( الصفحه 165 )
تبيّنه ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا فقال : }وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر{ ، فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة . ودلالتها على كون الفجر غير التبيّن وانّه هو نفس الخيط الأبيض المعترض واضحة ، كما انّ دلالة ذيلها على انّ الموضوع لحرمة الأكل والشرب ووجوب الصلاة هو نفس الخيط الأبيض الذي هو الفجر أيضاً كذلك ، وعليه فالتبيّن لا يكون إلاّ مأخوذاً بنحو الطريقية مع أنّ اشتمال السؤال على أنّه كيف يصنع مع القمر وكيف يصنع مع الغيم والاقتصار في الجواب على بيان معنى الفجر وانّه هو الخيط الأبيض المعترض ربما يدلّ على تساويهما في الحكم ودعوى وضوح الفرق بينهما كما عرفتها في كلام الماتن ـ دام ظلّه ـ لا تتمّ أصلاً وكيف يمكن ادّعاء انّ السائل قد فهم من الجواب الفرق بين المسألتين فالإنصاف انّ الرواية ظاهرة في التساوي وعدم الفرق وانّه في كليهما إذا تحقّق الفجر الواقعي وهو الخيط الأبيض المعترض يرتفع جواز الأكل والشرب ويجوز الدخول في الصلاة .
وقد ظهر بما ذكرنا انّ الفجر بمقتضى الآية هو نفس الخيط الأبيض ولا يكون عبارة عن التبيّن كما انّه لا يكون عبارة عن وصول شعاع الشمس إلى حدّ من الاُفق تكون الفاصلة بينها وبين الطلوع هو مقدار ما بين الطلوعين والظاهر انّه أيضاً بالمعنى اللغوي عبارة عمّا ذكرنا فتدبّر .
كما انّه ظهر ممّا ذكرنا انّه لا فرق بين الليالي من هذه الجهة أصلاً ولا يكون الفجر في الليالي المقمرة متأخّراً عن غيرها .
ثمّ إنّك عرفت انّ دلالة الآية الشريفة ظاهرة ولا حاجة إلى التمسّك بالروايات ولكنّه لا بأس بإيراد طائفة منها فنقول :
( الصفحه 166 )
منها : رواية أبي بصير ليث المرادي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت : متى يحرم الطعام والشراب على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال : إذا اعترض الفجر فكان كالقبطية البيضاء فثم يحرم الطعام على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر ، قلت : أفلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشمس؟ قال : هيهات أين يذهب بك ، تلك صلاة الصبيان . قال في الوافي : القبطية بضم القاف وإمكان الموحدة وتشديد الياء منسوبة إلى القبط بالكسر على خلاف القياس ثياب رقيقة تتّخذ بمصر ويجمع على قباطى بالفتح والقبط بالكسر يقال لأهل مصر وبنكها ـ بمعنى الأصل ـ والتغيير في النسبة هنا للاختصاص كالدهري بالضمّ في النسبة إلى الدهر بالفتح ويختص بالثياب دون الناس فيقال : رجل قبطي وجماعة قبطية بالكسر فيهما .
ومنها : رواية علي بن عطية عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال : الصبح (الفجر) هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كان بياض نهر سوراء . ونقله في الوافي هكذا : كأنّه نباض سورى ثمّ قال في بيانه : «النباض بالنون والباء الموحدة من نبض الماء إذا سال وربّما قرأ بالموحدة ثمّ الياء المثناة من تحت ، وسورى على وزن بشرى موضع بالعراق والمراد بنباضها أو بياضها نهرها» والتشبيه على نقل الوسائل إنّما هو في شدّة البياض ووضوحه بحيث كلّما زدت إليه نظراً يظهر لك شدّة بياضه لما عرفت من اشتداد ضوء الفجر الصادق تدريجاً بخلاف الفجر الكاذب الذي يكون حين طلوعه أشدّ نوراً ، وعلى نقل الوافي إنّما هو في ثبوت الأمر وواقعيته بحيث تكون واقعية الفجر ووضوحه كواقعية سيلان نهر سورى وجريانه وحركته .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي ركعتي الصبح وهي الفجر إذا اعترض الفجر وأضاء حسناً . وأورد بعض الأعلام على الاستدلال بها بقصور دلالتها على عدم جواز الإتيان بصلاة الفجر قبل اعتراض
( الصفحه 167 )
الفجر وإضائته لأنّه من الجائز أن يكون استمراره عمله (صلى الله عليه وآله) على الإتيان بها عند الاعتراض مستنداً إلى سبب آخر لا إلى عدم جواز الإتيان بها قبله .
ويدفعه ما عرفت مراراً من أنّه حيث يكون الحاكي لفعل الرسول هو الإمام وكان غرضه من الحكاية بيان الحكم ، غاية الأمر بهذه الصورة لا يبقى مجال لمثل هذا الاحتمال أصلاً .
ومنها : رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال : سألته عن وقت صلاة الفجر فقال : حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : وروى انّ وقت الغداة إذا اعترض الفجر فأضاء حسناً ، وامّا الفجر الذي يشبه ذنب السرحان فذاك الفجر الكاذب ، والفجر الصادق هو المعترض كالقباطي . والتشبيه بذنب السرحان وهو الذئب إنّما هو لدقّته واستطالته .
الجهة الثانية : في آخر وقت فريضة الصبح ولا خلاف بين المسلمين في امتداده إلى طلوع الشمس إجمالاً وإن وقع الخلاف بينهم في كونه آخر وقت الاجزاء أو آخر الوقت للمضطرّ وانّ آخره للمختار هو طلوع الحمرة المشرقية فذهب إلى الأوّل أبو حنيفة وهو المعروف بين الأصحاب وحكى الثاني عن الشيخ وجماعة بناء على ما اختاروا من أنّ الفرق بين الوقتين الثابتين لكلّ صلاة إنّما هو بالاختيارية والاضطرارية وبه قال الشافعي وأحمد والنصوص الكثيرة الواردة في المسألة مختلفة :
منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : وقت الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ولكنّه وقت لمن شغل أو نسى أو نام .
( الصفحه 168 )
وربما يستدلّ بها على قول الشيخ (رحمه الله) نظراً إلى أنّ كلمة لا ينبغي بمعنى لا يتيسّر ولا يجوز فالرواية تدلّ على عدم جواز التأخير عن تجلّل السماء بسبب الصبح عمداً ولكن دلالتها على أنّ الشغل أيضاً يكون موجباً لجواز التأخير لا تناسب مع تعيّن الوقت الأوّل للاجزاء إذ مع تعيّنه يجب رفع اليد عن جميع المشاغل والإتيان بالفريضة وليس الشغل كالنسيان والنوم أمراً اضطرارياً وعليه فيصير ذلك قرينة ظاهرة على أنّه ليس المراد بكلمة «لا ينبغي» عدم الجواز لو سلم ظهورها في نفسها فيه كما انّه يصير قرينة على أنّ امتداد وقت الفجر إلى زمان التجلّل إنّما هو بلحاظ الفضيلة دون الاجزاء فالرواية من أدلّة القول المشهور .
ومنها : رواية يزيد بن خليفة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : وقت الفجر حين يبدو حتّى يضيء . ودلالتها على قول الشيخ (رحمه الله) وإن كانت ظاهرة إلاّ انّها ضعيفة السند لأجل يزيد بن خليفة .
ومنها : صحيحة ابن سنان يعني عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقتين أفضلهما ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ولكنّه وقت من شغل أو نسى أو سهى أو نام ، ووقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلاّ من عذر أو علّة . وهذه الرواية أيضاً يمكن الاستدلال بها لكلّ من الفريقين نظراً إلى ظهورها في عدم جواز التأخير عمداً لما مرّ من أنّ كلمة «لا ينبغي» بمعنى انّه لا يجوز ولا يتصيّر ويدلّ عليه ذيل الرواية الظاهر في أنّه لا يجوز لأحد من غير عذر أو علّة أن يجعل آخر الوقتين وقتاً ويؤخِّر صلاته إلى آخر الوقت عمداً وبذلك يظهر انّ المراد من ثبوت الوقتين لكلّ صلاة كما هو ظاهر صدر الرواية إنّما هو ثبوت الوقت الاختياري والوقت الاضطراري فاختلاف
( الصفحه 169 )
الوقتين وافتراقهما إنّما هو بذلك لا بالاجزاء والفضيلة .
هذا ولكن الظاهر دلالة الرواية على خلاف قول الشيخ (قدس سره) من جهة ظهور صدرها في أنّ اختلاف الوقتين إنّما هو بالفضيلة والاجزاء لقوله (عليه السلام) : وأوّل الوقتين أفضلهما ومن جهة تجويز التأخير لمن له شغل وهو لا يكون اضطرارياً ولا يناسب تجويز التأخير معه مع تعيّن الوقت الأوّل للاجزاء كما عرفت في صحيحة الحلبي ، نعم يبقى ذيل الرواية الظاهر في غيره ولكنّه مضافاً إلى اشتماله على كلمة «العذر» الشاملة للشغل قطعاً لا دلالة له على الخلاف; لأنّ مفادها ان جعل آخر الوقت وقتاً استمرارياً للصلاة بحيث لا يرى لها وقت غير ذلك لا يجوز وهذا لا يلازم عدم جواز التأخير اختياراً أحياناً مع رؤية وقتين لها . وبعبارة اُخرى لو كان التعبير في الذيل هكذا : لا يجوز لأحد أن يؤخِّر صلاته إلى آخر الوقت إلاّ من عذر أو علّة لكانت دلالته على ما ذكر غير بعيدة ، وامّا التعبير الوارد في الرواية فمغاير للتعبير الذي ذكرنا ومرجعه إلى فرض الوقت الأوّل كالعدم وعدم رؤية وقتين للصلاة ولو عملاً بوجه فتدبّر ، فالرواية من أدلّة المشهور .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . ودلالتها على مذهب المشهور ظاهرة إلاّ انّها ضعيفة السند بموسى بن بكر لعدم توثيقه .
ومنها : موثقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل إذا غلبته عينه أو عاقه أمران يصلّي المكتوبة من الفجر ما بين أن يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس وذلك في المكتوبة خاصة . . . وهي باعتبار دلالتها على الامتداد إلى طلوع الشمس بالإضافة إلى الرجل الذي عاقه أمر تدلّ على مذهب المشهور لأنّه ليس المراد بالأمر إلاّ أمراً من الاُمور العادية الاختيارية فهو عبارة اُخرى عن الشغل المذكور