جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 4 ص : 442
وَ مِنهُم مَّن يَستَمِعُ إِلَيْك وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَ فى ءَاذَانهِمْ وَقْراً وَ إِن يَرَوْا كلَّ ءَايَة لا يُؤْمِنُوا بهَا حَتى إِذَا جَاءُوك يجَدِلُونَك يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسطِيرُ الأَوَّلِينَ(25)

اللغة

الأكنة جمع كنان و هو ما وقى شيئا و ستره مثل عنان و أعنة قال الليث كل شيء وقى شيئا فهو كنانة و كنه و الفعل منه كننت و أكننت و الكنة امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنه و استكن الرجل من الحر و اكتن استتر و الوقر الثقل في الأذن و الوقر بكسر الواو الحمل قال أبو زيد وقرت أذنه توقر وقرا و قال الكسائي وقرت أذنه فهي موقورة قال الشاعر :
و كلام سيء قد وقرت
أذني منه و ما بي من صمم و أساطير واحدتها أسطورة و أسطارة مأخوذ من سطر الكتاب و هو سطر و سطر فمن قال سطر جمعه أسطارا و من قال سطر فجمعه في القليل أسطر و الكثير سطور و قال رؤبة :
إني و أسطار سطرن سطرا
لقائل يا نصر نصرا نصرا و جمع أسطار أساطير قال الزجاج و تأويل السطر في اللغة أن تجعل شيئا ممتدا مؤلفا و قال الأخفش أساطير جمع لا واحد له نحو أبابيل و مذاكير و قال بعضهم واحد الأبابيل إبيل بالتشديد و كسر الألف و الجدال الخصومة سمي بذلك لشدته و قيل أنه مشتق من الجدالة و هي الأرض لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض .

الإعراب

« أن يفقهوه » موضعه نصب على أنه مفعول له المعنى لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة و لما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى أن قاله الزجاج يريد أنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و « يجادلونك » في موضع نصب على الحال .

النزول

قيل أن نفرا من مشركي مكة منهم النضر بن الحارث و أبو سفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و غيرهم جلسوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية فأنزل الله هذه الآية .

مجمع البيان ج : 4 ص : 443

المعنى

ثم وصف الله سبحانه حالهم عند استماع القرآن فقال « و منهم » أي و من الكفار الذين تقدم ذكرهم « من يستمع إليك » يريد يستمعون إلى كلامك قال مجاهد يعني قريشا « و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا » قد ذكرنا الكلام فيه في سورة البقرة عند قوله « ختم الله على قلوبهم » و قال القاضي أبو عاصم العامري أصح الأقوال فيه ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يصلي بالليل و يقرأ القرآن في الصلاة جهرا رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبر معانيه و يؤمن به فكان المشركون إذا سمعوه آذوه و منعوه عن الجهر بالقراءة فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنة ليقطعهم عن مرادهم و ذلك بعد ما بلغهم مما تقوم به الحجة و تنقطع به المعذرة و بعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون به فشبه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم لأن ذلك كان يمنعهم من التدبر كالوقر و الغطاء و هذا معنى قوله تعالى « و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا » و هو قول أبي علي الجبائي و يحتمل ذلك وجها آخر و هو أنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه و يحتمل أيضا أن يكون سمي الكفر الذي في قلوبهم كنا تشبيها و مجازا و إعراضهم عن تفهم القرآن وقرا توسعا لأن مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم كما لا يحصلان مع الكن و الوقر و نسب ذلك إلى نفسه لأنه الذي شبه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه جعلته فاضلا و بالضد إذا ذكر مقابحه و فسقه يقول جعلته فاسقا و كما يقال جعل القاضي فلانا عدلا و كل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك و الإبانة عن حاله كما قال الشاعر :
جعلتني باخلا كلا و رب منى
إني لأسمح كفا منك في اللزب و معناه سميتني باخلا « و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها » يريد و أن يروا كل عبرة لم يصدقوا بها عن ابن عباس و قيل معناه و إن يروا كل علامة و معجزة دالة على نبوتك لا يؤمنوا بها لعنادهم عن الزجاج و لو أجري معنى الآية على ظاهرها لم يكن لهذا معنى لأن من لا يمكنه أن يسمع و يفقه لا يجوز أن يوصف بذلك و كان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا ب آياته و غفلوا عنها و هم ممنوعون عن ذلك و الذي يزيل الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض
مجمع البيان ج : 4 ص : 444
الكفار « و إذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها » الآية و لو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع مزيل للقدرة لكان لا معنى لقوله « كان في أذنيه وقرا » و لكان لا يستحق المذمة لأنه لم يعط آلة السمع فكيف يذم على ترك السمع « حتى إذا جاءوك يجادلونك » يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار يجيئون مجيء مخاصمين مجادلين رادين عليك قولك و لم يجيؤوا مجيء من يريد الرشاد و النظر في الدلالة الدالة على توحيد الله و نبوة نبيه « يقول الذين كفروا إن هذا » أي ما هذا القرآن « إلا أساطير الأولين » أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها عن الضحاك و قيل معنى الأساطير الترهات و البسابس مثل حديث رستم و إسفنديار و غيره مما لا فائدة فيه و لا طائل تحته و قال بعضهم أن جدالهم هذا القول منهم و قيل هو مثل قولهم أ تأكلون ما تقتلونه بأيديكم و لا تأكلون ما قتله الله تعالى .
وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْئَوْنَ عَنْهُ وَ إِن يُهْلِكُونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَشعُرُونَ(26)

اللغة

الناي البعد يقال نأيت عنه أنأى نأيا و منه أخذ النؤي و هو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء .

المعنى

ثم كنى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال « و هم ينهون عنه و ينئون عنه » أي ينهون الناس عن اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يتباعدون عنه فرارا منه عن ابن عباس و محمد بن الحنفية و الحسن و السدي و قيل معناه ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقع في قلوبهم صحته و يتباعدونهم عن استماعه عن قتادة و مجاهد و اختاره الجبائي و قيل عنى به أبا طالب بن عبد المطلب و معناه يمنعون الناس عن أذى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لا يتبعونه عن عطا و مقاتل و هذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدمها و ما تأخر عنها معطوف عليها و كلها في ذم الكفار المعاندين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت (عليهم السلام) على إيمان أبي طالب و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالتمسك بهما بقوله إن تمسكتم بهما لن تضلوا و يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة
مجمع البيان ج : 4 ص : 445
يوم الفتح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأسلم فقال (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أ لا تركت الشيخ فأتيه و كان أعمى فقال أبو بكر أردت أن يأجره الله تعالى و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) صدقت و روى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اجتمعوا عليه و قالوا جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فاغذوه و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرىء منكم بولده فأقتله و قال :
منعنا الرسول رسول المليك
ببيض تلألأ كلمع البروق
أذود و أحمي رسول المليك
حماية حام عليه شفيق و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله :
أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب
أ ليس أبونا هاشم شد أزره
و أوصى بنيه بالطعان و بالحرب و قوله من قصيدة :
و قالوا لأحمد أنت امرؤ
خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا إن أحمد قد جاءهم
بحق و لم يأتهم بالكذب و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) :
و قد كان في أمر الصحيفة عبرة
متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم و عقوقهم
و ما نقموا من ناطق الحق معرب
و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا
على سخط من قومنا غير معتب و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته :
صبرا أبا يعلى على دين أحمد
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن
فكن لرسول الله في الله ناصرا و قوله من قصيدة :
مجمع البيان ج : 4 ص : 446

أقيم على نصر النبي محمد
أقاتل عنه بالقنا و القنابل و قوله يحض النجاشي على نصر النبي :
تعلم مليك الحبش أن محمدا
وزير لموسى و المسيح بن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به
و كل بأمر الله يهدي و يعصم
و إنكم تتلونه في كتابكم
بصدق حديث لا حديث المرجم
فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا
و إن طريق الحق ليس بمظلم و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة :
أوصي بنصر النبي الخير مشهده
عليا ابني و شيخ القوم عباسا
و حمزة الأسد الحامي حقيقته
و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا
كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت
في نصر أحمد دون الناس أتراسا في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبة يطول بها الكتاب على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قط بل كان يقرب منه و يخالطه و يقوم بنصرته فكيف يكون المعنى بقوله « و ينئون عنه » « و إن يهلكون إلا أنفسهم » معناه ما يهلكون بنهيهم عن قبوله و بعدهم عنه إلا أنفسهم « و ما يشعرون » أي و ما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك .
وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلى النَّارِ فَقَالُوا يَلَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّب بِئَايَتِ رَبِّنَا وَ نَكُونَ مِنَ المُْؤْمِنِينَ(27) بَلْ بَدَا لهَُم مَّا كانُوا يخْفُونَ مِن قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عَنْهُ وَ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ(28)

القراءة

قرأ « و لا نكذب » « و نكون » بالنصب حفص عن عاصم و حمزة و يعقوب و قرأ ابن عامر « و نكون » بالنصب و قرأ الباقون بالرفع فيهن .

مجمع البيان ج : 4 ص : 447

الحجة

قال أبو علي من قرأ بالرفع جاز فيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون معطوفا على « نرد » فيكون قوله و لا نكذب و نكون داخلا في التمني دخول « نرد » فيه فعلى هذا تمني الرد و أن لا نكذب و الكون من المؤمنين و يحتمل الرفع وجها آخر و هو أن تقطعه من الأول و يكون التقدير يا ليتنا نرد و نحن لا نكذب و نكون و قال سيبويه هو على قولك فإنا لا نكذب كما يقول القائل دعني و لا أعود أي فإني ممن لا يعود فإنما يسألك الترك و قد أوجب على نفسه أن لا يعود ترك أو لم يترك و لم يرد أن يسألك أن تجمع له الترك و أن لا يعود و حجة من نصب فقال « و لا نكذب » « و نكون » أنه أدخل ذلك في التمني غير موجب لأن التمني غير موجب فهو كالاستفهام و الأمر و النهي في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من الفعل الأول كأنه في التمثيل يا ليتنا يكون لنا رد و انتفاء التكذيب و الكون من المؤمنين و من رفع و لا نكذب و نصب « و نكون » فإن الفعل الذي هو لا نكذب يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون داخلا في التمني فيكون المعنى كالنصب ( و الآخر ) أن يخبر على البتات أن لا نكذب رد أو لم يرد و من نصبها جميعا جعلهما داخلين في التمني .

اللغة

يقال وقفت الدابة وقوفا و وقف غيره يقفه وقفا و حكي عن أبي عمرو أنه أجاز ما أوقفك هاهنا مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب و بدا يبدو و بدوا إذا ظهر و فلان ذو بدوات إذا بدا له الرأي بعد الرأي و بدا لي في هذا الأمر بداء و البداء لا يجوز على الله سبحانه لأنه العالم بجميع المعلومات لم يزل و لا يزال .

الإعراب

« و لو ترى » جوابه محذوف و تقديره لرأيت أمرا هائلا و نحوه قوله تعالى « و لو أن قرآنا سيرت به الجبال » يريد إسكان هذا القرآن و هذه الأجوبة إنما تحذف لتعظيم الأمر و تفخيمه و مثله قول امرىء القيس :
و جئتك لو شيء أتانا رسوله
سواك و لكن لم نجد لك مدفعا و تقديره لو أتانا رسول غيرك لما جئنا و يسأل فيقال لم جاز « و لو ترى إذ وقفوا » و إذ هي للماضي و الجواب أن الخبر لصحته و صدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع .

المعنى

ثم بين سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة و تمني الرجعة فقال « و لو ترى » يا محمد أو يا أيها السامع « إذ وقفوا على النار » فهذا يحتمل ثلاثة أوجه
مجمع البيان ج : 4 ص : 448
جائز أن يكون المعنى عاينوا النار و جائز أن يكونوا عليها و هي تحتهم قال الزجاج و الأجود أن يكون معناه ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما تقول في الكلام قد وقفت على ما عند فلان تريد قد فهمته و تبينته و هذا و إن كان بلفظ المضي فالمراد به الاستقبال و إنما جاز ذلك لأن كل ما هو كائن يوما مما لم يكن بعد فهو عند الله قد كان و أنشد في مثله :
ستندم إذ يأتي عليك رعيلنا
بأرعن جرار كثير صواهله فوضع إذ موضع إذا و قد يوضع أيضا إذا موضع إذ كما قال الشاعر :
و ندمان يزيد الكأس طيبا
سقيت إذا تعرضت النجوم « فقالوا » أي فقال الكفار حين عاينوا العذاب و ندموا على ما فعلوا « يا ليتنا نرد » إلى الدنيا « و لا نكذب ب آيات ربنا » أي بكتب ربنا و رسله و جميع ما جاءنا من عنده « و نكون من المؤمنين » يعني من جملة المؤمنين ب آيات الله « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » اختلف فيه على أقوال ( أحدها ) أن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم و ضعفائهم مما في كتبهم فبدأ للضعفاء عنادهم ( و ثانيها ) أن المراد بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه فأظهره الله و شهدت به جوارحهم عن أبي روق ( و ثالثها ) إن المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه عنهم من أمر البعث و النشور لأن المتصل بهذا و له « و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا » الآية عن الزجاج و هو قول الحسن ( و رابعها ) أن المراد بل بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر عن المبرد و كل هذه الأقوال بمعنى ظهرت فضيحتهم في الآخرة و تهتكت أستارهم « و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه » أي لو ردوا إلى الدنيا و إلى حال التكليف كما طلبوه لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر و التكذيب « و إنهم لكاذبون » و يسأل على هذا فيقال إن التمني كيف يصح فيه الكذب و إنما يقع الكذب في الخبر و الجواب أن من الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني و صرف الكذب إلى غير الأمر الذي تمنوه و قال إن معناه هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإصابة و اعتقاد الحق أو يكون المعنى إنهم كاذبون أن خبروا عن أنفسهم بأنهم متى ردوا آمنوا و إن كان ما حكي عنهم من التمني ليس بخبر و قد يجوز أن يحمل على غير الكذب الحقيقي بأن
مجمع البيان ج : 4 ص : 449
يكون المراد أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم و تمنيهم و هذا مشهور في كلام العرب يقولون كذبك أملك لمن تمنى ما لم يدرك و قال الشاعر :
كذبتم و بيت الله لا تنكحونها
بني شاب قرناها تصر و تحلب و قال آخر :
كذبتم و بيت الله لا تأخذونها
مراغمة ما دام للسيف قائم و المراد ما ذكرناه من الخيبة في الأمل و التمني فإن قيل كيف يجوز أن يتمنوا الرد إلى الدنيا و قد علموا أنهم لا يردون فالجواب عنه من وجوه ( أحدها ) إنا لا نعلم أن أهل الآخرة يعرفون جميع أحكام الآخرة و إنما نقول إنهم يعرفون الله معرفة لا يتخالجهم فيها الشك لما يشاهدونه من الآيات الملجئة لهم إلى المعارف و أما التوجع و التمني للخلاص و الدعاء للفرج فيجوز أن يقع منهم ذلك عن البلخي ( و ثانيها ) أن التمني قد يجوز فيما يعلم أنه لا يكون و لهذا قد يقع التمني على أن لا يكون ما قد كان و أن لا يكون فعل ما قد فعله و تقضي وقته ( و ثالثها ) أنه لا مانع من أن يقع منهم التمني للرد و لأن يكونوا من المؤمنين عن الزجاج و في الناس من جعل بعض الكلام تمنيا و بعضه إخبارا و علق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا و هذا إنما ينساق في قراءة من رفع و لا نكذب و نكون على معنى فإنا لا نكذب ب آيات ربنا و نكون من المؤمنين فيكونون قد أخبروا بما علم الله أنهم فيه كاذبون و إن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك فلهذا كذبهم و ذكر أن أبا عمرو بن العلاء استدل على قراءته بالرفع في الجميع بأن قوله « و إنهم لكاذبون » فيه دلالة على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم و لن يتمنوه لأن التمني لا يقع فيه الكذب .
وَ قَالُوا إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَ مَا نحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29) وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبهِمْ قَالَ أَ لَيْس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(30)

مجمع البيان ج : 4 ص : 450

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين ذكرهم قبل هذه الآية و إنكارهم البعث و النشور و الحشر و الحساب فقال « و قالوا إن هي » أي ما هي « إلا حياتنا الدنيا » عنوا بذلك أنه لا حياة لنا في الآخرة و إنما هي هذه التي حيينا بها في الدنيا « و ما نحن بمبعوثين » أي لسنا بمبعوثين بعد الموت ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال « و لو ترى » يا محمد « إذ وقفوا على ربهم » ليس يصح في هذه الآية شيء من الوجوه التي ذكرناها في قوله و لو ترى إذ وقفوا على النار إلا وجها واحدا و هو أن المعنى عرفوا ربهم ضرورة كما يقال وقفته على كلام فلان أي عرفته إياه و قيل أيضا أن المعنى وقفوا على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله بالكفار و الثواب الذي يفعله بالمؤمنين في الآخرة و عرفوا صحة ما أخبرهم به من الحشر و الحساب و يجوز أن يكون المعنى حبسوا على ربهم ينتظر بهم ما يأمرهم به و خرج الكلام مخرج ما جرت به العادة من وقوف العبد بين يدي سيده لما في ذلك من الفصاحة و الإفصاح بالمعنى و التنبيه على عظم الأمر « قال » أي يقول الله تعالى لهم و جاء على لفظ الماضي لأنه لتحققه كأنه واقع و قيل معناه تقول الملائكة لهم بأمر الله تعالى « أ ليس هذا بالحق » كما قالت الرسل و هذا سؤال توبيخ و تقريع و قوله « هذا » إشارة إلى الجزاء و الحساب و البعث « قالوا » أي فيقول هؤلاء الكفار مقرين بذلك مذعنين له « بلى » هو حق « و ربنا » قسم ذكروه و أكدوا اعترافهم به « قال » الله تعالى أو الملك بأمره « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » أي بكفركم و إنما قال ذوقوا لأنهم في كل حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدة الإحساس من غير أن يصيروا إلى حال من يشم بالطعام في نقصان الإدراك .
قَدْ خَسرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتى إِذَا جَاءَتهُمُ الساعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَحَسرَتَنَا عَلى مَا فَرَّطنَا فِيهَا وَ هُمْ يحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلى ظهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ(31) وَ مَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الاَخِرَةُ خَيرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ(32)

القراءة

قرأ ابن عامر و لدار الآخرة بلام واحدة و جر الآخرة على الإضافة و الباقون
مجمع البيان ج : 4 ص : 451
بلامين و رفع « الآخرة » و قرأ أهل المدينة و ابن ذكوان عن ابن عامر و يعقوب و سهل « أ فلا تعقلون » بالتاء هاهنا و في الأعراف و يوسف و ياسين و وافقهم حفص إلا في ياسين و حماد و يحيى عن أبي بكر في يوسف و قرأ الباقون جميع ذلك بالياء .

الحجة

من قرأ « و للدار الآخرة » فلأن الآخرة صفة للدار يدل على ذلك قوله و للآخرة خير لك من الأولى و إن الدار الآخرة لهي الحيوان و تلك الدار الآخرة نجعلها و من أضاف دارا إلى الآخرة لم يجعل الآخرة صفة للدار فإن الشيء لا يضاف إلى نفسه لكنه جعلها صفة للساعة فكأنه قال و لدار الساعة الآخرة و جاز وصف الساعة بالآخرة كما وصف اليوم بالآخر في قوله و ارجوا اليوم الآخر قال أبو علي إنما حسن إضافة الدار إلى الآخرة و لم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام الموصوف لأن الآخرة قد صارت كالأبطح و الأبرق أ لا ترى أنه قد جاء و للآخرة خير لك من الأولى فاستعملت استعمال الأسماء و لم يكن مثل الصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء و مثل الآخرة في أنها استعملت الأسماء قولهم الدنيا لما استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا يلحق لام التعريف في نحو قوله :
في سعي دنيا طال ما قد مدت و أما وجه القراءة بالياء في أ فلا يعقلون فهو أنه قد تقدم ذكر الغيبة في قوله « للذين يتقون » و وجه القراءة بالتاء أنه يصلح أن يكون خطابا متوجها إليهم و يصلح أن يكون المراد الغيب و المخاطبون فيغلب الخطاب .

اللغة

كل شيء أتى فجاءة فقد بغت يقال بغته الأمر يبغته بغتة قال الشاعر :
و لكنهم باتوا و لم أخش بغتة
و أفظع شيء حين يفجأك البغت و الحسرة شدة الندم حتى يحسر النادم كما يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد و التفريط التقصير و أصله التقديم و الإفراط التقديم في مجاوزة الحد و التفريط التقديم في العجز و التقصير و الوزر الثقل في اللغة و اشتقاقه من الوزر و هو الحبل الذي يعتصم به و منه قيل وزير كأنه يعتصم الملك به و مثله قوله تعالى « و اجعل لي وزيرا من أهلي » و يزرون يفعلون من وزر يزر وزرا إذا أثم و قيل وزر فهو موزور إذا فعل به ذلك و منه الحديث في النساء يتبعن جنازة قتيل لهن ارجعن موزورات غير مأجورات و العامة تقول مأزورات
مجمع البيان ج : 4 ص : 452
و العقل و النهى و الحجى متقاربة المعنى فالعقل الإمساك عن القبيح و قصر النفس و حبسها عن الحسن قال الأصمعي و بالدهناء خبراء يقال له معقلة قال و تراها سميت معقلة لأنها تمسك الماء كما يعقل الدواء البطن و النهى لا يخلو أن يكون مصدرا كالهدي أو جمعا كالظلم و هو في معنى ثبات و حبس و منه النهي و التنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع فيه لتسفله و يمنع ارتفاع ما حوله من أن يسيح على وجه الأرض و الحجى أصله من الحجو و هو احتباس و تمكث قال :
فهن يعكفن به إذا حجا و حجيت بالشيء و تحجيت به يهمز و لا يهمز أي تمسكت عن الأزهري قال أبو علي فكان الحجى مصدر كالشبع و من هذا الباب الحجيا للغز لتمكث الذي يلقى عليه حتى يستخرجه .

الإعراب

يقال ما معنى الغاية في قوله « حتى إذا جاءتهم الساعة » و ما عامل الإعراب فيها و الجواب أن معناها منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة و العامل فيها « كذبوا » أي كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة فندموا حيث لا ينفعهم الندامة و يقال ما معنى دعاء الحسرة و هي مما لا يعقل و الجواب أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء فلفظه لفظ ما ينبه و المنبه غيره مثل قوله يا حسرة على العباد و قوله يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله و يا ويلتي أ ألد و هذا أبلغ من أن تقول أنا أتحسر على التفريط قاله الزجاج و قال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت احضر و تعال يا عجب فإنه من أزمانك و تأويل يا حسرتاه انتبهوا على أننا قد حسرنا فخرج مخرج النداء للحسرة و المعنى على النداء لغيرها تنبيها على عظم شأنها و قيل إنها بمنزلة الاستغاثة فكأنه قيل يا حسرتنا تعالي فهذا أوانك كما يقال يا للعجب و قوله « ساء ما يزرون » تقديره بئس الشيء شيء يزرونه و قد ذكرنا عمل نعم و بئس فيما مضى .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار فقال « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » يعني بلقاء ما وعد الله به من الثواب و العقاب و جعل لقائهم لذلك لقاء له تعالى مجازا عن ابن عباس و الحسن و قيل المراد بلقاء جزاء الله كما يقال للميت لقي فلان عمله أي لقي جزاء عمله و نظيره إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه « حتى إذا جاءتهم الساعة » أي القيامة « بغتة » أي فجاة من غير أن علموا وقتها « قالوا » عند معاينة ذلك اليوم و أهواله و تباين أحوال
مجمع البيان ج : 4 ص : 453
أهل الثواب و العقاب « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » أي على ما تركنا و ضيعنا في الدنيا من تقديم أعمال الآخرة عن ابن عباس و قيل إن الهاء يعود إلى الساعة عن الحسن و المعنى على ما فرطنا في العمل للساعة و التقدمة لها و قيل إن الهاء يعود إلى الجنة أي في طلبها و العمل لها عن السدي يدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الآية قال يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حسرتنا و قال محمد بن جرير الهاء يعود إلى الصفقة لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة و يجوز أن يكون الهاء يعود إلى معنى ما في قوله « ما فرطنا » أي يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها فعلى هذا الوجه يكون ما موصولة بمعنى الذي و على الوجوه المتقدمة يكون ما بمعنى المصدر و يكون تقديره على تفريطنا « و هم يحملون أوزارهم » أي أثقال ذنوبهم « على ظهورهم » و قال ابن عباس يريد آثامهم و خطاياهم و قال قتادة و السدي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة و أطيبه ريحا فيقول أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا و إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة و أخبثه ريحا فيقول أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم و ذلك قوله « و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم » و قال الزجاج هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يحمل لأن الثقل كما يستعمل في الوزن يستعمل في الحال أيضا كما تقول ثقل علي خطاب فلان و معناه كرهت خطابه كراهة اشتدت علي فعلى هذا يكون المعنى أنهم يقاسون عذاب آثامهم مقاساة تثقل عليهم و لا تزايلهم و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم « ألا ساء ما يزرون » أي بئس الحمل حملهم عن ابن عباس و قيل معناه ساء ما ينالهم جزاء لذنوبهم و أعمالهم السيئة إذ كان ذلك عذابا و نكالا ثم رد عليهم قولهم ما هي إلا حياتنا الدنيا و بين سبحانه أن ما يتمتع به من الدنيا يزول و يبيد فقال « و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو » أي باطل و غرور إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة و إنما عنى بالحياة الدنيا أعمال الدنيا لأن نفس الدنيا لا توصف باللعب و ما فيه رضا الله من عمل الآخرة لا يوصف به أيضا لأن اللعب ما لا يعقب نفعا و اللهو ما يصرف من الجد إلى الهزل و هذا إنما يتصور في المعاصي و قيل المراد باللعب و اللهو أن الحياة تنقضي و تفنى و لا تبقى فتكون لذة فانية عن قريب كاللعب و اللهو « و للدار الآخرة » و ما فيها من أنواع النعيم و الجنان « خير للذين يتقون » معاصي الله لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها و لا يذهب عنهم سرورها « أ فلا تعقلون » إن ذلك كما
مجمع البيان ج : 4 ص : 454
وصف لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا و يرغبوا في نعيم الآخرة و يفعلوا ما يؤديهم إلى ذلك من الأعمال الصالحة و في هذه الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا و تقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها و لم يعملوا لغيرها .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُك الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنهُمْ لا يُكَذِّبُونَك وَ لَكِنَّ الظلِمِينَ بِئَايَتِ اللَّهِ يجْحَدُونَ(33) وَ لَقَدْ كُذِّبَت رُسلٌ مِّن قَبْلِك فَصبرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتى أَتَاهُمْ نَصرُنَا وَ لا مُبَدِّلَ لِكلِمَتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جَاءَك مِن نَّبَإِى الْمُرْسلِينَ(34)

القراءة

قرأ نافع ليحزنك بضم الياء و كسر الزاي و الباقون « يحزنك » بفتح الياء و ضم الزاي و قرأ نافع و الكسائي و الأعشى عن أبي بكر لا يكذبونك خفيف و هو قراءة علي (عليه السلام) و المروي عن جعفر الصادق (عليه السلام) و الباقون « يكذبونك » بفتح الكاف و التشديد .

الحجة

قال أبو علي قال سيبويه قالوا حزن الرجل و حزنته و زعم الخليل إنك حيث تقول حزنته لم ترد أن تقول جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا و لكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته جعلت فيه كحلا و دهنته جعلت فيه دهنا و لم ترد بفعلته هنا تعدي قوله حزن و لو أردت ذلك لقلت أحزنته و حجة نافع إنه أراد أن يعدي حزن فنقله بالهمزة و الاستعمال في حزنته أكثر منه في أحزنته فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء و أما قوله « يكذبونك » فمن ثقل فهو من فعلته إذا نسبته إلى الفعل مثل زنيته و فسقته نسبته إلى الزنا و الفسق و قد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة :
و أسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره و ملاعبه فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا و يجوز أن يكون « لا يكذبونك » أي لا
مجمع البيان ج : 4 ص : 455
يصادفونك كاذبا كما تقول أحمدته إذا أصبته محمودا و يدل على الوجه الأول قول الكميت :
و طائفة قد أكفرتني بحبكم
و طائفة قالت مسيء و مذنب أي نسبتني إلى الكفر قال أحمد بن يحيى كان الكسائي يحكي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاءك بكذب و كذبته إذا أخبرت أنه كذاب .

[المعنى]


ثم سلى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على تكذيبهم إياه بعد إقامة الحجة عليهم فقال « قد نعلم » نحن يا محمد « إنه ليحزنك الذي يقولون » أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون و أشباه ذلك « فإنهم لا يكذبونك » دخلت الفاء في أنهم لأن الكلام الأول يقتضيه كأنه قيل إذا كان قد يحزنك قولهم فاعلم أنهم لا يكذبونك و اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا و هو قول أكثر المفسرين عن أبي صالح و قتادة و السدي و غيرهم قالوا يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله و لكن يجحدون بعد المعرفة و يشهد لهذا الوجه ما روى سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك فقال و الله إني لأعلم إنه صادق و لكنا متى كنا تبعا لعبد مناف فأنزل الله هذه الآية و قال السدي التقى أخنس ابن شريق و أبو جهل بن هشام فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أ صادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل ويحك و الله إن محمدا لصادق و ما كذب قط و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و السقاية و الندوة و النبوة فما ذا يكون لسائر قريش ( و ثانيها ) أن المعنى لا يكذبونك بحجة و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان و يدل عليه ما روي عن علي (عليه السلام) إنه كان يقرأ « لا يكذبونك » و يقول إن المراد بها إنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك ( و ثالثها ) أن المراد لا يصادفونك كاذبا تقول العرب قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء قال الأعشى :
أثوى و قصر ليلة ليزودا
فمضى و أخلف من قتيلة موعدا أراد صادف منها خلف الوعد و قال ذو الرمة :
مجمع البيان ج : 4 ص : 456

تريك بياض لبتها و وجها
كقرن الشمس أفتق ثم زالا أي وجد فتقا من السحاب و لا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف دون التشديد لأن أفعلت و فعلت يجوزان في هذا الموضع و أفعلت هو الأصل فيه ثم يشدد تأكيدا مثل أكرمت و كرمت و أعظمت و عظمت إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه ( و رابعها ) أن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا و إنما يدفعون ما أتيت به و يقصدون التكذيب ب آيات الله و يقوي هذا الوجه قوله « و لكن الظالمين ب آيات الله يجحدون » و قوله « و كذب به قومك و هو الحق » و لم يقل و كذبك قومك و ما روي أن أبا جهل قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما نتهمك و لا نكذبك و لكنا نتهم الذي جئت به و نكذبه ( و خامسها ) أن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست مختصا به لأنك رسول الله فمن رد عليك فقد رد علي و من كذبك فقد كذبني و ذلك تسلية منه سبحانه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قوله « و لكن الظالمين ب آيات الله يجحدون » أي بالقرآن و المعجزات يجحدون بغير حجة سفها و جهلا و عنادا و دخلت الباء في « ب آيات الله » و الجحد يتعدى بغير الجار و المجرور لأن معناه هنا التكذيب أي يكذبون ب آيات الله و قال أبو علي الباء تتعلق بالظالمين و المعنى و لكن الظالمين برد آيات الله أو إنكار آيات الله يجحدون ما عرفوه من صدقك و أمانتك و مثله قوله سبحانه و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها أي ظلموا بردها أو الكفر بها ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله « و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا و أوذوا » أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب و الأذى في أداء الرسالة « حتى أتاهم » جاءهم « نصرنا » إياهم على المكذبين و هذا أمر منه سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالصبر على كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء « و لا مبدل لكلمات الله » معناه لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله على الحقيقة و لا على إخلاف وعده و أن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار فلا بد من كونه لا محالة و ما وعدك به من نصره فلا بد من حصوله لأنه لا يجوز الكذب في إخباره و لا الخلف في وعده و قال الكلبي و عكرمة يعني بكلمات الله الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء نحو قوله كتب الله لأغلبن أنا و رسلي و قوله إنهم لهم المنصورون « و لقد جاءك من نبأ المرسلين » أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم و نصرناهم على قومهم قال الأخفش من هاهنا صلة مزيدة كما تقول أصابنا من مطر أي مطر
مجمع البيان ج : 4 ص : 457
و قال غيره من النحويين لا يجوز ذلك لأن من لا تزاد في الإيجاب و إنما تزاد في النفي و من هنا للتبعيض و فاعل جاء مضمر يدل المذكور عليه و تقديره و لقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ فيكون المعنى أنه أخبره (عليه السلام) ببعض أخبارهم على حسب ما علم من المصالح و يؤيد ذلك قوله و منهم من لم نقصص عليك .
وَ إِن كانَ كَبرَ عَلَيْك إِعْرَاضهُمْ فَإِنِ استَطعْت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فى الأَرْضِ أَوْ سلَّماً فى السمَاءِ فَتَأْتِيهُم بِئَايَة وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ(35) *إِنَّمَا يَستَجِيب الَّذِينَ يَسمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36) وَ قَالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلى أَن يُنزِّلَ ءَايَةً وَ لَكِنَّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(37)

اللغة

النفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر و أصله الخروج و منه المنافق لخروجه من الإيمان إلى الكفر و منه النفقة لخروجها من اليد و السلم الدرج و هو مأخوذ من السلامة قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك و الاستجابة من الجوب و هو القطع و هل عندك جائبة خبر أي تجوب البلاد و الفرق بين يستجيب و يجيب أن يستجيب فيه قبول لما دعي إليه و ليس كذلك يجيب لأنه يجوز أن يجيب بالمخالفة كما أن السائل يقول أ توافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف عن علي بن عيسى و قيل إن أجاب و استجاب بمعنى .

الإعراب

جواب إن محذوف و تقديره إن استطعت ذلك فافعل قال الفراء و إنما تفعله العرب في كل موضع يعرف فيه معنى الجواب أ لا ترى أنك تقول للرجل إن استطعت
مجمع البيان ج : 4 ص : 458
أن تتصدق إن رأيت أن تقوم معنا فتترك الجواب للمعرفة به فإذا قلت إن تقم تصب خيرا فلا بد من الجواب لأن معناه لا يعرف إذا طرح الجواب .

المعنى

ثم بين سبحانه أن هؤلاء الكفار لا يؤمنون فقال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و إن كان كبر » أي عظم و اشتد « عليك إعراضهم » و انصرافهم عن الإيمان و قبول دينك و امتناعهم من اتباعك و تصديقك « فإن استطعت » أي قدرت و تهيأ لك « أن تبتغي » أي تطلب و تتخذ « نفقا في الأرض » أي سربا و مسكنا في جوف الأرض « أو سلما » أي مصعدا « في السماء » و درجا « فتأتيهم ب آية » أي حجة تلجئهم إلى الإيمان و تجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك و قيل فتأتيهم ب آية أفضل مما آتيناهم به فافعل عن ابن عباس يريد لا آية أفضل و أظهر من ذلك « و لو شاء الله لجمعهم على الهدى » بالإلجاء و إنما أخبر عز اسمه عن كمال قدرته و أنه لو شاء لألجأهم إلى الإيمان و لم يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف و يسقط استحقاق الثواب الذي هو الغرض بالتكليف و ليس في الآية أنه سبحانه لا يشاء منهم أن يؤمنوا مختارين أو لا يشاء أن يفعل ما يؤمنون عنده مختارين و إنما نفى المشيئة لما يلجئهم إلى الإيمان ليتبين أن الكفار لم يغلبوه بكفرهم فإنه لو أراد أن يحول بينهم و بين الكفر لفعل لكنه يريد أن يكون إيمانهم على الوجه الذي يستحق به الثواب و لا ينافي التكليف « فلا تكونن من الجاهلين » قيل معناه فلا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم عن الجبائي و قيل إن هذا نفي للجهل عنه أي لا تكن جاهلا بعد أن أتاك العلم بأحوالهم و أنهم لا يؤمنون و المراد فلا تجزع و لا تتحسر لكفرهم و إعراضهم عن الإيمان و غلظ الخطاب تبعيدا و زجرا عن هذه الحال ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله لا يجتمع هؤلاء الكفار على الإيمان فقال « إنما يستجيب الذين يسمعون » و معناه إنما يستجيب إلى الإيمان بالله و ما أنزل إليك من يسمع كلامك و يصغي إليك و إلى ما تقرأه عليه من القرآن و يتفكر في آياتك فإن من لم يتفكر و لم يستدل بالآيات بمنزلة من لم يسمع كما قيل :
لقد أسمعت لو ناديت حيا
و لكن لا حياة لمن تنادي و قال الآخر :
أصم عما ساءه سميع « و الموتى يبعثهم الله » يريد أن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار و لا يتدبرون فيما تقرأه عليهم و تبينه لهم من الآيات و الحجج بمنزلة الموتى فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله فكذلك فأيس من
مجمع البيان ج : 4 ص : 459
هؤلاء أن يستجيبوا لك و تقديره إنما يستجيب المؤمن السامع للحق فأما الكافر فهو بمنزلة الميت فلا يجيب إلى أن يبعثه الله يوم القيامة فيلجئه إلى الإيمان و قيل معناه إنما يستجيب من كان قلبه حيا فأما من كان قلبه ميتا فلا ثم وصف الموتى بأنه يبعثهم و يحكم فيهم « ثم إليه » أي إلى حكمه « يرجعون » و قيل معناه يبعثهم الله من القبور ثم يرجعون إلى موقف الحساب ثم عاد سبحانه إلى حكاية أقوال الكفار فقال عاطفا على ما تقدم « و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه » هذا إخبار عن رؤساء قريش لما عجزوا من معارضته فيما أتى به من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأولين كعصا موسى و ناقة ثمود فقال سبحانه في موضع آخر « أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب » و قال هاهنا « قل » يا محمد « إن الله قادر على أن ينزل آية » أي آية تجمعهم على هدى عن الزجاج و قيل آية كما يسألونها « و لكن أكثرهم لا يعلمون » ما في إنزالها من وجوب الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها و ما في الاقتصار بهم على ما أوتوه من الآيات من المصلحة و قيل معناه و لكن أكثرهم لا يعلمون أن فيما أنزلنا من الآيات مقنعا و كفاية لمن نظر و تدبر و قد اعترضت الملحدة على المسلمين بهذه الآية فقالوا أنها تدل على أن الله تعالى لم ينزل على محمد آية إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إياها فيقال لهم قد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة و تلك لم يؤتوها لأن المصلحة منعت عن إيتائها و قد أنزل الآيات الدالة على نبوته من القرآن و آتيتهم من المعجزات الباهرة التي شاهدوها ما لو نظروا فيها أو في بعضها حق النظر لعرفوا صدقه و صحة نبوته و قد بين في آية أخرى أنه لو أنزل عليهم ما التمسوه لم يؤمنوا فقال « و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة » إلى قوله « ما كانوا ليؤمنوا » و في موضع آخر « و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله » يعني في قدرة الله ينزل منها ما يشاء و يسقط ما اعترضوا به .
وَ مَا مِن دَابَّة فى الأَرْضِ وَ لا طئر يَطِيرُ بجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطنَا فى الْكِتَبِ مِن شىْء ثُمَّ إِلى رَبهِمْ يحْشرُونَ(38) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا صمُّ وَ بُكْمٌ فى الظلُمَتِ مَن يَشإِ اللَّهُ يُضلِلْهُ وَ مَن يَشأْ يجْعَلْهُ عَلى صرَط مُّستَقِيم(39)

مجمع البيان ج : 4 ص : 460

اللغة

الدابة كل ما يدب من الحيوان و أصله الصفة من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو و الدبوب و الديبوب النمام و في الحديث لا يدخل الجنة ديبوب و لا قلاع فالديبوب النمام لأنه يدب بالنميمة و القلاع الواشي بالرجل ليقتلعه قال الأزهري تصغير الدابة دويبة الباء مخففة و فيها إشمام الكسر و في الحديث أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب أراد الأدب فأظهر التضعيف و هو الكثير الوبر و قد دب يدب دبيبا و الجناح إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء و أصله الميل إلى ناحية .

الإعراب

من مزيدة و تأويله و ما دابة و يجوز في غير القرآن « و لا طائر » بالرفع عطفا على موضع من دابة و قوله « من شيء » من زائدة أيضا و تفيد التعميم أي ما فرطنا شيئا ما و صم و بكم كلاهما خبر الذين كقولهم هذا حلو حامض و دخول الواو لا يمنع من ذلك فإنه بمنزلة قولك صم بكم .

المعنى

لما بين سبحانه أنه قادر على أن ينزل آية عقبه بذكر ما يدل على كمال قدرته و حسن تدبيره و حكمته فقال « و ما من دابة في الأرض » أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض « و لا طائر يطير بجناحيه » جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يطير بجناحيه أو يدب و مما يسأل عنه أن يقال لم قال يطير بجناحيه و قد علم أن الطير لا يطير إلا بالجناح فالجواب أن هذا إنما جاء للتوكيد و رفع اللبس لأن القائل قد يقول طر في حاجتي أي أسرع فيها و قال الشاعر :
قوم إذا الشر أبدى ناجذية لهم
طاروا إليه زرافات و وحدانا و أنشد سيبويه :
فطرت بمنصلي في يعملات
و دوامي الأيد يخبطن السريحا و قيل إنما قال بجناحيه لأن السمك تطير في الماء و لا أجنحة لها و إنما خرج السمك
مجمع البيان ج : 4 ص : 461
عن الطائر لأنه من دواب البحر و إنما أراد سبحانه ما في الأرض و ما في الجو « إلا أمم » أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير عن مجاهد « أمثالكم » قيل أنه يريد أشباهكم في إبداع الله إياها و خلقه لها و دلالتها على أن لها صانعا و قيل إنما مثلت الأمم عن غير الناس بالناس في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم و أكلهم و لباسهم و نومهم و يقظتهم و هدايتهم إلى مراشدهم إلى ما لا يحصى كثرة من أحوالهم و مصالحهم و أنهم يموتون و يحشرون و بين بهذه الآية أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شيء منها فإن الله خالقها و المنتصف لها « ما فرطنا في الكتاب من شيء » أي ما تركنا و قيل معناه ما قصرنا و اختلف في معنى الكتاب على أقوال ( أحدها ) إنه يريد بالكتاب القرآن لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه فيه من أمور الدين و الدنيا إما مجملا و إما مفصلا و المجمل قد بينه على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أمرنا باتباعه في قوله « ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا » و هذا مثل قوله تعالى « و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء » و يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن ثم أتته و قالت يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى « ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا » و إن مما أتانا رسول الله أن قال لعن الله الواشمة و المستوشمة و هو قول أكثر المفسرين و هذا القول اختيار البلخي ( و ثانيها ) أن المراد بالكتاب هاهنا الكتاب الذي هو عند الله عز و جل المشتمل على ما كان و يكون و هو اللوح المحفوظ و فيه آجال الحيوان و أرزاقه و آثاره ليعلم ابن آدم أن عمله أولى بالإحصاء و الاستقصاء عن الحسن ( و ثالثها ) أن المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلا و قد أوحينا له أجلا ثم يحشرون جميعا عن أبي مسلم و هذا الوجه بعيد « ثم إلى ربهم يحشرون » معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض منها و ينتصف لبعضها من بعض و فيما رووه عن أبي هريرة أنه قال يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم و الدواب و الطير و كل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و عن أبي ذر قال بينا أنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ انتطحت عنزان فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أ تدرون فيما انتطحا فقالوا لا ندري قال لكن الله يدري
مجمع البيان ج : 4 ص : 462
و سيقضي بينهما و على هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص و اختاره الزجاج فقال يعني أمثالكم في أنهم يبعثون و يؤيده قوله « و إذا الوحوش حشرت » و معنى إلى ربهم إلى حيث لا يملك النفع و الضر إلا الله سبحانه إذ لم يمكن منه كما مكن في الدنيا و استدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أن البهائم و الطيور مكلفة لقوله « أمم أمثالكم » و هذا باطل لأنا قد بينا أنها من أي وجه تكون أمثالنا و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيأتنا و خلقتنا و أخلاقنا و كيف يصح تكليف البهائم و هي غير عاقلة و التكليف لا يصح إلا مع كمال العقل « و الذين كذبوا ب آياتنا » أي بالقرآن و قيل بسائر الحجج و البينات « صم و بكم » قد بينا معناهما في سورة البقرة « في الظلمات » أي في ظلمات الكفر و الجهل لا يهتدون إلى شيء من منافع الدين و قيل أراد صم و بكم في الظلمات في الآخرة على الحقيقة عقابا لهم على كفرهم لأنه ذكرهم عند ذكر الحشر عن أبي علي الجبائي « من يشأ الله يضلله » هذا مجمل قد بينه في قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » « و يضل الله الظالمين » « و الذين اهتدوا زادهم هدى » « يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام » و المعنى من يشأ الله يخذله بأن يمنعه ألطافه و فوائده و ذلك إذا واتر عليه الأدلة و أوضح له الحجج فأعرض عنها و لم ينعم النظر فيها و يجوز أن يريد من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة و نيل ثوابها يضلله عنه « و من يشأ يجعله على صراط مستقيم » أي و من يشأ أن يرحمه و يهديه إلى الجنة يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة .
قُلْ أَ رَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَاب اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ الساعَةُ أَ غَيرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِف مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شاءَ وَ تَنسوْنَ مَا تُشرِكُونَ(41)

القراءة

قرأ أهل المدينة أ رأيتكم و أ رأيتم و أ رأيت و أشباه ذلك بتخفيف الهمزة كل القرآن و قرأ الكسائي وحده أريتكم و أريت و أريتم كل القرآن بترك الهمزة و قرأ الباقون بالهمز في الجميع كل القرآن .

الحجة

قال أبو علي من حقق الهمزة فوجه قراءته بين لأنه فعلت من الرؤية فالهمزة
مجمع البيان ج : 4 ص : 463
عين الفعل و من قرأ بألف في كل القرآن من غير همز على مقدار ذوق الهمزة فإنه يجعل الهمزة بين بين أي بين الألف و الهمزة و أما الكسائي فإنه حذف الهمزة حذفا أ لا ترى أن التخفيف القياسي فيها أن تجعل بين بين و هذا حذف الهمزة كما قالوا ويلمه و كما أنشد أحمد بن يحيى :
إذن لم أقاتل فألبسوني برقعا ) و كقول أبي الأسود :
يا با المغيرة رب أمر معضل و مما جاء على ذلك قول الآخر :
أ ريت إن جئت به أملودا
مرجلا و يلبس البرودا و مما يقوي ذلك قول الشاعر :
و من رى مثل معدان بن ليلى
إذا ما النسع طال على المطية .

الإعراب

« أ رأيتكم » الكاف فيه للخطاب مجردا و معنى الاسم مخلوع عنه لأنه لو كان اسما لوجب أن يكون الاسم الذي بعده في قوله أ رأيتك هذا الذي كرمت علي و أ رأيتك زيدا ما صنع هو الكاف في المعنى لأن رأيت يتعدى إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى و قد علمنا أنه ليس الكاف في المعنى و إذا لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية كالكاف في ذلك و هنالك و كالتاء في أنت و إذا ثبت أنه للخطاب فالتاء في أ رأيت لا يجوز أن يكون للخطاب لأنه لا يجوز أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب كما لا يلحقها علامتان للتأنيث و لا علامتان للاستفهام فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لا بد له من فاعل و جعل في جميع الأحوال على لفظ واحد لأن ما يلحق الكاف من معنى الخطاب يبين الفاعلين فيخصص التأنيث من التذكير و التثنية من الجمع و لو لحق علامة التأنيث و الجمع التاء لاجتمعت علامتان للخطاب ما يلحق التاء و ما يلحق الكاف فكان يؤدي إلى ما لا نظير له فرفض و هذا من كلام أبي علي الفارسي و جواب إن من قوله « إن أتاكم عذاب الله » الفعل الذي دخل عليه حرف الاستفهام كما تقول إن أتاك زيد أ تكرمه و موضع إن و جوابه نصب لأنه في موضع مفعولي رأيت و قوله « إن كنتم
مجمع البيان ج : 4 ص : 464
صادقين » جوابه محذوف يدل عليه قوله « أ رأيتكم » لأنه في معنى أخبروا فكأنه قال إن كنتم صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم .

المعنى

ثم أمر سبحانه نبيه بمحاجة الكفار فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله » في الدنيا كما نزل بالأمم قبلكم مثل عاد و ثمود « أو أتتكم الساعة » أي القيامة قال الزجاج الساعة اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد و اسم للوقت الذي يبعث فيه العباد و المعنى أو أتتكم الساعة التي وعدتم فيها بالبعث و الفناء لأن قبل البعث يموت الخلق كلهم « أ غير الله تدعون » أي أ تدعون فيها لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها و لا غيرها أو تدعون الله الذي هو خالقكم و مالككم لكشف ذلك عنكم « إن كنتم صادقين » في أن هذه الأوثان آلهة لكم احتج سبحانه عليهم بما لا يدفعونه لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ثم قال « بل إياه تدعون » و بل استدراك و إيجاب بعد نفي أعلمهم الله تعالى أنهم إذا لحقتهم الشدائد في البحار و البراري و القفار يتضرعون إليه و يقبلون عليه و المعنى لا تدعون غيره بل تدعونه « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » أي يكشف الضر الذي من أجله دعوتم إن شاء أن يكشفه « و تنسون ما تشركون » أي تتركون دعاء ما تشركون من دون الله لأنه ليس عندهم ضرر و لا نفع عن ابن عباس و يكون العائد إلى الموصول محذوفا للعلم على تقدير ما تشركون به و قيل معناه إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم عن الزجاج و هو قول الحسن لأنه قال تعرضون عنه إعراض الناسي أي لليأس في النجاة من مثله و يجوز أن يكون ما مع تشركون بمنزلة المصدر فيكون بمنزلة و تنسون شرككم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 465
وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا إِلى أُمَم مِّن قَبْلِك فَأَخَذْنَهُم بِالْبَأْساءِ وَ الضرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُونَ(42) فَلَوْ لا إِذْ جَاءَهُم بَأْسنَا تَضرَّعُوا وَ لَكِن قَست قُلُوبهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشيْطنُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا نَسوا مَا ذُكرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَب كلِّ شىْء حَتى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظلَمُوا وَ الحَْمْدُ للَّهِ رَب الْعَلَمِينَ(45)

القراءة

قرأ أبو جعفر فتحنا بالتشديد في جميع القرآن و وافقه ابن عامر إلا قوله و لو فتحنا عليهم بابا و حتى إذا فتحنا عليهم بابا فإنه خففهما و وافقهما يعقوب في القمر و قرأ الباقون في جميع ذلك بالتخفيف إلا مواضع قد اختلفوا فيها سنذكرها إن شاء الله إذا بلغنا إلى مواضعها .

الحجة

من ثقل أراد التكثير و المبالغة و من خفف لم يرد ذلك .

اللغة

البأساء من البأس و الخوف و الضراء من الضر و قد يكون البأساء من البؤس ، و التضرع التذلل يقال ضرع فلان لفلان إذا بخع له و سأله أن يعطيه و المبلس الشديد الحسرة و قال الفراء المبلس المنقطع الحجة قال رؤبة :
و حضرت يوم الخميس الأخماس
و في الوجوه صفرة و إبلاس دابر القوم الذي يدبرهم و يدبرهم لغتان و هو الذي يتلوهم من خلفهم و يأتي على أعقابهم و أنشد :
آل المهلب جز الله دابرهم
أضحوا رمادا فلا أصل و لا طرف و قال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أصله و أنشد :
فدى لكما رجلي و رحلي و ناقتي
غداة الكلاب إذ تجز الدوابر أي يقتل القوم فتذهب أصولهم فلا يبقى لهم أثر و قال غيره دابر الأمر آخره و روي عن عبد الله أنه قال من الناس من لا يأتي الصلاة ألا دبريا بضم الدال يعني في آخر الوقت كذا يقول أصحاب الحديث قال أبو زيد الصواب دبريا بفتح الدال و الباء .

الإعراب

لو لا للتحضيض و لا يدخل إلا على الفعل و معناه هلا تضرعوا « و لكن قست قلوبهم » معطوف على تأويل الكلام الأول فإن في قوله ( هلا تضرعوا ) دلالة على أنهم لم يتضرعوا و قوله « بغتة » مصدر وقع موقع الحال أي أخذناهم مباغتين .
 

<<        الفهرس        >>