جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 4 ص : 581
إنشاء الأنعام فقال « و من الأنعام » أي و أنشأ من الأنعام « حمولة و فرشا » قد قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن الحمولة كبار الإبل و الفرش صغارها عن ابن عباس و ابن مسعود بخلاف و الحسن بخلاف و مجاهد ( و ثانيها ) أن الحمولة ما يحمل عليه من الإبل و البقر و الفرش الغنم عن الحسن في رواية أخرى و قتادة و الربيع و السدي و الضحاك و ابن زيد ( و ثالثها ) أن الحمولة كل ما حمل من الإبل و البقر و الخيل و البغال و الحمير و الفرش الغنم عن ابن عباس في رواية أخرى فكأنه ذهب إلى أنه يدخل في الأنعام الحافر على وجه التبع ( رابعها ) أن معناه ما ينتفعون به في الحمل و ما يفترشونه في الذبح فمعنى الافتراش الاضطجاع للذبح عن أبي مسلم قال و هو كقوله فإذا وجبت جنوبها و روي عن الربيع بن أنس أيضا أن الفرش ما يفرش للذبح أيضا ( و خامسها ) أن الفرش ما يفرش من أصوافها و أوبارها و يرجع الصفتان إلى الأنعام أي من الأنعام ما يحمل عليه و منها ما يتخذ من أوبارها و أصوافها ما يفرش و يبسط عن أبي علي الجبائي « كلوا مما رزقكم الله » أي استحلوا الأكل مما أعطاكم الله و لا تحرموا شيئا منها كما فعله أهل الجاهلية في الحرث و الأنعام و على هذا يكون الأمر على ظاهره و يمكن أن يكون أراد نفس الأكل فيكون بمعنى الإباحة « و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين » مضى تفسيره في سورة البقرة ثم فسر تعالى الحمولة و الفرش فقال « ثمانية أزواج » و تقديره و أنشأ ثمانية أزواج أنشأ « من الضأن اثنين و من المعز اثنين » و من الإبل اثنين و من البقر اثنين و إنما أجمل ثم فصل المجمل لأنه أراد أن يقرر على شيء شيء منه ليكون أشد في التوبيخ من أن يذكر ذلك دفعة واحدة و معناه ثمانية أفراد لأن كل واحد من ذلك يسمى زوجا فالذكر زوج الأنثى و الأنثى زوج الذكر كما قال تعالى « أمسك عليك زوجك » و قيل معناه ثمانية أصناف من الضأن اثنين يعني الذكر و الأنثى و من المعز اثنين الذكر و الأنثى و الضأن ذوات الصوف من الغنم و المعز ذوات الشعر منه و واحد الضأن ضائن كقولهم تاجر و تجر و الأنثى ضائنة و واحد المعز ماعز و قيل أن المراد بالاثنين الأهلي و الوحشي من الضأن و المعز و البقر و المراد بالاثنين من الإبل العراب و البخاتي و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و إنما خص هذه الثمانية لأنها جميع الأنعام التي كانوا يحرمون منها ما يحرمونه على ما تقدم ذكره « قل » يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما أحل الله تعالى « آلذكرين » من الضأن و المعز « حرم » الله « أم الأنثيين » منهما « أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » أي أم حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن و الأنثى من
مجمع البيان ج : 4 ص : 582
المعز و إنما ذكر الله سبحانه هذا على وجه الاحتجاج عليهم بين به فريتهم و كذبهم على الله تعالى فيما ادعوا من أن ما في بطون الأنعام حلال للذكور و حرام على الإناث و غير ذلك مما حرموه فإنهم لو قالوا حرم الذكرين لزمهم أن يكون كل ذكر حراما و لو قالوا حرم الأنثيين لزمهم أن يكون كل أنثى حراما و لو قالوا حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن و المعز لزمهم تحريم الذكور و الإناث فإن أرحام الإناث تشتمل على الذكور و الإناث فيلزمهم بزعمهم تحريم هذا الجنس صغارا و كبارا و ذكورا و إناثا و لم يكونوا يفعلون ذلك بل كان يخصون بالتحريم بعضا دون بعض فقد لزمتهم الحجة ثم قال « نبئوني بعلم إن كنتم صادقين » معناه أخبروني بعلم عما ذكرتموه من تحريم ما حرمتموه و تحليل ما حللتموه إن كنتم صادقين في ذلك « و من الإبل اثنين و من البقر اثنين » هذا تفصيل لتمام الأزواج الثمانية « قل » يا محمد « آلذكرين حرم » الله منهما « أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » قد تقدم معناه « أم كنتم شهداء » أي حضورا « إذ وصاكم الله بهذا » أي أمركم به و حرمه عليكم حتى تضيفوه إليه و إنما ذكر ذلك لأن طريق العلم إما الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به أو المشاهدة التي يختص بها بعضهم دون بعض فإذا لم يكن واحد من الأمرين سقط المذهب و المراد بذلك أعلمتموه بالسمع و الكتب المنزلة و أنتم لا تقرون بذلك أم شافهكم الله تعالى به فعلمتموه و إذا لم يكن واحد منهما فقد علم بطلان ما ذهبتم إليه « فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي من أظلم لنفسه ممن كذب على الله و أضاف إليه تحريم ما لم يحرمه و تحليل ما لم يحلله « ليضل الناس بغير علم » أي يعمل عمل القاصد إلى إضلالهم من أجل دعائه إياهم إلى ما لا يثق بصحته مما لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم و إن لم يقصد إضلالهم « إن الله لا يهدي القوم الظالمين » إلى الثواب لأنهم مستحقون العقاب الدائم بكفرهم و ضلالهم .
قُل لا أَجِدُ فى مَا أُوحِىَ إِلىَّ محَرَّماً عَلى طاعِم يَطعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسقاً أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضطرَّ غَيرَ بَاغ وَ لا عَاد فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَّحِيمٌ(145)

مجمع البيان ج : 4 ص : 583

القراءة

قرأ ابن كثير و حمزة تكون بالتاء « ميتة » بالنصب و قرأ أبو جعفر و ابن عامر تكون بالتاء ميتة بالرفع و الباقون بالياء و نصب « ميتة » و كلهم خففوا « ميتة » غير أبي جعفر فإنه شددها .

الحجة

قال أبو علي قراءة ابن كثير و حمزة محمولة على المعنى كأنه قال إلا أن تكون العين و النفس ميتة أ لا ترى أن المحرم لا يخلو من جواز العبارة عنه بأحد هذه الأشياء و ليس قوله « إلا أن يكون » كقولك جاءني القوم لا يكون زيدا و ليس زيدا في أن الضمير الذي يتضمنه من الاستثناء لا يظهر و لا يدخل الفعل علامة التأنيث لأن الفعل إنما يكون عاريا من علامة التأنيث و من أن يظهر معه الضمير إذا لم يدخل عليه أن فأما إذا دخله أن فعلى حكم سائر الأفعال و من قرأ بالياء و نصب « ميتة » فإنه جعل فيه ضميرا مما تقدم و هو أقيس مما تقدم ذكره أي إلا أن يكون الموجود ميتة و من قرأ إلا أن تكون ميتة فألحق علامة التأنيث الفعل كما ألحق في قوله قد جاءتكم موعظة و تقديره إلا أن تقع ميتة .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر ما حرمه المشركون عقبه ببيان المحرمات فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « لا أجد فيما أوحي إلي » أي أوحاه الله تعالى إلي شيئا « محرما على طاعم يطعمه » أي على أكل يأكله « إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا » أي مصبوبا و إنما خص المصبوب بالذكر لأن ما يختلط باللحم منه مما لا يمكن تخليصه منه معفو عنه مباح « أو لحم خنزير » إنما خص الأشياء الثلاثة هنا بذكر التحريم مع أن غيرها محرم فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المتخنقة و الموقوذة و المتردية و غيرها لأن جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها فأجمل هاهنا و فصل هناك و أجود من هذا أن يقال أنه سبحانه خص هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها و بين تحريم ما عداها في مواضع أخر إما بنص القرآن و إما بوحي غير القرآن و أيضا فإن هذه السورة مكية و المائدة مدنية فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرمات إنما حرم فيما بعد و الميتة عبادة عما كان فيه حياة فقدت من غير تذكية شرعية « فإنه رجس » أي نجس و الرجس اسم لكل شيء مستقذر منفور عنه و الرجس أيضا العذاب و الهاء في قوله « فإنه » عائد إلى ما تقدم ذكره فلذلك ذكره « أو فسقا » عطف على قوله « أو لحم خنزير » فلذلك نصبه « أهل لغير الله به » أي ذكر عليه اسم الأصنام و الأوثان و لم يذكر اسم الله عليه و سمي ما ذكر عليه اسم الصنم فسقا لخروجه عن أمر الله و أصل الإهلال رفع الصوت بالشيء و قد ذكرناه في سورة المائدة « فمن اضطر » إلى تناول شيء مما ذكرناه « غير باغ و لا عاد » قد سبق معناه في سورة
مجمع البيان ج : 4 ص : 584
البقرة « فإن ربك غفور رحيم » حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة و الرحمة .
وَ عَلى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كلَّ ذِى ظفُر وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَت ظهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَط بِعَظم ذَلِك جَزَيْنَهُم بِبَغْيهِمْ وَ إِنَّا لَصدِقُونَ(146) فَإِن كذَّبُوك فَقُل رَّبُّكمْ ذُو رَحْمَة وَسِعَة وَ لا يُرَدُّ بَأْسهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)

اللغة

الظفر ظفر الإنسان و غيره و رجل أظفر إذا كان طويل الأظفار كما يقال أشعر لطويل الشعر و الحوايا المباعر قال الزجاج واحدها حاوية و حاوياء و حوية و هي ما يحوي في البطن فاجتمع و استدار .

الإعراب

موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور و تقديره أو ما حملت الحوايا و يحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله « إلا ما حملت » فأما قوله « أو ما اختلط بعظم » فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى « ذلك » يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير جزيناهم ذلك ببغيهم و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه يصير التقدير ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم زيد ضربت أي ضربته و هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر .

المعنى

ثم بين سبحانه ما حرمه على اليهود فقال « و على الذين هادوا » أي على اليهود في أيام موسى « حرمنا كل ذي ظفر » اختلف في معناه فقيل هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل و النعام و الإوز و البط عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و السدي و قيل هو الإبل فقط عن ابن زيد و قيل يدخل فيه كل السباع و الكلاب و السنانير و ما يصطاد بظفره عن الجبائي و قيل كل ذي مخلب من الطير و كل ذي حافر من الدواب عن القتيبي و البلخي « و من البقر و الغنم حرمنا عليهم شحومهما » أخبر سبحانه أنه كان حرم عليهم
مجمع البيان ج : 4 ص : 585
شحوم البقر و الغنم من الثرب و شحم الكلي و غير ذلك مما في أجوافها و استثنى من ذلك فقال « إلا ما حملت ظهورهما » من الشحم و هو اللحم السمين فإنه لم يحرم عليهم « أو الحوايا » أي ما حملته الحوايا من الشحم فإنه غير محرم عليهم أيضا و الحوايا هي المباعر عن ابن عباس و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و السدي و قيل هي بنات اللبن عن ابن زيد و قيل هي الأمعاء التي عليها الشحوم عن الجبائي « أو ما اختلط بعظم » ذلك أيضا مستثنى من جملة ما حرم و هو شحم الجنب و الألية لأنه على العصعص عن ابن جريج و السدي و قيل الألية لم تدخل في هذا لأنها لم تستثن عن الجبائي فكأنه لم يعتد بعظم العصعص قال الزجاج إنما دخلت أو هاهنا على طريق الإباحة كما قال سبحانه و لا تطع منهم آثما أو كفورا و المعنى أن كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا و أو بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت لا تطع زيدا و عمرا فجائز أن يكون نهيتني عن طاعتهما في حال معا فإن أطعت زيدا على حدته لم أكن عصيتك و إذا قلت لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا فالمعنى أن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم و لا تطع الجماعة و مثله جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي « ذلك جزيناهم ببغيهم » المعنى حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء و أخذهم الربا و استحلالهم أموال الناس بالباطل فهذا بغيهم و هو كقوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و قيل بغيهم ظلمهم على أنفسهم في ارتكابهم المحظورات و قيل إن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره و يسأل فيقال كيف يكون التكليف عقوبة و هو تابع للمصلحة و تعريض للثواب و جوابه أنه إنما سمي جزاء و عقابا لأن عظيم ما فعلوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك و تغيير المصلحة فيه و لو لا عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك « و إنا لصادقون » أي في الإخبار عن التحريم و عن بغيهم و في كل شيء و في أن ذلك التحريم عقوبة لأوائلهم و مصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ « فإن كذبوك » يا محمد فيما تقول « فقل ربكم ذو رحمة واسعة » لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة بل يمهلكم « و لا يرد بأسه » أي لا يدفع عذابه إذا جاء وقته « عن القوم المجرمين » أي المكذبين .

مجمع البيان ج : 4 ص : 586
سيَقُولُ الَّذِينَ أَشرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشرَكنَا وَ لا ءَابَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِن شىْء كذَلِك كَذَّب الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتى ذَاقُوا بَأْسنَا قُلْ هَلْ عِندَكم مِّنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظنَّ وَ إِنْ أَنتُمْ إِلا تخْرُصونَ(148) قُلْ فَللَّهِ الحُْجَّةُ الْبَلِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149) قُلْ هَلُمَّ شهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شهِدُوا فَلا تَشهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَ هُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)

اللغة

هلم قال الزجاج أنها هاء ضمت إليها لم و جعلتا كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن يقال هلم للواحد و الاثنين و الجماعة بذلك جاء القرآن نحو قوله هلم إلينا و معنى « هلم شهداءكم » هاتوا شهداءكم و من العرب من يثني و يجمع و يؤنث فيقول للمذكر هلم و للاثنين هلما و للجماعة هلموا و للمؤنث هلمي و للنسوة هلممن و فتحت لأنها مدغمة كما فتحت رديا هذا في الأمر لالتقاء الساكنين و لا يجوز فيها هلم للواحد بالضم كما يجوز في رد الفتح و الضم و الكسر لأنها لا تتصرف قال أبو علي هي في اللغة الأولى بمنزلة رويد و صه و مه و نحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال و في الأخرى بمنزلة رد في ظهور علامات الفاعلين فيها كما يظهر في رد و أما هاء اللاحق بها فهي التي للتنبيه لحقت أولا لأن لفظ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور به و استدعاء إقباله على الأمر فهو لذلك يقرب من المنادى و من ثم دخل حرف التنبيه في الأيا اسجدوا أ لا ترى أنه أمر كما أن هذا أمر و قد دخل في جمل أخر نحو ها أنتم هؤلاء فكما دخل في هذه المواضع كذلك لحقت في لم إلا أنه كثر الاستعمال معها فغير بالحذف لكثرة الاستعمال كأشياء تغير لذلك نحو لم أبل و لم أدر
مجمع البيان ج : 4 ص : 587
و ما أشبه ذلك مما يغير للكثرة .

المعنى

لما تقدم الرد على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة رد عليهم سبحانه هنا مقالتهم الفاسدة فقال « سيقول الذين أشركوا » أي سيحتج هؤلاء المشركين في إقامتهم على شركهم و في تحريمهم ما أحل الله تعالى بأن يقولوا « لو شاء الله ما أشركنا » أي لو شاء الله أن لا نعتقد الشرك و لا نفعل التحريم « و لا آباؤنا » و أراد منا خلاف ذلك ما أشركنا و لا آباؤنا « و لا حرمنا من شيء » أي شيئا من ذلك ثم كذبهم الله تعالى في ذلك بقوله « كذلك » أي مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء في أنه منكر « كذب الذين من قبلهم » و إنما قال كذب بالتشديد لأنهم بهذا القول كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله لهم أن الله سبحانه أمركم بتوحيده و ترك الإشراك به و ترك التحريم لهذه الأنعام فكانوا بقولهم إن الله تعالى أراد منا ذلك و شاءه و لو أراد غيره ما فعلناه مكذبين للرسول ع كما كذب من تقدمهم أنبياءهم فيما أتوا به من قبل الله تعالى « حتى ذاقوا بأسنا » أي حتى نالوا عذابنا و قيل معناه حتى أصابوا العذاب المعجل و دل ذلك على أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء « قل » يا محمد لهم جوابا عما قالوه من أن الشرك بمشيئة الله تعالى « هل عندكم من علم » أي حجة تؤدي إلى علم و قيل معناه هل عندكم علم فيما تقولونه « فتخرجوه لنا » أي فتخرجوا ذلك العلم أو تلك الحجة لنا بين سبحانه بهذا أنه ليس عندهم علم و لا حجة فيما يضيفونه إلى الله تعالى و إن ما قالوه باطل ثم أكد سبحانه الرد عليهم و تكذيبهم في مقالتهم بقوله « إن تتبعون إلا الظن » أي ما تتبعون فيما تقولونه إلا الظن و التخمين « و إن أنتم إلا تخرصون » أي إلا تكذبون في هذه المقالة على الله تعالى و في هذه الآية دلالة واضحة على أن الله سبحانه لا يشاء المعاصي و الكفر و تكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله سبحانه هذا مع قيام الأدلة العقلية التي لا يدخلها التأويل على أنه سبحانه يتعالى عن إرادة القبيح و جميع صفات النقص علوا كبيرا « قل » يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه « فلله الحجة البالغة » و الحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام و هي التي تقصد إلى الحكم بشهادته مأخوذة من حج إذا قصد و البالغة هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كل لبس و شبهة عمن نظر فيها و استدل بها و إنما كانت حجة الله صحيحة بالغة لأنه لا يحتج إلا بالحق و بما يؤدي إلى العلم « فلو شاء لهداكم أجمعين » أي لو شاء لألجأكم إلى الإيمان و هداكم جميعا إليه بفعل الإلجاء إلا أنه
مجمع البيان ج : 4 ص : 588
لم يفعل ذلك و إن كان فعله حسنا لأن الإلجاء ينافي التكليف و هذه المشيئة بخلاف المشيئة المذكورة في الآية الأولى لأن الله تعالى أثبت هذه و نفي تلك و ذلك لا يستقيم إلا على الوجه الذي ذكرناه فالأولى مشيئة الاختيار و الثانية مشيئة الإلجاء و قيل أن المراد أنه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب و دخول الجنة ابتداء من غير تكليف و لكنه سبحانه لم يفعل ذلك بل كلفكم و عرضكم للثواب الذي لا يحسن الابتداء بمثله و لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر من أن الله سبحانه شاء منهم الكفر لكانت الحجة للكفار على الله تعالى من حيث فعلوا ما شاء الله تعالى و لكانوا بذلك مطيعين له لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد و لا يكون الحجة لله تعالى عليهم على قولهم من حيث أنه خلق فيهم الكفر و أراد منهم الكفر فأي حجة له عليهم مع ذلك ثم بين سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية و لا سمعية و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة فقال « قل » يا محمد لهم « هلم شهداءكم » أي أحضروا و هاتوا شهداءكم « الذين يشهدون » بصحة ما تدعونه من « أن الله حرم هذا » أي هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحرث و الأنعام و غيرها « فإن شهدوا فلا تشهد معهم » معناه فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم فشهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم و إنما نهاه عن الشهادة معهم لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل فإن قيل كيف دعاهم إلى الشهادة ثم قال فلا تشهد معهم فالجواب أنه أمرهم أن يأتوا بالعدول الذين يشهدون بالحق فإذا لم يجدوا ذلك و شهدوا لأنفسهم فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم أو تشهد معهم لأنها ترجع إلى دعوى مجردة بعيدة من الصواب و قيل أنه سبحانه أراد هاتوا شهداء من غيركم و لم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك لأنه كان للعرب شرائع شرعوها لأنفسهم « و لا تتبع أهواء الذين كذبوا ب آياتنا » الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد أمته أي لا تعتقد مذهب من اعتقد مذهبه هوى و يمكن أن يتخذ الإنسان المذهب هوى من وجوه منها أن يهوى من سبق إليه فيقلده فيه و منها أن يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح مع أن في عقله ما يمنع منها و منها أن يقطع النظر دون غايته للمشقة التي تلحقه فيعتقد المذهب الفاسد و منها أن يكون نشأ على شيء و ألفه و اعتاده فيصعب عليه مفارقته و كل ذلك متميز مما استحسنه بعقله « و الذين لا يؤمنون بالآخرة » أي و لا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة إنما ذكر الفريقين و إن كانوا كلهم كفارا ليفصل وجوه كفرهم لأن منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة كحال أهل الكتاب و منه ما يكون مع الإنكار كحال عبدة الأوثان « و هم بربهم يعدلون » أي يجعلون له عدلا و هو المثل و في الآية دلالة على
مجمع البيان ج : 4 ص : 589
فساد التقليد لأنه سبحانه طالب الكفار على صحة مذهبهم و جعل عجزهم عن الإتيان بها دلالة على بطلان قولهم و أيضا فإنه سبحانه أوجب اتباع الدليل دون اتباع الهوى .
* قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكمْ عَلَيْكمْ أَلا تُشرِكُوا بِهِ شيْئاً وَ بِالْوَلِدَيْنِ إِحْسناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلَدَكم مِّنْ إِمْلَق نحْنُ نَرْزُقُكمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَوَحِش مَا ظهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلَّكمْ تَعْقِلُونَ(151)

اللغة

تعالوا مشتق من العلو على تقدير أن الداعي في المكان العالي و إن كان في مستو من الأرض كما يقال للإنسان ارتفع إلى صدر المجلس و التلاوة مثل القراءة و المتلو مثل المقروء و التلاوة غير المتلو كما أن الحكاية غير المحكي فالمتلو و المحكي هو الكلام الأول و التلاوة و الحكاية هي الثاني منه على طريق الإعادة و الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه الملق و التملق لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية و الفواحش جمع فاحشة و هو القبيح العظيم القبح و القبيح يقع على الصغير و الكبير لأنه يقال القرد قبيح الصورة و لا يقال فاحش الصورة و ضد القبيح الحسن و ليس كذلك الفاحش .

الإعراب

« ما حرم ربكم » في موضع نصب بقوله « أتل » المعنى أتل الذي حرمه ربكم عليكم فيكون ما موصولة و جائز أن يكون في موضع نصب بحرم لأن التلاوة بمنزلة القول فكأنه قال أقول أي شيء حرم ربكم عليكم أ هذا أم هذا فجائز أن يكون الذي تلاه عليهم قوله إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا و يكون « ألا تشركوا به » منصوبة بمعنى طرح اللام أي أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله سبحانه فصاروا بذلك مشركين و يجوز أن يكون « ألا تشركوا به شيئا » محمولا على المعنى فيكون المعنى أتل عليكم ألا تشركوا أي أتل عليكم تحريم الشرك و يجوز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا به شيئا لأن قوله « و بالوالدين إحسانا » محمول على معنى أوصيكم
مجمع البيان ج : 4 ص : 590
بالوالدين إحسانا هذا كله قول الزجاج و « تشركوا » يجوز أن يكون منصوبا بأن و يكون لا للنفي و يجوز أن يكون مجزوما بلا على النهي و إذا كان منصوبا فيكون قوله « و لا تقتلوا أولادكم » عطفا بالنهي على الخبر و جاز ذلك كما جاز في قوله « قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم و لا تكونن من المشركين » و قال جامع العلوم البصير الأصفهاني يجوز أن تقف على « عليكم » ثم تبتدىء بأن لا تشركوا أي هو أن لا تشركوا أي هو الإشراك أي المحرم الإشراك و لا زيادة و يجوز أن يكون ما استفهاما فيقف على قوله « ربكم » ثم يبتدىء فيقول « عليكم ألا تشركوا » أي عليكم ترك الإشراك و هذا وقف بيان و تمام قوله « قل تعالوا » عند قوله « بلقاء ربهم يؤمنون » لأن قوله « و أن هذا صراطي » فيمن فتح معطوف على قوله « ما حرم » أي أتل هذا و هذا و من كسر فالتقدير ( و قل إن هذا صراطي ) و كذلك « ثم آتينا » أي و قل ثم آتينا و هذا كله داخل في التلاوة و القول .

المعنى

لما حكى سبحانه عنهم تحريم ما حرموه عقبه بذكر المحرمات فقال سبحانه « قل » يا محمد لهؤلاء المشركين « تعالوا » أي أقبلوا و ادنوا « أتل » أي أقرأ « ما حرم ربكم عليكم » أي منعكم عنه بالنهي ثم بدأ بالتوحيد فقال « ألا تشركوا به شيئا » أي أمركم أن لا تشركوا و لا فرق بين أن تقول لا تشركوا به شيئا و بين أن تقول حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئا إذ النهي يتضمن التحريم و قد ذكرنا ما يحتمله من المعاني في الإعراب و قد قيل أيضا أن الكلام قد تم عند قوله « حرم ربكم » ثم قال « عليكم ألا تشركوا » كقوله سبحانه « عليكم أنفسكم » « و بالوالدين إحسانا » أي و أوصى بالوالدين إحسانا و يدل على ذلك أن في حرم كذا معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنبه و لما كانت نعم الوالدين تالية نعم الله سبحانه في الرتبة أمر بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله تعالى « و لا تقتلوا أولادكم من إملاق » أي خوفا من الفقر عن ابن عباس و غيره « نحن نرزقكم و إياهم » أي فإن رزقكم و رزقهم جميعا علينا « و لا تقربوا الفواحش » أي المعاصي و القبائح كلها « ما ظهر منها و ما بطن » أي ظاهرها و باطنها عن الحسن و قيل أنهم كانوا لا يرون بالزنا في السر بأسا و يمنعون منه علانية فنهى الله سبحانه عنه في الحالتين عن ابن عباس و الضحاك و السدي و قريب منه ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن ما ظهر هو الزنا و ما بطن هو المخالة و قيل أن ما ظهر أفعال الجوارح و ما بطن أفعال القلوب فالمراد ترك
مجمع البيان ج : 4 ص : 591
المعاصي كلها و هذا أعم فائدة « و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق » أعاد ذكر القتل و إن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره و النفس المحرم قتلها هي نفس المسلم و المعاهد دون الحربي و الحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها ثلاثة أشياء القود و الزنا بعد إحصان و الكفر بعد إيمان « ذلكم » خطاب لجميع الخلق أي ما ذكر في هذه الآية « وصاكم به » أي أمركم به « لعلكم تعقلون » أي لكي تعقلوا ما أمركم الله تعالى به فتحللوا ما حلله لكم و تحرموا ما حرمه عليكم و دل قوله سبحانه « وصاكم به » على أن الوصية مضمرة في أول الآية على ما قلناه و في قوله سبحانه « ألا تشركوا به شيئا » دلالة على أن التكليف قد يتعلق بأن لا يفعل كما يتعلق بالفعل و على أنه يستحق الثواب و العقاب على أن لا يفعل و هو الصحيح من المذهب .
وَ لا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتى هِىَ أَحْسنُ حَتى يَبْلُغَ أَشدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكيْلَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسطِ لا نُكلِّف نَفْساً إِلا وُسعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلَّكمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَ أَنَّ هَذَا صرَطِى مُستَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلَّكمْ تَتَّقُونَ(153)

القراءة

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر تذكرون بتخفيف الذال حيث وقع و الباقون بالتشديد و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و إن هذا بكسر الهمزة و الباقون بفتحها و كلهم شدد النون إلا ابن عامر و يعقوب فإنهما قرءا إن بالتخفيف و كلهم سكن الياء من صراطي إلا ابن عامر فإنه فتحها و قرأ ابن عامر و ابن كثير سراطي بالسين و قرأ حمزة بين الصاد و الزاي .

الحجة

القراءتان في تذكرون متقاربتان و الأصل تتذكرون فمن حفف حذف التاء الأولى و من شدد أدغم التاء الثانية في الذال و أما من فتح و إن هذا فإنه حملها على فاتبعوه
مجمع البيان ج : 4 ص : 592
على قياس قول سيبويه في قوله تعالى لإيلاف قريش و قوله و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون و قوله و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا فيكون على تقدير و لأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و من خفف فقال و أن هذا فإن الخفيفة في قوله يتعلق بما يتعلق به الشديدة و موضع هذا رفع بالابتداء و خبره صراطي و في أن ضمير القصة و الحديث و على هذه الشريطة يخفف و ليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت و على هذا قول الأعشى :
في فتية كسيوف الهند قد علموا
إن هالك كل من يحفى و ينتعل و الفاء التي في قوله « فاتبعوه » على قول من كسر إن عاطفة جملة على جملة و على قول من فتح أن زائدة .

اللغة

الأشد واحدها شد مثل الأشر في جمع شر و الأضر في جمع ضر و الشد القوة و هو استحكام قوة الشباب و السن كما أن شد النهار هو ارتفاعه قال عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما
خضب البنان و رأسه بالعظلم و قيل هو جمع شدة مثل نعمة و أنعم و قال بعض البصريين الأشد واحد فيكون مثل الآنك قال سيبويه الذكر و الذكر بمعنى و ذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا ضاعفت العين يعدى إلى مفعولين كما في قوله :
يذكرنيك حنين العجول
و نوح الحمامة تدعو هديلا و يقول ذكره فتذكر فتفعل مطاوع فعل كما أن تفاعل مطاوع فاعل .

المعنى

ثم ذكر سبحانه تمام ما يتلو عليهم فقال « و لا تقربوا مال اليتيم » و المراد بالقرب التصرف فيه و إنما خص مال اليتيم بالذكر لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله فيكون الطمع في ماله أشد و يد الرغبة إليه أمد فأكد سبحانه النهي عن التصرف في ماله و إن كان ذلك واجبا في مال كل أحد « إلا بالتي هي أحسن » أي بالخصلة أو الطريقة الحسنى و لذلك أنث و قد قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن معناه إلا بتثمير ماله بالتجارة عن
مجمع البيان ج : 4 ص : 593
مجاهد و الضحاك و السدي ( و ثانيها ) بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف دون الكسوة عن ابن زيد و الجبائي ( و ثالثها ) بأن يحفظ عليه حتى يكبر « حتى يبلغ أشده » اختلف في معناه فقيل أنه بلوغ الحلم عن الشعبي و قيل هو أن يبلغ ثماني عشرة سنة و قال السدي هو أن يبلغ ثلاثين سنة ثم نسخها قوله حتى إذا بلغوا النكاح الآية و قال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا و عشرين سنة دفع المال إليه و قبل ذلك يمنع منه إذا لم يؤنس منه الرشد و قيل إنه لا حد له بل هو أن يبلغ و يكمل عقله و يؤنس منه الرشد فيسلم إليه ماله و هذا أقوى الوجوه و ليس بلوغ اليتيم أشده مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن و لكن تقديره و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه بدليل قوله و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا « و أوفوا » أي أتموا « الكيل و الميزان بالقسط » أي بالعدل و الوفاء من غير بخس « لا نكلف نفسا إلا وسعها » أي إلا ما يسعها و لا يضيق عنه و معناه هنا أنه لما كان التعديل في الوزن و الكيل على التحديد من أقل القليل بتعذر بين سبحانه أنه لا يلزم في ذلك إلا الاجتهاد في التحرز من النقصان « و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى » أي فقولوا الحق و إن كان على ذي قرابة لكم و إنما خص القول بالعدل دون الفعل لأن من جعل عادته العدل في القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل و يكون ذلك من آكد الدواعي إليه و قيل معناه إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا في الشهادة و الحكم و إن كان المقول عليه أو المشهود له أو عليه قرابتك و هذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير و الشهادات و الوصايا و الفتاوى و القضايا و الأحكام و المذاهب و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر « و بعهد الله أوفوا » قيل في معنى عهد الله قولان ( أحدهما ) أن كل ما أوجبه الله تعالى على العباد فقد عهد إليهم بإيجابه عليهم و بتقديم القول فيه و الدلالة عليه ( و الآخر ) أن المراد به النذور و العهود في غير معصية الله تعالى و المراد أوفوا بما عاهدتم الله عليه من ذلك « ذلكم » أي ذلك الذي تقدم ذكره من ذكر مال اليتيم و أن لا يقرب إلا بالحق و إيفاء الكيل و اجتناب البخس و التطفيف و تحري الحق فيه على مقدار الطاقة و القول بالحق و الصدق و الوفاء بالعهد « وصاكم » الله سبحانه « به لعلكم تذكرون » أي لكي تتذكروه و تأخذوا به فلا تطرحوه و لا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به و القيام بما يلزمكم منه « و أن هذا صراطي » أي و لأن هذا صراطي و من خفف فتقديره و لأنه هذا صراطي و من كسر أن فإنه استأنف قال ابن عباس يريد أن هذا ديني دين الحنيفية أقوم الأديان و أحسنها و قيل يريدان ما ذكر في هذه الآيات من الواجب و المحرم
مجمع البيان ج : 4 ص : 594
صراطي لأن امتثال ذلك على ما أمر به يؤدي إلى الثواب و الجنة فهو طريق إليها و إلى النعيم فيها « مستقيما » أي فيما لا عوج فيه و لا تناقض و هو منصوب على الحال « فاتبعوه » أي اقتدوا به و اعملوا به و اعتقدوا صحته و أحلوا حلاله و حرموا حرامه « و لا تتبعوا السبل » أي طرق الكفر و البدع و الشبهات عن مجاهد و قيل يريد اليهودية و النصرانية و المجوسية و عبادة الأوثان عن ابن عباس « فتفرق » و أصله فتتفرق « بكم عن سبيله » أي فتشتت و تميل و تخالف بكم عن دينه الذي ارتضى و به أوصى و قيل عن طريق الدين « ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون » أي لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه قال ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب و هي محرمات على بني آدم كلهم و هم أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة و من تركهن دخل النار و قال كعب الأحبار و الذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شيء في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات .
ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكِتَب تَمَاماً عَلى الَّذِى أَحْسنَ وَ تَفْصِيلاً لِّكلِّ شىْء وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154) وَ هَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155)

القراءة

في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر على الذي أحسن بالرفع .

الحجة

قال ابن جني هذا مستضعف الإعراب عندنا لأنه حذف المبتدأ العائد إلى الذي لأن تقديره على الذي هو أحسن و إنما يحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل الذي هو صلتها نحو مررت بالذي ضربت أي ضربته و من المفعول بدله و طال الاسم بصلته فحذف الهاء لذلك و ليس المبتدأ بنيف و لا فضلة فيحذف تخفيفا لا سيما و هو عائد الموصول و على أن هذا قد جاء نحوه عنهم حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع ما أنا بالذي قائل لك شيئا و سوءا أي بالذي هو قائل لك و قال لم أر مثل الفتيان في غير الأيام ينسون ما عواقبها أي ينسون الذي هو عواقبها و يجوز أن يكون ينسون معلقة كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون فيكون ما استفهاما و عواقبها خبر ما كقولك قد علمت من أبوك و على الوجه الأول حمله أصحابنا و قال الزجاج تماما منصوب بأنه مفعول له و كذلك تفصيلا و ما بعده
مجمع البيان ج : 4 ص : 595
و المعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام و للتفصيل أنزلناه في موضع رفع بأنه صفة كتاب .

المعنى

« ثم آتينا موسى الكتاب » قيل في معنى ثم آتينا موسى الكتاب مع أن كتاب موسى قبل القرآن و ثم يقتضي التراخي وجوه ( أحدها ) أن فيه حذفا و تقديره ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب بدلالة قوله قل تعالوا ( و ثانيها ) أن تقديره ثم أتل عليكم آتينا موسى الكتاب و يكون عطفا على معنى التلاوة و المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى عن الزجاج ( و ثالثها ) أنه عطف خبر على خبر لا عطف معنى على معنى و تقديره ثم أخبركم أنه أعطى موسى الكتاب و الذي قول الشاعر :
و لقد ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده ( و رابعها ) أنه يتصل بقوله في قصة إبراهيم و وهبنا له إسحاق و يعقوب فعد سبحانه نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما أتي موسى من الكتاب و النبوة و هو أيضا من ذريته عن أبي مسلم و استحسنه المغربي « تماما على الذي أحسن » قيل فيه وجوه ( أحدها ) تماما على إحسان موسى فكأنه قال ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة عن الربيع و الفراء ( و ثانيها ) تماما على المحسنين عن مجاهد و قيل إن في قراءة عبد الله تماما على الذي أحسنوا فكأنه قال تماما للنعمة على المحسنين الذين هو أحدهم و النون قد تحذف من الذين كما في البيت :
و إن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد و يجوز أن يكون الذي للجنس و يكون بمعنى من أحسن ( و ثالثها ) أن معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه عن ابن زيد ( و رابعها ) أن معناه تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا عن الحسن و قتادة و قال قتادة تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة ( و خامسها ) أن معناه تماما على الذي أحسن الله سبحانه إلى موسى بالنبوة و غيرها من الكرامة عن الجبائي ( و سادسها ) ما قاله أبو مسلم أنه يتصل بقصة إبراهيم فيكون المعنى تماما للنعمة على إبراهيم و لجزائه على إحسانه في طاعة ربه و ذلك من لسان الصدق الذي سأل الله سبحانه أن يجعله له و لفظة على تقتضي المضاعفة عليه و لو قال تماما و لم يأت بقوله على
مجمع البيان ج : 4 ص : 596
الذي أحسن لدل على نقصانه قبل تكميله « و تفصيلا لكل شيء » أي و بيانا لكل ما يحتاج إليه الخلق « و هدى » أي و دلالة على الحق و الدين يهتدي بها إلى التوحيد و العدل و الشرائع « و رحمة » أي نعمة على سائر المكلفين لما فيه من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الأحكام « لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون » معناه لكي يؤمنوا بجزاء ربهم فسمي الجزاء لقاء الله تفخيما لشأنه مع ما فيه من الإيجاز و الاختصار و قيل معنى اللقاء الرجوع إلى ملكه و سلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا « و هذا كتاب » يعني القرآن وصفه بهذا الوصف لبيان أنه مما ينبغي أن يكتب لأنه أجل الحكم « أنزلناه » يعني أنزله جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأضاف النزول إلى نفسه توسعا « مبارك » و هو من يأتي من قبله الخير الكثير عن الزجاج فالبركة ثبوت الخير بزيادته و نموه و أصله الثبوت و منه براكاء القتال في قوله :
و ما ينجي من الغمرات إلا
براكاء القتال أو الفرار و منه تبارك الله أي تعالى بصفة إثبات لا أول له و لا آخر و هذا تعظيم لا يستحقه غير الله تعالى « فاتبعوه » أي اعتقدوا صحته و اعملوا به و كونوا من أتباعه « و اتقوا » معاصي الله و مخالفته و مخالفة كتابه « لعلكم ترحمون » أي لكي ترحموا و إنما قال و اتقوا لعلكم ترحمون مع أنهم إذا اتقوا رحموا لا محالة لأمرين ( أحدهما ) أنه اتقوا على رجاء الرحمة لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة ( و الثاني ) اتقوا لترحموا أي ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ما عند الله من الرحمة و الثواب .
أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَب عَلى طائفَتَينِ مِن قَبْلِنَا وَ إِن كُنَّا عَن دِرَاستهِمْ لَغَفِلِينَ(156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَب لَكُنَّا أَهْدَى مِنهُمْ فَقَدْ جَاءَكم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكمْ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظلَمُ مِمَّن كَذَّب بِئَايَتِ اللَّهِ وَ صدَف عَنهَا سنَجْزِى الَّذِينَ يَصدِفُونَ عَنْ ءَايَتِنَا سوءَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يَصدِفُونَ(157)

مجمع البيان ج : 4 ص : 597

الإعراب

قال الزجاج أن تقولوا معناه عند البصريين كراهة أن تقولوا و هم لا يجيزون إضمار لا فلا يقولون جئت أن أكرمك أي لأن لا أكرمك و لكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمك على إضمار محبة أن أكرمك أو كراهة أن أكرمك و يكون الحال ينبىء عن الضمير و أو تقولوا نصب تقولوا بأنه معطوف على أن تقولوا أي أو كراهة أن تقولوا و أقول أراد أنه مفعول له على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه و إذا كان حذف المضاف يطرد جوازه مع غير أن فلأن يجوز مع أن أجدر مع طول الكلام بالصلة و قال الكسائي موضع أن تقولوا نصب باتقوا أي اتقوا يا أهل مكة أن تقولوا و « لو أنا » فتحت أن بعد لو مع أنه لا يقع فيه المصدر لأن الفعل مقدر بعد لو فكأنه قيل لو وقع إلينا أنا أنزل الكتاب علينا إلا أن هذا الفعل لا يظهر من أجل طول أن بالصلة و لا يحذف مع المصدر إلا في الشعر قال :
لو غيركم علق الزبير بحبله
أدى الجوار إلى بني العوام .

المعنى

ثم بين سبحانه أنه إنما أنزل القرآن قطعا للمعذرة و إزاحة للعلة فقال « إن تقولوا » أي كراهة أن تقولوا يا أهل مكة أو لئلا تقولوا « إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » أي جماعتين و هم اليهود و النصارى عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدي و إنما خصهما بالذكر لشهرتهما و ظهور أمرهما أي أنزلنا عليكم هذا الكتاب لنقطع حجتكم « و إن كنا عن دراستهم لغافلين » و المعنى إنا كنا غافلين عن تلاوة كتبهم و ما كنا إلا غافلين عن دراستهم و لم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم لأنهم كانوا أهله دوننا و لو أريد منا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم « أو تقولوا » يا أهل مكة « لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم » في المبادرة إلى قبوله و التمسك به لأنا أجود أذهانا و أثبت معرفة منهم فإن العرب كانوا يدلون بجودة الفهم و دكاء الحدس و حدة الذهن و قد يكون العارف بالشيء أهدى إليه من عارف آخر بأن يعرفه من وجوه لا يعرفها هو و بأن يكون ما يعرفه به أثبت مما يعرفه به الآخر ثم قال تعالى « فقد جاءكم بينة من ربكم » أي حجة واضحة و دلالة ظاهرة و هو القرآن « و هدى » يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم و الثواب العظيم « و رحمة » أي نعمة لمن اتبعه و عمل به « فمن أظلم » لنفسه « ممن كذب ب آيات الله و صدف عنها » أي أعرض عنها غير مستدل بها و لا مفكر فيها عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قتادة « سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب » أي شدة العذاب و هو ما أعده الله للكفار نعوذ بالله منه « بما كانوا يصدفون » أي جزاء بما كانوا يصدفون عن القرآن و من أتى به و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)
مجمع البيان ج : 4 ص : 598
و في هذا دلالة على أن إنزال القرآن لطف للمكلفين و أنه لو لم ينزله لكان لهم الحجة و إذا كان في منع اللطف عذر و حجة للمكلف فمنع القدرة و خلق الكفر أولى بذلك فإن قيل فهل للذين ماتوا من قبل من خوطب بقوله « إن تقولوا » حجة و عذر قيل له إن عذر أولئك كان مقطوعا بالعقل و بما تقدم من الأخبار و الكتب و هؤلاء أيضا لو لم يأتهم الكتاب و الرسول لم يكن لهم حجة لكن الله تعالى لما علم أن المصلحة تعلقت بذلك فعله و لو علم مثل ذلك فيمن تقدم لأنزل عليهم مثل ما أنزل على هؤلاء و إذا لم ينزل عليهم علمنا أن ذلك لم يكن من مصالحهم .
هَلْ يَنظرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَئكَةُ أَوْ يَأْتىَ رَبُّك أَوْ يَأْتىَ بَعْض ءَايَتِ رَبِّك يَوْمَ يَأْتى بَعْض ءَايَتِ رَبِّك لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَنهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَت مِن قَبْلُ أَوْ كَسبَت فى إِيمَنهَا خَيراً قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف يأتيهم بالياء هاهنا و في النحل و قرأ الباقون « تأتيهم » بالتاء و قد مضى الكلام في أمثال ذلك .

المعنى

ثم توعدهم سبحانه فقال « هل ينظرون » معناه ما ينتظرون يعني هؤلاء ذكرهم و قال أبو علي الجبائي معناه هل تنتظر أنت يا محمد و أصحابك إلا هذا و هم و إن انتظروا غيره فذلك لا يعتد به من حيث ما ينتظرونه من هذه الأشياء المذكورة لعظم شأنها فهو مثل قوله و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى و كما يقال تكلم فلان و لم يتكلم إذا تكلم بما لا يعتد به « إلا أن تأتيهم الملائكة » لقبض أرواحهم عن مجاهد و قتادة و السدي و قيل لإنزال العذاب و الخسف بهم و قيل لعذاب القبر « أو يأتي ربك » فيه أقوال ( أحدها ) أو يأتي أمر ربك بالعذاب فحذف المضاف و مثله و جاء ربك عن الحسن و جاز هذا الحذف كما جاز في قوله إن الذين يؤذون الله أي أولياء الله و قال ابن عباس يأتي أمر ربك فيهم بالقتل ( و ثانيها ) أو يأتي ربك بجلائل آياته فيكون حذف الجار فوصل الفعل ثم حذف المفعول لدلالة الكلام عليه و هو قيام الدليل في العقل على أن الله سبحانه لا يجوز عليه الانتقال و لا يختلف عليه الحل
مجمع البيان ج : 4 ص : 599
( و ثالثها ) أن المعنى أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو آجل أو بالقيامة و هذا كقولنا قد نزل فلان ببلد كذا و قد أتاهم فلان أي قد أوقع بهم عن الزجاج « أو يأتي بعض آيات ربك » و ذلك نحو خروج الدابة أو طلوع الشمس من مغربها عن مجاهد و قتادة و السدي و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها و الدابة و الدجال و الدخان و خويصة أحدكم أي موته و أمر العامة يعني القيامة « يوم يأتي بعض آيات ربك » التي تضطرهم إلى المعرفة و يزول التكليف عندها « لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » لأنه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة و يضطر الله تعالى كل أحد إلى معرفته و معرفة المحسنات و المقبحات ضرورة و يعرفه أنه إن حاول القبيح أو ترك الحسن حيل بينه و بينه فيصير ملحا إلى فعل الحسن و ترك القبيح « أو كسبت في إيمانها خيرا » عطف على قوله « آمنت » و قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أنه إنما قال ذلك على جهة التغليب لأن الأكثر مما ينتفع بإيمانه حينئذ من كسب في إيمانه خيرا ( و ثانيها ) أنه لا ينفع أحدا فعل الإيمان و لا فعل خير فيه في تلك الحال لأنها حال زوال التكليف و إنما ينفع ذلك قبل تلك الحال عن السدي فيكون معناه لا ينفعه إيمانه حينئذ و إن كسب في إيمانه خيرا أي طاعة و برا لأن الإيمان و اكتساب الخير إنما ينفعان من قبل ( و ثالثها ) أنه الإبهام في أحد الأمرين فالمعنى أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير فإنها إذا آمنت قبل نفعها إيمانها و كذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة نفعتها أيضا يريد أنه لا ينفع حينئذ إيمان من آمن من الكفار و لا طاعة من أطاع من المؤمنين و من آمن من قبل نفعه إيمانه بانفراده و كذلك من أطاع من المؤمنين نفعته طاعته أيضا و هذا أقوى الأقوال و أوضحها « قل انتظروا » إتيان الملائكة و وقوع هذه الآيات « إنا منتظرون » بكم وقوعها و في هذه الآية حث على المسارعة إلى الإيمان و الطاعة قبل الحال التي لا يقبل فيها التوبة و فيها أيضا حجة على من يقول إن الإيمان اسم لأداء الواجبات و للطاعات فإنه سبحانه قد صرح فيها بأن اكتساب الخيرات غير الإيمان المجرد لعطفه سبحانه كسب الخيرات و هي الطاعات في الإيمان على فعل الإيمان فكأنه قال لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمانها ذلك اليوم و كذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا في إيمانها قبل ذلك كسبها الخيرات ذلك اليوم و قد عكس الحاكم أبو سعيد في تفسيره الأمر فيه فقال هو خلاف ما يقوله المرجئة لأنه يدل على أن الإيمان بمجرده لا ينفع حتى يكون معه اكتساب الخيرات و ليت شعري كيف تدل الآية على ما قاله و كيف حكم لنفسه على خصمه فيما الحكم فيه لخصمه عليه و هل هذا إلا عدول
مجمع البيان ج : 4 ص : 600
عن سنن العدل و الإنصاف .
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَّست مِنهُمْ فى شىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بمَا كانُوا يَفْعَلُونَ(159)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي هاهنا و في الروم فارقوا بالألف و هو المروي عن علي (عليه السلام) و الباقون « فرقوا » بالتشديد .

الحجة

قال أبو علي من قرأ فرقوا فتقديره يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض كما قال أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض و قال و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و من قرأ فارقوا دينهم فالمعنى باينوه و خرجوا عنه و هو يؤول إلى معنى فرقوا أ لا ترى أنهم لما آمنوا ببعضه و كفروا ببعضه فارقوه كله فخرجوا عنه و لم يتبعوه .

اللغة

الشيع الفرق التي يمالىء بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره و قيل إن أصله من الظهور يقال شاع الخبر يشيع شيوعا ظهر و شيعت النار إذا ألقيت عليها الحطب فكأنك تظهرها و قال الزجاج أصله الاتباع يقال شاعكم السلام و أشاعكم السلام أي تبعكم السلام قال :
ألا يا نخلة من ذات عرق
برود الظل شاعكم السلام و يقول آتيك غدا أو شيعة أي أو اليوم الذي تتبعه فمعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا قال الكميت :
و ما لي إلا آل أحمد شيعة
و ما لي إلا مشعب الحق مشعب .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما قدمه من الوعيد فقال « إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا » اختلف في المعنيين بهذه الآية على أقوال ( أحدها ) أنهم الكفار و أصناف المشركين عن السدي و الحسن و نسختها آية السيف ( و ثانيها ) أنهم اليهود و النصارى لأنهم يكفر بعضهم بعضا عن قتادة ( و ثالثها ) أنهم أهل الضلالة و أصحاب الشبهات و البدع من هذه
مجمع البيان ج : 4 ص : 601
الأمة رواه أبو هريرة و عائشة مرفوعا و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) جعلوا دين الله أديانا لإكفار بعضهم بعضا و صاروا أحزابا و فرقا « لست منهم في شيء » هذا خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إعلام له أنه ليس منهم في شيء و أنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة و ليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معنى من المعاني الباطلة و إن افترقوا في غيره فليس منهم في شيء لأنه بريء من جميعه و قيل إن معناه لست من مخالطتهم في شيء و إنما هو نهي النبي من مقاربتهم و أمر له بمباعدتهم عن قتادة و قيل معناه لست من قتالهم في شيء ثم نسختها آية القتال عن الكلبي و الحسن « إنما أمرهم إلى الله » في مجازاتهم على سوء أفعالهم و قيل أمرهم في الإنظار و الاستئصال إلى الله و قيل الحكم بينهم في اختلافهم إلى الله « ثم ينبئهم » أي يخبرهم و يجازيهم « بما كانوا يفعلون » يوم القيامة فيظهر المحق من المبطل .
مَن جَاءَ بِالحَْسنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمْثَالِهَا وَ مَن جَاءَ بِالسيِّئَةِ فَلا يجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ(160)

القراءة

قرأ يعقوب عشر منون أمثالها برفع اللام و هو قراءة الحسن و سعيد بن جبير و الباقون « عشر » مضاف « أمثالها » مجرور .

الحجة

من قرأ عشر أمثالها فالمعنى له عشر حسنات أمثالها فيكون أمثالها صفة للموصوف الذي أضيف إليه عشر و من قرأ عشر أمثالها فيكون أمثالها صفة لعشر هذا قول الزجاج و حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه ضعيف عند المحققين و أكثر ما يأتي ذلك في الشعر و الأولى أن يكون أمثالها غير صفة في قوله « عشر أمثالها » بل يكون محمولا على المعنى فأنث الأمثال لما كان في معنى الحسنات و حكي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها قال فقلت له أ تقول جاءته كتابي قال نعم أ ليس بصحيفة .

اللغة

الحسنة اسم للأعلى في الحسن و دخول الهاء للمبالغة قال علي بن عيسى دخول الهاء يدل على أنها طاعة أما واجب أو ندب و ليس كل حسن كذلك لأن في الحسن ما هو مباح لا يستحق عليه مدح و لا ثواب و أقوى من ذلك أن يقال دخول لام التعريف فيها يدل على أنها المأمور بها لأنها لام العهد و الله سبحانه لا يأمر بالمباح .

مجمع البيان ج : 4 ص : 602

المعنى

لما ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي عقبه بذكر الوعد و تضعيف الجزاء في الطاعات فقال « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » أي من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة فله عشر أمثالها من الثواب « و من جاء بالسيئة » أي بالخصلة الواحدة من خصال الشر « فلا يجزي إلا مثلها » و ذلك من عظيم فضل الله تعالى و جزيل إنعامه على عباده حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق بل يزيد عليه و ربما يعفو عن ذنوب المؤمن منا منه عليه و تفضلا و إن عاقب على قدر الاستحقاق عدلا و قيل المراد بالحسنة التوحيد و بالسيئة الشرك عن الحسن و أكثر المفسرين و على هذا فإن أصل الحسنات التوحيد و أسوء السيئات الكفر « و هم لا يظلمون » بالزيادة على مقدار ما استحقوا من العقاب ثم اختلف الناس في أن هذه الحسنات العشر التي وعدها الله من جاء بالحسنة هل يكون كلها ثوابا أم لا فقال بعضهم لا يكون كلها ثوابا و إنما يكون الثواب منها الواحدة و التسع الزائدة تكون تفضلا و يؤيده قوله « ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله » فيكون على هذا معنى عشر أمثالها في النعيم و اللذة لا في عظيم المنزلة و يجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في الكثرة و اللذة و أن يميز منه الثواب بمقارنة التعظيم و الإجلال اللذين لولاهما لما حسن التكليف و هذا هو الصحيح و قال قوم لا يجوز أن يساوي الثواب و التفضل على وجه فيكون على قولهم كل ذلك ثوابا قال الزجاج إن المجازاة من الله عز و جل على الحسنة بدخول الجنة شيء لا يبلغ وصف مقداره فإذا قال عشر أمثالها و قال كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و قال فيضاعفه له أضعافا كثيرة فالمعنى في هذا كله أن جزاء الله سبحانه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس فيضاعف الله سبحانه ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة و قد قيل أيضا في ذلك أن المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها و المستحق لا يعلم مقداره إلا الله تعالى و ليس المراد أمثال ذلك في العدد و هذا كما يقول الإنسان لأجيره لك من الأجر مثل ما عملت أي مثل ما تستحقه بعملك و قد وردت الرواية عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال حدثني الصادق المصدق إن الله تعالى قال الحسنة عشر أو أزيد و السيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره .

مجمع البيان ج : 4 ص : 603
قُلْ إِنَّنى هَدَاخ رَبى إِلى صرَط مُّستَقِيم دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كانَ مِنَ الْمُشرِكِينَ(161) قُلْ إِنَّ صلاتى وَ نُسكِى وَ محْيَاى وَ مَمَاتى للَّهِ رَب الْعَلَمِينَ(162) لا شرِيك لَهُ وَ بِذَلِك أُمِرْت وَ أَنَا أَوَّلُ المُْسلِمِينَ(163)

القراءة

قرأ ابن عامر و أهل الكوفة « قيما » مكسورة القاف خفيفة الياء و الباقون قيما مفتوحة القاف مشددة الياء و قرأ أهل المدينة محياي ساكنة الياء و مماتي بفتحها و الباقون « محياي » بفتح الياء و « مماتي » ساكنة الياء .

الحجة

من قرأ قيما فالقيم هو المستقيم فيكون وصفا للدين كما أن التقدير في قوله دين القيمة دين الملة القيمة لأن الملة هي مثل الدين و من قرأ قيما فإنه مصدر كالصغر و الكبر إلا أنه لم يصحح كما صحح حول و عوض و كان القياس و لكنه شذ كما شذ نحو ثيرة في جمع ثور و جياد في جمع جواد و كان القياس الواو و قال الزجاج إنما اعتل قيم لأنه من قام فلما اعتل قام اعتل قيم لأنه جرى عليه و أما حول فإنه جار على غير فعل و أما إسكان الياء في محياي فإنه شاذ عن القياس و الاستعمال فإن الساكنين لا يلتقيان على هذا الحد و إذا كان ما قبلها متحركا نحو و مماتي فالفتح جائز و الإسكان جائز قال أبو علي و الوجه في محياي بسكون الياء مع شذوذه ما حكى عن بعض البغداديين أنه سمع التقت حلقتا البطان بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة و مثل هذا ما جوزه يونس في قوله أضربان زيد و أضربنان زيدا و سيبويه ينكر هذا من قول يونس و قال علي بن عيسى و لو وصله على نية الوقف جاز كما فبهداهم اقتده فإنما هذه الهاء في الوقف كما تسكن تلك الياء في الوقف .

اللغة

الملة الشريعة مأخوذة من الإملاء كأنه ما يأتي به الشرع و يورده الرسول من الشرائع المتجددة فيمله على أمته ليكتب أو يحفظ فأما التوحيد و العدل فواجبان بالعقل و لا يكون فيهما اختلاف و الشرائع تختلف و لهذا يجوز أن يقال ديني دين الملائكة و لا يقال ملتي ملة الملائكة فكل ملة دين و ليس كل دين ملة و النسك العبادة و رجل ناسك و منه النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك قال الزجاج فالنسك كل ما تقرب به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه أمر الذبح و قول الناس فلان ناسك ليس يراد به ذبح إنما يراد به أنه يؤدي المناسك أي يؤدي ما افترض عليه مما يتقرب به إلى الله .

الإعراب

دينا قال أبو علي يحتمل نصبه ثلاثة أضرب أحدها أنه لما قال هداني ربي إلى صراط مستقيم استغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره ثانيا فقال دينا قيما كما قال اهدنا الصراط المستقيم و إن شئت نصبته على اعرفوا
مجمع البيان ج : 4 ص : 604
لأن هدايتهم إليه تعريف لهم فحمله على اعرفوا دينا قيما و إن شئت حملته على الاتباع كأنه قال اتبعوا دينا قيما و الزموه كما قال اتبعوا ما أنزل إليكم قال الزجاج ملة إبراهيم بدل من دينا قيما و حنيفا منصوب على الحال من إبراهيم و المعنى هداني و عرفني ملة إبراهيم في حال حنيفية .

المعنى

ثم أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار و للخلق جميعا « إنني هداني » أي دلني و أرشدني « ربي إلى صراط مستقيم » و قيل أراد لطف لي ربي في الاهتداء و وفقني لذلك و قد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد « دينا قيما » أي مستقيما على نهاية الاستقامة و قيل دائما لا ينسخ « ملة إبراهيم » و إنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها و نفوس كل أهل الأديان و لانتساب العرب إليه و اتفاقهم على أنه كان على الحق « حنيفا » أي مخلصا في العبادة لله عن الحسن و قيل مائلا إلى الإسلام ميلا لازما لا رجوع معه من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم من خلقة عن الزجاج و قيل مستقيما و إنما جاء أحنف على التفاؤل عن الجبائي « و ما كان من المشركين » يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله و ينهى عن عبادة الأصنام « قل إن صلاتي » قد فسرنا معنى الصلاة فيما تقدم « و نسكي » أي ذبيحتي للحج و العمرة عن سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة و السدي و قيل نسكي ديني عن الحسن و قيل عبادتي عن الجبائي و الزجاج و إنما ضم الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد و العدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير و فيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر و فيها الركوع و السجود و فيها الخضوع لله تعالى و التسبيح الذي هو التنزيه له « و محياي و مماتي » أي حياتي و موتي « لله رب العالمين » و إنما جمع بين صلاته و حياته و أحدهما من فعله و الآخر من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله و قيل معناه صلاتي و نسكي له عبادة و حياتي و مماتي له ملكا و قدرة عن القاضي و قيل إن عبادتي له لأنها بهدايته و لطفه و محياي و مماتي له لأنه بتدبيره و خلقه و قيل معنى قوله « و محياي و مماتي لله » أن الأعمال الصالحة التي تتعلق بالحياة في فنون الطاعات و ما يتعلق بالممات من الوصية و الختم بالخيرات لله و فيه تنبيه على أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان حياته لشهوته و مماته لورثته « لا شريك له » أي لا ثاني له في الإلهية و قيل لا شريك له في العبادة و في الإحياء و الإماتة « و بذلك أمرت » أي و بهذا أمرني ربي « و أنا أول المسلمين » من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام عن الحسن و قتادة و فيه بيان
مجمع البيان ج : 4 ص : 605
فضل الإسلام و بيان وجوب اتباعه على الإسلام إذ كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) أول من سارع إليه و لأنه إنما أمر بذلك ليتأسى به و يقتدي بفعله .
قُلْ أَ غَيرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَ هُوَ رَب كلِّ شىْء وَ لا تَكْسِب كلُّ نَفْس إِلا عَلَيهَا وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكم مَّرْجِعُكمْ فَيُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تخْتَلِفُونَ(164) وَ هُوَ الَّذِى جَعَلَكمْ خَلَئف الأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَت لِّيَبْلُوَكُمْ فى مَا ءَاتَاشْ إِنَّ رَبَّك سرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ(165)

اللغة

الرب إذا أطلق أفاد المالك بتصريف الشيء بأتم التصريف و إذا أضيف فقيل رب الدار و رب الضيعة فمعناه المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد و أصله التربية و هي تنشئة الشيء حالا بعد حال حتى يصير إلى الكمال و الفرق بين الرب و السيد أن السيد المالك لتدبير السواد الأعظم و الرب المالك لتدبير الشيء حتى يصير إلى الكمال مع إجرائه على تلك الحال و يقال وزر يزر وزرا و وزر يوزر فهو موزور و أصله من الوزر الذي هو الملجأ فحال الموزور كحال الملتجىء إلى غير ملجأ و منه الوزير لأن الملك يلتجىء إليه في الأمور و قيل إن أصله الثقل و منه قوله و وضعنا عنك وزرك و كلاهما محتمل و واحد الخلائف خليفة مثل صحيفة و صحائف و سفينة و سفائن و خلف فلان فلانا يخلفه فهو خليفته إذا جاء بعده .

الإعراب

في نصب درجات ثلاثة أقوال ( أحدها ) أن يقع موقع المصدر فكأنه قال رفعة بعد رفعة ( و الثاني ) أنه إلى درجات فحذفت إلى كما حذفته في قولك دخلت البيت و تقديره إلى البيت ( و الثالث ) أن يكون مفعولا من قولك ارتفع درجة و رفعته درجة مثل اكتسى ثوبا و كسوته ثوبا .

المعنى

لما أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ببيان الإخلاص في الدين عقبه بأمره أن يبين لهم بطلان أفعال المشركين فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار على وجه الإنكار « أ غير الله أبغي
مجمع البيان ج : 4 ص : 606
ربا و هو رب كل شيء » و تقديره أ يجوز أن أطلب غير الله ربا و أطلب الفوز بعبادته و هو مربوب مثلي و أترك عبادة من خلقني و رباني و هو مالك كل شيء و خالقه و مدبره و ليس بمربوب أم هذا قبيح في العقول و هو لازم لكم على عبادتكم الأوثان « و لا تكسب كل نفس إلا عليها » أي لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة أو معصية إلا عليها فعليها عقاب معصيتها و لها ثواب طاعتها و وجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك لأنه ليس بعذر لي في اكتساب الإثم اكتساب غيري له « و » لأنه « لا تزر وازرة وزر أخرى » أي لا يحمل أحد ذنب غيره و معناه و لا يجازى أحد بذنب غيره و قال الزجاج معناه لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم أخرى و قيل إن الكفار قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اتبعنا و علينا وزرك أن كان خطأ فأنزل الله هذا و فيه دلالة على فساد قول المجبرة إن الله تعالى يعذب الطفل بكفر أبيه « ثم إلى ربكم مرجعكم » أي م آلكم و مصيركم « فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون » أي يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه فيظهر المحسن من المسيء « و هو الذي جعلكم خلائف الأرض » أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض و معناه أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله كلما مضى قرن خلفهم قرن يجري ذلك على انتظام و اتساق حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلفه عصر و هذا لا يكون إلا من عالم مدبر عن الحسن و السدي و جماعة و قيل المراد بذلك أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) جعلهم الله تعالى خلفاء لسائر الأمم و نصرهم على سائر الخلق « و رفع بعضكم فوق بعض درجات » في الرزق عن السدي و قيل في الصورة و العقل و العمر و المال و القوة و هذا أولى لأن الأول يدخل فيه و وجه الحكمة في ذلك مع أنه سبحانه خلقهم ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم ما فيه من الألطاف الداعية إلى الواجبات و الصارفة عن المقبحات لأن كل من كان غنيا في ماله شريفا في نسبه ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكه رغبة في امتثاله و من كان على ضد ذلك ربما دعاه إلى طاعته رهبة من أمثاله و رجاء أن ينقله عن هذه الحال إلى حال جليلة يغتبط عليها « ليبلوكم فيما آتاكم » أي ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل و انتفاء من الظلم و معناه لينظر الغني إلى الفقير فيشكر و ينظر الفقير إلى الغني فيصبر و يفكر العاقل في الأدلة و يعمل بما يعلم « أن ربك سريع العقاب » إنما وصف نفسه بذلك مع أن عقابه في الآخرة من حيث إن كل ما هو آت قريب فهو إذا سريع و قيل معناه أنه سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة و قيل معناه أنه قادر على تعجيل العقاب فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا
 

<<        الفهرس        >>