جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 4 ص : 623
لأولاد آدم « صراطك المستقيم » أي على طريقك المستوي و هو طريق الحق لأصدنهم عنه بالإغواء حتى أصرفهم إلى طريق الباطل كيدا لهم و عداوة و قول من قال إنه لو كان ما يفعل به الإيمان هو بعينه ما يفعل به الكفر لكان قوله « فبما أغويتني » مساويا لقوله فيما أصلحتني يفسد بأن صفة الآلة إذا وقع بها الكفر صفتها إذا وقع بها الإيمان و إن كانت الآلة واحدة كما أن السيف واحد و يصلح لأن يستعمل في قتل المؤمن كما يصلح أن يستعمل في قتل الكافر و لا يجب من ذلك أن تكون الصفتان واحدة من أجل أنه واحد فلا يمتنع أن يكون متى استعملت آلة الإيمان في الضلال و الكفر تسمى إغواء و إن استعمل في الإيمان سميت هداية و إن كان ما يصح به الإيمان هو بعينه ما يصح به الكفر و الضلال « ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم » قيل في ذلك أقوال ( أحدها ) أن المعنى من قبل دنياهم و آخرتهم و من جهة حسناتهم و سيئاتهم عن ابن عباس و قتادة و السدي و ابن جريج و تلخيصه إني أزين لهم الدنيا و أخوفهم بالفقر و أقول لهم لا جنة و لا نار و لا بعث و لا حساب و أثبطهم عن الحسنات و أشغلهم عنها و أحبب إليهم السيئات و أحثهم عليها قال ابن عباس و إنما لم يقل و من فوقهم لأن فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك و لم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه موحش ( و ثانيها ) أن معنى « من بين أيديهم » و « عن أيمانهم » من حيث يبصرون و « من خلفهم » و « عن شمائلهم » من حيث لا يبصرون عن مجاهد ( و ثالثها ) ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال « ثم لآتينهم من بين أيديهم » معناه أهون عليهم أمر الآخرة « و من خلفهم » آمرهم بجمع الأموال و البخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم « و عن أيمانهم » أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة « و عن شمائلهم » بتحبيب اللذات إليهم و تغليب الشهوات على قلوبهم و إنما دخلت من في القدام و الخلف و عن في اليمين و الشمال لأن في القدام و الخلف معنى طلب النهاية و في اليمين و الشمال الانحراف عن الجهة « و لا تجد أكثرهم شاكرين » هذا إخبار من إبليس إن الله تعالى لا يجد أكثر خلقه شاكرين و قيل إنه يمكن أن يكون قد قال ذلك من أحد وجهين إما من جهة الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم و إما عن ظن منه كما قال سبحانه « و لقد صدق عليهم إبليس ظنه » فإنه لما استنزل آدم ظن أن ذريته أيضا سيجيبونه لكونهم أضعف منه و القول الأول اختيار الجبائي و الثاني عن الحسن و أبي مسلم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 624
قَالَ اخْرُجْ مِنهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَك مِنهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ(18) وَ يَئَادَمُ اسكُنْ أَنت وَ زَوْجُك الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْث شِئْتُمَا وَ لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظلِمِينَ(19) فَوَسوَس لهَُمَا الشيْطنُ لِيُبْدِى لهَُمَا مَا وُرِى عَنهُمَا مِن سوْءَتِهِمَا وَ قَالَ مَا نهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَينِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَْلِدِينَ(20) وَ قَاسمَهُمَا إِنى لَكُمَا لَمِنَ النَّصِحِينَ(21)

القراءة

في الشواذ قراءة الزهري مذوما على تخفيف الهمزة و قرأ أبو جعفر و شيبة سوأتهما بتشديد الواو و هو قراءة الحسن و الزهري و قرأ ابن محيض عن هذي الشجرة .

الحجة

الوجه في تخفيف السوآت أنه يحذف الهمزة و يلقى حركتها على الواو فيقال السوة و منهم من يقول السوة و هو أردأ اللغتين و أما هذي الشجرة فإنه الأصل في الكلمة و إنما الهاء في ذه بدل من الياء في ذي و أما الياء اللاحقة بعد الهاء في هذه و نحوه فزائدة لحقت بعد الهاء تشبيها لها بهاء الإضمار في نحو مررت بهي .

اللغة

الذام و الذيم أشد العيب يقال ذامه يذامه ذاما فهو مذئوم و ذامه يذيم ذيما و ذاما فهو مذيم قال الشاعر :
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها و في رواية ألومها و الدحر الدفع على وجه الهوان و الإذلال دحره يدحره دحرا و دحورا و الوسوسة الدعاء إلى أمر بصوت خفي كالهنيمة و الخشخشة قال رؤبة :
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق
سرا و قد أون تأوين العقق
مجمع البيان ج : 4 ص : 625
و قال الأعشى :
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
كما استعان بريج عشرق زجل و الإبداء الإظهار و هو جعل الشيء على صفة ما يصح أن يدرك و ضده الإخفاء و كل شيء أزيل عنه الساتر فقد أبدي و المواراة جعل الشيء وراء ما يستره و مثله المساترة و ضده المكاشفة و لم يهمز و وري لأن الثانية يده و لو لا ذلك لوجب همز الواو المضمومة و السوأة الفرج لأنه يسوء صاحبه إظهاره و أصل القسم من القسمة قال أعشى بني ثعلبة :
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما
بأسحم داج عوض لا نتفرق و المقاسمة لا تكون إلا بين اثنين و القسم كان من إبليس لا من آدم فهو من باب عاقبت اللص و طارقت النعل و عافاه الله و قيل إن في جميع ذلك معنى المقابلة فالمعاقبة مقابلة بالجزاء و كذلك المعافاة مقابلة المرض بالسلامة و كذلك المقاسمة مقابلة في المنازعة باليمين و النصح نقيض الغش يقال نصحته أنصحه و هو إخلاص الفاعل ضميره فيما يظهر من عمله .

الإعراب

« لمن تبعك منهم لأملأن » اللام الأولى لام الابتداء و الثانية لام القسم و من للشرط و هو في موضع رفع بالابتداء و لا يجوز أن يكون هنا بمعنى الذي لأنها لا تقلب الماضي إلى الاستقبال و حذف الجزاء في قوله « لمن تبعك » لأن جواب القسم أولى بالذكر من حيث أنه في صدر الكلام و لو كان القسم في حشو الكلام لكان الجزاء أحق بالذكر من جواب القسم كقولك إن تأتني و الله أكرمك و يجوز أن تقول و الله لمن جاءك أضربه بمعنى لا أضربه و لم يجز بمعنى لأضربنه كما يجوز و الله أضرب زيدا لا أضرب و لا يجوز بمعنى لأضربن لأن الإيجاب لا بد فيه من نون التأكيد مع اللام و إنما قال منكم على التغليب للخطاب على الغيبة و المعنى لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم كما قاله في موضع آخر و قوله « إلا أن تكونا » تقديره إلا كراهة أن تكونا ملكين فحذف المضاف فهو في موضع نصب بأنه مفعول له و قيل إن تقديره لأن لا تكونا ملكين فحذف لا و الأول الصحيح و قوله « إني لكما لمن الناصحين »
مجمع البيان ج : 4 ص : 626
تقديره إني لكما ناصح ثم فسر ذلك بقوله « لمن الناصحين » و لا يكون قوله « لكما » متعلقا بالناصحين لأن ما في الصلة لا يجوز أن يتقدم على الموصول و مثله قوله و أنا على ذلكم من الشاهدين تقديره و أنا على ذلكم شاهد و بينه بقوله من الشاهدين .

المعنى

ثم بين سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة و الإذلال و ما أتاه آدم من الإكرام و الإجلال بقوله « قال اخرج منها » أي من الجنة أو من السماء أو من المنزلة الرفيعة « مذءوما » أي مذموما عن ابن زيد و قيل معيبا عن المبرد و قيل مهانا لعينا عن ابن عباس و قتادة « مدحورا » أي مطرودا عن مجاهد و السدي « لمن تبعك منهم » أي من بني آدم معناه من أطاعك و اقتدى بك من بني آدم « لأملأن جهنم منكم » أي منك و من ذريتك و كفار بني آدم « أجمعين » و إنما جمعهم في الخطاب لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس و حزبه من الشياطين و كفار الإنس و ضلالهم الذين انقادوا له و تركوا أمر الله لاتباعه « و يا آدم أسكن أنت و زوجك الجنة » هذا أمر بالسكنى دون السكون و إنما لم يقل و زوجتك لأن الإضافة إليه قد أغنت عن ذكره و أبانت عن معناه فكان الحذف أحسن لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى « فكلا من حيث شئتما » أباح سبحانه لهما أن يأكلا من حيث شاءا و أين شاءا و ما شاءا « و لا تقربا هذه الشجرة » بالأكل « فتكونا من الظالمين » أي من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم و قد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة « فوسوس لهما » أي لآدم و حواء « الشيطان » الفرق بين وسوس إليه و وسوس له أن معنى وسوس إليه أنه ألقى إلى قلبه المعنى بصوت خفي و معنى وسوس له أنه أوهمه النصيحة له في ذلك « ليبدي لهما » أي ليظهر لهما « ما وري » أي ستر « عنهما من سوآتهما » أي عوراتهما و هذا الظاهر يوجب أن يكون إبليس علم أن من أكل من هذه الشجرة بدت عورته و أن من بدت عورته لا يترك في الجنة فاحتال في إخراجهما منها بالوسوسة « و قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة » أي عن أكل هذه الشجرة « إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين » و المعنى أنه أوهمهما أنهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيرت صورتهما إلى صورة الملك و أن الله تعالى قد حكم بذلك و بأن لا تبيد حياتهما إذا أكلا منها و روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ ملكين بكسر اللام قال الزجاج قوله هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى بدل على الملكين و أحبسه قد قرأ به و يحتمل أن يكون المراد بقوله « إلا أن تكونا ملكين » أنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة و الخالدين دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره ما نهيت
مجمع البيان ج : 4 ص : 627
عن كذا إلا أن تكون فلانا و إنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك و هذا المعنى أوكد في الشبهة و اللبس عليهما ذكره المرتضى قدس الله روحه « و قاسمهما » أي و حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما عن قتادة « إني لكما لمن الناصحين » أي المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة و لذلك تأكدت الشبهة عندهما إذ ظنا أن أحدا لا يقدم على اليمين بالله تعالى إلا صادقا فدعاهما ذلك إلى تناول الشجرة و استدل جماعة من المعتزلة بقوله « إلا أن تكونا ملكين » على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا لأن إبليس رغبهما بالتناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتى تناولا و لا يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون على منزلة دون منزلته فيحمله ذلك على معصية الله و أجاب عنه المرتضى بأن قال ما أنكرتم أن تكون الآية محمولة على الوجه الثاني الذي ذكرناه دون أن يكون معناها أن ينقلبا إلى صفة الملائكة و إذا كانت الآية محتملة لما ذكروه و أيضا فمما يرفع هذه الشبهة أن يقال ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا إلى صفة الملائكة و خلقتهم لما رغبهما إبليس في ذلك و لا تدل هذه الرغبة على أن الملائكة أفضل منهما فإن الثواب إنما يستحق على الطاعات دون الصور و الهيئات و لا يمتنع أن يكونا رغبا في صور الملائكة و هيأتها و لا يكون ذلك رغبة في الثواب و لا الفضل أ لا ترى أنهما رغبا في أن يكونا من الخالدين و ليس الخلود مما يقتضي مزية في الثواب و لا الفضل .

مجمع البيان ج : 4 ص : 628
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُور فَلَمَّا ذَاقَا الشجَرَةَ بَدَت لهَُمَا سوْءَتهُمَا وَ طفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَْنَّةِ وَ نَادَاهُمَا رَبهُمَا أَ لَمْ أَنهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجَرَةِ وَ أَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيْطنَ لَكُمَا عَدُوُّ مُّبِينٌ(22) قَالا رَبَّنَا ظلَمْنَا أَنفُسنَا وَ إِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسرِينَ(23) قَالَ اهْبِطوا بَعْضكمْ لِبَعْض عَدُوُّ وَ لَكمْ فى الأَرْضِ مُستَقَرُّ وَ مَتَعٌ إِلى حِين(24) قَالَ فِيهَا تحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنهَا تخْرَجُونَ(25)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم تخرجون بفتح التاء هاهنا و في الروم و الزخرف و الجاثية لا يخرجون منها بفتح الياء و وافقهم يعقوب و سهل هاهنا و ابن ذكوان هاهنا و في الزخرف و قرأ الباقون جميع ذلك بضم التاء و الياء .

الحجة

من قرأ بالفتح فحجته اتفاق الجميع في قوله إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون بفتح التاء و قوله إلى ربهم ينسلون يؤيده أيضا قوله كما بدأكم تعودون و من قرأ بالضم فحجته قوله أ يعدكم أنكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما إنكم مخرجون و قوله كذلك نخرج الموتى .

اللغة

دلاهما قيل أصله من تدلية الدلو و هو أن ترسلها في البئر و الغرور إظهار النصح مع إبطان الغش و أصل الغر طي الثواب يقال اطوه على غره أي على كسر طيه فالغرور بمنزلته لما فيه من إظهار حال و إخفاء حال و طفق يفعل كذا بمعنى جعل يفعل و مثله ظل يفعل و ابتدأ يفعل و أخذ يفعل و الخصف أصله الضم و الجمع و منه خصف النعل و المخصف المثقب الذي يخصف به النعل و منه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكنه خاصف النعل في الحجرة يعني عليا (عليه السلام) و الإخصاف سرعة العدو لأنه يقطعه بسرعة و البعض هو أحد قسمي العدة فأحد قسمي العشرة بعضها واحد قسمي الاثنين كذلك و لا بعض للواحد لأنه لا ينقسم قال علي بن عيسى العدو هو النائي بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته و الولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إليها ، و المستقر هو موضع الاستقرار و هو أيضا الاستقرار بعينه لأن المصدر يجيء على وزن المفعول و المتاع الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ و الحين الوقت قصيرا كان أو طويلا إلا أنه استعمل هنا على طول الوقت و ليس بأصل فيه .

المعنى

« فدلاهما بغرور » أي أوقعهما في المكروه بأن غرهما بيمينه و قيل معناه دلاهما من الجنة إلى الأرض و قيل معناه خذلهما و خلاهما من قولهم تدلى من الجبل أو السطح إذ أنزل إلى جهة السفل عن أبي عبيدة أي حطهما عن درجتهما بغروره « فلما ذاقا الشجرة » أي ابتدءا بالأكل و نالا منها شيئا يسيرا و لذلك أتى بلفظة ذاقا عبارة عن أنهما تناولا شيئا قليلا من ثمرة الشجرة على خوف شديد لأن الذوق ابتداء الأكل و الشرب ليعرف الطعم و في هذا دلالة على أن ذوق الشيء المحرم يوجب الذم فكيف استيفاؤه و قضاء الوطر منه « بدت لهما سوآتهما » أي ظهرت لهما عوراتهما ظهر لكل واحد منهما عورة صاحبه قال
مجمع البيان ج : 4 ص : 629
الكلبي فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما سوأة صاحبه فاستحيا « و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة » أي أخذا يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما عن الزجاج و قيل معناه جعلا يرقعان و يصلان عليهما من ورق الجنة و هو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب عن قتادة و هذا إنما كان لأن المصلحة اقتضت إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض لا على وجه العقوبة فإن الأنبياء لا يستحقون العقوبة و قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة « و ناداهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة » أي من تلك الشجرة لكنه لما خاطب اثنين قال تلكما و الكاف حرف الخطاب « و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين » ظاهر المعنى « قالا » أي قال آدم و حواء لما عاتبهما الله سبحانه و وبخهما على ارتكاب النهي عنه « ربنا ظلمنا أنفسنا » و معناه بخسناها الثواب بترك المندوب إليه فالظلم هو النقص و من ذهب إلى أنهم فعلا صغيرة فإنه يحمل الظلم على تنقيص الثواب إذا كانت الصغيرة عنده تنقص من ثواب الطاعات فأما من قال إن الصغيرة تقع مكفرة من غير أن تنقص من ثواب فاعلها شيئا فلا يتصور هذا المعنى عنده و لا يثبت في الآية فائدة و لا خلاف أن حواء و آدم لم يستحقا العقاب و إنما قالا ذلك لأن من جل في الدين قدمه كثر على يسير الزلل ندمه و قيل معناه ظلمنا أنفسنا بالنزول إلى الأرض و مفارقة العيش الرغد « و إن لم تغفر لنا » معناه و إن لم تستر علينا لأن المغفرة هي الستر على ما تقدم بيانه « و ترحمنا » أي و لم تتفضل علينا بنعمتك التي يتم بها ما فوتناه نفوسنا من الثواب و بضروب فضلك « لنكونن من الخاسرين » أي من جملة من خسر و لم يربح و الإنسان يصح أن يظلم نفسه بأن يدخل عليها ضررا غير مستحق فلا يدفع عنها ضررا أعظم منه و لا يجتلب به منفعة توفي عليه و لا يصح أن يكون معاقبا لنفسه « قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين » قد مر تفسيره في سورة البقرة « قال » الله تعالى « فيها تحيون » أي في الأرض تعيشون « و فيها تموتون و منها تخرجون » عند البعث يوم القيامة قال الجبائي في الآية دلالة على أن الله سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض التي حيوا فيها بعد موتهم و أنه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر و إذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها الساهرة و تفنى هذه كما قال فإذا هم بالساهرة .

مجمع البيان ج : 4 ص : 630
يَبَنى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكمْ لِبَاساً يُوَرِى سوْءَتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاس التَّقْوَى ذَلِك خَيرٌ ذَلِك مِنْ ءَايَتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26) يَبَنى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنَّكمُ الشيْطنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهُمَا لِبَاسهُمَا لِيرِيَهُمَا سوْءَتهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْث لا تَرَوْنهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشيَطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(27) وَ إِذَا فَعَلُوا فَحِشةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا ءَابَاءَنَا وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(28)

القراءة

قرأ أهل المدينة و ابن عامر و الكسائي و لباس بالنصب و الباقون بالرفع .

الحجة

قال أبو علي أما النصب فلأنه حمل على أنزل أي أنزلنا عليكم لباسا و لباس التقوى و قوله « ذلك » على هذا مبتدأ و خبره « خير » و من رفع فقال « و لباس التقوى » قطع اللباس من الأول و استأنف به فجعله مبتدأ و ذلك صفة أو بدل أو عطف بيان و من قال إن ذلك لغو لم يكن على قوله دلالة لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا و خير خبر اللباس و المعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به و أقرب له إلى الله تعالى مما خلق له من اللباس و الرياش الذي يتجمل به و أضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف في قوله فأذاقها الله لباس الجوع إلى الجوع و الخوف .

اللغة

اللباس كل ما يصلح للبس من ثوب أو غيره من نحو الدرع و ما يغشى به البيت من نطع أو كسوة و أصله المصدر تقول لبسه يلبسه و لباسا و لبسا بكسر اللام قال الشاعر :
فلما كشفن اللبس عنه مسحنه
بأطراف طفل زان غيلا موشما
مجمع البيان ج : 4 ص : 631
و الغيل الساعد الريان الممتلىء و الريش و الأثاث متاع البيت من فراش أو دثار و قيل الريش ما فيه الجمال و منه ريش الطائر و قيل أنه المصدر من راشه يريشه ريشا و أنشد سيبويه :
ريشي منكم و هواي معكم
و إن كانت زيارتكم لماما قال الزجاج الريش كل ما يستر الرجل في جسمه و معيشته يقال تريش فلان أي صار له ما يعيش به و تقول العرب أعطيته رجلا بريشه أي بكسوته و قال أبو عبيدة الريش و الرياش ما ظهر من اللباس و الفتنة الابتلاء و الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار امتحنته و قلب فاتن أي مفتون قال الشاعر :
رخيم الكلام قطيع القيام
أمسى فؤادي بها فاتنا القبيل الجماعة من قبائل شتى فإذا كانوا من أب و أم واحد فهم قبيلة .

المعنى

لما ذكر سبحانه نعمته على بني آدم في تبوئه الدار و المستقر عقبه بذكر النعمة في الملابس و الستر فقال « يا بني آدم » و هو خطاب عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين كما يوصي الإنسان ولده و ولد ولده بتقوى الله و يجوز خطاب المعدوم إذا كان من المعلوم أنه سيوجد و يتكامل فيه شروط التكليف « قد أنزلنا عليكم لباسا » قيل إنه أنزل ذلك مع آدم و حواء حين أمرا بالانهباط عن الجبائي و هو الظاهر و قيل معناه أنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء عن الحسن و قيل لأن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء كقوله و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد عن علي بن عيسى و قيل معنى أنزلنا عليكم أعطيناكم و وهبنا لكم و كل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه ليس أن هناك علوا و سفلا و لكنه يجري مجرى التعظيم كما يقال رفعت حاجتي إلى فلان و رفعت قضيتي إلى الأمير عن أبي مسلم و قيل معناه خلقنا لكم كما قال و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج و أنزلنا الحديد عن أبي علي الفارسي « يواري سوآتكم » أي يستر عوراتكم « و ريشا » أي أثاثا مما تحتاجون إليه و قيل مالا عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قيل جمالا عن ابن زيد و قيل خصبا و معاشا عن الأخفش و قيل خيرا و كل ما قاله المفسرون فإنه يدخل فيه إلا أن كلا منهم خص بعض الخير
مجمع البيان ج : 4 ص : 632
بالذكر « و لباس التقوى » هو العمل الصالح عن ابن عباس و قيل هو الحياء الذي يكسيكم التقوى عن الحسن و قيل هو ثياب النسك و التواضع إذا اقتصر عليه كلباس الصوف و الخشن من الثياب عن الجبائي و قيل هو لباس الحرب و الدرع و المغفر و الآلات التي يتقى بها من العدو عن زيد بن علي بن الحسين (عليهماالسلام) و أبي مسلم و قيل هو خشية الله تعالى عن عروة بن الزبير و قيل هو ستر العورة يتقي الله فيواري عورته عن ابن زيد و قيل هو الإيمان عن قتادة و السدي و لا مانع من حمل ذلك على الجميع « ذلك خير » أي لباس التقوى خير من جميع ما يلبس « ذلك من آيات الله » أي ذلك الذي خلقه الله و أنزله من حجج الله التي تدل على توحيده « لعلهم يذكرون » معناه لكي يتفكروا فيها فيؤمنوا بالله و يصيروا إلى طاعته و ينتهوا عن معاصيه ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى فقال « يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان » أي لا يضلنكم عن الدين و لا يصرفنكم عن الحق بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس و إنما صح أن ينهى الإنسان بصيغة النهي للشيطان لأنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه يطلبنا بالمكروه و يقصدنا بالعداوة فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك التحذير منه « كما أخرج أبويكم من الجنة » نسب الإخراج إليه لما كان بإغوائه و إن كان خروجهما بأمر الله تعالى و جرى ذلك مجرى ذمه لفرعون بأنه يذبح أبناءهم و إنما أمر بذلك و تحقيق الذم فيها راجع إلى فعل المذموم و لكنه يذكر بهذه الصفة لبيان منزلة فعله في عظم الفاحشة « ينزع عنهما » عند وسوسته و دعائه لهما « لباسهما » من ثياب الجنة و قيل كان لباسهما الظفر عن ابن عباس أي كان شبه الظفر و على خلقته و قيل كان لباسهما نورا عن وهب بن منبه « ليريهما سوآتهما » عوراتهما « إنه » يعني الشيطان « يراكم هو و قبيله » أي نسله عن الحسن و ابن زيد يدل عليه قوله « أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني » و قيل جنوده و أتباعه من الجن و الشياطين « من حيث لا ترونهم » قال ابن عباس إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم و صدور بني آدم مساكن لهم كما قال الذي يوسوس في صدور الناس فهم يرون بني آدم و بنو آدم لا يرونهم قال قتادة و الله إن عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المئونة إلا من عصم الله و إنما قال ذلك لأنا إذا كنا لا نراهم لم نعرف قصدهم لنا بالكيد و الإغواء فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس خيفة أن يكون ذلك من الشيطان و إنما لا يراهم البشر لأن أجسامهم شفافة لطيفة تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع و قال أبو الهذيل و أبو بكر بن الإخشيد يجوز أن يمكنهم الله تعالى فينكشفوا فيراهم حينئذ من يحضرهم و إليه ذهب علي بن عيسى و قال إنهم ممكنون من ذلك و هو الذي نصره
مجمع البيان ج : 4 ص : 633
الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله قال الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه و هو الأقوى عندي و قال الجبائي لا يجوز أن يرى الشياطين و الجن لأن الله عز اسمه قال « لا ترونهم » و إنما يجوز أن يروا في زمن الأنبياء بأن يكشف الله أجسادهم على الأنبياء كما يجوز أن يرى الناس الملائكة في زمن الأنبياء « إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون » أي حكمنا بذلك لأنهم يتناصرون على الباطل كما قال و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أي حكموا بذلك حكما باطلا و إنما خص الذين لا يؤمنون تنبيها على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين المتيقظين منهم و إنما يتمكنون من الكفرة و الجهال و الفسقة الإغفال « و إذا فعلوا فاحشة » كنى به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم فكان يطوف الرجال و النساء عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب و هم الحمس قال الفراء كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا و إن عمل من صوف يسمى رهطا و كانت تضع المرأة على قبلها النسعة فتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله
و ما بدا منه فلا أحله يعني الفرج لأن ذلك يستر سترا تاما و في الآية حذف تقديره و إذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها « قالوا وجدنا عليها آباءنا » قيل و من أين أخذها آباؤكم قالوا « الله أمرنا بها » أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم إذا فعلوا ما يعظم قبحه اعتذروا لنفوسهم إنا وجدنا آباءنا يفعلونها و أن آباءهم فعلوا ذلك من قبل الله و قال الحسن إنهم كانوا أهل إجبار فقالوا لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه فلهذا قالوا « و الله أمرنا بها » فرد الله سبحانه عليهم قولهم بأن قال « إن الله لا يأمر بالفحشاء » ثم أنكر عليهم من وجه آخر فقال « أ تقولون على الله ما لا تعلمون » لأنهم إن قالوا لا لنقضوا مذهبهم و إن قالوا نعم افتضحوا في قولهم قال الزجاج « أ تقولون على الله » معناه أ تكذبون عليه .

مجمع البيان ج : 4 ص : 634
قُلْ أَمَرَ رَبى بِالْقِسطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كلِّ مَسجِد وَ ادْعُوهُ مخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقاً هَدَى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيهِمُ الضلَلَةُ إِنَّهُمُ اتخَذُوا الشيَطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَ يحْسبُونَ أَنهُم مُّهْتَدُونَ(30)

اللغة

أصل القسط العدل فإذا كان إلى جهة الحق فهو عدل و منه قوله إن الله يحب المقسطين و إذا كان إلى جهة الباطل فهو جور و منه قوله و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا و أصل الإخلاص إخراج كل شائب من الجنس و منه إخلاص الدين لله و هو توجيه العبادة إليه خالصا دون غيره و البداء فعل الشيء أول مرة و العود فعله ثاني مرة و قد يكون فعل أول خصلة منه بدء كبدء الصلاة و بدء القراءة و بدأ و أبدأ لغتان و الفريق جماعة انفصلت من جماعة و الاتخاذ افتعال من الأخذ بمعنى إعداد الشيء لأمر من الأمور و الحسبان بمعنى الظن و هو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على غيره فبالقوة يتميز من اعتقاد التقليد و التبخيت و بالتجويز يتميز من العلم لأن مع العلم القطع .

الإعراب

« و أقيموا » عطف على ما تقدم من قوله لا يفتننكم الشيطان فتقديره احذروا الشيطان و أقيموا وجوهكم عن أبي مسلم و قيل إن تقديره أمر ربي بالقسط و قل أقيموا و قوله « كما بدأكم » قال أبو علي الفارسي تقديره كما بدأ خلقكم ثم حذف المضاف و « تعودون » معناه و يعود خلقكم ثم حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فصار المخاطبون فاعلين و « فريقا حق عليهم الضلالة » نصبه ليعطف فعلا على فعل و تقديره و فريقا أضل فأضمر أضل لأنه قد فسره ما بعده فأغني عن ذكره و نظيره قوله يدخل من يشاء في رحمته و الظالمين أعد لهم عذابا أليما و قال الفراء فريقا منصوب على الحال من تعودون و فريقا الثاني عطف عليه و لو رفع على تقدير أحدهما كذا و الآخر كذا لجاز كما قال قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة .

المعنى

لما بين سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء و هو اسم جامع للقبائح و السيئات عقبه ببيان ما يأمر به من القسط و هو اسم جامع لجميع الخيرات فقال « قل » يا محمد « أمر ربي بالقسط » أي بالعدل و الاستقامة عن مجاهد و السدي و أكثر المفسرين و قيل بالتوحيد عن الضحاك و قيل بلا إله إلا الله عن ابن عباس و قيل بجميع الطاعات و القرب عن أبي مسلم « و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد » قيل فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة عن مجاهد و السدي و ابن زيد ( و ثانيها ) أن معناه أقيموا
مجمع البيان ج : 4 ص : 635
وجوهكم إلى الجهة التي أمركم الله بالتوجه إليها في صلاتكم و هي الكعبة و المراد بالمسجد أوقات السجود و هي أوقات الصلاة عن الجبائي و غيره ( و ثالثها ) أن المراد إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا و لا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي و المراد بالمسجد موضع السجود عن الفراء و هو اختيار المغربي ( و رابعها ) إن معناه قصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر بالجماعة لها ندبا عند الأكثرين و حتما عند الأقلين ( و خامسها ) أن معناه أخلصوا وجوهكم لله تعالى في الطاعة فلا تشركوا به وثنا و لا غيره عن الربيع « و ادعوه مخلصين له الدين » و هذا أمر بالدعاء و التضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين و قيل معناه و اعبدوه مخلصين له الدين « كما بدأكم تعودون » قيل في وجه اتصاله بما قبله وجوه ( أحدها ) أن معناه و ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون و مجازون و إن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء و اعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون إليه في الخلق الثاني ( و ثانيها ) أنه يتصل بقوله فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون فقال « كما بدأكم تعودون » أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم عن الزجاج قال و إنما ذكره على وجه الحجاج عليهم لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ( و ثالثها ) أنه كلام مستأنف أي يعيدكم بعد الموت فيجازيكم عن أبي مسلم قال قتادة بدأكم من التراب و إليه تعودون كما قال منها خلقناكم و فيها نعيدكم و قيل معناه كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة و يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال تحشرون يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا أنا كنا فاعلين و قيل معناه تبعثون على ما متم عليه ، المؤمن على إيمانه و الكافر على كفره عن ابن عباس و جابر « فريقا » أي جماعة « هدى » أي حكم لهم بالاهتداء بقبولهم للهدى أو لطف لهم بما اهتدوا عنده أو هداهم إلى طريق الثواب كما تكرر بيانه في مواضع « و فريقا حق » أي وجب « عليهم الضلالة » إذا لم يقبلوا الهدى أو حق عليهم الخذلان لأنه لم يكن لهم لطف ينشرح له صدورهم أو حق عليهم العذاب و الهلاك بكفرهم و يؤيد هذا القول الأخير أنه سبحانه ذكر الهدى و الضلال بعد العود و البعث ثم قال « إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله » بين سبحانه أنه لم يبدأهم بالعقوبة و لكن جازاهم على عصيانهم و اتباعهم الشيطان و إنما اتخذوهم أولياء بطاعتهم لهم فيما دعوهم إليه « و يحسبون أنهم مهتدون » و معناه و هم مع ذلك يظنون أنهم في ذلك على هداية و حق .

مجمع البيان ج : 4 ص : 636
* يَبَنى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكمْ عِندَ كلِّ مَسجِد وَ كلُوا وَ اشرَبُوا وَ لا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يحِب الْمُسرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(32)

القراءة

قرأ نافع وحده خالصة بالرفع و الباقون بالنصب .

الحجة

قال أبو علي من رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو « هي » و يكون « للذين آمنوا » تبيينا للخلوص و لا شيء فيه على هذا و من قال هذا حلو حامض أمكن أن يكون « للذين آمنوا » خبرا و خالصة خبر آخر و من نصب « خالصة » كان حالا مما في قوله « للذين آمنوا » أ لا ترى أن فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ الذي هو هي فخالصة حال عن ذلك الذكر و العامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل و حجة من رفع أن المعنى هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة و إن شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا و من نصب فالمعنى عنده ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة لهم و انتصاب « خالصة » على الحال أشبه بقوله « إن المتقين في جنات و عيون آخذين » و نحو ذلك مما انتصب الاسم فيه على الحال بعد الابتداء و خبره و ما يجري مجراه إذا كان فيه معنى فعل قال الزجاج من نصب « خالصة » فهو حال على أن العامل في قولك « في الحياة الدنيا » في تأويل الحال كأنك تقول هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي قوله « في الحياة الدنيا » يحتمل ثلاثة أضرب ( أحدها ) أن يكون قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا خالصة على أن يكون خبر هي قوله « للذين آمنوا » و يكون « في الحياة الدنيا » ظرفا و العامل فيه الظرف الذي هو قوله « للذين آمنوا » و التقدير هي في الحياة الدنيا للمؤمنين مقدار خلوصها يوم القيامة ففي هذا الوجه يجوز تقديرها مقدمة على اللام الجارة لأنه ظرف للذين آمنوا و الظروف و إن كان العامل فيها المعاني فإن تقديمها عليها جائز و إن لم يجز ذلك في الأحوال و يحتمل أن يكون قوله « في الحياة الدنيا » متصلا بالصلة التي هي « آمنوا » و هي العاملة فيه و المعنى هي للذين آمنوا في حياتهم أي للذين آمنوا و لم
مجمع البيان ج : 4 ص : 637
يكفروا فيها خالصة فموضع في على هذا نصب ب آمنوا و يجوز أن يكون « في الحياة الدنيا » في موضع حال و صاحب الحال هو هي و العامل في الحال معنى الفعل و هو قوله « للذين آمنوا » و المعنى قل هي لهم مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة و لا يجوز في هذا الوجه و لا في الوجه الذي قبله تقدير تقديم « في الحياة » على قوله « للذين آمنوا » أما في الوجه الأول فلأن قوله « في الحياة » صلة الذين و لا يجوز تقديم الصلة على الموصول و أما في الوجه الآخر فلأنه في موضع الحال و الحال لا يجوز تقديمها إذا كان العامل فيها معنى الفعل و هذا الوجه الثالث ذكره أبو إسحاق و أما قراءة من قرأ « خالصة » بالنصب جعله منصوبا على الحال على أن العامل في قوله « في الحياة الدنيا » على تأويل الحال إلى آخر كلامه فينبغي أن تعلم أن من نصب « خالصة » في قراءة جاز أن يكون « في الحياة الدنيا » ظرفا للذين آمنوا و العامل فيه معنى الفعل و جاز أن يكون متعلقا ب آمنوا و ظرفا له و جاز أن يكون في موضع الحال كما ذكر فالوجهان الأولان لا يحتاج معهما إلى تقدير شيء حتى تعلقه بما قبل أما إذا كان ظرفا للأم الجارة فمعنى الفعل يعمل فيه كما تقول لك ثوب كل يوم و إذا كان من الصلة فنفس الفعل الظاهر يعمل فيه فأما إذا جعلته حالا فإنه ينبغي أن تقدر فعلا و أو اسم فاعل يكون في موضع الحال و يكون في الحياة متعلقا به و لا يوهمنك قول أبي إسحاق الذي ذكرناه أنه يلزم أن يقدر قوله « في الحياة الدنيا » في تقدير الحال لا غير إذا جعلت خالصة منصوبا على الحال فإن الوجهين الآخرين كل واحد منهما مع نصب « خالصة » على الحال سائغ جائز .

المعنى

لما تقدم ذكر ما أنعم الله سبحانه على عباده من اللباس و الرزق أمرهم في أثرها بتناول الزينة و التستر و الاقتصاد في المأكل و المشرب فقال « يا بني آدم » و هو خطاب لسائر المكلفين « خذوا زينتكم عند كل مسجد » أي خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات و الأعياد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و قيل عند كل صلاة روى العياشي بإسناده أن الحسن بن علي (عليهماالسلام) كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك فقال إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي و هو يقول « خذوا زينتكم عند كل مسجد » فأحب أن ألبس أجود ثيابي و قيل معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم و إنما قال ذلك لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف على ما تقدم بيانه و كان يطوف الرجال بالنهار و النساء بالليل فأمرنا بلبس الثياب في الصلاة و الطواف عن جماعة من المفسرين و قيل إن أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة روي ذلك عن الصادق (عليه السلام) « و كلوا و اشربوا »
مجمع البيان ج : 4 ص : 638
صورته صورة الأمر و المراد الإباحة و هو عام في جميع المباحات « و لا تسرفوا » أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم تكن مسرفا و لو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله لكان إسرافا و قيل معناه لا تخرجوا عن حد الاستواء في زيادة المقدار و قد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد ليس في كتابكم من علم الطب شيء و العلم علمان علم الأديان و علم الأبدان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه و هو قوله « كلوا و اشربوا و لا تسرفوا » و جمع نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) الطب في قوله المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء و أعط كل بدن ما عودته فقال الطبيب ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا و قيل معناه و لا تأكلوا محرما و لا باطلا على وجه لا يحل و أكل الحرام و إن قل إسراف و مجاوزة للحد و ما استقبحه العقلاء و عاد بالضرر عليكم فهو أيضا إسراف لا يحل كمن يطبخ القدر بماء الورد و يطرح فيها المسك و كمن لا يملك إلا دينار فاشترى به طيبا فتطيب به و ترك عياله محتاجين « إنه لا يحب المسرفين » أي يبغضهم لأنه سبحانه قد ذمهم به و لو كان بمعنى لا يحبهم و لا يبغضكم لم يكن ذما و لا مدحا و لما حث الله سبحانه على تناول الزينة عند كل مسجد و ندب إليه الأكل و الشرب و نهي عن الإسراف و كان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس حتى أنهم كانوا يحرمون السمون و الألبان في الإحرام و كانوا يحرمون السوائب و البحائر أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال « قل » يا محمد « من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق » أي من حرم الثياب التي تتزين بها الناس مما أخرجها الله من الأرض لعباده و الطيبات من الرزق قيل هي المستلذات من الرزق و قيل هي و المحللات و الأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين « قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة » قال ابن عباس يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم و لبسوا من جياد ثيابهم و نكحوا من صالح نسائهم ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شيء قال الفراء مجازاة هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا و هي خالصة لهم في الآخرة و هذا معنى قول ابن عباس و قيل معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة و هي خالصة يوم القيامة من ذلك عن الجبائي « كذلك نفصل الآيات » أي كما نميز لكم الآيات و ندلكم بها على منافعكم و صلاح
مجمع البيان ج : 4 ص : 639
دينكم كذلك نفصل الآيات « لقوم يعلمون » و في هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة و أكل الأطعمة الطيبة من الحلال و روى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي عن أبيه زين العابدين بن الحسين بن علي (عليهماالسلام) أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به و لا يرى بذلك بأسا و يقول « قل من حرم زينة الله » الآية و بإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) و عليه جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه فقال و ما بأس بالخز قلت فسداه إبريسم قال لا بأس به فقد أصيب الحسين (عليه السلام) و عليه جبة خز ثم قال إن عبد الله بن عباس لما بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه و تطيب بأطيب طيبه و ركب أفضل مراكبه فخرج إليهم فوافقهم قالوا يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة و مراكبهم فتلا هذه الآية « قل من حرم زينة الله » إلى آخرها فالبس و تجمل فإن الله جميل يحب الجمال و ليكن من حلال و في الآية دلالة أيضا على أن الأشياء على الإباحة لقوله « من حرم » فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل .
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبىَ الْفَوَحِش مَا ظهَرَ مِنهَا وَ مَا بَطنَ وَ الاثْمَ وَ الْبَغْىَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَ أَن تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سلْطناً وَ أَن تَقُولُوا عَلى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(33) وَ لِكلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَستَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَستَقْدِمُونَ(34)

اللغة

التحريم هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنبه و ضده التحليل و هو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله و أصل التحريم المنع من قولهم حرم فلان الرزق حرمانا فهو محروم و أحرم بالحج و حرمة الرجل زوجته و الحرمات الجنايات و المحرم القرابة التي لا يحل تزوجها و حريم الدار ما كان من حقوقها و الفواحش جمع فاحشة و هي أقبح القبائح و هي الكبائر و البغي الاستطالة على الناس و حده طلب الترؤس بالقهر من غير حق و أصله الطلب و ينبغي كذا أي هو أولى أن يطلب و السلطان و البرهان و البيان و الفرقان
مجمع البيان ج : 4 ص : 640
نظائر و حدودها تختلف فالبيان إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه و البرهان إظهار صحة المعنى و إفساد نقيضه و الفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به و السلطان إظهار ما يتسلط به على نقيض المعنى بالإبطال و الأمة الجماعة التي يعمها معنى و أصلها من أمه يومه إذا قصده فالأمة الجماعة التي على مقصد واحد و الأجل الوقت المضروب لانقضاء المهل لأن بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل و بين الوقت الآخر مهلا مثل أجل الدين و أجل الرزق و أجل الوعد و أجل العمر .

المعنى

ثم بين سبحانه المحرمات فقال « قل » يا محمد « إنما حرم ربي الفواحش » أي جميع القبائح و الكبائر عن الجبائي و أبي مسلم « ما ظهر منها و ما بطن » أي ما علن منها و ما خفي و قد ذكرنا ما قيل فيه في سورة الأنعام و معناه لم يحرم ربي إلا الفواحش لما قد بينا قبل أن لفظة إنما محققة لما ذكرنا فيه لما لم يذكر فذكر القبائح على الإجمال ثم فصل للبيان فقال « و الإثم و البغي » فكأنه قال حرم ربي الفواحش التي منها الإثم و منها البغي و منها الإشراك بالله و قيل إن الفواحش هي الزنا و هو الذي بطن منها و التعري في الطواف و هو الذي ظهر منها عن مجاهد و قيل هي الطواف فما ظهر منها طواف الرجال بالنهار و ما بطن طواف النساء بالليل و الإثم قيل هو الذنوب و المعاصي عن الجبائي و قيل الإثم ما دون الحد عن الفراء و قيل الإثم الخمر عن الحسن و أنشد الأخفش :
شربت الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يذهب بالعقول و قال آخر :
نهانا رسول الله أن نقرب الخنا
و أن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا و البغي الظلم و الفساد و قوله « بغير الحق » تأكيد كقوله و يقتلون النبيين بغير حق و قيل قد يخرج البغي من كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص « و أن تشركوا بالله » أي و حرم الشرك بالله « ما لم ينزل به سلطانا » أي لم يقم عليه حجة و كل إشراك بالله فهو بهذه الصفة ليس عليه حجة و لا برهان « و إن تقولوا على الله ما لا تعلمون » أي و حرم القول على الله بغير علم ثم بين تعالى ما فيه تسلية النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في تأخير عذاب الكفار فقال « و لكل أمة أجل » أي لكل جماعة و أهل عصر وقت لاستئصالهم عن الحسن و لم يقل لكل أحد لأن
مجمع البيان ج : 4 ص : 641
ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر و وجه آخر و هو أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم بإتيان الرسل و قال الجبائي المراد بالأجل هنا أجل العمر الذي هو مدة الحياة و هذا أقوى لأنه يعم جميع الأمم « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون » أي لا يتأخرون « ساعة » عن ذلك الوقت « و لا يستقدمون » أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت و قيل معناه لا يطلبون التأخر عن ذلك الوقت للإياس عنه و لا يطلبون التقدم عليه و معنى « جاء أجلهم » قرب أجلهم كما يقال جاء الصيف إذا قارب وقته .
يَبَنى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسلٌ مِّنكُمْ يَقُصونَ عَلَيْكمْ ءَايَتى فَمَنِ اتَّقَى وَ أَصلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ(35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا وَ استَكْبرُوا عَنهَا أُولَئك أَصحَب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(36)

الإعراب

« إما » أصله إن الجزاء دخلت عليه ما و لدخولها دخلت النون الثقيلة في « يأتينكم » و لو قال إن يأتينكم لم يجز و قد شرحنا هذا في سورة البقرة و بيناه و قال سيبويه إن حتى و أما و إلا لا يجوز فيهن الإمالة لأن هذه الألفات ألزمت الفتح لأنها أواخر حروف جاءت لمعنى ففصل بينها و بين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حبلى و هدى إلا أن حتى كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى و أما التي للتخيير شبهت بأن التي ضمت إليها ما فكتبت بالألف و إلا كتبت بالألف لأنها لو كتبت بالياء لأشبهت إلى .

المعنى

لما تقدم ذكر النعم الدنيوية عقبه بذكر النعم الدينية « يا بني آدم » هو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم من جاءه الرسول منهم و من جاز أن يأتيه الرسول معطوف على ما تقدم « إما يأتينكم » أي إن يأتكم « رسل منكم » أي من جنسكم « يقصون عليكم آياتي » أي يعرضونها عليكم و يخبرونكم بها « فمن اتقى » إنكار الرسل و الآيات « و أصلح » عمله و قيل فمن اتقى المعاصي و اجتنبها و التقوى اسم جامع لذلك و تقديره فمن اتقى منكم و أصلح « فلا خوف عليهم » في الدنيا « و لا هم يحزنون » في الآخرة « و الذين كذبوا ب آياتنا » أي حججنا « و استكبروا عنها » أي عن قبولها « أولئك أصحاب النار »
مجمع البيان ج : 4 ص : 642
الملازمون لها « هم فيها خالدون » باقون فيها على وجه الدوام و التأييد .
فَمَنْ أَظلَمُ مِمَّنِ افْترَى عَلى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّب بِئَايَتِهِ أُولَئك يَنَالهُُمْ نَصِيبهُم مِّنَ الْكِتَبِ حَتى إِذَا جَاءَتهُمْ رُسلُنَا يَتَوَفَّوْنهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضلُّوا عَنَّا وَ شهِدُوا عَلى أَنفُسِهِمْ أَنهُمْ كانُوا كَفِرِينَ(37)

اللغة

النيل وصول النفع إلى العبد إذا أطلق فإن قيد وقع على الضرر لأن أصله الوصول إلى الشيء من نلت أنال نيلا قال امرؤ القيس :
سماحة ذا و بر ذا و وفاء ذا
و نائل ذا إذا صحا و إذا سكر و التوفي قبض الشيء بتمامه يقال توفيته و استوفيته .

المعنى

ثم ذكر سبحانه وعيد المكذبين فقال « فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منه صورته صورة الاستفهام و المراد به الإخبار و إنما جاء بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ « أو كذب ب آياته » الدالة على توحيده و نبوة رسله « أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب » أي من العذاب إلا أنه كنى عن العذاب بالكتاب لأن الكتاب ورد به كقوله « لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين » عن الحسن و أبي صالح و قيل معناه ينالهم نصيبهم من العمر و الرزق و ما كتب لهم من الخير و الشر فلا يقطع عنهم رزقهم بكفرهم عن الربيع و ابن زيد و قيل ينالهم جميع ما كتب لهم و عليهم عن مجاهد و عطية « حتى إذا جاءتهم رسلنا » يعني الملائكة أي حتى إذا استوفوا أرزاقهم و جاءهم ملك الموت مع أعوانه « يتوفونهم » أي يقبضون أرواحهم و قيل معناه حتى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم يتوفونهم إلى النار يوم القيامة عن الحسن « قالوا » يعني الملائكة « أين ما كنتم تدعون من دون الله » من الأوثان و الأصنام و المراد بهذا السؤال توبيخهم أي هلا دفعوا عنكم ما نزل بكم من
مجمع البيان ج : 4 ص : 643
العذاب « قالوا » يعني قال الكفار « ضلوا عنا » أي ذهبوا عنا و افتقدناهم فلا يقدرون على الدفع عنا و بطلت عبادتنا إياهم « و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين » أي أقروا على نفوسهم بالكفر .
قَالَ ادْخُلُوا فى أُمَم قَدْ خَلَت مِن قَبْلِكم مِّنَ الْجِنِّ وَ الانسِ فى النَّارِ كلَّمَا دَخَلَت أُمَّةٌ لَّعَنَت أُخْتهَا حَتى إِذَا ادَّارَكوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَت أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضلُّونَا فَئَاتهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكلّ ضِعْفٌ وَ لَكِن لا تَعْلَمُونَ(38) وَ قَالَت أُولَاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كانَ لَكمْ عَلَيْنَا مِن فَضل فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(39)

القراءة

قرأ أبو بكر لا يعلمون بالياء و الباقون بالتاء .

الحجة

وجه القراءة بالياء أنه حمل الكلام على كل لأنه و إن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى .

اللغة

الخلو انتفاء الشيء عن مكانه يقال خلا عن البيت و كذلك خلت بمعنى مضت لأنها إذا مضت بالهلاك فقد خلا مكانها منها الجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين الناس لرقتهم يغلب عليهم التمرد في أفعالهم كما يغلب على الملك أفعال الخير ، و الضعف المثل الزائد على مثله فإذا قال القائل أضعف هذا الدرهم فمعناه اجعل معه درهما آخر لا دينارا و كذلك إذا قال أضعف الاثنين فمعناه أجعلهما أربعة و حكي أن المضعف في كلام العرب ما كان ضعفين و المضاعف ما كان أكثر من ذلك ، و اداركوا أصله تداركوا فأدغمت التاء في الدال و اجتلب ألف الوصل ليمكن النطق بالساكن الذي بعده و معناه تلاحقوا .

المعنى

« قال ادخلوا » هذه حكاية قول الله تعالى للكفار يوم القيامة و أمره لهم
مجمع البيان ج : 4 ص : 644
بالدخول و يجوز أن يكون إخبارا عن جعله إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول كما قال كونوا قردة خاسئين و المراد أنه جعلهم كذلك « في أمم قد خلت » أي في جملة أقوام و جماعات قد مضت « من قبلكم من الجن و الإنس » على الكفر « في النار » و قيل إن في بمعنى مع أي ادخلوا مع أمم كافرة « كلما دخلت أمة » من هذه الأمم النار « لعنت أختها » يعني التي سبقتها إلى النار و هي أختها في الدين لا في النسب يريد أنهم يلعنون من كان قبلهم عن ابن عباس و قيل يلعن الأتباع القادة و الرؤساء إذا حصلوا في العذاب بعد ما كانوا يتوادون في الدنيا يقولون أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله عن أبي مسلم « حتى إذا اداركوا » أي تلاحقوا و اجتمعوا « فيها » أي في النار « جميعا » أي كان هذا حالهم حتى اجتمعوا فيها فلما اجتمعوا فيها « قالت أخراهم لأولاهم » أي قالت أخراهم دخولا النار و هم الأتباع لأولاهم دخولا و هم القادة و الرؤساء « ربنا هؤلاء أضلونا » أي شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها عن ابن عباس و قيل معناه دعونا إلى الضلال و حملونا عليه و منعونا عن اتباع الحق قال الصادق (عليه السلام) يعني أئمة الجور « فأتهم عذابا ضعفا من النار » أي فأعطهم عذابا مضاعفا قال ابن مسعود أراد بالضعف هنا الحيات و الأفاعي و قيل أراد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر و بالآخر عذابهم على الإغواء « قال » الله تعالى « لكل ضعف » أي للتابع و المتبوع عذاب مضاعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا « و لكن لا تعلمون » أيها المضلون و المضلون ما لكل فريق منكم من العذاب « و قالت أولاهم لأخراهم » أي قال المتبوعون للتابعين « فما كان لكم علينا من فضل » أي تفاوت في الكفر حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا و ينقص من عذابكم و قيل معناه قالت الأمة السابقة للأمة المتاخرة ما كان لكم علينا من فضل في الرأي و العقل و قد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا و قيل من فضل أي من تخفيف من العذاب « فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون » من الكفر باختياركم لا باختيارنا لكم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 645
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا وَ استَكْبرُوا عَنهَا لا تُفَتَّحُ لهَُمْ أَبْوَب السمَاءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتى يَلِجَ الجَْمَلُ فى سمِّ الخِْيَاطِ وَ كذَلِك نجْزِى الْمُجْرِمِينَ(40) لهَُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِن فَوْقِهِمْ غَوَاش وَ كَذَلِك نجْزِى الظلِمِينَ(41)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف لا يفتح بالياء و التخفيف و قرأ أبو عمرو بالتاء و التخفيف و قرأ الباقون بالتاء و التشديد و روي في الشواذ عن ابن عباس و سعيد بن جبير و عكرمة و مجاهد و الشعبي و ابن الشخير حتى يلج الجمل بالضم و التشديد عن سعيد بن جبير في رواية أخرى و عبد الكريم و حنظلة الجمل بالضم و التخفيف و عن ابن عباس أيضا الجمل بضم الجيم و سكون الميم و الجمل بضمتين و عن ابن السماك الجمل بفتح الجيم و سكون الميم .

الحجة

حجة من قرأ « لا تفتح » بالتشديد قوله جنات عدن مفتحة لهم الأبواب و حجة من خفف قوله ففتحنا أبواب السماء و أما الجمل بالضم و التشديد و الجمل بالتخفيف و كلاهما الحبل الغليظة من القنب و قيل هو حبل السفينة و قيل الحبال المجموعة و أما الجمل فيجوز أن يكون جمع جمل فيكون مثل أسد و أسد و وثن و وثن و كذلك المضموم أيضا كأسد و وثن قال ابن جني و أما الجمل فيبعد أن يكون مخففا من جمل لخفة الفتحة و إن كان قد جاء عنهم قوله :
و ما كل مبتاع و لو سلف صفقة
يراجع ما قد فاته برداد .

اللغة

السم بفتح السين و ضمها الثقب و منه السم القاتل لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب فينقض بنيته و كل ثقب في البدن لطيف فهو سم و سم و جمعه سموم و قال الفرزدق :
فنفست عن سمية حتى تنفسا
و قلت له لا تخش شيئا و رائيا يريد بسميه ثقبي أنفه و يجمع السم القاتل سماما و الخياط و المخيط الإبرة كاللحاف و الملحف و القناع و المقنع و الإزار و المئزر و القرام و المقرم ذكره الفراء و جهنم اسم من أسماء النار و اشتقاقها من الجهومة و هي الغلظ و قيل أخذ من قولهم بئر جهنام أي بعيد قعرها ، و المهاد الوطاء الذي يفترش و منه مهد الصبي و قد مهدت له هذا الأمر أي وطأته له ، و الغواشي جمع غاشية و هو كل ما يغشاك أي يسترك و منه غاشية السرج و فلان يغشى فلانا أي يأتيه و يلابسه .

الإعراب

قال أبو علي للنحويين في نحو غواشي و جوابي قولان ( أحدهما ) مذهب سيبويه و الخليل و هو أن الياء حذفت حذفا لا لالتقاء الساكنين فلما حذفت الياء انتقص الاسم عن الزنة التي كان التنوين يعاقبها و لا يجتمع معها فدخلها و إنما حذف هنا الياء لا لالتقاء
مجمع البيان ج : 4 ص : 646
الساكنين كما يحذف حرف اللين في الوقف في نحو و الليل إذا يسر و ذلك ما كنا نبغ و قد حذف في الوصل أيضا و كان الذي حسن ذلك الحذف أنها قد صارت بمنزلة الحركات لأنها قد صارت عوضا منها بدلالة تعاقبها و أنها تحذف في الموضع الذي تحذف فيه الحركة فلما قوي الحذف فيها و كثر و كان هذا الجمع خارجا عن الأبنية الأول و بائنا لزم الحذف و القول الآخر ما حدث السراج عن المبرد عن المازني قال ينظر يونس النحوي و أبو زيد و الكسائي إلى جواري و بابه فما كان من الصحيح لا يلحقه التنوين لم يلحقوه في المعتل و ما كان يلحقه في التنوين في الصحيح ألحقوه في المعتل قال و الذي عليه البصريون هو القول الأول .

المعنى

ثم عاد الكلام إلى الوعيد فقال سبحانه « إن الذين كذبوا ب آياتنا و استكبروا عنها » أي تكبروا عن قبولها « لا تفتح لهم أبواب السماء » أي لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم كما تفتح لأرواح المؤمنين عن ابن عباس و السدي و قيل لا تفتح لأعمالهم و لدعائهم عن الحسن و مجاهد و عن ابن عباس في رواية أخرى و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال أما المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها و أما الكافر فيصعد بعمله و روحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين و هو واد بحضرموت يقال له برهوت و قيل لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء عن الجبائي « و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط » أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة و المعنى لا يدخلون الجنة أبدا و سئل ابن مسعود عن الجمل فقال هو زوج الناقة كأنه استجهل من سأله عن الجمل و هذا كما تقول العرب في التبعيد للشيء لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب و حتى يبيض القار و حتى يؤوب القارظان قال الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
و صار القار كاللبن الحليب و قال آخر :
فرجي الخير و انتظري إيابي
إذا ما القارظ العنزي آبا و تعليق الحكم بما لا يتوهم وجوده و لا يتصور حصوله تأكيد له و تحقيق لليأس من وجوده « و كذلك نجزي المجرمين » أي و مثل ما جزينا هؤلاء نجزي سائر المجرمين
 

<<        الفهرس        >>