( الصفحة 11 )
وأمّا الواجبات العدميّة ، فحيث يكون المقصود فيها الترك ، ويكفي في تحقّق الترك فقدان جزء من أجزاء العلّة التامّة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، ولا يلزم اجتماع أعدام أجزاء العلّة ، فحيئنذ يشكل الأمر من جهة كفاية فقدان بعض تلك الأجزاء في تحقّق المعلول من ناحية ، واعتبار قصد التقرّب من ناحية اُخرى ، بل قد تقرّر في موضعه أنّه مع انعدام المقتضي والشرط ووجود المانع يكون انتساب العدم إلى عدم المقتضي أولى من الانتساب إلى عدم الشرط أو وجود المانع .
وعليه : فيتحقق الإشكال من هذه الجهة في صحّة الصوم في كثير من الموارد من جهة اعتبار أن يكون الترك مستنداً إلى القربة وداعويّة الأمر ، مع أنّا نرى بالوجدان استناد تحقّق الترك إلى عدم المقتضي أحياناً ، فضلاً عن عدم الشرط أو وجود المانع ، فمن أكل قرب طلوع الفجر كاملاً وشرب كذلك بحيث لم يكن يشتهي الأكل والشرب عند الطلوع وبعده ولو بزمان قليل ، هل يكون تركه للأكل والشرب مسبّباً عن عدم المقتضي ، أو يكون بداعي الأمر وقصد التقرّب الذي هو بمنزلة المانع ؟ فإن فرض الأوّل يكون ذلك منافياً لعباديّة الصوم التي لا مجال للمناقشة فيها ، وإن فرض الثاني يكون ذلك خلاف الواقع ; لفرض عدم الميل إلى مأكول ولا مشروب .
هذا، مضافاً إلى أنّ إيجاد شيء يكون نوعاً مع الالتفات والتوجّه إليه ، وأمّا تركه فلا يكون كذلك . وعليه : فربما لا يكون الترك مورداً لتوجّهه حتى يقصد فيه القربة .
وبعبارة اُخرى : ترك المفطرات في اللحظات الأوّليّة بعد طلوع الفجر في الفرض المزبور يكون مستنداً إلى عدم المقتضي وجداناً وبلا ريب، لا إلى وجود المانع ;
( الصفحة 12 )
وهي إطاعة أمر الله وسببيّته لذلك ، ولذا لو لم يكن صوم لم يتحقّق منه الإفطار ; لعدم المقتضي، كما عرفت .
واللازم أن يقال في حلّ الإشكال بالفرق بين العبادات الوجوديّة والعدميّة من جهة إمكان رعاية قصد القربة في القسم الأوّل بالإضافة إلى جميع أجزائها ، وأمّا في القسم الثاني فلا يعتبر فيه ذلك لعدم الإمكان ; لأنّه بعد فرض لزوم وجود المقتضي والشرائط يتحقّق حينئذ الترك المستند إلى وجود المانع ; وهي إطاعة أمر الله وامتثاله ، وهذا غير ممكن نوعاً ، خصوصاً بالنسبة إلى الصوم الذي مرجعه إلى اجتماع أعدام مضافة ، كعدم الأكل والشرب والجماع ومثلها في آن واحد مضافاً إليه تعالى بفرض وجود المقتضي مثلاً لكلّ من الأعدام ، وحينئذ هل يمكن تحقّق المقتضي بالنسبة إلى جمع المفطرات في آن واحد، كثبوت المقتضي للأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات في آن واحد معاً ؟ ومن الواضح استحالته .
نعم ، إذا كانت العبادة العدميّة عبارة عن أمر واحد عدميّ مثلاً، يمكن فيه فرض وجود المقتضي وكون الترك مستنداً إلى المانع. وأمّا مع اشتمالها على جملة من الأعدام المضافة فكيف يمكن فرض وجود المقتضي بالإضافة إلى إيجاد كلّ واحد منها ، فلا محيص من أن يقال بأ نّ المطلوب في مثلها هي نفس الترك ، ولو كان مستنداً إلى عدم المقتضي أو وجود المانع ، فهل يمكن الالتزام ببطلان صوم العنّين غير القادر على الجماع من جهة عدم ثبوت المقتضي له عليه ؟ وهكذا .
ويمكن القول بأن الصحّة في مثل الفرض مع ضرورة عباديّة الصوم واعتبار نيّة التقرّب فيه إنّما تكون لأجل ثبوت القضيّة التعليقيّة ; وهو عدم الارتكاب ولو مع وجود المقتضي وتحقّق الشرائط وكفاية مثلها في العباديّة; لعدم إمكان غيرها كما عرفت ، فمرجع العباديّة إلى أ نّه لو فرض وجود المقتضي والشرط أيضاً لايتحقّق
( الصفحة 13 )
منه الوجود بل الترك للإضافة إليه تعالى ، وفي هذا المجال قصّة لطيفة نقلها بعض الأصدقاء ; وهي أ نّه كان في أطراف شيراز رجل كبير السنّ ملتزم بالوظائف الإسلاميّة ، وكان معتاداً على التدخين بالقليان ، وفي شهر رمضان حيث كان يصوم فيه ويترك شرب الدخان لكنّه قبل الغروب كان يهيّىء القليان بنحو كامل وينظر إليه منتظراً لدخول الوقت حتى يشرب الدخان بمجرّد دخوله .
وممّا ذكرنا ظهرت خصوصيّة للعبادات العدميّة ، سيّما مثل الصوم الذي اجتمعت فيه جملة من الأعدام المضافة ، كما أ نّ فيها خصوصيّة اُخرى ; وهي أ نّه لابدّ في العبادات الوجوديّة ـ ولو كانت مركّبة من أجزاء مختلفة ـ من التوجّه والالتفات إليها ولو ارتكازاً ، ولا يلزم ذلك في العبادات العدميّة ، خصوصاً في مثل الصوم على ما عرفت .
فإذا نام الشخص في جميع أجزاء النهار ، وكان قبل ذلك ناوياً الصوم مقروناً بقصد القربة يكون صومه صحيحاً ولا تكون صحّته على خلاف القاعدة . وهذا بخلاف ما إذا صلّى مثلاً في حال النوم صلاة كاملة مشتملة على الوضوء الصحيح مثلاً ، كما ربّما يتّفق ذلك ، وقد نقل أ نّ بعض النائمين خرج في حال النوم من حجرته في المدرسة ودار في أطرافها مراراً ثمّ رجع إلى محلّه الأصلي وأدام النوم فيه ; فإنّ الصلاة في مثل الفرض باطلة ، قال الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَـرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(1) .
وبالجملة : فهذا وأشباهه يدلّنا على وجود خصوصيّة أو خصوصيّات للعبادات العدميّة ، ولا محيص عن الالتزام بها ، وإلاّ يقع الإشكال في صحّتها في أكثر الموارد ، فهل يمكن الالتزام ببطلان الصوم مع الاشتغال بالصلاة أو القرآن أو مثلهما الموجب
( الصفحة 14 )
لعدم الالتفات إلى المفطرات، وعدم التوجّه إليها ولو في خصوص ذلك الحال ؟
وبعد هذا نعود إلى الجهات التي وعدنا التكلّم فيها في هذه المسألة ، فنقول :
الجهة الاُولى : أ نّه لا ريب في أ نّ الصوم من العبادات ، ويعتبر فيه قصد القربة بأيّ معنى من المعاني المذكورة له في محلّه ، ويكفي في إثبات هذه الجهة كونه كذلك عند المتشرّعة وفي رديف الصلاة ، بل وضوح ذلك بمكان ، ولا حاجة إلى الاستناد له حتّى بمثل ما تقدّم من قوله تعالى في الحديث القدسي : «الصوم لي وأنا اُجزي به»(1) ، وحينئذ لو فرض تحقّق الصوم منه لا بقصد القربة بل بقصد حصول الصحّة للجسم مثلاً لا يتحقّق منه العبادة المأمور بها ، وقد عرفت أن الصحّة في فرض كونه نائماً ولو في جميع النهار من طلوع الفجر إلى الليل إنّما هي فيما إذا كان مقروناً بقصد القربة ، فلا ينبغي الإشكال من هذه الجهة أصلاً .
الجهة الثانية : أ نّه لا يعتبر العلم بالمفطرات على التفصيل ، ويتفرّع عليه أمران مذكوران في المتن :
أحدهما : أ نّه لو نوى الإمساك عن جميع المفطرات ـ غاية الأمر أ نّه لم يعلم بمفطريّة بعضها كالاحتقان مثلاً ، أو زعم عدمها ولكن لم يرتكبه في مقام العمل ، وكان بحيث إنّه لو فرض له العلم به لكان وارداً في رديف المفطرات التي نوى الإمساك عنها ـ يكون صومه صحيحاً ; لعدم تحقّق الإخلال له بشيء ممّا يعتبر فيه ، لا من جهة النيّة ولا من جهة المفطرات .
ثانيهما : أ نّه لو نوى الإمساك عن عدّة اُمور يعلم باشتمالها على المفطرات وإن لم تكن معلومة تفصيلاً ، فقد قوّى الحكم بالصحّة في المتن ، والظاهر أ نّ الوجه فيه
( الصفحة 15 )
ما ذكرنا ، ومجرّد الإمساك عمّا لا يكون مفطراً لا يقدح في تحقّق الصوم بعد كون الإمساك عن الجميع ـ ولو لم يكن بعضه مفطراً ـ إنّما هو للاحتياط ، واحتمال كونه مفطراً من دون لزوم تشريع وبدعة ، ففي الحقيقة يتحقّق الإمساك عن ذلك البعض لأجل الاحتمال وعدم إمكان الطريق له إلى الواقع، أو عدم الفرصة له ومثلهما ، فلا ينبغي الإشكال في الصحّة، كما في جميع العبادات التي يحتاط فيها احتمالاً ، أو لأجل العلم الإجمالي .
الجهة الثالثة : أ نّه ذكر في المتن أ نّه لا يعتبر في النيّة عدا القربة والإخلاص سوى تعيين الصوم الذي قصد إطاعة أمره ، ويكفي في صوم شهر رمضان نيّة صوم الغد من غير حاجة إلى تعيينه ، وفي هذه الجهة احتمالات بل أقوال :
أحدها : ما أفاده المحقّق العراقي في شرح التبصرة ; فإنّه بعد استشهاده لأصل كون الصوم من العناوين القصديّة ، بحرمة صوم العيدين مع عدم حرمة صرف الإمساك فيهما وببعض الاُمور الاُخر ، وثبوت الامتياز بذلك للصلاة والصوم عن مثل الوضوء والأغسال غير المعتبر فيها القصد زيادة على التقرّب ، تنظّر في اعتبار القصد في سائر العناوين الطارئة عليه ، كالكفّارة أو القضائيّة أو الرمضانيّة ، قال :
ومجرّد وقوع الصوم على وجوه متعدّدة لا يجدي في الكشف عن الاختلاف في حقيقته ; لكفاية اختلاف أسباب وجوبه في ذلك ، كما أ نّ عدم صلاحيّة رمضان لوقوع صوم آخر فيه لا يكشف عن المغايرة المزبورة ، بل يكفي فيه عدم صلاحية غير رمضان من الأسباب لوقوع صومها فيه ، وأضاف إلى ما أفاد قوله : وأوهن منهما في الدلالة ما ورد في قبول ما اُتي به بنيّة شعبان من رمضان بتفضّل من الله ، بتقريب أ نّه مع وحدة الحقيقة فيهما لا يكون قبوله بتفضّل منه ، بل هو عين الإتيان بالمأمور به ، فهذا التفضّل لا مجال له إلاّ بقبول حقيقة بدل حقيقة اُخرى ، ولا نعني