جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 4 ص : 607
« و إنه لغفور رحيم » قابل سبحانه بين العقاب و الغفران و لم يقابل بالثواب لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان و قيل أنه سبحانه افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما و ختمها بالمغفرة و الرحمة ليحمد على ذلك .

مجمع البيان ج : 4 ص : 608
( 7 ) سورة الأعراف مكية و آياتها ست و مائتان ( 206 )
هي مكية و قد روي عن قتادة و الضحاك أنها مكية غير قوله « و اسألهم عن القرية » إلى قوله « بما كانوا يفسقون » فإنها نزلت بالمدينة

عدد آيها

مائتان و ست آيات حجازي كوفي و خمس بصري شامي .

اختلافها

خمس آيات « المص » و « بدأكم تعودون » كوفي « مخلصين له الدين » بصري شامي « ضعفا من النار » و « الحسنى على بني إسرائيل » حجازي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه و بين إبليس سترا و كان آدم شفيعا له يوم القيامة و روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن قرأها في كل يوم جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما إن فيها آيا محكمة فلا تدعوا قراءتها و القيام بها فإنها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربه .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين و الحكمة فقال .

مجمع البيان ج : 4 ص : 609
سورة الأعراف
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص(1) كِتَبٌ أُنزِلَ إِلَيْك فَلا يَكُن فى صدْرِك حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(3)

القراءة

قرأ ابن عامر يتذكرون بياء و تاء و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر « تذكرون » خفيفة الذال و قرأ الباقون تذكرون بتشديد الذال و الكاف .

الحجة

قال أبو علي من قرأ تذكرون مشددة أراد تتذكرون فأدغم التاء في الذال و إدغامها فيها حسن لأن التاء مهموسة و الذال مجهورة و المجهور أزيد صوتا و أقوى من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد و لا يسوغ إدغام الأزيد في الأنقص ما في قوله « ما تذكرون » موصولة بالفعل و هي معه منزلة المصدر و المعنى قليلا تذكركم و لا ذكر في الصلة يعود إليها كما لا يكون في صلة أن ذكر و من قرأ تذكرون فإنه حذف التاء التي أدغمها من شدد الذال و ذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة و يقوي ذلك قولهم اسطاع يسطيع فحذفوا أحد الثلاثة المتقاربة و من قرأ يتذكرون بياء و تاء فوجهه أنه مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي قليلا ما يتذكر هؤلاء .

اللغة

قد تقدم ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة و ذكرنا الأقوال في معانيها و إعرابها فلا معنى لإعادتها و بينا أن حروف الهجاء توصل على نية الوقف فرقا بينها و بين ما يوصل للمعاني فعلى هذا متى سميت رجلا بالمص وجبت الحكاية و إن سميته بصاد أو قاف لم يجب ذلك لأن صاد و قاف لهما نظير في الأسماء المفردة مثل باب و نار و ليس كذلك « المص » لأنه بمنزلة الجملة إذ ليس له نظير في المفرد و إنما عد الكوفيون « المص » آية و لم يعدوا صاد لأن « المص » بمنزلة الجملة مع أن آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف فلما اجتمع هذان السببان و كل واحد منهما يقتضي عده عدوه و لم يعدوا المر لأن آخره لا يشبه المردف و لم يعدوا صاد لأنه بمنزلة اسم مفرد و كذلك قاف و نون و من قال إن هذه الحروف في أوائل السور أسماء للسور فعلى قوله إنما سميت بها و لم تسم بالأسماء المنقولة لأنها تتضمن معاني أخر مضافة إلى التسمية و هو أنها فاتحة لما هو منها و أنها فاصلة بينها و بين ما قبلها و لأنه يأتي من التأليف بعدها ما هو معجز مع أنه تأليف كتأليفها فهذه المعاني من أسرارها و الذكرى مصدر ذكر يذكر تذكيرا فهي اسم للتذكير و فيه مبالغة و مثله الرجعى .

الإعراب

قال الزجاج أجمع النحويون على أن قوله « كتاب أنزل إليك » مرفوع بغير
مجمع البيان ج : 4 ص : 610
هذه الحروف فالمعنى هذا كتاب أنزل إليك و من قال إن كتاب يرتفع بالمص و تقديره المص حروف كتاب يلزمه إضمار شيئين فيكون المعنى المص بعض حروف كتاب أنزل إليك فيكون قد أضمر المضاف و ما أضيف إليه و هذا ليس بجائز فإن قال قائل قد يقول أ ب ت ث ثمانية و عشرون حرفا و إنما ذكرت أربعة فمن أين جاز ذلك قيل قد صار اسم هذه الحروف كلها أ ب ت ث كما أنك تقول الحمد سبع آيات فالحمد اسم لجملة السورة و ليس اسم الكتاب الم و لا اسم القرآن طسم و هذا فرق بين قال و الذي اخترناه في تفسير المص قول ابن عباس أن المص أنا الله أعلم و أفصل فيكون يرتفع بعض هذه الحروف ببعض و الجملة لا موضع لها و قوله « فلا يكن في صدرك حرج » دخول الفاء فيه يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن تكون عاطفة جملة على جملة و تقديره هذا كتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله في صدرك حرج و الآخر أن يكون جوابا و تقديره إذا كان أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه فيكون محمولا على معنى إذا ، و ذكرى قال الزجاج يصلح أن يكون في موضع نصب و رفع و خفض فالنصب على قوله « أنزل إليك » لتنذر به و لتذكر به ذكري لأن في الإنذار معنى التذكير و هذا كما يقال جئتك للإحسان و شوقا إليك فيكون مفعولا له و أما الرفع فعلى تقدير و هو ذكرى و أما الخفض فعلى معنى لتنذر فإن معنى لتنذر لأن تنذر فيكون تقديره للإنذار و للذكرى قال علي بن عيسى و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحمل الجر على التأويل كما لا يجوز مررت به و زيد .

المعنى

« المص » مضى تفسيره و ما قيل فيه « كتاب أنزل إليك » أي هذا الذي أوحيته إليك كتاب أنزل إليك أي أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى « فلا يكن في صدرك حرج منه » ذكر في معناه أقوال ( أحدها ) ما ذكره الحسن أن معنى الحرج الضيق فمعناه و لا يضيقن صدرك لتشعب الفكر خوفا من أن لا تقوم بتبليغ ما أنزل إليك حق القيام فليس عليك أكثر من الإنذار ( و ثانيها ) أن معنى الحرج الشك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدي فمعناه فلا يكن في صدرك شك فيما يلزمك من القيام بحقه فإنما أنزل إليك لتنذر به ( و ثالثها ) إن معناه فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك و يجبهوك بالسوء فيما أنزل إليك كما قال سبحانه فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عن الفراء و قد روي في الخبر أن الله تعالى لما نزل القرآن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إني أخشى أن
مجمع البيان ج : 4 ص : 611
يكذبني الناس و يثلغوا رأسي فيتركوه كالخبزة فأزال الله الخوف عنه بهذه الآية و قوله « لتنذر به » أي بالقرآن قال الفراء و الزجاج و أكثر العلماء أنه على التقديم و التأخير و تقديره كتاب أنزل إليك لتنذر به « و ذكرى للمؤمنين » فلا يكن في صدرك حرج منه و قال آخرون هو متصل بقوله « فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به » أي كن على انشراح صدر بالإنذار و معناه التخوف بوعده و وعيده و أمثاله و أمره و نهيه و ليذكروا بما فيه و إنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال « اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم » و يحتمل أن يكون المراد قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم لأنه قال قبل لتنذر به و الاتباع تصرف الثاني بتصرف الأول و تدبره بتدبيره فالأول إمام و الثاني مؤتم و وجوب الاتباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب و الندب و المباح لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه « و لا تتبعوا من دونه أولياء » أي و لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان و الأوثان فأمر سبحانه باتباع القرآن و نهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه « قليلا ما تذكرون » أي قليلا يا معشر المشركين تذكركم و اتعاظكم و هذا استبطاء في التذكر و خرج مخرج الخبر و المراد به الأمر فمعناه تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم و ما أوجبه الله عليكم و معنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شيء مثل التفقه و التعلم .
وَ كَم مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَهَا فَجَاءَهَا بَأْسنَا بَيَتاً أَوْ هُمْ قَائلُونَ(4) فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسنَا إِلا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظلِمِينَ(5)

الإعراب

كم لفظة موضوعة للتكثير و رب للتقليل و إنما كان كذلك لأن رب حرف و كم اسم و التقليل ضرب من النفي و كم يدخل في الخبر بمعنى التكثير فأما في الاستفهام فلا لأن الاستفهام موكول إلى بيان المجيب و إنما دخلها التكثير لأن استبهام العدد عن أن يظهر أو يضبط إنما يكون لكثرته في غالب الأمر و كم مبهمة قال الفرزدق :
مجمع البيان ج : 4 ص : 612

كم عمة لك يا جرير و خالة
فدعاء قد حلبت علي عشاري فدل بكم على كثرة العمات و الخالات و موضع كم في الآية رفع بالابتداء و خبرها أهلكناها و لو جعلتها في موضع نصب جاز كما تقول في قوله سبحانه « إنا كل شيء خلقناه بقدر » و الأول أجود و قيل في دخول الفاء في قوله « فجاءها بأسنا بياتا » مع أن الفاء للتعقيب أقوال ( أحدها ) أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا ( و الثاني ) أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا ( و الثالث ) أنه مثل زرتني فأكرمتني فإن نفس الإكرام هي الزيارة قال علي بن عيسى و ليس هذا مثل ذلك لأن هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة ثم الإكرام بها ( و الرابع ) أهلكناها فصح أنه جاءها بأسنا و قال الفراء إن الفاء هاهنا بمعنى الواو و رد عليه علي بن عيسى بأنه نقل حرف عن معناه بغير دليل و ذلك لا يجوز و قوله « أو هم قائلون » قال الفراء واو الحال مقدرة فيه و تقديره أو و هم قائلون و إنما حذفت استخفافا قال الزجاج و هذا لا يحتاج إلى ضمير الواو و لو قلت جاءني زيد راجلا أو فهو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى واو لأن الذكر قد عاد إلى الأول و معنى بياتا أي ليلا يقال بات بياتا حسنا و بيتة حسنة و المصدر في الأصل بات بيتا و إنما سمي البيت بيتا لأنه يصلح للمبيت فمعنى أو هم قائلون أي أو جاءهم بأسنا نهارا في وقت القائلة فأو دخلت هاهنا على جهة تصرف الشيء و وقوعه و أما مرة كذا فهي في الخبر هاهنا بمنزلة أو في الإباحة إذا قلت جالس الحسن و ابن سيرين أي كل واحد منهما أهل أن يجالس و أو هاهنا أحسن من الواو لأن الواو يتضمن اجتماع الشيئين لو قلت ضربت القوم قياما و قعودا لأوجبت الواو أنك ضربتهم و هم على هاتين الحالتين و لو قلت ضربتهم قياما أو ضربتهم قعودا و لم تكن شاكا فإنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال و مرة على هذه الحال و أقول أن الأولى أن يكون بياتا مصدرا وضع موضع الحال فيكون بمعنى بائتين أو قائلين فيكون حالا عن الهاء و الميم في جاءهم و موضع أن قالوا الاختيار أن يكون رفعا و أن يكون دعواهم في موضع نصب كقوله و ما كان جواب قومه إلا أن قالوا و يجوز أن يكون في موضع نصب و يكون الدعوى في موضع رفع إلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع فالأكثر في اللفظ فما كانت دعواهم كذا لأن الدعوى
مجمع البيان ج : 4 ص : 613
مؤنثة و هي اسم لما تدعيه و تصلح أن تكون بمعنى الدعاء حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين و أنشد :
ولت و دعواها كثير صخبه ) أي دعاؤها .

المعنى

لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين باتباع القرآن و التحذير من مخالفته و التذكير عقب ذلك تذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب و تحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك فقال « و كم من قرية » أي من أهل قرية فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه « أهلكناها » بعذاب الاستئصال « فجاءها بأسنا » أي عذابنا « بياتا » بالليل « أو هم قائلون » أي في وقت القيلولة و هي نصف النهار و أصله الراحة و منه الإقالة في البيع لأنه الإراحة منه بالإعفاء من عقدة و الأخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة فلذلك خص الوقتين بالذكر « فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا » أي لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم و كفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا « إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين » يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم و إقرارهم به و هذا القول كان منهم عند معاينة البأس و التيقن بأنه ينزل بهم و يجوز أن يكونوا قالوه حين لابسهم طرف منه و لم يهلكوا بعد و في هذا دلالة على أن الاعتراف و التوبة عند معاينة البأس لا ينفع .
فَلَنَسئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسئَلَنَّ الْمُرْسلِينَ(6) فَلَنَقُصنَّ عَلَيهِم بِعِلْم وَ مَا كُنَّا غَائبِينَ(7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئذ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوَزِينُهُ فَأُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) وَ مَنْ خَفَّت مَوَزِينُهُ فَأُولَئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُم بِمَا كانُوا بِئَايَتِنَا يَظلِمُونَ(9)

اللغة

السؤال طلب الجواب بأدائه في الكلام كما أن الاستخبار طلب الخبر بأدائه في الكلام و القصص ما يتلو بعضه بعضا و منه المقص لأن قطعه يتلو بعضه بعضا و منه القصة من الشعر و القصة من الكتاب و منه القصاص لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق و منه المقاصة في الحق لأنه يسقط ماله قصاصا بما عليه و الوزن في اللغة هو مقابلة أحد الشيئين
مجمع البيان ج : 4 ص : 614
بالآخر حتى يظهر مقداره و قد استعمل في غير ذلك تشبيها به فمنها وزن الشعر بالعروض و منها قولهم فلان يزن كلامه وزنا قال الأخطل :
و إذا وضعت أباك في ميزانهم
رجحوا و شال أبوك في الميزان و الحق وضع الشيء موضعه على وجه تقتضيه الحكمة و قد استعمل مصدرا على هذا المعنى و صفة كما جرى ذلك في العدل قال الله سبحانه ذلك بأن الله هو الحق فجرى على طريق الوصف و الثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا و نقيضه الخفة و هي الاعتماد اللازم علوا .

الإعراب

الفاء في قوله « فلنسألن » عاطفة جملة على جملة و إنما دخلت الفاء و هي موجبة للتعقيب مع تراخي ما بين الأول و الثاني و ذلك يليق بثم لتقريب ما بينهما كما قال سبحانه اقتربت الساعة و قال و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب و قال أ و لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين و إذا طرف المفاجاة و بينهما بعد يومئذ يجوز فيه الإعراب و البناء لأن إضافته إلى مبني إضافة غير محضة تقربه من الأسماء المركبة و إضافته إلى الجملة تقربه من الإضافة الحقيقية و نون إذ لأنه قد قطع عن الإضافة إذ من شأن التنوين أن يعاقب الإضافة .

المعنى

و لما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا عقبه بالإنذار بعذاب الآخرة فقال « فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين » أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله و أقسم أيضا أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ و يسأل أولئك عن الامتثال و هو تعالى و إن كان عالما بما كان منهم فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد و الزجر ليتأهب العباد بحسن الاستعداد لذلك السؤال و قيل أنه يسأل الأمم عن الإجابة و يسأل الرسل ما ذا عملت أممهم فيما جاءوا به و قيل إن الأمم يسألون سؤال توبيخ و الأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق عن الحسن و أما فائدة السؤال فأشياء منها أن يعلم الخلائق أنه سبحانه أرسل الرسل و أزاح العلة و أنه لا يظلم أحدا و منها أن يعلموا أن الكفار استحقوا العذاب بأفعالهم و منها أن يزداد سرور أهل الإيمان بالثناء الجميل عليهم و يزداد غم
مجمع البيان ج : 4 ص : 615
الكفار بما يظهر من أفعالهم القبيحة و منها أن ذلك لطف للمكلفين إذا أخبروا به و مما يسأل على هذا أن يقال كيف يجمع بين قوله تعالى « و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان و قوله « فلنسألن الذين أرسل إليهم » فو ربك لنسألنهم أجمعين و الجواب عنه من وجوه ( أحدها ) أنه سبحانه نفي أن يسألهم سؤال استرشاد و استعلام و إنما يسألهم سؤال تبكيت و تقريع و لذلك قال عقيبه يعرف المجرمون بسيماهم و سؤال الاستعلام مثل قولك أين زيد و من عندك و هذا لا يجوز على الله سبحانه و سؤال التوبيخ و التقريع كمن يقول أ لم أحسن إليك فكفرت نعمتي و منه قوله أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم و كقول الشاعر :
أ طربا و أنت قنسري ) أي كبير السن و هذا توبيخ منه لنفسه أي كيف أطرب مع الكبر و الشيب و قد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر :
أ لستم خير من ركب المطايا
و أندى العالمين بطون راح أي أنتم كذلك و في ضده قوله :
و هل يصلح العطار ما أفسد الدهر أي لا يصلح و أما سؤال المرسلين فليس بتقريع و لا توبيخ لهم و لكنه توبيخ للكفار و تقريع لهم ( و ثانيها ) أنهم إنما يسألون يوم القيامة كما قال و قفوهم إنهم مسئولون ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة و عند دخولهم النار فلا تنافي بين الخبرين بل هو إثبات للسؤال في وقت و نفي له في وقت آخر ( و ثالثها ) أن في القيامة مواقف ففي بعضها يسأل و في بعضها لا يسأل فلا تضاد بين الآيات و أما الجمع بين قوله فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون و قوله « و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون » فهو أن الأول معناه لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك و لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه و الثاني معناه يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم و توبيخ كما قال في موضع آخر يتلاومون و كقوله « أ نحن صددناكم عن الهدى » الآية و مثل ذلك كثير في القرآن ثم بين سبحانه ما ذكرناه من أنه لا يسألهم سؤال استعلام بقوله « فلنقصن عليهم » أي لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة و ليعلم كل منهم جزاء عمله و أنه لا ظلم عليه و ليظهر لأهل الموقف أحوالهم « بعلم » قيل معناه نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها و قيل معناه بمعلوم كما قال
مجمع البيان ج : 4 ص : 616
و لا يحيطون بشيء من علمه أي من معلومه و قال ابن عباس معنى قوله « فلنقصن عليهم بعلم » ينطق عليهم كتاب أعمالهم كقوله تعالى « هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق » « و ما كنا غائبين » عن علم ذلك و قيل عن الرسل فيما بلغوا و عن الأمم فيما أجابوا و ذكر ذلك مؤكدا لعلمه بأحوالهم و المعنى أنه لا يخفى عليه شيء « و الوزن يومئذ الحق » ذكر فيه أقوال ( أحدها ) أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة و أن لا ظلم فيها على أحد عن مجاهد و الضحاك و هو قول البلخي ( و ثانيها ) أن الله ينصب ميزانا له لسان و كفتان يوم القيامة فتوزن به أعمال العباد الحسنات و السيئات عن ابن عباس و الحسن و به قال الجبائي ثم اختلفوا في كيفية الوزن لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة و لا يكون لها وزن و لا تقوم بأنفسها فقيل توزن صحائف الأعمال عن عبد الله بن عمر و جماعة و قيل يظهر علامات للحسنات و علامات للسيئات في الكفتين فيراها الناس عن الجبائي و قيل يظهر للحسنات صورة حسنة و للسيئات صورة سيئة عن ابن عباس و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر عن عبيد بن عمير قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة ( و ثالثها ) أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم و مقدار الكافر في الذلة كما قال سبحانه فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي يعظم قدره فقد أفلح و من أتى بالعمل السيء الذي لا وزن له و لا قيمة فقد خسر عن أبي مسلم و أحسن الأقوال القول الأول و بعده الثاني و إنما قلنا ذلك لأنه اشتهر من العرب قولهم كلام فلان موزون و أفعاله موزونة يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة لا تكون ناقصة عنها و لا زائدة عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث قال مالك ابن أسماء الفزاري :
و حديث ألذه هو مما
ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب و يلحن أحيانا
و خير الحديث ما كان لحنا أي يعرض في الكلام و لا يصرح به و قيل أنه من اللحن الذي هو سرعة الفهم و الفطنة و على هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك و أما حسن القول الثاني فلمراعاة الخبر الوارد فيه و الجري على ظاهره « فمن ثقلت موازينه » إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان و يجوز أن يكون كل ميزان صنفا من أصناف أعماله و يؤيد هذا ما جاء في الخبر أن الصلاة ميزان فمن وفى استوفى « فأولئك هم المفلحون » أي الفائزون بثواب الله « و من
مجمع البيان ج : 4 ص : 617
خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم » بأن استحقوا عذاب الأبد « بما كانوا ب آياتنا يظلمون » أي بجحودهم بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من آياتنا و حججنا و الخسران ذهاب رأس المال و من أعظم رأس المال النفس فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه .
وَ لَقَدْ مَكَّنَّكمْ فى الأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِش قَلِيلاً مَّا تَشكُرُونَ(10) وَ لَقَدْ خَلَقْنَكمْ ثُمَّ صوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَئكَةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس لَمْ يَكُن مِّنَ السجِدِينَ(11)

القراءة

قرأ كل القراء « معايش » بغير همز و روى بعضهم عن نافع معائش ممدودا مهموزا .

الحجة

قال أبو علي معايش جمع معيشة و اعتل معيشة لأنه على وزن يعيش و زيادته زيادة تختص الاسم دون الفعل فلم يحتج إلى الفصل بين الاسم و الفعل كما احتيج إليه فيما كانت زيادته مشتركة نحو الهمزة في أخاف و هو أخوف منك و موافقة الاسم لبناء الفعل توجب في الاسم الاعتلال أ لا ترى أنهم أعلوا بابا و نابا و يوم راح لما كان على وزن الفعل و صححوا نحو حول و غيبة و لومة لما لم تكن على مثال الفعل فمعيشة موافقة للفعل في البناء أ لا ترى أنه مثل يعيش في الزنة و تكسيرها يزيل مشابهته في البناء فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد في الجمع فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ و لأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما يختص به الاسم و إذا كانوا قد صححوا نحو الجولان و الهيمان مع قيام بناء الفعل فيه لما لحقه من الزيادة التي يختص بها الاسم فتصحيح قولهم معايش الذي قد زال مشابهة الفعل عنه في اللفظ و المعنى لا إشكال فيه و في وجوب العدل عن إعلاله و من أعل فهمز فمجازة على وجه اللفظ و هو أن معيشة على وزن مصيبة فتوهمها فعيلة فهمزها كما همز مصائب و مثل ذلك مما يحمل على الغلط قولهم في جمع مسيل أمسلة فتوهموه فعيلة و إنما هو مفعلة و ذكر المحققون أن الهمزة في هذه الياء إنما تكون إذا كانت زائدة نحو صحيفة و صحائف و إنما يهمز الياء الزائدة لأنه لا حظ لها في الحركة و قد قربت من آخر الكلمة و لزمتها الحركة فأوجبوا فيها الهمزة و إذا جمعت مقاما قلت
مجمع البيان ج : 4 ص : 618
مقاوم و أنشدوا :
و إني لقوام مقاوم لم يكن
جرير و لا مولى جرير يقومها .

اللغة

التمكين إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة و إلى دلالة و إلى سبب و يحتاج إلى ارتفاع المنع فالتمكين عبارة عن جميع ذلك و الجعل إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه مثل أن تقول جعلت الساكن متحركا لأنك فعلت فيه الحركة و نظيره التصيير و جعل الشيء أعم من حدوثه لأنه قد يكون بحدوث غيره مما يتغير به و المعيشة ما يكون وصلة إلى ما فيه الحياة من جهة المطعم و المشرب و الملبس ، و الخلق إحداث الشيء على تقدير تقتضيه الحكمة و التصوير جعل الشيء على صورة من الصور و الصورة بنية مقومة على هيئة ظاهرة و السجود أصله الانخفاض و حقيقته وضع الجبهة على الأرض .

الإعراب

« قليلا » نصب بتشكرون و تقديره تشكرون قليلا و ما زائدة و يجوز أن يكون ما مع ما بعدها بمنزلة المصدر فيكون تقديره قليلا شكركم .

المعنى

ثم ذكر سبحانه نعمه على البشر بالتمكين في الأرض و ما خلق فيها من الأرزاق مضافة إلى نعمة السابغة عليهم بإنزال الكتب و إرسال الرسل فقال « و لقد مكناكم في الأرض » أي مكناكم من التصرف فيها و ملكناكموها و جعلناها لكم قرارا « و جعلنا لكم فيها معايش » أي ما تعيشون به من أنواع الرزق و وجوه النعم و المنافع و قيل يريد المكاسب و الإقدار عليها بالعلم و القدرة و الآلات « قليلا ما تشكرون » أي ثم أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا قد قل شكركم ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال « و لقد خلقناكم ثم صورناكم » قال الأخفش ثم هاهنا في معنى الواو و قال الزجاج و هذا خطأ لا يجيزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعلمه إنما ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير و إنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتداء خلق آدم (عليه السلام) من التراب ثم وقعت الصورة بعد ذلك فهذا معنى « خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم » بعد الفراغ من خلق آدم فثم إنما هو لما بعد و هذا مروي عن الحسن و من كلام العرب فعلنا بكم كذا و كذا و هم يعنون أسلافهم و في التنزيل « و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور » أي ميثاق أسلافكم و قد قيل في ذلك
مجمع البيان ج : 4 ص : 619
أقوال أخر منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و قتادة و السدي و منها أن الترتيب وقع في الإخبار فكأنه قال خلقناكم ثم صورناكم ثم أنا نخبركم إنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل أنا راجل ثم أنا مسرع و هذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى و القاضي أبو سعيد السيرافي و غيرهما و على هذا فقد قيل إن المعنى خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة و قيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع و البصر و سائر الأعضاء عن يمان و قول الشاعر :
سألت ربيعة من خيرها
أبا ثم أما فقالت ليه فمعناه لنجيب أولا عن الأب ثم الأم و قوله « فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين » قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة .
قَالَ مَا مَنَعَك أَلا تَسجُدَ إِذْ أَمَرْتُك قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنى مِن نَّار وَ خَلَقْتَهُ مِن طِين(12) قَالَ فَاهْبِط مِنهَا فَمَا يَكُونُ لَك أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّك مِنَ الصغِرِينَ(13)

اللغة

الصاغر الذليل بصغر القدر يقال صغر يصغر صغرا و صغارا فهو صاغر إذا رضي بالضيم و من الصغر ضد الكبر صغر يصغر قال ابن السكيت يقال فلان صغرة ولد أبيه أي أصغرهم .

الإعراب

ما في قوله « ما منعك » مرفوع الموضع و المعنى أي شيء منعك و لا ملغى في قوله « ألا تسجد » المعنى ما منعك أن تسجد و مثله قوله سبحانه « لئلا يعلم » و معناه لأن يعلم و قال الشاعر :
أبي جودة لا البخل و استعجلت به
نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله قالوا معناه أبى جودة البخل و قال أبو عمرو بن العلاء الرواية أبى جودة لا البخل بالجر
مجمع البيان ج : 4 ص : 620
و المعنى أبى جودة لا التي تبخل الإنسان قال الزجاج و روي فيه وجها آخر حسنا و هو أن يكون لا غير لغو و يكون البخل منصوبا بدلا من لا و المعنى أبى جودة لا التي هي البخل فكأنه قال أبى جودة البخل و قد قيل إنما دخل لا في قوله « ألا تسجد » لأن معناه ما دعاك إلى أن لا تسجد أو ما أحوجك إلى أن لا تسجد .

المعنى

ثم حكى سبحانه خطابه لإبليس حين امتنع من السجود لآدم بقوله « قال » أي قال الله تعالى « ما منعك ألا تسجد » أي ما دعاك إلى أن لا تسجد و ما اضطرك إليه أو ما منعك أن تسجد « إذ أمرتك » بالسجود لآدم « قال » إبليس « أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين » و هذا الجواب غير مطابق لأنه كان يجب أن يقول منعني كذا لأن قوله « أنا خير منه » جواب لمن يقول أيكما خير و لكن فيه معنى الجواب و يجري ذلك مجرى أن يقول القائل لغيره كيف كنت فيقول أنا صالح و كان يجب أن يقول كنت صالحا لكنه جاز ذلك لأنه أفاد أنه صالح في الحال مع أنه كان صالحا فيما مضى قال ابن عباس أول من قاس إبليس فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله بإبليس و قال ابن سيرين أول من قاس إبليس و ما عبدت الشمس و القمر إلا بالمقاييس و وجه دخول الشبهة على إبليس أنه ظن أن النار إذا كانت أشرف من الطين لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون و هذا خطأ لأن ذلك تابع لما يعلم الله سبحانه من مصالح العباد و قد قيل أيضا أن الطين خير من النار لأنه أكثر منافع للخلق من حيث أن الأرض مستقر الخلق و فيها معايشهم و منها يخرج أنواع أرزاقهم و الخيرية إنما يراد بها كثرة المنافع دون كثرة الثواب لأن الثواب لا يكون إلا للمكلف المأمور دون الجماد « قال » أي قال الله سبحانه لإبليس « فاهبط » أي أنزل و انحدر « منها » أي من السماء عن الحسن و قيل من الجنة و قيل معناه أنزل عما أنت عليه من الدرجة الرفيعة و المنزلة الشريفة التي هي درجة متبعي أمر الله سبحانه و حافظي حدوده إلى الدرجة الدنية التي هي درجة العاصين المضيعين أمر الله « فما يكون لك أن تتكبر » عن أمر الله « فيها » أي في الجنة أو في السماء فإنها ليست بموضع المتكبرين و إنما موضعهم النار كما قال « أ ليس في جهنم مثوى للمتكبرين » « فاخرج » من المكان الذي أنت فيه أو المنزلة التي أنت عليها « إنك من الصاغرين » أي من الأذلاء بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه أو بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل و هذا الكلام إنما صدر من الله سبحانه على لسان بعض الملائكة عن الجبائي و قيل إن إبليس رأى معجزة تدله على أن ذلك كلام الله و قوله
مجمع البيان ج : 4 ص : 621
سبحانه « فما يكون لك أن تتكبر فيها » لا يدل على أنه يجوز التكبر في غير الجنة فإن التكبر لا يجوز على حال لأنه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء و هذا في صفة العباد ذم و في صفة الله سبحانه مدح إلا أن إبليس تكبر على الله سبحانه في الجنة فأخرج منها قسرا و من تكبر خارج الجنة منع من ذلك بالأمر و النهي .
قَالَ أَنظِرْنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14) قَالَ إِنَّك مِنَ الْمُنظرِينَ(15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنى لأَقْعُدَنَّ لهَُمْ صرَطك الْمُستَقِيمَ(16) ثُمَّ لاَتِيَنَّهُم مِّن بَينِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَنهِمْ وَ عَن شمَائلِهِمْ وَ لا تجِدُ أَكْثَرَهُمْ شكِرِينَ(17)

اللغة

الإنظار و الإمهال و التأخير و التأجيل نظائر و بينها فروق و ضد الإمهال الإعجال و البعث الإطلاق في الأمر و الانبعاث الانطلاق و البعث و الحشر و النشر و الجمع نظائر .

الإعراب

« لأقعدن » جواب للقسم و القسم محذوف لأن غرضه بالكلام التأكيد و هو ضد قوله « (صلى الله عليه وآله وسلّم) و القرآن ذي الذكر » فإنه حذف الجواب هناك و بقي القسم لأن الغرض تعظيم المقسم به و نصب « صراطك » على الحذف دون الظرف و تقديره على صراطك كما قيل ضرب زيد الظهر و البطن أي على الظهر و البطن قال الشاعر :
لدن بهز الكف يعسل متنه
فيه كما عسل الطريق الثعلب و قال آخر :
كأني إذا أسعى لأظفر طائرا
مع النجم في جو السماء يصوب أي لأظفر على طائر .

مجمع البيان ج : 4 ص : 622

المعنى

« قال » يعني إبليس « أنظرني » أي أمهلني و أخرني في الأجل و لا تمتني « إلى يوم يبعثون » أي يبعث الخلق من قبورهم للجزاء و قيل معناه أنظرني في الجزاء إلى يوم القيامة فكأنه خاف أن يعاجله الله سبحانه بالعقوبة يدل عليه قوله « إلى يوم يبعثون » و لم يقل إلى يوم يموتون و معلوم أن الله تعالى لا يبقي أحدا حيا إلى يوم القيامة قال الكلبي أراد الخبيث أن لا يذوق الموت في النفخة الأولى مع من يموت فأجيب بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم و هي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين و هو أربعون سنة و أما الوجه في مسألة إبليس الإنظار مع علمه بأنه مطرود ملعون فعلمه بأنه سبحانه يظاهر إلى عباده بالنعم و يعمهم بالفضل و الكرم فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن المسألة و الطمع في الإجابة « قال » أي قال الله سبحانه لإبليس « إنك من المنظرين » أي من المؤخرين « قال » إبليس لما لعنه الله و طرده ثم سأله الإنظار فأجابه الله تعالى إلى شيء منه « فبما أغويتني » أي فبالذي أغويتني قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن معناه بما خيبتني من رحمتك و جنتك كما قال الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
و من يغو لا يعدم على الغي لائما أي من يخب ( و ثانيها ) أن المراد امتحنتني بالسجود لآدم فغويت عنده فلذلك قال أغويتني كما قال « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » ( و ثالثها ) أن معناه حكمت بغوايتي كما يقال أضللتني أي حكمت بضلالتي عن ابن عباس و ابن زيد ( و رابعها ) أن معناه أهلكتني بلعنك إياي كما قال الشاعر :
معطفة الأثناء ليس فصيلها
برازئها درا و لا ميت غوي أي و لا ميت هلاكا بالقعود عن شرب اللبن و منه قوله « فسوف يلقون غيا » أي هلاكا و قالوا غوي الفصيل إذا فقد اللبن فمات و المصدر غوى مقصور ( و خامسها ) أن يكون الكلام على ظاهره من الغواية و لا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أن الله تعالى يغوي الخلق بأن يضلهم و يكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشر « لأقعدن » أي لأجلسن « لهم » أي
 

<<        الفهرس        >>