بباله أنّ هذه النعمة البسيطة ـ ظاهراً ـ نعمة هذا العضو الصغير ـ العين ـ كم لها من القدر والأهمّية في حياته . إنّه لم يدرك أنّ هذا العضو عندما يختلّ فسوف يعكّر عليه صفو عيشه ، ويوقف مسيرة حياته ، ولا يجعله يدرك ويميّز الاُمور المحيطة به ، ولا يتمكّن من المطالعة والتعلّم ومواصلة المسير نحو الله تعالى .
وهنا لابدّ من طرح مسألة الإنصاف في التعامل مع الله سبحانه ، والتي من أهمّها شكر نعمائه ، والذي طريقها الطبيعي يتجسّد في تطبيق التعاليم و المناهج الربّانية .
أَمِن الإنصاف أن يهب الله تعالى كلّ هذه النِّعم وبدون مقابل ، ثمّ يجحدها الإنسان ويتنكّر لها ، ويتمرّد على أوامر الله تعالى وأحكامه! مع أنّ أوامر الله تعالى وأحكامه ميسّرة وسهلة ، تكفّلت بصلاح الإنسان وسعادته وفلاحه ، وإلاّ فإنّ الله سبحانه غنيّ عن طاعتنا ، لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه .
وممّا يجدر ذكره أنّنا أحياناً نشعر بالخجل والحياء والامتنان حيال بعض

(الصفحة79)

الناس بينما لانمتلك مثل هذا الشعور أمام الله المُنعِم ، فإذا أسدى إلينا هذا البعض معروفاً ولو كان بسيطاً ، فإنّنا سنبادله منشاعر اللطف والشكر والامتنان ، حتّى يصل ذلك إلى حدّ نقول فيه: إنّ وظيفتنا الأخلاقية تملي علينا عدم نسيان هذا المعروف ، ونحاول ردّ هذا الجميل كلّما قدرنا عليه . أمّا مقابل النِّعم الإلهية الجمّة فلا نتذكّر هذه الوظيفة الأخلاقية ولا نشعر بها!
لِمَ لا نرى أنفسنا مكلّفين بمعرفة حقّ الله علينا وشكره من خلال تطبيق أحكام دينه وامتثال أوامره التي هي من أجل سعادتنا وفلاحنا؟ وهذه الأحكام والأوامر سهلة التطبيق ، وهذه الشريعة شريعة سمحاء لا تعود بالنفع على الله تعالى ، بل تعود بالنفع على الناس وتحقّق لهم السموّ والكمال والازدهار .
والنتيجة: أنّ عدم شكر المنعم وكفران نعمه والتمرّد على أوامره يُعدّ نوعاً من أنواع عدم إنصاف الخالق العظيم تبارك وتعالى .

إنصاف الناس
إنصاف الناس يعني أداء حقوق الآخرين كاملة غير منقوصة مع رعاية المساواة . وينبغي على الحاكم ـ في إطار حكومته ـ أن يعامل الناس بالإنصاف من ناحيتين:
الأولى: في ما يتعلّق به ، سواء في القضايا الحكومية أو الشخصية .
والاُخرى: فيما يرتبط بقرابته وخاصّته وصحبه .
فإنصاف الحاكم في الحكومة الإسلاميّة عند توزيع الغنائم هو أن ينظر بعين المساواة لكافّة أفراد المجتمع ، فيوزّع عليهم الأموال بالتساوي .
أمّا في القضايا الشخصية فلو كان الحاكم يجاور أحد الأفراد من رعيته فليس له أن يفرض عليه شيئاً بفعل هذه الجورة ، فليس له مساومته فيما لو

(الصفحة80)

أراد أن يشتري منه أو يبيعه سلعة ، كما ليس له أن يبيعه سلعته بثمن غال أو يشتري سلعته بسعر رخيص ، ويجب عليه أن يعمل بمقتضى العدل والحقّ والإنصاف في الحالتين .
لقد شهدنا في الحكم الشاهنشاهي ـ الملكي ـ البائد أنّ التجّار والكسبة كانوا يبيعون سلعهم وبضائعهم إلى البعض من أصحاب المناصب والمسؤوليات بأزهد الأسعار ، خوفاً من نفوذهم وسطوتهم . ولا يقف الأمر عند حدّ البيع والشراء بل الأعمّ الأغلب كانوا يحملون أفضل السلع مجّاناً إلى بيوت المسؤولين .
أمّا فيما يختصّ بقرابة الحاكم وبطانته فلا ينبغي لبطانته التصرّف على أنّهم مأذونون من قبله ويحظون بإسناده فيسيئون ولاينصفون الآخرين ، فغالباً ما يعيش الأفراد علاقة خاصّة مع قرابتهم وخاصّتهم ولا سيّما أهل بيته وأولاده ، بحيث يندفع أحياناً لضمان مصالحهم أو التعصّب لهم .
فلا ينبغي أن يكون الحاكم كذلك ، وإذا ما شعر بعدم إنصاف قرابته للآخرين فإنّ العدل والإنصاف يطالبه بالحيلولة دون هضم حقوق الآخرين .

مَن للظالم؟

نفهم من قوله (عليه السلام): «مَن ظلم عباد الله كان اللهُ خصمَهُ» أنّ الله هو الذي يتولّى مجابهة مَن يظلم العباد ، أي أن الله هو الذي يتولّى أمر الظالم قبل المظلوم ـ الذي يستاء من ظلمه ـ ويصبّ عليه جام غضبه ويفكّر في الثأر منه; لأنّنا نعلم بأنّ أحدهم لو ظلم ولدك الصغير العاجز الذي لا يسعه ردّ الظلم ، فإنّك ستكون خصمه رغم أنّه لم يوجّه ظلمه إليك ، حيث إنّ العقلاء يرون أنّ ظلم الولد يجعل والده يشعر بأنّ هذا الظلم إنّما وُجّه إلى شخصه وغيرته فيهبّ لمقابلته ، بل إنّ هذا
<<صفحه بعد فهرست صفحه قبل>>