( الصفحة 34 )
بنحو ما عرفت ، فاللازم في إسراء الحكم على تقدير الجواز أن يدّعى إلغاء الخصوصيّة وأ نّه لا خصوصيّة للسفر ، بل الحكم المذكور إنّما هو لأجل كونه من الأعذار ، أو يدّعى الفحوى والأولويّة بلحاظ أ نّ المسافر الذي لم يكن يجب عليه الصوم; لظهور الآية (1) في أ نّ من كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر .
وظاهره تقسيم السنة من جهة الأيّام إلى شهر رمضان وغيره ، والمسافر لا يجب عليه الصوم إلاّ في أيّام اُخر فيما إذا وجب عليه النيّة لو رجع قبل الزوال ولم يتحقّق منه الإفطار ، فسائر ذوي الأعذار بطريق أولى، ولا أقلّ من دعوى إلغاء الخصوصيّة، سيّما بالإضافة إلى المريض المعطوف عليه المسافر في الآية التي عرفت .
وكيف كان ، فمقتضى الروايات الكثيرة الواردة في السفر أ نّ المسافر إذا رجع إلى وطنه ولم يفطر يمتدّ وقت النيّة في صومه إلى الزوال ، ومفادها وجوب ذلك عليه على خلاف القاعدة المقتضية ; لما ذكرنا من بطلان العبادة إذا كان جزء منها فاقداً للنيّة ، وقد وردت في الجهل مرسلة(2) عاميّة غير مذكورة في كتبنا الروائية دالّة على أنّ ليلة الشك أصبح الناس ، فجاء أعرابيّ فشهد برؤية الهلال ، فأمر (صلى الله عليه وآله) منادياً ينادي من لم يأكل فليصم، ومن أكل فليمسك .
وهذه الرواية لا مجال للاعتماد عليها ; لأنّها مضافاً إلى الإرسال وكون الراوي عامّياً، لا دلالة فيها على كون الرجل الشاهد عادلاً ، فضلاً عن لزوم التعدّد في الشاهد ، بل الظاهر كونه مجهول الحال وأ نّ التنوين للتنكير ، مع أ نّه لم يقع التعرّض فيها للفرق بين ما قبل الزوال وما بعده ، مع أ نّ عدم الأكل أعمّ من تناول المفطر
- (1) سورة البقرة 2 : 184 .
(2) المعتبر 2: 646، الحدائق الناضرة 13: 19 ـ 20، مصباح الفقيه 14 ، كتاب الصوم : 314 .
( الصفحة 35 )
الآخر كالجماع مثلاً ، فتدبّر . مع ورودها في الجهل بالموضوع ; لأ نّ المفروض كون اليوم يوم الشك في أ نّه من شعبان أو رمضان ، فهل تمكن استفادة حكم المريض منها أو الجهل بالحكم أو زوال الحيض ومثله ؟ وأمّا ما حكي عن المحقّق الهمداني (قدس سره) من دعوى الانجبار بعمل المشهور(1) فهو غير تامّ بعد عدم إحراز استناد المشهور إلى مثلها، واحتمال استنادهم إلى الوجوه الاُخر التي مرّت الإشارة إليها .
ثمّ إنّه ربما يتمسّك للحكم في صورة الجهل والنسيان بحديث الرفع(2) المتضمّن لرفع ما لا يعلمون والخطأ والنسيان ، مع أ نّه من الواضح أ نّ الحديث دالّ على رفع الحكم ومسوق في مقام الامتنان ، والغرض إثبات الوجوب على ذوي الأعذار قبل الزوال على خلاف القاعدة، كما في المسافر على ما عرفت ، والامتنان لا يلائم ذلك .
ثمّ إنّ قوله في المتن : «نعم في جريان الحكم في مطلق الأعذار إشكال ، بل في المرض لا يخلو من إشكال وإن لا يخلو من قرب» إلاّ أنّه غير خال عن الإجمال والإبهام ; فإنّ الظاهر أنّ قوله: «في مطلق الأعذار إشكال » ، ناظر في نفسه إلى الأعذار غير المذكورة في كلامه من الجهل والنسيان والغفلة والمرض والسفر ، لكنّ التّرقّي عن ذلك بقوله : «بل في المرض لا يخلو من إشكال »، يشعر بل يدلّ على عدم كون المراد من المطلق ما ذكرنا .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم جار بالإضافة إلى المسافر الذي رجع قبل الزوال ولم يتناول المفطر ، وهو على خلاف القاعدة المقتضية للبطلان على ما عرفت ، فاللازم الاقتصار عليها ما لم يكن هناك دليل، وقد مرّ عدمه .
- (1) مصباح الفقيه 14 : 314 .
(2) الفقيه 1 : 36 ح 132 ، الخصال : 417 ح 9 ، وعنهما وسائل الشيعة 8 : 249 ، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 30 ح 2 .
( الصفحة 36 )
القسم الثاني : الواجب غير المعيّن ، كالقضاء الذي لم يتضيّق وقته ونحو ذلك ، وفي المتن: أ نّه «يمتدّ محلّها اختياراً في غير المعيّن إلى الزوال» ، وقد فرّع عليه أ نّه «لو أصبح ناوياً للإفطار ولم يتناول مفطراً ، فبدا له قبل الزوال أن يصوم قضاء شهر رمضان أو كفّارة أو نذراً مطلقاً ، جاز وصحّ دون ما بعده ». ولا ينافي ذلك ما ذكرناه في النذر من عدم كونه منوّعاً لأقسام الصوم ، بل لا يكون هناك إلاّ وجوب الوفاء بالنذر ، وهو تكليف توصّلي لا تعبّدي ; لأ نّ الكلام هنا إنّما هو بالإضافة إلى نيّة الصوم الذي عرفت أ نّه أمر عبادي مفتقر إلى النيّة .
وليعلم أ نّه لا فرق في مقتضى القاعدة بين هذا القسم وبين القسم الأوّل ; فإنّ العبادة كما عرفت تحتاج إلى النيّة بالإضافة إلى جميع أجزائها ، ولا مجال للصحّة فيها في صورة خلوّ بعض الأجزاء من النيّة ولو لحظة ، إلاّ أ نّ النصّ والفتوى متطابقان على الصحّة في هذا القسم في صورة التأخير عن الطلوع ولو اختياراً ، غاية الأمر أ نّ المشهور ذهبوا إلى أنّ وقت النيّة في هذا القسم يمتدّ إلى الزوال ; أي لحظة قبله ، وحكي عن ابن الجنيد الامتداد إلى الغروب، كما في المندوب على ما يأتي ، واللازم ملاحظة الروايات من هذه الجهة ، وإلاّ فأصل جواز التأخير لا ارتياب فيه بالنظر إليها .
فنقول : هي كثيرة :
منها : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : قلت له : إنّ رجلاً أراد أن يصوم ارتفاع النهار، أيصوم ؟ قال : نعم(1) . ولا خفاء في انصرافها عن
- (1) الكافي 4 : 121 ح 1 ، وعنه وسائل الشيعة 10: 10 ، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيّته ب 2 ح 1 و ص 19 ب 4 ح 13 .
( الصفحة 37 )
الواجب المعيّن وشمولها للواجب غير المعيّن ، بل المندوب مطلقاً ، كما أ نّه لا خفاء في أ نّ الفهم العرفي يقتضي الاختصاص بما إذا لم يتناول الرجل المفطر بوجه ; ضرورة أ نّ المراد من قوله (عليه السلام) : «أراد أن يصوم ارتفاع النهار» خصوص هذه الصورة ، ولا يشمل ما إذا تناول المفطر بوجه . نعم ، خصوصيّة الرواية إنّما هي من جهة عدم الاختصاص بالقضاء كأكثر ما يأتي ، ولا دلالة لها على انتهاء وقت النيّة وأ نّه قبل الزوال، أو أعمّ منه وممّا إذا نوى قبل الغروب، ولا تنفي الثاني كما لا يخفى .
ومنها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان ولم يكن نوى ذلك من الليل ، قال : نعم، ليصمه وليعتدّ به إذا لم يكن أحدث شيئاً(1) .
وهذه كالرواية السابقة ، غاية الأمر أ نّ موردها القضاء ، وظاهرها عدم كون القضاء واجبة عليه مع التضيّق ، بل مع السعة . وقوله (عليه السلام) : «إذا لم يكن أحدث شيئاً» بعد ظهور كونه قيداً للجملتين، له ظهور أيضاً في أ نّ المراد من إحداث الشيء هو تناول بعض المفطرات .
ومنها : صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال عليّ (عليه السلام) : إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً ولم يفطر فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر(2). والظاهر أ نّ المراد من قوله (عليه السلام) : «إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً» هو عدم نيّة الصوم من طلوع
- (1) الكافي 4 : 122 ح 4 ، تهذيب الأحكام 4 : 186 ذ ح 522 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 10 ، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونّيته ب 2 ح 2 .
(2) تهذيب الأحكام 4 : 187 ح 525 ، وعنه وسائل الشيعة 10 : 11 ، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيّته ب 2 ح 5 .
( الصفحة 38 )
الفجر ; لعدم التوجّه إلى الصوم أصلاً ، لكن مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين قبل الزوال وبعده إلى الغروب . ثمّ قد وقع فيها الخيار في الصوم وعدمه مقيّداً بصورة عدم تناول المفطر .
ومنها : موثقة عمار الساباطي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان ويريد أن يقضيها، متى يريد أن ينوي الصيام ؟ قال : هو بالخيار إلى أن تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم ، وإن كان نوى الإفطار فليفطر . سئل : فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعدما زالت الشمس؟ قال : لا، الحديث(1) . وهذه هي الرواية الوحيدة التي حكم فيها بأ نّ الغاية للامتداد هو زوال الشمس ، وأ نّه لا تجوز له النيّة بعد الزوال ، والظاهر أ نّ المراد من قوله (عليه السلام) : «فإن كان نوى الإفطار» هو عدم نيّة الصوم بعد التذكّر وزوال الغفلة لا نيّة الإفطار ، كما لايخفى .
وحينئذ فالسؤال البعدي لعلّه ناظر إلى احتمال السائل أن يكون المراد من قوله (عليه السلام) : «فليفطر» في صورة نيّة الإفطار، هو الاستحباب غير المنافية لاستقامة نيّة الصوم وتحقّقه بعد الزوال ، ولذا سئل عن ذلك فأجاب (عليه السلام) بما يرجع إلى لزوم الإفطار في الصورة المذكورة، لا مجرّد الاستحباب .
ومنها : رواية اُخرى لعبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن الرجل يصبح ولم يطعم ولم يشرب ولم ينو صوماً وكان عليه يوم من شهر رمضان ، أله أن يصوم ذلك اليوم وقد ذهب عامّة النهار ؟ فقال : نعم ، له أن يصومه
- (1) تهذيب الأحكام 4 : 280 ح 847 ، الاستبصار 2 : 121 ح 396 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 13 ، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم ونيّته ب 2 ح 10 .