( الصفحة 22 )
العلم بأ نّ غداً من رمضان، كما هو ظاهر قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(1)أي من علم بالشهر يصوم ذلك الشهر بحيث يكون الشهر ظرفاً للصوم ، لا قيداً مأخوذاً في العنوان ليلزم تعلّق القصد به . نعم ، يعتبر أن لا يقصد عنواناً آخر من العناوين المضادّة لرمضان(2) .
أقول : قد عرفت أ نّ عنوان رمضان وخصوصيّته ليس كسائر العناوين الطارئة ; فإنّ شهر رمضان زمان مخصوص لا عنوان ، فالوجه في عدم وقوعه عن رمضان ـ مضافاً إلى التسالم بحيث يعدّ من ضروريّات الفقه وإن لم يكن من ضروريّ الإسلام الموجب إنكاره للكفر والارتداد ـ عدم كون الدّاعي له هو قصد امتثال الأمر المتعلّق بالصوم في خصوص هذا الزمان ، بل الداعي له أمر آخر وجوبي أو استحبابي ، كالإتيان بالصلاة بداعي الأمر المتعلّق بالصوم وهكذا .
وقد استدلّ على الأمر الأوّل بوضوحه بناءً على ما ذكره الشيخ البهائي(3) من أ نّه لا أقلّ من عدم الأمر، فتكون العبادة فاسدة لأجله ، وأمّا على مقتضى مسلكه من جواز الأمر بالضدّين(4) على سبيل الترتّب، فمقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة في المقام .
ونحن وإن اخترنا الجواز في الاُصول لا بنحو الترتّب بل فوقه، كما قد قررّناه في محلّه ، إلاّ أ نّ الظاهر أنّ هذا الحكم أيضاً ضروري لا حاجة فيه إلى إقامة الدليل وإن كان هنا بعض الروايات غير نقيّة السند ، لكنّ الظاهر تماميّة دلالتها وإن وقعت
- (1) سورة البقرة 2 : 185 .
(2) المستند في شرح العروة 21: 18.
(3) اُنظر الحبل المتين 1 : 80 .
(4) أجود التقريرات 2 : 79 ـ 89 .
( الصفحة 23 )
المناقشة فيها ، مثل :
رواية الحسن بن بسّام الجمّال ، عن رجل قال : كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) فيما بين مكة والمدينة في شعبان وهو صائم ، ثمّ رأينا هلال شهر رمضان فأفطر ، فقلت له : جعلت فداك أمس كان من شعبان وأنت صائم واليوم من شهر رمضان وأنت مفطر؟! فقال : إنّ ذلك تطوّع ولنا أن نفعل ما شئنا ، وهذا فرض فليس لنا أن نفعل إلاّ ما اُمرنا(1) .
والظاهر أنّ جواب الإمام (عليه السلام) ظاهر في أ نّه مع ثبوت الفرض والوجوب لا يجوز أن نفعل إلاّ ما أوجب علينا ، فهذه بمنزلة الضابطة الكلّيّة وإن كان مورد الرواية خصوص السفر، كما لا يخفى ، لكن في الرواية ضعف وإرسال وإن كان لا حاجة إليها ; لما عرفت من كون الحكم ضروريّاً في الفقه .
بقي الكلام في أصل المسألة في اُمور :
أحدها : مثل صوم القضاء والكفّارة ، ولا إشكال في لزوم قصد التعيين في ذلك ; لما عرفت من أ نّ المعتبر فيه خصوصيّة المغايرة لخصوصيّة الزمان ، ولا يكون كعنوان رمضان الذي هي قطعة من الزمان وشهر من الشهور .
ثانيها : النذر ، وهو على قسمين : نذر مطلق، ونذر معيّن ، فالأوّل: كما إذا نذر صوم يوم من دون تعيين ، والثاني: كما إذا نذر صوم يوم معيّن كنصف شعبان مثلاً ، وقد حكم في المتن فيه بلزوم اعتبار قصد التعيين، كما في الصورة الاُولى ، ولابدّ من التنبيه على أمر لعلّه ذكرناه فيما سبق ، وهو: أ نّ المستحبّ المنذور كعنوان صلاة
- (1) الكافي 4 : 131 ح 5 ، تهذيب الأحكام 4 : 236 ح 693 ، الاستبصار 2 : 103 ح 335 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 203 ، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم ب 12 ح 5 .
( الصفحة 24 )
الليل الذي هو مستحب عباديّ لا يتغيّر عمّا كان عليه من الحكم بسبب تعلّق النذر به ، فصلاة الليل لا تتغيّر عمّا كانت عليه من الحكم الاستحبابي التعبّدي بسبب النذر وإن كان الوفاء بالنذر واجباً توصّليّاً ، كما في الوفاء بالشرط المأخوذ في العقد اللزومي ، كالخياطة المشترطة على البائع في البيع ; فإنّ الواجب على الخيّاط ليس هي الخياطة بحيث تكون للخياطة حكمان : الإباحة قبل الشرط، والوجوب بعده ، بل الواجب عليه هو الوفاء بالشرط بعنوانه بمقتضى «المؤمنون عند شروطهم»(1) .
وقد ثبت في محلّه أ نّ الحكم لا يتعدّى عن متعلقه إلى غيره ولا يسري إليه حتى في موارد اتّحاد العنوانين خارجاً ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي ـ مثل الصلاة ـ والتصرّف في مال الغير بغير إذنه ، فضلاً عن المقام الذي لا يكون هناك اتّحاد أصلاً .
وعليه : فلا مجال لاحتمال وجوب صلاة الليل بعنوانها وإن تعلّق النذر بها ـ مع أ نّه إن قلنا بارتفاع الاستحباب بذلك فِلمَ لا يرتفع عنوان العباديّة الناشىء من الحكم الاستحبابي التعبّدي ؟ ـ لما ذكرنا من أ نّ وجوب الوفاء بالنذر توصّلي لا تعبّدي ، وعلى ما ذكرنا فالصوم في المقام هو الصوم المستحب المنذور ; ضرورة عدم الشمول للصوم المحرّم كما في صوم العيدين ، والانصراف عن الواجب كصوم القضاء يكون باقياً على استحبابه العبادي ، ولا يتغيّر بسبب النذر عمّا كان عليه من الحكم ، فيجري فيه حكمه .
ولو فرض زوال استحبابه فلا يبقى مجال لبقاء عباديّته الناشئة من استحبابه ،
- (1) تهذيب الأحكام 7: 371 ذ ح1503، الاستبصار 3: 232 ذح 835 ، وعنهما وسائل الشيعة : 21 / 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب 20 ذ ح 4 .
( الصفحة 25 )
ويترتّب على ما ذكرنا أ نّ الصوم الذي يجب الإتيان به وفاءً للنذر لا يكون من أقسام الصوم وأنواعه ; لأ نّ المراد منها ما تعلّق به الحكم لأجل الخصوصيّة الموجودة فيه ، وقد عرفت عدم تعلّق الحكم بالصوم بل بالوفاء بالنذر ، والعجب من الماتن (قدس سره) أ نّه مع أنّ هذا ممّا استفدنا منه في النذر كيف التزم بلزوم نيّة التعيين في النذر مطلقاً ; سواء كان النذر مطلقاً أو معيّناً .
نعم ، ذكر المحقّق العراقي (قدس سره) في الشرح المزبور ما هذه عبارته : نعم ، لو كان في ذمّته صوم غيره بإجارة أو ما هو متعلّق حقّ الغير بنذر أو غيره لابدّ في وقوعه وفاءً لأمر إجارته أو نذره مثلاً; من قصد الصوم الخاصّ زائداً على القربة كي به يتعيّن الكلّي في ذمّته، كما هو الشأن في كلّية الديون الماليّة ، وهذه الجهة هي نكتة قصديّة الوفاء في أمثال هذه المقامات، لا أ نّها بنفسها من العناوين القصديّة كالظهريّة والعصريّة، انتهى(1) .
وقد استظهر بعض الأعلام (قدس سره) الذي هو من تلاميذه ما ذكرناه أيضاً ممّا يرجعإلى أ نّ الأمر النذري توصّلي لا يحتاج سقوطه إلى قصد هذا العنوان ، كما في العهد واليمين والشرط في ضمن العقد ونحو ذلك ، ومناط العباديّة إنّما هو الأمرالنفسي الاستحبابي العبادي المتعلّق بذات العمل ، وفي رتبة سابقة على الأمرالناشئ من قبل النذر ونحوه ، وفرّع عليه: أ نّه لو نذر أن يصلّي نافلة الليل في ليلةخاصّة فغفل ، ومن باب الاتّفاق صلّى تلك الليلة برئت ذمّته وتحقّق الوفاء وإن كان غافلاً عنه(2) .
- (1) شرح تبصرة المتعلّمين 3 : 125 ـ 126 .
(2) المستند في شرح العروة 21 : 14 .
( الصفحة 26 )
وقد صرّح في موضع آخر(1) بأنّه إذا كان مديناً لزيد بعشرة دنانير، وقد كان مديناً له أيضاً بعشرة اُخرى بعنوان الرهانة، فأدّى عشرة لطبيعي الدين من غير قصد فكّ الرهن ، فحيث إنّه لم يقصد هذه الخصوصيّة فلا جرم كانت باقية وينطبق الطبيعي على الأوّل الأخفّ مؤونة بطبيعة الحال .
نعم ، ربّما يتحقّق الخلط من جهة أ نّ العنوان المتعلّق لوجوب الوفاء عنوان قصديّ لا يتحقّق إلاّ بالقصد، كعنوان أداء الدين ; فإنّه يعتبر فيه قصد الأداء بعنوانه به في مقابل الهبة والمصالحة وغيرهما ، وأمّا السبب الموجب للوفاء من الإجارة والنذر وغيرهما فهو أمر توصّلي لا يعتبر فيه القصد بوجه ، فتأمّل حتى لا يختلط عليك الأمر .
ثالثها : المندوب ، وقد استظهر فيه في المتن عدم اعتبار نيّة التعيين في المندوب المطلق إذا كان في نفسه صحيحاً ، كما في المندوب المطلق الذي يصلح الزمان له لأجل عدم ثبوت الفرض عليه ، وكون الشخص ممّن يصحّ منه التطوّع ، بل وكذا في المندوب المعيّن إذا كان تعيّنه بالزمان الخاصّ ، كالأيّام المذكورة في المتن مع استدراكه توقّف الثواب الخاصّ على إحراز الخصوصيّة وقصدها .
أقول : أمّا عدم الاعتبار في المندوب المطلق، كما إذا نوى صوم الغد من دون خصوصيّة فيه ; فلأجل أ نّ الخصوصيّة التي يحتمل اعتبارها في النيّة هي الاستحباب في مقابل الوجوب ; لعدم وجود شيء غيره مع وضوح أ نّهما وصفان للأمر ; فإنّه تارة يكون وجوبيّاً واُخرى استحبابياً ، وإلاّ فليس للمتعلّق خصوصيّة ، فإذا أتى بالمستحب بقصد القربة بتخيّل أ نّه واجب كذلك فالظاهر هي
- (1) المستند في شرح العروة 21 : 26 ـ 27 .