جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان جلد 4

مجمع البيان ج : 4 ص : 421

( 6 ) سورة الأنعام مكية و آياتها خمس و ستون و مائة ( 165 )
هي مكية عن ابن عباس غير ست آيات « و ما قدروا الله حق قدره » إلى آخر ثلاث آيات « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم » إلى آخر ثلاث آيات فإنهن نزلن بالمدينة و في رواية أخرى عنه غير ثلاث آيات « قل تعالوا أتل » إلى آخر الثلاث و باقي السورة كلها نزلت بمكة و روي عن أبي بن كعب و عكرمة و قتادة أنها كلها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا و معها سبعون ألف ملك قد ملأوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح و التحميد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سبحان الله العظيم و خر ساجدا ثم دعا الكتاب فكتبوها من ليلتهم و أكثرها حجاج على المشركين و على من كذب بالبعث و النشور .

عدد آيها

هي مائة و خمس و ستون آية كوفي ست بصري شامي سبع حجازي ( خلافها ) أربع آيات « و جعل الظلمات و النور » حجازي « لست عليكم بوكيل » كوفي « كن فيكون » و « إلى صراط مستقيم » غير الكوفي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما و ليلة ، جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله « و يعلم ما تكسبون » وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة من حديد فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا ضربه بها إلى آخر الخبر و روى
مجمع البيان ج : 4 ص : 422
العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك فعظموها و بجلوها فإن اسم الله فيها في سبعين موضعا و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها ثم قال (عليه السلام) من كانت له إلى الله حاجة يريد قضاءها فليصل أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام و ليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة يا كريم يا كريم يا كريم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا أعظم من كل عظيم يا سميع الدعاء يا من لا تغيره الليالي و الأيام صل على محمد و آل محمد و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي يا من رحم الشيخ يعقوب حين رد عليه يوسف قرة عينه يا من رحم أيوب بعد طول بلائه يا من رحم محمدا و من اليتم آواه و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها و أمكنه منهم يا مغيث يا مغيث يا مغيث تقول ذلك مرارا فو الذي نفسي بيده لو دعوت الله بها ثم سألت الله جميع حوائجك لأعطاك و روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهماالسلام) قال نزلت الأنعام جملة واحدة شيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة و روى أبو صالح عن ابن عباس قال من قرأ سورة الأنعام في كل ليلة كان من الآمنين يوم القيامة و لم ير النار بعينه أبدا .

تفسيرها

لما ختم الله سورة المائدة ب آية على كل شيء قدير افتتح سورة الأنعام بما يدل على كمال قدرته من خلق السماوات و الأرض و غيره فقال .

سورة الأنعام

بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَْمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ جَعَلَ الظلُمَتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبهِمْ يَعْدِلُونَ(1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِين ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْترُونَ(2) وَ هُوَ اللَّهُ فى السمَوَتِ وَ فى الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)

مجمع البيان ج : 4 ص : 423

اللغة

العدل خلاف الجور و عدلت به غيره أي سويته به و عدلت عنه أي أعرضت و عدلت الشيء فاعتدل أي قومته فاستقام و الأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد فأجل الإنسان وقت انقضاء عمره و أجل الدين محله و هو وقت انقضاء التأخير و أصله التأخير يقال أجله تأجيلا و عجله تعجيلا و الآجل نقيض العاجل و الامتراء الشك و أصله من مرأت الناقة إذا مسحت ضرعها لاستخراج اللبن و منه ماراه يماريه مراء و مماراة إذا استخرج ما عنده بالمناظرة فالامتراء استخراج الشبهة المشكلة من غير حل .

المعنى

بدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد لأن أصول النعم و فروعها منه تعالى و لأن له الصفات العلى فقال « الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض » يعني اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة و قيل إنه في لفظ الخبر و معناه الأمر أي احمدوا الله و إنما جاء على صيغة الخبر و إن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه يجمع الأمرين و قد ذكرنا من معنى الحمد لله و تفسيره في الفاتحة ما فيه كفاية « و جعل الظلمات و النور » يعني الليل و النهار عن السدي و جماعة من المفسرين و قيل الجنة و النار عن قتادة و إنما قدم ذكر الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور و كذلك خلق السماوات قبل الأرض ثم عجب سبحانه ممن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته فقال « ثم الذين كفروا » أي جحدوا الحق « بربهم يعدلون » أي يسوون به غيره بأن جعلوا له أندادا مأخوذ من قولهم ما أعدل بفلان أحدا أي لا نظير له عندي و قيل معنى يعدلون يشركون به غيره عن الحسن و مجاهد و دخول ثم في قوله « ثم الذين كفروا » دليل على معنى لطيف و هو أنه سبحانه أنكر على الكفار العدل به و عجب المؤمنين من ذلك و مثله في المعنى قوله فيما بعد « ثم أنتم تمترون » و الوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار مع اعترافهم بأن أصول النعم منه و أنه هو الخالق و الرازق عبدوا غيره و نقضوا ما اعترفوا به و أيضا فإنهم عبدوا ما لا ينفع و لا يضر من الحجارة و الموات « هو الذي خلقكم من طين » يعني به آدم و المعنى أنشأ أباكم و اخترعه من طين و أنتم من ذريته فلما كان آدم أصلنا و نحن من نسله جاز أن يقول لنا خلقكم من طين « ثم قضى أجلا » أي كتب و قدر أجلا و القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى الأمر و بمعنى الخلق و بمعنى الإتمام و الإكمال « و أجل مسمى عنده » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أنه يعني بالأجلين أجل الحياة إلى الموت و أجل الموت إلى البعث و قيام الساعة عن الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة
مجمع البيان ج : 4 ص : 424
و الضحاك و اختاره الزجاج و روى أيضا عطاء عن ابن عباس قال قضى أجلا من مولده إلى مماته و أجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة و نقص من أجل الممات إلى البعث و إذا كان غير صالح و لا واصل نقصه الله من أجل الحياة و زاد في أجل المبعث قال و ذلك قوله و ما يعمر من معمر و لا ينقص من عمره إلا في كتاب ( و ثانيها ) أنه الأجل الذي يحيا به أهل الدنيا إلى أن يموتوا و أجل مسمى عنده يعني الآخرة لأنه أجل دائم ممدود لا آخر له و إنما قال مسمى عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في السماء و هو الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه عن الجبائي و هو قول سعيد بن جبير و مجاهد ( و ثالثها ) أن أجلا يعني به أجل من مضى من الخلق و أجل مسمى عنده يعني به آجال الباقين عن أبي مسلم ( و رابعها ) أن قوله قضى أجلا عنى به النوم يقبض الروح فيه ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة و أجل مسمى عنده هو أجل موت الإنسان و هو المروي عن ابن عباس و يؤيده قوله و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى و الأصل في الأجل هو الوقت فأجل الحياة هو الوقت الذي يكون فيه الحياة و أجل الموت أو القتل هو الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل و ما يعلم الله تعالى أن المكلف يعيش إليه لو لم يقتل لا يسمى أجلا حقيقة و يجوز أن يسمى ذلك مجازا و ما جاء في الأخبار من أن صلة الرحم تزيد في العمر و الصدقة تزيد في الأجل و أن الله تعالى زاد في أجل قوم يونس و ما أشبه ذلك فلا مانع من ذلك و قوله « ثم أنتم تمترون » خطاب للكفار الذين شكوا في البعث و النشور و احتجاج عليهم بأنه سبحانه خلقهم و نقلهم من حال إلى حال و قضى عليهم الموت و هم يشاهدون ذلك و يقرون بأنه لا محيص منه ثم بعد هذا يشكون و يكذبون بالبعث و من قدر على ابتداء الخلق فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه إعادتهم و بعثهم .

الإعراب

هو الأشبه أن يكون ضمير القصة و الحديث و تقديره الأمر الله يعلم في السماوات و في الأرض سركم و جهركم فالله مبتدأ و يعلم خبره و في السماوات و في الأرض في موضع النصب بيعلم و سركم مفعوله أيضا و لا يكون الظرف الذي هو الجار و المجرور منصوب الموضع بالمصدر و إن جعلنا الظرف متعلقا باسم الله جاز في قياس قول من قال إن أصل الله الإلاه فيكون المعنى هو المعبود في السماوات و في الأرض يعلم و تقديره الأمر المعبود في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم و من جعل اسم الله بمنزلة أسماء
مجمع البيان ج : 4 ص : 425
الأعلام فلا يجوز أن يتعلق الظرف به إلا أن يقدر فيه ضربا من معنى الفعل و يجوز أن يكون هو مبتدأ و الله خبره و العامل في قوله « في السماوات و في الأرض » اسم الله على ما قلناه و يجوز أن يكون خبرا بعد خبر .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « و هو الله في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم » فيه وجوه على ما ذكرناه في الإعراب فعلى التقدير الأول يكون معناه الله يعلم في السماوات و في الأرض سركم و جهركم و يكون الخطاب لجميع الخلق لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء أو بشرا أو جنا فهم في الأرض فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم و أحوالهم و متصرفاتهم لا يخفى عليه منها شيء و يقويه قوله « و يعلم ما تكسبون » أي يعلم جميع ما تعلمونه من الخير و الشر فيجازيكم على حسب أعمالكم و على التقدير الثاني يكون معناه أن المعبود في السماوات و في الأرض أو المنفرد بالتدبير في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم فلا تخفى عليه منكم خافية و يكون الخطاب لبني آدم و إن جعلت اسم الله علما على هذا التقدير ثم علقت به قوله « في السماوات و في الأرض » لم يجز و إن علقته بمحذوف يكون خبر الله أو حالا عنه أوهم بأن يكون البارىء سبحانه في محل تعالى عن ذلك علوا كبيرا و قال أبو بكر السراج أن الله و إن كان اسما علما ففيه معنى الثناء و التعظيم الذي يقرب بهما من الفعل فيجوز أن يوصل لذلك بالمحل و تأويله و هو المعظم أو نحو ذا في السماوات و في الأرض ثم قال يعلم سركم و جهركم و مثل ذلك قوله سبحانه و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله قال الزجاج فلو قلت هو زيد في البيت و الدار لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيدا يدبر أمر البيت و الدار فيكون المعنى هو المدبر في البيت و الدار و لو قلت هو المعتضد و الخليفة في الشرق و الغرب أو قلت هو المعتضد في الشرق و الغرب جاز و على مقتضى ما قاله أبو بكر و الزجاج يكون في متعلقة بما دل عليه اسم الله و يكون هو الله مبتدأ و خبرا و المعنى و هو المنفرد بالإلهية في السماوات و في الأرض لا إله فيهما غيره و لا مدبر لهما سواه و إن جعلت في السماوات خبرا بعد خبر فيكون التقدير و هو الله و هو في السماوات و في الأرض يعني أنه في كل مكان فلا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ثم أخبر سبحانه عن هذا المعنى مبينا لذلك مؤكدا له بقوله « يعلم سركم و جهركم » أي الخفي المكتوم و الظاهر المكشوف منكم « و يعلم ما تكسبون » و المعنى يعلم نياتكم و أحوالكم و أعمالكم و هذا الترتيب الذي ذكرته في معاني هذه الآية التي استنبطتها من
مجمع البيان ج : 4 ص : 426
وجوه الإعراب مما لم أسبق إليه و هو في استقامة فصوله و مطابقة أصول الدين كما تراه لا غبار عليه و فيه دلالة على فساد قول من يقول بأن الله تعالى في مكان دون مكان تعالى عن ذلك و تقدس و في قوله « يعلم سركم و جهركم » دلالة على أنه عالم لنفسه لأن من كان عالما بعلم لا يصح ذلك منه .
وَ مَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة مِّنْ ءَايَتِ رَبهِمْ إِلا كانُوا عَنهَا مُعْرِضِينَ(4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسوْف يَأْتِيهِمْ أَنبَؤُا مَا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ(5)

الإعراب

من الأولى مزيدة و هي التي تقع في النفي لاستغراق الجنس و موضعه رفع و الثانية للتبعيض .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن الكفار المذكورين في أول الآية فقال « و ما تأتيهم من آية » أي لا تأتيهم حجة « من آيات ربهم » أي من حججه و بيناته كانشقاق القمر و آيات القرآن و غير ذلك من المعجزات « إلا كانوا عنها معرضين » لا يقبلونها و لا يستدلون بها على ما دلهم الله عليه من توحيده و صدق رسوله « فقد كذبوا بالحق لما جاءهم » أي بالحق الذي أتاهم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن و سائر أمور الدين « فسوف يأتيهم أنباء » أي أخبار « ما كانوا به يستهزءون » و المعنى أخبار استهزائهم و جزاؤه و هو عقاب الآخرة و قيل معناه سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم عن ابن عباس و الحسن و به قال الزجاج و معنى الاستهزاء إيهام التفخيم في معنى التحقير .
أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْن مَّكَّنَّهُمْ فى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكمْ وَ أَرْسلْنَا السمَاءَ عَلَيهِم مِّدْرَاراً وَ جَعَلْنَا الأَنْهَرَ تجْرِى مِن تحْتهِمْ فَأَهْلَكْنَهُم بِذُنُوبهِمْ وَ أَنشأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ(6)

مجمع البيان ج : 4 ص : 427

اللغة

القرن أهل كل عصر مأخوذ من أقرانهم في العصر قال الزجاج و القرن ثمانون سنة و قيل سبعون سنة قال و الذي يقع عندي أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلت السنون أو كثرت و الدليل عليه قول النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم و التمكين إعطاء ما به يصح الفعل كائنا ما كان من آلة و غيرها و الإقدار إعطاء القدرة خاصة و مفعال من أسماء المبالغة يقال ديمة مدرار إذا كان مطرها غزيرا دارا و هذا كقولهم امرأة مذكار إذا كانت كثيرة الولادة للذكور و كذلك مئناث في الإناث و أصل المدرار من در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير و درت السماء إذا أمطرت و الدر اللبن و يقال لله دره أي عمله و في الذم لا در دره أي لا كثر خيره .

الإعراب

كم نصب بأهلكنا لا بقوله « يروا » لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله و هو تعليق و معنى التعليق أن الاستفهام أبطل عمل يرى في اللفظ و قد عمل في معناه و انتقل من الخبر إلى الخطاب في قوله « ما لم نمكن لكم » اتساعا في الكلام و قد قال « مكناهم في الأرض » و إنما لم يقل ما لم نمكنكم لأن العرب تقول مكنته و مكنت له كما تقول نصحته و نصحت له .

المعنى

ثم حذرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم فقال « أ لم يروا » أي أ لم يعلم هؤلاء الكفار « كم أهلكنا من قبلهم من قرن » أي من أمة و كل طبقة مقترنين في وقت قرن « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » معناه جعلناهم ملوكا و أغنياء كأنه سبحانه أخبر النبي عنهم في صدر الكلام ثم خاطبه معهم و قال ابن عباس يريد أعطيناهم ما لم نعطكم و المعنى وسعنا عليهم في كثرة العبيد و الأموال و الولاية و البسطة و طول العمر و نفاذ الأمر و أنتم تسمعون أخبارهم و ترون ديارهم و آثارهم « و أرسلنا السماء عليهم مدرارا » قال ابن عباس يريد به الغيث و البركة و السماء معناه المطر هنا « و جعلنا الأنهار » أي ماء الأنهار « تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم » و لم يغن ذلك عنهم شيئا لما طغوا و اجترءوا علينا « و أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » أي خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى و في هذه الآية دلالة على وجوب التفكر و التدبر و احتجاج على منكري البعث بأن من أهلك من قبلهم و أنشأ قوما آخرين قادر على أن يفني العالم و ينشىء عالما آخر و يعيد الخلق بعد الإفناء .

مجمع البيان ج : 4 ص : 428
وَ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْك كِتَباً فى قِرْطاس فَلَمَسوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)

النزول

نزلت في نضر بن الحرث و عبد الله بن أبي أمية و نوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله و أنك رسوله عن الكلبي .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن عنادهم فقال « و لو نزلنا عليك » يا محمد « كتابا في قرطاس » أي كتابة في صحيفة و أراد بالكتاب المصدر و بالقرطاس الصحيفة و قيل كتابا معلقا من السماء إلى الأرض عن ابن عباس « فلمسوه بأيديهم » أي فعاينوا ذلك معاينة و مسوه بأيديهم عن قتادة و غيره قالوا اللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة و لذلك قال « فلمسوه بأيديهم » دون أن يقول فعاينوه « لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين » أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوا ذلك إلى السحر لعظم عنادهم و قساوة قلوبهم و في هذه الآية دلالة على ما يقوله أهل العدل في اللطف لأنه تعالى بين أنه إنما لم يفعل ما سألوه حيث علم أنهم لا يؤمنون عنده .
وَ قَالُوا لَوْ لا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضىَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظرُونَ(8) وَ لَوْ جَعَلْنَهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسونَ(9) وَ لَقَدِ استهْزِىَ بِرُسل مِّن قَبْلِك فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخِرُوا مِنْهُم مَّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ(10)

اللغة


قال الزجاج قضي في اللغة على ضروب كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء و تمامه و قد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة عند قوله إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم و جعلته مشكلا قال ابن السكيت يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته و معنى اللبس منع النفس
مجمع البيان ج : 4 ص : 429
من إدراك الشيء بما هو كالستر له و أصله من الستر بالثوب و هو لبس الثوب لأنه يستر النفس يقال لبست الثوب ألبسه لباسا و لبسا و الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله يقال حاق بهم يحيق حيقا و حيوقا و حيقانا بفتح الياء .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم « قالوا لو لا » أي هلا « أنزل عليه » أي على محمد « ملك » نشاهده فنصدقه ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال « و لو أنزلنا ملكا » على ما اقترحوه لما آمنوا به و اقتضت الحكمة استئصالهم و أن لا ينظرهم و لا يمهلهم و ذلك معنى قوله « لقضي الأمر ثم لا ينظرون » أي لأهلكوا بعذاب الاستئصال عن الحسن و قتادة و السدي و قيل معناه لو أنزلنا ملكا في صورته لقامت الساعة أو وجب استئصالهم عن مجاهد ثم قال تعالى « و لو جعلناه ملكا » أي لو جعلنا الرسول ملكا أو الذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة كما يطلبون ذلك « لجعلناه رجلا » لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة و لذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس و كان جبرائيل يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في صورة دحية الكلبي و كذلك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب و إتيانهم إبراهيم و لوطا في صورة الضيفان من الآدميين « و للبسنا عليهم ما يلبسون » قال الزجاج كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال لو أنزلنا ملكا فرأوا هم الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم أي فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان و هذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة و قيل معناه و لو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلا بالتفكر و هم لا يتفكرون فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه فأضاف اللبس إلى نفسه لأنه يقع عند إنزاله الملائكة ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه و استهزائهم به « و لقد استهزىء برسل من قبلك » يقول لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك فلست بأول رسول استهزىء به و لا هم أول أمة استهزأت برسولها « فحاق بالذين سخروا منهم » أي فحل بالساخرين منهم « ما كانوا به يستهزءؤن » من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا و قيل معنى حاق بهم أحاط بهم عن الضحاك و هو اختيار الزجاج أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء استهزائهم فهو من باب حذف المضاف إذا جعلت ما في قوله « ما كانوا به يستهزءؤن » عبارة عن القرآن و الشريعة و إن جعلت ما عبارة عن العذاب الذي كان يوعدهم به النبي إن لم يؤمنوا استغنيت عن تقدير
مجمع البيان ج : 4 ص : 430
حذف المضاف و يكون المعنى فحاق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من وقوعه .
قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ ثُمَّ انظرُوا كيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) قُل لِّمَن مَّا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَب عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لا رَيْب فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(12) *وَ لَهُ مَا سكَنَ فى الَّيْلِ وَ النهَارِ وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ(13)

الإعراب

قال الأخفش « الذين خسروا أنفسهم » بدل من الكاف و الميم في ليجمعنكم و قال الزجاج هو في موضع رفع على الابتداء و خبره « فهم لا يؤمنون » لأن ليجمعنكم مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم و غيرهم قال و اللام في ليجمعنكم لام قسم فجائز أن يكون تمام الكلام كتب ربكم على نفسه الرحمة ثم استأنف فقال ليجمعنكم و المعنى و الله ليجمعنكم و جائز أن يكون ليجمعنكم بدلا من الرحمة مفسرا لها لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة ليتوبوا .

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « سيروا في الأرض » أي سافروا فيها « ثم انظروا » و النظر طلب الإدراك بالبصر و بالفكر و بالاستدلال و معناه هنا فانظروا بأبصاركم و تفكروا بقلوبكم « كيف كان عاقبة المكذبين » المستهزءين و إنما أمرهم بذلك لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة كانت باقية و أخبارهم في الخسف و الهلاك كانت شائعة فإذا سار هؤلاء في الأرض و سمعوا أخبارهم و عاينوا آثارهم دعاهم ذلك إلى الإيمان و زجرهم عن الكفر و الطغيان ثم قال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « لمن ما في السماوات و الأرض » الله الذي خلقهما أم الأصنام فإن أجابوك فقالوا الله و إلا ف « قل » أنت « لله » أي ملكهما و خلقهما و التصرف فيهما كيف يشاء له « كتب على نفسه الرحمة » أي أوجب على نفسه الإنعام على خلقه و قيل معناه أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه و قيل
مجمع البيان ج : 4 ص : 431
أوجب على نفسه الرحمة بإنظاره عباده و إمهاله إياهم ليتداركوا ما فرطوا فيه و يتوبوا عن معاصيهم و قيل أوجب على نفسه الرحمة لأمة محمد بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الماضية و القرون الخالية عند التكذيب بل يؤخرهم إلى يوم القيامة عن الكلبي « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » أي ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة فيكون تفسيرا للرحمة على ما ذكرناه أن المراد به إمهال العاصي ليتوب و قيل إن هذا احتجاج على من أنكر البعث و النشور و يقول ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه كما تقول جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع يريد بجمع آخركم إلى أولكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة و هو الذي « لا ريب فيه » و قيل معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه و يكفرون به عن الأخفش و يسأل عن هذا فيقال كيف يحذر المشركين بالبعث و هم لا يصدقون به و الجواب أنه جار مجرى الإلزام و أيضا فإنه تعالى إنما ذكر ذلك عقيب الدليل و يقال كيف نفى الريب مطلقا فقال لا ريب فيه و الكافر مرتاب فيه و الجواب أن الحق حق و إن ارتاب فيه المبطل و أيضا فإن الدلائل تزيل الشك و الريب فإن نعم الدنيا تعم المحسن و المسيء فلا بد من دار يتميز فيه المحسن من المسيء و أيضا فقد صح أن التكليف تعريف للثواب و إذا لم يمكن إيصال الثواب في الدنيا لأن من شأنه أن يكون صافيا من الشوائب فلا يكون مقترنا بالتكليف لأن التكليف لا يعري من المشقة فلا بد من دار أخرى و أيضا فإن التمكين من الظلم من غير انتصاف في العاجل و إنزال الأمراض من غير استحقاق و لا إيفاء عوض في العاجل توجب قضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفى فيها الأعواض و ينتصف من المظلوم للظالم « الذين خسروا أنفسهم » أي أهلكوها بارتكاب الكفر و العناد « فهم لا يؤمنون » أي لا يصدقون بالحق و لما ذكر تعالى ملك السماوات و الأرض عقبه بذكر ما فيهما فقال « و له ما سكن » أي و له كل متمكن ساكن « في الليل و النهار » خلقا و ملكا و ملكا و إنما ذكر الليل و النهار هنا و ذكر السماوات و الأرض فيما قبل لأن الأول يجمع المكان و الثاني يجمع الزمان و هما ظرفان لكل موجود فكأنه أراد الأجسام و الأعراض و على هذا فلا يكون السكون في الآية ما هو خلاف الحركة بل المراد به الحلول كما قال ابن الأعرابي إنه من قولهم فلان يسكن بلد كذا أي يحله و هذا موافق لقول ابن عباس و له ما استقر في الليل و النهار من خلق و قيل معناه ما سكن في الليل للاستراحة و تحرك في النهار للمعيشة و إنما ذكر الساكن دون المتحرك لأنه أعم و أكثر و لأن عاقبة التحرك السكون و لأن النعمة في السكون أكثر و الراحة فيه أعم و قيل أراد الساكن و المتحرك و تقديره
مجمع البيان ج : 4 ص : 432
و له ما سكن و تحرك إلا أن العرب قد تذكر أحد وجهي الشيء و تحذف الآخر لأن المذكور ينبه على المحذوف كقوله تعالى « سرابيل تقيكم الحر » و المراد الحر و البرد و متى قيل لما ذا ذكر السكون و الحركة من بين سائر المخلوقات فالجواب لما في ذلك من التنبيه على حدوث العالم و إثبات الصانع لأن كل جسم لا ينفك من الحوادث التي هي الحركة و السكون فإذا لا بد من محرك و مسكن لاستواء الوجهين في الجواز و لما نبه على إثبات الصانع عقبه بذكر صفته فقال « و هو السميع العليم » و السميع هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و هو كونه حيا لا آفة به و لذلك يوصف به فيما لم يزل و العليم هو العالم بوجوده التدابير في خلقه و بكل ما يصح أن يعلم و إنما جعل الليل و النهار في هذه الآية كالمسكن لما اشتملا عليه لأنه ليس يخرج منهما شيء فجمع كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف و هذا من أفصح ما يمكن كما قال النابغة :
فإنك كالليل الذي هو مدركي
و إن خلت إن المنتأى عنك واسع فجعل الليل مدركا له إذ كان مشتملا عليه .
قُلْ أَ غَيرَ اللَّهِ أَتخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ يُطعِمُ وَ لا يُطعَمُ قُلْ إِنى أُمِرْت أَنْ أَكونَ أَوَّلَ مَنْ أَسلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشرِكِينَ(14) قُلْ إِنى أَخَاف إِنْ عَصيْت رَبى عَذَاب يَوْم عَظِيم(15)

القراءة

روي في الشواذ قراءة عكرمة و الأعمش و لا يطعم بفتح الياء و معناه و لا يأكل .

اللغة

الفطرة ابتداء الخلقة قال ابن عباس ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم
مجمع البيان ج : 4 ص : 433
إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها و أصل الفطر الشق و منه إذا السماء انفطرت أي انشقت قال الزجاج فإن قال قائل كيف يكون الفطر في معنى الخلق و الانفطار في معنى الانشقاق قيل إنهما يرجعان إلى شيء واحد لأن معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا .

الإعراب

غير نصب لأنه مفعول « أتخذ وليا » مفعول ثان و قوله « إن عصيت ربي » فيه وجهان أحدهما أنه اعتراض بين الكلام كما يكون الاعتراض بالأقسام فعلى هذا لا موضع له من الإعراب و الآخر أنه في موضع نصب على الحال فكأنه قيل إني أخاف عاصيا ربي عذاب يوم عظيم و يكون جواب الشرط محذوفا على الوجهين جميعا .

النزول

قيل إن أهل مكة قالوا لرسول الله يا محمد تركت ملة قومك و قد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت الآية .

المعنى

« قل » يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم « أ غير الله أتخذ وليا » أي مالكا و مولى و ولي الشيء مالكه الذي هو أولى من غيره و المعنى لا أتخذ غير الله وليا إلا أن إخراجه على لفظ الاستفهام أبلغ من سائر ألفاظ النفي « فاطر السموات و الأرض » أي خالقهما و منشئهما من غير احتذاء على مثال « و هو يطعم و لا يطعم » أي يرزق و لا يرزق و المراد يرزق الخلق و لا يرزقه أحد و قيل إنما ذكر الإطعام لأن حاجة العباد إليه أشد و لأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين لأن الحاجة إلى الطعام لا تجوز إلا على الأجسام و احتج سبحانه بهذا على الكفار لأن من خلق السماوات و الأرض و أنشأ ما فيهما و أحكم تدبيرها و أطعم من فيهما و هم فقراء إليه معلوم أنه الذي ليس كمثله شيء و هو القادر القاهر الغني الحي فلا يجوز لمن عرف ذلك أن يعبد غيره « قل » يا محمد « إني أمرت » أي أمرني ربي « أن أكون أول من أسلم » أي استسلم لأمر الله و رضي بحكمه و قيل معناه أمرت أن كون أول من أخلص العبادة من أهل هذا الزمان عن الكلبي و قيل أول من أسلم من أمتي و آمن بعد الفترة عن الحسن و إنما كان أول لأنه خص بالوحي و قيل معناه أن أكون أول من خضع و آمن و عرف الحق من قومي و أن أترك ما هم عليه من الشرك و نظيره قول موسى سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين أي بأنك لا ترى ممن سألك أن تريه نفسك و قول السحرة إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين بأن هذا ليس بسحر و أنه
مجمع البيان ج : 4 ص : 434
الحق أي أول المؤمنين من السحرة « و لا تكونن من المشركين » المعنى أمرت بالأمرين جميعا أي أمرت بالإيمان و نهيت عن الشرك و تقديره و قيل لي لا تكونن من المشركين و صار أمرت بدلا من ذلك لأنه حين قال أمرت أخبر أنه قيل له ذلك فقوله « و لا تكونن » معطوف على ما قبله في المعنى « قل » يا محمد « إني أخاف » قيل معناه أوقن و أعلم و قيل هو من الخوف « إن عصيت ربي » بترك أمره و ترك نهيه و قيل بعبادة غيره و قيل باتخاذ غيره وليا « عذاب يوم عظيم » يعني يوم القيامة و معنى العظيم هنا أنه شديد على العباد و عظيم في قلوبهم .
مَّن يُصرَف عَنْهُ يَوْمَئذ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذَلِك الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف و يعقوب و أبو بكر عن عاصم من يصرف بفتح الياء و كسر الراء و الباقون « يصرف » بضم الياء و فتح الراء .

الحجة

قال أبو علي فاعل يصرف الضمير العائد إلى ربي و ينبغي أن يكون حذف الضمير العائد إلى العذاب و المعنى من يصرفه عنه و كذلك في قراءة أبي فيما زعموا و ليس حذف هذا الضمير بالسهل و ليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة لأن من جزاء و لا يكون صلة على أن الضمير إنما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو أ هذا الذي بعث الله رسولا و سلام على عباده الذين اصطفى أي بعثهم و اصطفاهم و لا يعود الضمير المحذوف هنا إلى موصول و لا إلى من التي للجزاء و إنما يرجع إلى العذاب في قوله « عذاب يوم عظيم » و ليس هذا بمنزلة قوله و الحافظين فروجهم و الحافظات لأن هذا فعل واحد قد تكرر و عدي الأول منهما إلى المفعول فعلم بتعدية الأول أن الثاني بمنزلته و أما قراءة من قرأ « يصرف » فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره و الذكر العائد إلى المبتدأ الذي هو من في القراءتين جميعا الضمير الذي في عنه و مما يقوي قراءة من قرأ يصرف بفتح الياء أن ما بعده من قوله « فقد رحمه » مسند إلى ضمير اسم الله تعالى فقد اتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير و مما يقوي ذلك أيضا أن الهاء المحذوفة من يصرفه لما كانت في حيز الجزاء و كان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة في أنه لا يجوز أن يتسلط على الموصول حسن حذف الهاء منه كما حسن حذفها من الصلة .

المعنى

« من يصرف » العذاب « عنه يومئذ فقد رحمه » الله يريد من غفر له فإنه
مجمع البيان ج : 4 ص : 435
يثيبه الله لا محالة و ذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب لئلا يتوهم أنه ليس له إلا صرف العذاب عنه فقط « و ذلك الفوز » أي الظفر بالبغية « المبين » الظاهر البين و يحتمل أن يكون معنى الآية أنه لا يصرف العذاب عن أحد إلا برحمة الله كما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و الذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا و لا أنت يا رسول الله قال و لا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل و وضع يده على فوق رأسه و طول بها صوته رواه الحسن في تفسيره .
وَ إِن يَمْسسك اللَّهُ بِضرّ فَلا كاشِف لَهُ إِلا هُوَ وَ إِن يَمْسسك بخَير فَهُوَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(17) وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ هُوَ الحَْكِيمُ الخَْبِيرُ(18)

المعنى

ثم بين سبحانه أنه لا يملك النفع و الضر إلا هو فقال « و إن يمسسك الله بضر » أي إن يمسك بفقر أو مرض أو مكروه « فلا كاشف له إلا هو » أي لا مزيل و لا مفرج له عنك إلا هو و لا يملك كشفه سواه مما يعبده المشركون « و إن يمسسك بخير » أي و إن يصبك بغنى أو سعة في الرزق أو صحة في البدن أو شيء من محاب الدنيا « فهو على كل شيء » من الخير و الضر « قدير » و لا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه أو محبوب فإن قيل إن المس من صفات الأجسام فكيف قال « إن يمسسك الله » قلنا الباء للتعدية و المراد أن أمسك الله ضرا أي جعل الضر يمسك فالفعل للضر و إن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى و الضر اسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره كما أن الخير اسم جامع لكل ما ينتفع به « و هو القاهر » و معناه القادر على أن يقهر غيره « فوق عباده » معنى فوق هاهنا قهره و استعلاؤه عليهم فهم تحت تسخيره و تذليله بما علاهم به من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد و مثله قوله تعالى يد الله فوق أيديهم يريد أنه أقوى منهم « و هو الحكيم الخبير » معناه أنه مع قدرته عليهم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة و الخبير العالم بالشيء و تأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به و الخبر علمك بالشيء تقول لي به خبر أي علم و أصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم فإذا كان القاهر على ما ذكرناه بمعنى القادر صح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه قاهر و قال بعضهم لا يسمى قاهرا إلا بعد أن يقهر غيره فعلى هذا
مجمع البيان ج : 4 ص : 436
يكون من صفات الأفعال فلا يصح وصفه فيما لم يزل به .
قُلْ أَى شىْء أَكْبرُ شهَدَةً قُلِ اللَّهُ شهِيدُ بَيْنى وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِىَ إِلىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَ مَن بَلَغَ أَ ئنَّكُمْ لَتَشهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لا أَشهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَ إِنَّنى بَرِىءٌ ممَّا تُشرِكُونَ(19) الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)

الإعراب

شهادة نصب على التمييز و من بلغ في محل نصب بالإنذار و العائد إلى الموصول محذوف و أ إنكم كتب بالياء لأن الهمزة التي قبلها همزة تخفف بأن تجعل بين بين فإذا كانت مكسورة تجعل بين الهمزة و الياء فكتب بالياء « الذين آتيناهم الكتاب » رفع بالابتداء و يعرفونه خبره « الذين خسروا أنفسهم » رفع بكونه نعتا للذين الأولى و يجوز أن يكون رفعا بالابتداء و قوله « فهم لا يؤمنون » خبره .

النزول

قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا أ ما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله تعالى هذه الآية .

المعنى

« قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « أي شيء أكبر » أي أعظم « شهادة » و أصدق حتى آتيكم به و أدلكم بذلك على أني صادق و قيل معناه أي شيء أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ و عليكم بالتكذيب عن الجبائي و قيل معناه أي شيء أعظم حجة و أصدق شهادة عن ابن عباس فإن قالوا الله و إلا ف « قل » لهم « الله شهيد بيني و بينكم » يشهد لي بالرسالة و النبوة و قيل معناه يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم و تكذيبكم إياي « و أوحي إلي هذا القرآن » أي أنزل إلي حجة أو شهادة على صدقي « لأنذركم به » أي لأخوفكم به من عذاب الله تعالى « و من بلغ » أي و لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة و روى الحسن في تفسيره
مجمع البيان ج : 4 ص : 437
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من بلغه أني أدعو إلى أن لا إله إلا الله فقد بلغه يعني بلغته الحجة و قامت عليه و قال محمد بن كعب من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا و سمع منه و قال مجاهد حيث ما يأتي القرآن فهو داع و نذير و قرأ هذه الآية و في تفسير العياشي قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام) من بلغ معناه من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و على هذا فيكون قوله « و من بلغ » في موضع رفع عطفا على الضمير في أنذر و في الآية دلالة على أن الله تعالى يجوز أن يسمي شيئا لأن قوله « أي شيء أكبر شهادة » جاء جوابه « قل الله » و معنى الشيء إنه ما يصح أن يعلم و يخبر عنه فالله سبحانه شيء لا كالأشياء بمعنى أنه معلوم لا كالمعلومات التي هي الجواهر و الأعراض و الاشتراك في الاسم لا يوجب التماثل و في قوله « و من بلغ » دلالة على أنه خاتم الأنبياء و مبعوث إلى الناس كافة ثم قال سبحانه موبخا لهم قل يا محمد لهم « أ إنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى » هذا استفهام معناه الجحد و الإنكار و تقديره كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة و قيام الحجة بوحدانية الله تعالى و إنما قال « أخرى » و لم يقل آخر لأن الآلهة جمع و الجمع مؤنث فهو كقوله و لله الأسماء الحسنى و قوله فما بال القرون الأولى و لم يقل الأول ثم قال سبحانه لنبيه « قل » أنت يا محمد « لا أشهد » بمثل ذلك و إن شهدتم بإثبات الشريك لله بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى و الشاهد هو المبين لدعوى المدعي ثم قال « قل » يا محمد لمن شهد أن معه آلهة أخرى « إنما هو إله واحد و إنني بريء مما تشركون » به و بعبادته من الأوثان و غيرها و لهذا قال أهل العلم يستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين و يتبرأ من كل دين سوى الإسلام ثم ذكر سبحانه أن الكفار بين جاهل و معاند فقال « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » و هذا مفسر في سورة البقرة « الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون » مفسر في هذه السورة فإن حملته على أنه صفة للذين الأولى فالمعني به أهل الكتاب و إن حملته على الابتداء فإنه يتناول جميع الكفار و قال أبو حمزة الثمالي لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام إن الله تعالى أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كيف هذه المعرفة قال عبد الله بن سلام نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان و أيم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنه بمحمد أشد معرفة مني بابني فقال له كيف قال عبد الله عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا فأشهد أنه هو فأما ابني فإني لا أدري ما أحدثت أمه فقال قد وفقت و صدقت و أصبت .

مجمع البيان ج : 4 ص : 438
وَ مَنْ أَظلَمُ مِمَّنِ افْترَى عَلى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّب بِئَايَتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ(21) وَ يَوْمَ نحْشرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشرَكُوا أَيْنَ شرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22)

القراءة

و يوم يحشرهم ثم يقول بالياء فيهما قراءة يعقوب وحده و كذلك في الفرقان و في سبإ و قرأ في سائر القرآن بالنون و قرأ حفص هنا و في يونس بالنون و في سائر القرآن بالياء و قرأ أبو جعفر و ابن كثير في الفرقان بالياء و في سائر القرآن بالنون و قرأ الباقون بالنون في جميع القرآن .

الحجة

من قرأ بالياء رده إلى الله في قوله على الله كذبا و من قرأ بالنون ابتداء و الياء في المعنى كالنون .

الإعراب

« يوم نحشرهم » العامل فيه محذوف على معنى و اذكر يوم نحشرهم و قيل إنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبدا و يوم نحشرهم و العائد إلى الموصول محذوف من « الذين كنتم تزعمون » و تقديره تزعمون أنهم شركاء أو تزعمونهم شركاء فحذف مفعولي الزعم لدلالة الكلام و حالة السؤال عليه .

المعنى

ثم بين سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ و التهجين بالإشراك فقال « و من أظلم ممن افترى على الله كذبا » معناه و من أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة عن ابن عباس و هذا استفهام معناه الجحد أي لا أحد أظلم منه لأن جوابه كذلك فاكتفى من الجواب بما يدل عليه « أو كذب ب آياته » أي بالقرآن و بمحمد و معجزاته « إنه لا يفلح الظالمون » أي لا يفوز برحمة الله و ثوابه و رضوانه و لا بالنجاة من النار الظالمون و الظالم هاهنا هو الكافر بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) المكذب ب آياته الجاحد لها بقوله ما نصب الله آية على نبوته « و يوم نحشرهم جميعا » عنى بهم من تقدم ذكرهم من الكفار لأنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم إلى موضع الحساب « ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » اختلف في وجه هذا السؤال فقيل إن المشركين إذا رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض إذا سئلتم فقولوا أنا موحدون فلما جمعهم الله قال لهم أين شركاؤكم
مجمع البيان ج : 4 ص : 439
ليعلموا أن الله يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا و أنه لا ينفعهم الكتمان عن مقاتل و قيل إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله فقيل لهم يوم القيامة « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » أنها تشفع لكم توبيخا لهم و تبكيتا على ما كانوا يدعونه عن أكثر المفسرين و إنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها لأنفسهم و معنى تزعمون تكذبون قال ابن عباس و كل زعم في كتاب الله كذب و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب الجبر و على إثبات المعاد و حشر جميع الخلق .
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ(23) انظرْ كَيْف كَذَبُوا عَلى أَنفُسِهِمْ وَ ضلَّ عَنهُم مَّا كانُوا يَفْترُونَ(24)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و خلف « ثم لم تكن » بالتاء فتنتهم بالنصب و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم « ثم لم تكن » بالتاء أيضا « فتنتهم » بالرفع و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب و قرأ حمزة و الكسائي و خلف و الله ربنا بالنصب و قرأ الباقون بالجر .

الحجة

من قرأ « تكن » بالتاء فتنتهم بالنصب فإنه أنث « أن قالوا » لما كان القول الفتنة في المعنى كما قال فله عشر أمثالها فأنث الأمثال لما كانت في المعنى الحسنات و مما جاء في الشعر قول لبيد :
فمضى و قدمها و كانت عادة
منه إذا هي عردت أقدامها فأنث الأقدام لما كانت العادة في المعنى قال الزجاج و يجوز أن يكون تأويل « إلا أن قالوا » إلا مقالتهم و من قرأ « لم تكن » بالتاء « فتنتهم » رفعا أثبت علامة التأنيث في الفعل المسند إلى الفتنة و الفتنة مؤنثة و على هذه القراءة يكون قوله « إلا أن قالوا » في موضع نصب بكونه خبر كان و من قرأ لم يكن بالياء فتنتهم نصبا فعلى أن قوله « أن قالوا » اسم كان و الأولى و الأقوى أن يكون فتنتهم نصبا و « أن قالوا » الاسم لأن أن إذا وصلت لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر
مجمع البيان ج : 4 ص : 440
فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان ، أن يكون المضمر الاسم أحسن ، فكذلك أن إذا كانت مع اسم غيرها كانت ، أن يكون الاسم أولى و أما من قرأ « و الله ربنا » فإنه جعل الاسم المضاف وصفا للمفرد و مثل ذلك رأيت زيدا صاحبنا و قوله « ما كنا مشركين » جواب للقسم و من قرأ ربنا بالنصب فصل بالاسم المنادى بين القسم و المقسم عليه و الفصل به لا يمتنع و قد فصل بالنداء بين الصلة و الموصول لكثرة النداء في الكلام و ذلك مثل قول الشاعر :
ذاك الذي و أبيك يعرف مالك
و الحق يدفع ترهات الباطل و يجوز أن يكون نصبه على المدح بمعنى أعني ربنا و أذكر ربنا .

اللغة

قال الأزهري جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان مأخوذ من قولك فتنت الذهب و الفضة إذا أذبتهما بالنار و أحرقتهما و قد فتن الرجل بالمرأة و افتتن و قد فتنته المرأة و أفتنته قال الشاعر :
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت
عقيلا فأمسى قد قلى كل مسلم .

الإعراب

العامل في كيف قوله « كذبوا » و لا يجوز أن يعمل فيه أنظر لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل فيه ما قبله .

المعنى

ثم بين سبحانه جواب القوم عند توجه التوبيخ إليهم فقال « ثم لم تكن فتنتهم » اختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه ( أحدها ) إن معناه ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سألوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول ( و ثانيها ) إن المراد لم يكن معذرتهم « إلا أن قالوا » عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هذا راجع إلى معنى الجواب ( أيضا ) ( و ثالثها ) ما قاله الزجاج أن تأويله حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام و تصرف العرب في ذلك و الله عز و جل ذكر في هذه الآية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين و أنهم مفتنون بشركهم ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه و انتفوا منه فحلفوا أنهم ما
مجمع البيان ج : 4 ص : 441
كانوا مشركين و مثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول له ما كانت محبتك فلانا إلا أن افتتنت منه فالفتنة هاهنا بمعنى الشرك و الافتتان بالأوثان و يؤيد ذلك ما رواه عطا عن ابن عباس قال فتنتهم يريد شركهم في الدنيا و هذا القول في التأويل يرجع إلى حذف المضاف لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة منها بقولهم « و الله ربنا ما كنا مشركين » و يسأل فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة و يحلفوا على الكذب و الدار ليست بدار تكليف و كل الناس ملجئون فيها إلى ترك القبيح لمشاهدة الحقائق و زوال عوارض الشبه و الشكوك و لمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة و الجواب أن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا و في اعتقادنا و تقديرنا و ذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين فيحلفون على هذا في الآخرة فعلى هذا يكون قولهم و حلفهم يقعان على وجه الصدق و قيل أيضا أنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة ثم ترجع عقولهم فيقرون و يعترفون و يجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال « أنظر » المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء أنظر يا محمد « كيف كذبوا على أنفسهم » و هذا و إن كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم و معناه أنظر إلى إخباري عن افترائهم كيف هو فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة و إنما كذبهم الله سبحانه في قولهم و إن كانوا صادقين عند أنفسهم لأن الكذب هو الإخبار بالشيء لا على ما هو به علم المخبر بذلك أو لم يعلم فلما كان قولهم « ما كنا مشركين » كذبا في الحقيقة جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم و قيل معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا لا أنهم كذبوا في الآخرة لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة و إن اعتقدوا أنهم على الحق عن الجبائي « و ضل عنهم ما كانوا يفترون » أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها و يفترون الكذب بقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا فذهبت عنهم في الآخرة فلم يحدوها و لم ينتفعوا بها عن الحسن و قيل أنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى أنها تضل عن عابديها يوم القيامة و لا تغني عنهم شيئا و اختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه و قال بعضهم يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش و الحيرة في القيامة فإذا استقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح و الكذب و يكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح و به قال أبو بكر بن الإخشيد و أصحابه و قال بعضهم أنه يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال .
 

 
<<        الفهرس        >>