( الصفحة 61 )
أن يقال في مفطريّة مثله: إ نّه على تقديرها لا يكون من مصاديق الشرب ، بل من أشباه الغبار الداخل في الحلق الذي هو أجزاء دقيقة من التراب وشبهه ، فانتظر .
ثمّ إنّه لا فرق في مفطريّة الأكل والشرب بين الكثرة والقلّة ولو كانت في غايتها ، وقد ذكر السيّد في العروة أنّه لو بلّ الخيّاط الخيط بريقه أو غيره ثمّ ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بطل صومه ، إلاّ إذا استهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه على وجه لا تصدق عليه الرطوبة الخارجيّة ، وكذا لو استاك وأخرج المسواك من فمه وكان عليه رطوبة ثمّ ردّه إلى الفم ; فإنّه لو ابتلع ما عليه بطل صومه إلاّ مع الاستهلاك على الوجه المذكور (1). وربما يستشكل في ذلك بمنع تحقّق الاستهلاك بعد فرض الاتّحاد في الجنس ; فأنّه إنّما يتصوّر في غير المتجانسين على ما ذكروه في الشركة ، كامتزاج التراب في الماء ، أو وقوع قطرة من البول في كرّ من الماء مثلاً ، الموجب لزوال الموضوع وانعدامه .
وأمّا المزج الحاصل في المتجانسين ـ كما في المقام ـ فهو موجب لزيادة الكمّيّة والإضافة على مقدارها ، فكأ نّ الريق أو الماء عشرة مثاقيل مثلاً ، فصار أحد عشر مثقالاً ، وإلاّ فالمزيج باق على ما كان لا أنّه زال وانعدم .
ودفعه بعض الأعلام على ما في الشرح بما يرجع إلى أنّ ما ذكر إنّما يتمّ بالنظرإلى ذات المزيج ، فلا يعقل الاستهلاك بملاحظة نفس الممتزجين المتّحدين في الجنس . وأمّا بالنظر إلى الوصف العنواني ـ الذي بملاحظته جُعِل موضوعاً لحكم من الأحكام ; بأن كان الأثر مترتّباً على صنف خاصّ من الطبيعة ـ فلا مناص من الالتزام بالاستهلاك من هذه الجهة ، فلو فرضنا أنّ ماء البئر لا يجوز التوضّؤ به ،
- (1) العروة الوثقى 2 : 13 ، فصل فيما يجب الإمساك عنه في الصوم من المفطرات .
( الصفحة 62 )
فمزجنا مقداراً منه بماء النهر ، فالاستهلاك بالنظر إلى ذات الماء غير متصوّر . وأ مّا بالنظر الى الخصوصيّة ـ أي الإضافة إلى البئر ـ فالاستهلاك ضروريّ ; لعدم بقاء هذه الإضافة بعد الامتزاج فيما إذا كان المزيج قليلاً ، ولا موضوع لتلك الحصّة الخاصّة ، فلا يطلق على الممتزج أ نّ هذا ماء البئر ، أو أ نّ فيه ماء البئر ، فالماء بما هو ماء وإن لم يكن مستهلكاً ، ولكن بما هو ماء البئر مستهلك بطبيعة الحال .
وقد وسّع هذا الحكم فيما لو اُخذ مقدار من الماء المغصوب واُلقي في الماء المباح، بحيث كان الأوّل يسيراً جدّاً في قبال الثاني ، كما لو اُلقي مقدار من الماء المغصوب في الكرّ أو البحر ، فهل يمكن التفوّه بعدم جواز الاستعمال من البحر أو الكرّ ، بدعوى حصول الامتزاج وامتناع الاستهلاك في المتجانسين ؟ والمقام من هذا القبيل; فإنّ الريق مادام كونه في الفم يجوز ابتلاعه ، وإذا خرج لا يجوز ، فهناك صنفان محكومان بحكمين ، فإذا امتزج الصنفان على نحو تحقّق معه الاستهلاك ـ لا بما هو ريق ، بل بما هو ريق خارجي ـ جاز ابتلاعه .
ثمّ استدلّ عليه مضافاً إلى القاعدة بالروايات الورادة في جواز السواك بالمسواك الرطب ، وفي بعضها جواز بلّه بالماء والسواك به بعد النفض(1) ، وبما ورد من جواز المضمضة بل الاستياك بنفس الماء وأ نّه يفرغ الماء من فمه ولا شيء عليه (2); فإنّه تبقى لا محالة أجزاء من الرطوبة المائيّة في الفم ، إلاّ أنّه من جهة الاستهلاك في الريق لا مانع من ابتلاعها ، انتهى(3) .
قلت : الأمر كما أفاده زيد في علوّ مقامه ، إلاّ أنّه ينبغي التنبيه على أمر ; وهو أنّ
- (1) وسائل الشيعة 10: 83 و 85، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 28 ح 3 و 11 .
(2) وسائل الشيعة 10:86، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 28 ح 15 و 16 و ص 91 ب 31 ح 1 .
(3) المستند في شرح العروة 21 : 99 ـ 101 .
( الصفحة 63 )
الاستهلاك إنّما يؤثّر في المقام ، ومثله في مسألة الوضوء بالماء الذي امتزج به ماء البئر أو الماء المغصوب، كما في المثالين المذكورين . وأمّا بالنظر إلى سراية النجاسة فلا أثر للاستهلاك بوجه ، فإذا وقعت قطرة قليلة جدّاً في داخل الإناء الذي يكون فيه أقلّ من ماء الكرّ يوجب تنجّس الجميع ، ولذا ذكرنا في بحث النجاسات أنّ الرواية الواردة في هذا المورد إنّما هي في صورة العلم بإصابة الإناء ; سواء كان من داخلها أم من خارجها ، لا العلم بالإصابة من الداخل ، كما عرفت في جواب الشيخ (قدس سره) ، فراجع .
نعم ، ربما يستدلّ لهما ببعض الروايات الدالّة على أنّه لا يضرّ الصائم ما صنعإذا اجتنب ثلاث خصال أو أربع ; وهي صحيحة محمد بن مسلم ـ التي رواها المشايخ الثلاثة ـ قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : لا يضرّ الصائم ما صنع إذااجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس في الماء(1) . وفي الوسائل: وفي رواية محمد بن علي بن محبوب ـ الواقع في سند آخر للرواية ـ أربع خصال (2) . ويحتمل قويّاً أن يكون الاختلاف في العدد ناشئاً عن عدّ الطعام والشراب أمراً واحداً أو أمرين .
وقد ورد في بعض الروايات أنّ حدود الصوم أربعة : أوّلها: اجتنابالأكل والشرب (3)، كما أنّه ربما يستدلّ لهما تارة اُخرى بما دلّ على نفيالبأس عن الاكتحال أو دخول الذباب في الحلق ; معلّلاً في كليهما بأنّه
- (1 ، 2) تهذيب الأحكام 4 : 189 ح 535 و ص 202 ح 584 وص 318 ح 971 ، الاستبصار 2 : 80 ح 244 و ص 84 ح 261 ، الفقيه 2 : 67 ح 276 ، وعنها وسائل الشيعة 10 : 31 ، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 1 ح 1 .
(3) تأتي في ص112.
( الصفحة 64 )
مسألة 2 : المدار هو على صدق الأكل والشرب ولو كانا على النحو الغير المتعارف ، فإذا أوصل الماء إلى جوفه من طريق أنفه ، صدق الشرب عليه وإن كان بنحو غير متعارف 1 .
ليس بطعام(1) .
والجواب عن الصحيحة: أ نّ الحصر إنّما هو بالإضافة إلى سائر الأفعال الخارجيّة والاُمور الصادرة من الصائم من النوم والمشي وغيرهما ، ولا دلالة فيها على اختصاص المفطريّة بما يصدق عليه الطعام والشراب ، مع احتمال أن يكون المراد هو المعنى المصدري ، ومع ذلك فلا تقاوم الاطلاقات . وعن الدليل الثاني فبالإضافة إلى الاكتحال واضح ; لأ نّ المراد أنّه لا يتحقّق به الأكل ، وبالنسبة إلى الذباب كذلك ; لأنّ موردها صورة دخول الذباب في الحلق من غير اختيار ; ضرورة أنّه لو فرض تحقّق الأكل الاختياري في مورده ـ كأكل الطين على ما عرفت ـ فلايستفاد منه عدم البطلان . فالمتحصّل أنّ الحقّ مع ما هو المشهور .
1ـ حكي عن الفاضل الايرواني (قدس سره) في رسالته العمليّة أنّه لا بأس بغير المتعارف (2)، والظاهر هو ما ورد في المتن من عدم الفرق ، كما هو كذلك بالإضافة إلى المحرّمات الاُخر ، فهل يحتمل اختصاص حرمة الخمر بما إذا دخلت من طريق الفم لا الأنف مثلاً؟! كما لا يخفى .
- (1) الكافي 4: 111 ح 1 وص115 ح2، تهذيب الأحكام 4: 258 ح765 و766 وص323 ح994، الاستبصار 2: 89 ح 278 و 279، وعنها وسائل الشيعة 10: 74 و 75، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 25 ح 1 و 6 و ص 109 ب 39 ح2 .
(2) الحاكي هو السيّد الخوئي في المستند في شرح العروة 21 : 92 .
( الصفحة 65 )
الثالث : الجماع; ذكراً كان الموطوء أو اُنثى ، إنساناً أو حيواناً ، قُبلاً أو دُبراً ، حيّاً أو ميّتاً ، صغيراً أو كبيراً ، واطئاً كان الصائم أو موطوءاً . فتعمّد ذلك مبطل وإن لم يُنزل ،ولا يبطل مع النسيان أو القهر السالب للاختيار ، دون الإكراه ; فإنّه مبطل أيضاً ، فإن جامع نسياناً أو قهراً ، فتذكّر أو ارتفع القهر في الأثناء ،وجب الإخراج فوراً ، فإن تراخى بطل صومه . ولو قصد التفخيذ مثلاً فدخل بلا قصد لم يبطل ، وكذا لو قصد الإدخال ولم يتحقّق; لما مرّ من عدم مفطريّة قصد المفطر . ويتحقّق الجماع بغيبوبة الحشفة أو مقدارها ، بل لا يبعد إبطال مسمّى الدخول في المقطوع وإن لم يكن بمقدارها 1 .
1ـ في هذا الأمر جهات من الكلام :
الاُولى : في مفطريّة الجماع في الجملة ، والظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف بين المسلمين ، بل لعلّه من الضروريّات (1) ، ويدلّ عليه قبل كلّ شيء قوله ـ تعالى ـ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآلـ ِكُمْ}(2) ، وقد وردت فيه روايات مستفيضة ، منها: صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة الدالّة على أنّه من الثلاثة أو الأربعة التي يجب الاجتناب عنها للصائم .
الثانية : الظاهر أنّه لا فرق في مفطريّة الجماع بين الموارد المذكورة في المتن وإن كان ربما يتخيّل ـ لأجل التعبير بالنساء في الصحيحة المتقدّمة ـ الاختصاص بإتيان الأهل ، لا لأنّها محلّلة في نفسها ، بل لأنّها اُنثى أوّلاً ، ولعلّ الظاهر صورة وطء المرأة قبلاً ، بل ولعلّه يختصّ بصورة الإنزال ، مع أنّ الظاهر العموميّة في الجانبين ،
- (1) المعتبر 2 : 653 ، رياض المسائل 5 : 310 ، جواهر الكلام 16 : 219 ، مستمسك العروة 8 : 239 ، المستند في شرح العروة 21 : 111 .
(2) سورة البقرة 2 : 187 .