( الصفحة 233 )
ولكن لأجل خصوصيّة في الخمس قد ذكرنا هناك تبعاً للماتن (قدس سره) (1) أنّ المراد بالسنة في خصوص باب الخمس هي السنة الشمسيّة .
والوجه فيه إجمالاً ـ وإن فصّلناه هناك ـ : أنّ المؤونة إنّما يكون اختلافها نوعاً باختلاف الفصول الأربعة المتحقّقة في السنة الشمسيّة ، فمع إرادة الشارع وحكمه بتعلّق الخمس بما يفضل عن مؤونة السنة ، فمراده المؤونة الرائجة المختلفة بالاختلاف المذكور طبعاً ، وهذا لا دلالة له على أنّ مراد الشارع من السنة مطلقاً ذلك ، كما لا يخفى .
وثانياً : الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ شهر رمضان قد يكون ثلاثين ، وقد ينقص بيوم واحد ، وأنّه يصيب شهر رمضان ما يصيب الشهور من التمام والنقصان ، وفي رواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : إن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين(2) .
الخامس : البيّنة الشرعيّة التي هي عبارة عن شهادة عدلين ، ويدلّ على حجّيتها في هذا المقام أمران :
أحدهما : ما يدلّ على حجّية البيّنة في الموضوعات الخارجيّة مطلقاً ، وقد ذكرناه في كتابنا في القواعد الفقهيّة (3)، وببالي أنّا ذكرنا هناك أنّ عنوان البيّنة ـ كما هو المأخوذ في الرواية المعروفة لمسعدة بن صدقة المتصفّة بأنّها موثّقة ، كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل(4) ، حيث قال (عليه السلام) في ذيلها : والأشياء كلّها على هذا
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الخمس : 120 .
(2) تهذيب الأحكام 4 : 158 ح 441 ، الاستبصار 2 : 64 ح 208 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 265 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 12 .
(3) القواعد الفقهيّة 1 : 479 ـ 485 .
(4) فرائد الاُصول (الرسائل) 3 : 351 و 381 .
( الصفحة 234 )
حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة(1). والروايات المذكورة في كتاب القضاء الدالّة على أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه أو على من أنكر (2)، وفي رأسها الرواية الحاكية لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) ـ اصطلاح في الشرع وإن لم يكن له حقيقة شرعيّة مبحوث عنها في الاُصول ، ولا يكون بالمعنى اللّغوي الصرف ، كما يدلّ عليه المقابلة مع الاستبانة في الرواية المتقدّمة ، وقد ذكرنا في ذلك الكتاب(4) أ نّ حجّية البيّنة دليل على عدم حجّية خبر الواحد ـ ولو كان عادلاً ـ في الموضوعات ، وإلاّ تلزم اللغوية في حجّية البيّنة المشاركة معه في العدالة المختلفة في العدد ، فنفس ثبوت الحجّية للبيّنة دليل على عدم ثبوتها في خبر الواحد ، والتفصيل في محلّه .
ثانيهما : ما يدلّ على الاعتبار في خصوص المقام ، مثل :
صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا اُجيز في الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين(5) . ومن الواضح أنّ الحصر فيها إضافيّ .
وصحيحة حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :
- (1) الكافي 5 : 313 ح 40 ، وعنه وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 .
(2) وسائل الشيعة 27 : 233 ـ 235 ، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب 3 وص293 ب25 ح3 ، والمفردات في غريب القرآن : 68 .
(3) الكافي 7 : 414 ح 1 ، وعنه وسائل الشيعة 27 : 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1 .
(4) أي القواعد الفقهيّة 1 : 494 ـ 501 .
(5) الكافي 4 : 76 ح 2 ، الفقيه 2 : 77 ح 338 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 286 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 1 .
( الصفحة 235 )
لاتجوز شهادة النساء في الهلال ، ولا يجوز إلاّ شهادة رجلين عدلين(1) .
وصحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال : صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه(2) .
والروايات الدالّة على هذا الأمر كثيرة جدّاً .
لكن في مقابلها بعض ما يتخيّل معارضته للروايات المتقدّمة ; وهو بين ما يدلّ بظاهره على عدم حجّية البيّنة مطلقاً ، وبين ما يدلّ على عدم الحجّية فيما إذا لم تكن في السماء علّة ، كما حكي عن صاحب الحدائق (قدس سره) (3) .
فمنها : رواية حبيب الخزاعي (الخثعمي، الجماعي خل) قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : لاتجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة ، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه، وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية وأفطروا للرؤية (4) .
والظاهر أنّ المراد من الشرط في الشرطيّة هي صورة ما لو كان بالمصر علّة وفي غيره لا تكون كذلك ، لا الأعمّ ممّا إذا كان في الخارج علّة أم لا ، ويؤيّده قوله (عليه السلام) : «فأخبرا أنّهما رأياه» ; فإنّه يدلّ على الإخبار بالرؤية لأجل عدم الغيم وصحو السّماء . وأمّا المخبر به ، فهل يكون أمرين : الرؤية، وصيام قوم أو إفطارهم لها على
- (1) الكافي 4 : 77 ح 4 ، الفقيه 2 : 77 ح 340 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 287 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 3 .
(2) تهذيب الأحكام 4 : 157 ح 436 ، الاستبصار 2 : 63 ح 205 ، المقنعة : 297 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 287 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 4 .
(3) الحدائق الناضرة 13 : 245 ـ 246 .
(4) تهذيب الأحكام 4 : 159 ح 448 ، وص 317 ح 963 ، الاستبصار 2 : 74 ح 227 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 290 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 13 .
( الصفحة 236 )
تقدير أن يكون العطف بـ «و» الظاهر في ثبوت المعيّة وتحقّق الاجتماع ؟ ويحتمل قويّاً أن يكون العطف بـ «أو» الدالّ على كفاية أحد الأمرين .
وكيف كان ، فقد يناقش(1) في الرواية تارة : من حيث السند ، واُخرى : من حيث الدلالة .
أمّا من جهة السند : فلأجل حبيب الخزاعي أو الجماعي ; فإنّه مجهول ، وحبيب الخثعمي ـ كما في بعض الكتب الحاكي للرواية(2) ـ وإن كان موثّقاً، إلاّ أنّه لم يكن الثابت في المقام هو الرجل الموثّق ، بل المردّد بينه وبين غيره ، فلا اعتبار بالرواية من حيث السند .
وأمّا من جهة الدلالة : فمن جهة أنّ مفادها عدم جواز شهادة رجلين عدلين مع عدم وجود الغيم في السماء وعلّة فيها ، مع أنّه على هذا التقدير يطمأنّ بخطئهما ، ولا تكون مثل هذه البيّنة مشمولة لدليل الحجّية .
أقول : هذا ليس إشكالاً في دلالة الرواية ، بل يكون بياناً لعلّة عدم جواز شهادة رجلين مع عدم وجود الغيم في السماء ، مع أنّ حصول الاطمئنان بخطئهما في هذه الصورة ، إن كان مرجعه إلى ما ذكرنا من حجّية الاطمئنان في نظر العقلاء فالصغرى ممنوعة ; لأنّ حصول الاطمئنان الكذائي في الصورة المذكورة ممنوع . وإن لم يكن مرجعه إلى ما ذكرنا فالكبرى ممنوعة ، وعدم شمول أدلّة الحجّية له غير ظاهر .
فالأولى أن يقال بأنّه مع وجود المعارضة بين هذه الرواية على فرض اعتبارها
- (1) المناقش هو السيّد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة 22 : 65 ـ 66 .
(2) أي في وسائل الشيعة 7: 21 ح13 ، تحقيق الشيخ عبد الرحيم الربّاني الشيرازي.
( الصفحة 237 )
والروايات الكثيرة الصحيحة المتقدّمة ،يكون الترجيح مع تلك الروايات ; لاستناد المشهور إليها(1) ، وقد قرّرنا أنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة الفتوائيّة ، كما لا يخفى .
ومنها : رواية القاسم بن عروة ، عن أبي العبّاس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الصوم للرؤية ، والفطر للرؤية وليس الرؤية أن يراه واحد ، ولا إثنان ، ولا خمسون . قال في الوسائل بعده : ورواه الصدوق بإسناده عن القاسم بن عروة ، عن أبي العباس الفضل بن عبد الملك مثله (2).
وقد نوقش(3) فيها أيضاً سنداً ودلالة . أمّا السند ; فلأجل القاسم بن عروة ; لأنّه لم يوثّق وإن ورد توثيقه في بعض الرسائل(4) غير الثابتة .
وأمّا الدلالة ; فلأ نّ الظاهر كون المراد منها لزوم العلم أو ما قام الدليل على قيامه مقام العلم في ذلك ، وليس مجرّد رؤية الغير ولو بلغ خمسين كافياً في ذلك كما يقول به الناس، حيث يعتمدون على مجرّد دعوى الغير الرؤية ممّن يصلّي ويصوم، من غير اشتراط العدالة في اعتبار الشهادة ، ولذا لم يذكر التقييد بها في الرواية أصلاً ، فلا ينافي ما دلّ على قيام البيّنة وهي شهادة رجلين عدلين مقام العلم .
وهذا الأمر يجري بالإضافة إلى الرواية السابقة أيضاً ، فالمراد أنّ شهادة خمسين أيضاً لا اعتبار بها مع فرض عدم العدالة ، ويمكن أن يقال بإشعار الرواية السابقة
- (1) المعتبر 2: 686، اللمعة الدمشقيّة: 27، مسالك الأفهام 2: 51، مدارك الأحكام 6: 167، ذخيرة المعاد: 531، رياض المسائل 5: 413.
(2) تهذيب الأحكام 4 : 156 ح 431 ، الاستبصار 2 : 63 ح 201 ، الفقيه 2 : 77 ح 336 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 290 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 12 .
(3) المناقش هو السيّد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة 22 : 67 .
(4) المسائل الصاغانيّة المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 3 : 72 .