جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 5 ص : 227
الرضا (عليهماالسلام) و رواه الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عن علي (عليه السلام) و قيل الشاهد ملك يحفظه و يسدده عن مجاهد و قيل بينة من ربه حجة من عقله و أضاف البينة إليه تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية و الشرعية و يتلوه شاهد منه يشهد بصحته و هو القرآن عن أبي مسلم « و من قبله » أي و من قبل القرآن لأنه مدلول عليه فيما تقدم من الكلام و قيل معناه و من قبل محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) « كتاب موسى » يتلوه أيضا في التصديق لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشر به موسى في التوراة « إماما » يؤتم به في أمور الدين « و رحمة » أي و نعمة من الله تعالى على عباده و قيل معناه ذا رحمة أي سبب الرحمة لمن آمن به « أولئك يؤمنون به » معناه أولئك الذين هم على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن و قيل بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تقدير الآية أ فمن كان على بينة من ربه و بصيرة كمن ليس على بينة و لا بصيرة إلا أنه اختصر و قيل تقديره أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه على صدقه و يتقدمه شاهد ف آمن بهذا كله كمن أراد الحياة الدنيا و زينتها و لم يؤمن ثم أخبر عنه فقال « أولئك يؤمنون به » و قوله « و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده » معناه و من يكفر بالقرآن أو بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من مشركي العرب و فرق الكفار كاليهود و النصارى و غيرهم فالنار موعده و مصيره و مستقره و في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لا يسمع بي أحد من الأمة لا يهودي و لا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار « فلا تك في مرية » أي في شك « منه » الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد جميع المكلفين و قيل إن تقديره لا تك أيها الإنسان أو أيها السامع في مرية من ربك أي من أمره و إنزاله « إنه الحق من ربك » الهاء راجع إلى القرآن و قيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل معناه أن الخبر الذي أخبرتك به حق من عند الله تعالى « و لكن أكثر الناس لا يؤمنون » بصحته و صدقه لجهلهم بالله تعالى و جحدهم لنبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و من أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منه إلا أنه خرج مخرج الاستفهام ليكون أبلغ « أولئك يعرضون على ربهم » يوم القيامة أي يوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا و يسألون عن أعمالهم و يجازون عليها « و يقول الأشهاد » يعني الملائكة يشهدون على العباد و هم الحفظة عن مجاهد و قيل هم الأنبياء عن الضحاك و قيل هم شهداء كل عصر من أئمة المؤمنين « هؤلاء الذين كذبوا على ربهم » أي كذبوا على رسل ربهم و أضافوا إلى الله ما لم ينزله « ألا لعنة الله على الظالمين » هذا ابتداء خطاب من الله تعالى و قيل هو من كلام الأشهاد و معناه ألا لعنة الله على الذين ظلموا أنفسهم بإدخال الضرر عليها و غيرهم بإحلال الآلام عليهم و لعنة الله إبعاده من رحمته ثم وصف سبحانه الظالمين الذين لعنهم فقال « الذين يصدون عن سبيل الله » أي يغوون الخلق و يصرفونهم عن دين الله و قد يكون ذلك بإلقاء الشبهة إليهم و قد يكون أيضا بالترغيب و الترهيب و الإطماع
مجمع البيان ج : 5 ص : 228
و التهديد و غير ذلك و إنما جاز تمكين الصاد عن سبيل الله من هذا الفساد لأنه مكلف بالامتناع منه و ليس في منعه لطف بأن ينصرف عن الفساد إلى الصلاح فهو كشهوة القبيح الذي به يصح التكليف « و يبغونها عوجا » أي و يطلبون لسبيل الله زيغا عن الاستقامة و عدولا عن الصواب و قيل إن بغيهم العوج هي زيادتهم و نقصانهم في الكتاب ليتغير الأدلة و لا يستقيم صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما كان يفعلها اليهود و قيل هي إيرادهم الشبه و كتمانهم المراد و تحريفهم التأويل « و هم بالآخرة » أي بالقيامة و البعث و النشور و الثواب و العقاب « هم كافرون » أي جاحدون غير مقرين « أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض » أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله و أنهم الذين يصدون عن سبيل الله بأنهم لم يكونوا فائتين في الأرض هربا فيها من الله تعالى إذا أراد إهلاكهم كما يهرب الهارب من عدو قد جد في طلبه و إنما خص الأرض بالذكر و إن كانوا لا يفوتون الله و لا يخرجون عن قبضته على كل حال لأن معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر و يعتصمون بها عند المخاوف فكأنه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه و مانع من عذابه « و ما كان لهم من دون الله من أولياء » معناه أنه ليس لهم من ولي و لا ناصر ينصرونهم و يحمونهم من الله سبحانه مما يريد إيقاعه بهم في الدنيا من المكاره و في الآخرة من أنواع العذاب « يضاعف لهم العذاب » قيل في معناه وجوه ( أحدها ) أنه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر بل يعاقبون عليه و على سائر المعاصي كما قال في موضع آخر زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ( و ثانيها ) أن معناه أنه كلما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر من العذاب مثله أو فوقه كذلك دائما مؤبدا و كل ذلك على قدر الاستحقاق ( و ثالثها ) أنه يضاعف العذاب على رؤسائهم لكفرهم و ظلمهم أنفسهم و لدعائهم الاتباع إليه و هو عذاب الضلال و عذاب الصد عن الدين « ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون » فيه وجوه ( أحدها ) يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الأبصار فلا يبصرون عنادا و ذهابا عن الحق فأسقطت الباء عن الكلام كما في قول الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيا
و نبذله إذا نضج القدور أراد نغالي باللحم عن الفراء و البلخي و هذا وجه رابع من معنى قوله « يضاعف لهم العذاب » ( و ثانيها ) أنه لاستثقالهم استماع آيات الله و كراهتهم تذكرها و تفهمها جروا مجرى
مجمع البيان ج : 5 ص : 229
من لا يستطيع السمع و إن أبصارهم لم تنفعهم مع إعراضهم عن تدبر الآيات فكأنهم لم يبصروا و مما يجري هذا المجرى قول الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحل
و هل تطيق وداعا أيها الرجل و قد علمنا أن الأعشى كان يقدر على الوداع و إنما نفى الطاعة عن نفسه من حيث الكراهية و الاستثقال ( و ثالثها ) أنه إنما عنى بذلك آلهتهم و أوثانهم و تقدير الكلام أولئك الكفار و آلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعف لهم العذاب و قال مخبرا عن الآلهة « ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون » و روي ذلك عن ابن عباس و فيه أدنى بعد ( و رابعها ) أن ما هنا ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم لأواصلنك ما لاح نجم و المعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء « أولئك الذين خسروا أنفسهم » من حيث فعلوا ما استحقوا به العقاب فهلكوا فذلك خسران أنفسهم و خسران النفس أعظم الخسران لأنه ليس عنها عوض « و ضل عنهم ما كانوا يفترون » مضى بيانه مرارا « لا جرم » قال الزجاج لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم كان المعنى لا ينفعهم ذلك جرم « أنهم في الآخرة هم الأخسرون » أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران و قال غيره معناه لا بد و لا محالة أنهم و قيل معناه حقا و يستعمل في أمر يقطع عليه و لا يرتاب فيه أي لا شك أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة .

النظم

اتصلت الآية الأولى بقوله قل فأتوا بعشر سور مثله و المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم أ فمن كان على بينة كمن لا يكون معه بينة و قيل اتصلت بقوله من كان يريد الحياة الدنيا أي من كان مجتهدا في الدين كمن كان همه الحياة الدنيا و زينتها و وجه اتصال الآية الثانية و هي قوله « و من أظلم ممن افترى على الله كذبا » أنه سبحانه أراد أن يبين حال العاقل و الغافل فكأنهم قالوا و ما يضرنا أن لا نعرف ذلك فأجيبوا بأن من لا يعرف الله لا يأمن أن يكذب على الله و من أظلم ممن كذب على الله .

مجمع البيان ج : 5 ص : 230
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبهِمْ أُولَئك أَصحَب الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(23) * مَثَلُ الْفَرِيقَينِ كالأَعْمَى وَ الأَصمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السمِيع هَلْ يَستَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ(24)

اللغة

الإخبات للطمانينة و أصله الاستواء من الخبت و هو الأرض المستوية الواسعة فكان الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه و المثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول و العمي عبارة عن فساد آلة الرؤية و ليس بمعنى يضاد الأبصار و كذلك الصمم عبارة عن فساد آلة السمع لأن الصحيح إن الإدراك أيضا ليس بمعنى .

المعنى

لما تقدم ذكر الكفار و ما أعد الله لهم من العذاب عقبه سبحانه بذكر المؤمنين فقال « إن الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله و اعتقدوا وحدانيته « و عملوا الصالحات » التي أمرهم الله تعالى بها و رغبهم فيها « و أخبتوا إلى ربهم » أي أنابوا و تضرعوا إليه عن ابن عباس و قيل معناه اطمأنوا إلى ذكره عن مجاهد و قيل خضعوا له و خشعوا إليه عن قتادة و الكل متقارب و قيل إن معناه و أخبتوا لربهم فوضع إلى موضع اللام كما قال سبحانه أوحي لها بمعنى أوحي إليها و قال ينادي للإيمان « أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » ظاهر المعنى ثم ضرب سبحانه مثلا للمؤمنين و الكافرين فقال « مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع » أي مثل فريق المسلمين كالبصير و السميع و مثل فريق الكافرين كالأعمى و الأصم لأن المؤمن ينتفع بحواسه لاستعماله إياها في الدين و الكافر لا ينتفع بها فصارت حواسه بمنزلة المعدوم و إنما دخل الواو ليبين أن حال الكافر كحال الأعمى على حدة و كحال الأصم على حدة و حال من يكون قد جمع بين الصفتين جميعا « هل يستويان مثلا » أي هل يستوي حال الأعمى الأصم و حال البصير السميع عند عاقل فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء كذلك لا تستوي حال الكافر و المؤمن « أ فلا تذكرون » أي أ فلا تتفكرون في ذلك فتسلموا صحة ما ذكرناه .

مجمع البيان ج : 5 ص : 231
وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(25) أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنى أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم أَلِيم(26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاك إِلا بَشراً مِّثْلَنَا وَ مَا نَرَاك اتَّبَعَك إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى الرَّأْىِ وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضلِ بَلْ نَظنُّكُمْ كَذِبِينَ(27) قَالَ يَقَوْمِ أَ رَءَيْتُمْ إِن كُنت عَلى بَيِّنَة مِّن رَّبى وَ ءَاتَاخ رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَت عَلَيْكمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنتُمْ لهََا كَرِهُونَ(28)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة « إني لكم » بكسر الهمزة و الباقون أني بفتحها و قرأ أبو عمرو و نصر عن الكسائي بادىء الرأي بالهمزة و قرأ الباقون « بادي الرأي » بالياء غير مهموز و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر « فعميت » بضم العين و تشديد الميم و الباقون فعميت بفتح العين مخففا .

الحجة

قال أبو علي من فتح أني فإنه يحملها على أرسلنا أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين فإن قيل لو كان محمولا عليه لكان أنه لأن نوحا اسم للغيبة قيل هذا لا يمتنع لأن الخطاب بعد الغيبة في نحو هذا سائغ أ لا ترى قوله « و كتبنا له في الألواح » ثم قال « فخذها بقوة » و من كسر فالوجه فيه أنه حمله على القول المضمر لأنه مما قد أضمر كثيرا في القرآن قال سبحانه « و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام » أي يقولون سلام و قال « و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » أي قالوا ما نعبدهم فإن قلت فهلا رجحت قراءة من قرأ إن على قراءة من كسر لأن قوله « ألا تعبدوا » محمول على الإرسال و إذا فتحت إن كان أشكل بما بعدها لحملها جميعا على الإرسال يقال لك إن من كسر قال يجوز أن يكون قوله « إني لكم » و ما بعده محمولا على الاعتراض بين المفعول و ما يتصل به مما بعده كما كان في قوله « قل إن الهدى هدى الله » اعتراضا بينهما في قوله « و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » فكذلك قوله « إني لكم نذير مبين » لأن التقدير و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن لا تعبدوا إلا الله و أما قوله « بادي الرأي » فقد حكى أبو علي عن الجبائي أنه قال يقال أنت بادي الرأي يريد ظاهر الرأي لا يهمز بادي و بادىء الرأي مهموز فمن لم يهمز أراد أنت فيما بدا من الرأي أي أنت ظاهر الرأي و من همز أراد أنت أول الرأي و مبتدؤه قال أبو علي المعنى فيمن قال بادي الرأي بلا همز فجعله من بدا الشيء إذا ظهر أي ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي إن لم يتعقبوه ينظر فيه و لا يبين لهم و من همز أراد اتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر و روية فيه و هاتان الكلمتان يتقاربان في المعنى لأن الهمزة في اللام معناه ابتداء الشيء و أوله و اللام إذا كانت واوا كان المعنى الظهور و ابتداء الشيء يكون ظهورا و إن كان الظهور قد يكون ابتداء و غير ابتداء فلذلك
مجمع البيان ج : 5 ص : 232
يستعمل كل واحد مكان الآخر و جاز في اسم الفاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل نحو قريب و مليء لأن فاعلا و فعيلا يتعاقبان على المعنى نحو عالم و عليم و شاهد و شهيد و حسن ذلك إضافته إلى الرأي و قد أجروا المصدر أيضا في إضافته إليه في قولهم أما جهد رأي فإني منطلق فهذا لا يكون إلا ظرفا و فعل إذا كان مصدرا و فاعل قد يتفقان في أشياء و قد يجوز في قول من همز فقال بادي الرأي إذا خفف الهمز أن يقول بادي الرأي فيقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها فيكون كقولهم مير في جمع ميرة و ذيب في جمع ذيبة و العامل في هذا الظرف هو قولك اتبعك التقدير ما اتبعك في أول رأيهم أو فيما ظهر من رأيهم إلا أراذلنا فأخر الظرف و أوقع بعد إلا الظرف و لو كان بدل الظرف غيره لم يجز أ لا ترى أنك لو قلت ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما فأوقعت بعد إلا اسمين لم يجز لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء يصل إلى ما انتصب به بتوسط الحرف و لا يصل الفعل بتوسط الحرف إلى أكثر من مفعول أ لا ترى أنك إذا قلت استوى الماء و الخشبة فنصبت الخشبة لم يجز أن تتبعه اسما آخر تنصبه فكذلك المستثنى إذا ألحقته إلا و أوقعت بعدها اسما مفردا لم يجز أن تتبعه آخر و لو قلت ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا لم يجز و تصحيحها ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا تبدل الاسمين بعد إلا من الاسمين قبلها قال جامع العلوم البصير النحوي إن أبا علي حمل « بادي الرأي » هنا على أنه ظرف لما قبله ثم رجع عن مثله في قوله « و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب » فحمله على فعل آخر دل عليه يكلمه على تقدير أو يكلمه الله من وراء حجاب قال و الظرف في الآيتين عندنا محمول على الفعل قبل إلا لأن الظرف قد يكتفي فيه برائحة الفعل انتهى كلامه و أقول إن ما قاله فيه نظر لأن أبا علي قال في تلك الآية لا يعمل ما قبل الاستثناء إذا كان كلاما تاما فيما بعده و ليس ما قبل إلا في هذه الآية كلاما تاما فإن قوله « الذين هم أراذلنا » فاعل لقوله « اتبعك » فلذلك فرق بين الموضعين رجع كلام أبي علي و أما تحقيق الهمزة و تخفيفها في الرأي فأهل تحقيق الهمزة يخففونها و أهل التخفيف يبدلون منها الألف و كذلك ما أشبهه من نحو البأس و الرأس و الفأس و من قرأ فعميت بالتخفيف يقوي قوله اجتماعهم على التخفيف في قوله سبحانه « فعميت عليهم الأنباء » و هذه مثلها و يجوز في قوله « فعميت » أمران أحدهما أن يكون عموهم عنها الآن و الرحمة لا تعمي و إنما يعمى عنها فيكون كقولهم أدخلت القلنسوة في رأسي و نحو ذلك مما يقلب إذا لم يكن فيه إشكال و في التنزيل فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله و قال الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
و سائره باد إلى الشمس أجمع
مجمع البيان ج : 5 ص : 233
و الآخر أن يكون بمعنى خفيت كقول الشاعر :
و مهمة أطرافه في مهمة
أعمى الهدى بالحائرين العمة أي خفي الهدى لأن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة و من هذا يقال للسحاب العماء لإخفائه ما يخفيه كما قيل له الغمام و من هذا قول الشاعر :
و لكنني عن علم ما في غد عم قال و قولهم أتاني صكة عمي إذا أتى في الهاجرة و شدة الحر يحتمل عندنا تأويلين ( أحدهما ) أن يكون المصدر أضيف إلى العمى كما قالوا ضرب التلف أي الضرب الذي يحدث عنه التلف ( و الآخر ) أن يكون عمي تصغير أعمى على وجه الترخيم و أضيف المصدر إلى المفعول به كقولك من دعاء الخير و التقدير صكة الحر الأعمى و المعنى أن الحر من شدته كأنه يعمي من أصابه و المصدر في الوجهين ظرف نحو مقدم الحاج و خفوق النجم و من قرأ « عميت » اعتبر قراءة أبي و الأعمش فعماهما عليكم و إسناد الفعل إلى المفعول به في عميت قريب من عمى هنا في المعنى .

اللغة

الرذل الخسيس الحقير من كل شيء و الجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك كلب و أكلب و أكالب و يجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع الأكبر و الرأي الرؤية من قوله « يرونهم مثليهم رأي العين » أي رؤية العين و الرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر و جمعه آراء .

الإعراب

« أن لا تعبدوا إلا الله » يحتمل أن يكون موضع تعبدوا من الإعراب نصبا بأن و يحتمل أن يكون جزما بالنهي و قوله « عذاب يوم أليم » يجوز أن يكون تقديره يوم أليم عذابه فحذف المضاف الذي هو عذاب و أقيم المضاف إليه الذي هو الضمير مقامه فاستكن في أليم و يجوز أن يكون وصف اليوم بالألم لأن الألم فيه يقع و يجوز في غير القراءة أليما فيكون صفة لعذاب و قوله « اتبعك » و فاعله الذي هو « الذين هم أراذلنا » في موضع نصب بأنه مفعول ثان لنريك إن كان بمعنى نعلمك و في موضع الحال إن كان من رؤية العين و قوله « أ نلزمكموها » فيه ثلاث ضمائر ضمير المتكلم و ضمير المخاطب و ضمير الغائب فجاءت على أحسن ترتيب بدأ بالمتكلم لأنه أخص بالفعل ثم بالمخاطب ثم بالغائب و لو أتى بالمنفصل لجاز لتباعده من العامل بما فرق بينه و بينه فأشبه ما ضربت إلا إياك و ما ضربني إلا
مجمع البيان ج : 5 ص : 234
أنت و أجاز الفراء أ نلزمكموها بتسكين الميم جعله بمنزلة عضد و عضد و كبد و كبد و لا يجوز ذلك عند البصريين و إنما يجيزون ذلك في ضرورة الشعر كقول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله و لا واغل و كقول الآخر :
و ناع يخبرنا بمهلك سيد
تقطع من وجد عليه الأنامل و قول الآخر :
إذا اعوججن قلت صاحب قوم يريد صاحب قوم .

المعنى

لما تقدم ذكر الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب عقب ذلك سبحانه بذكر أخبار الأنبياء تأكيدا لذلك و تخويفا للقوم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بدأ بقصة نوح (عليه السلام) فقال « و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين » و قد مر بيانه « أن لا تعبدوا إلا الله » أي أنذركم أن لا تعبدوا إلا الله عن الزجاج يريد لأن توحدوا الله و تتركوا عبادة غيره و بدأ بالدعاء إلى الإخلاص في العبادة و قيل أنه دعاهم إلى التوحيد لأنه من أهم الأمور إذ لا يصح شيء من العبادات إلا بعد التوحيد « إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم » إنما قال أخاف مع أن عقاب الكفار مقطوع عليه لأنه لم يعلم ما يؤول إليه عاقبة أمرهم من إيمان أو كفر و هذا لطف في الاستدعاء و أقرب إلى الإجابة في الغالب « فقال الملأ الذين كفروا من قومه » أي من قوم نوح لنوح (عليه السلام) « ما نراك إلا بشرا مثلنا » ظنا منهم أن الرسول إنما يكون من غير جنس المرسل إليه و لم يعلموا أن البعثة من الجنس قد تكون أصلح و من الشبهة أبعد « و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا » أي لم يتبعك الملأ و الأشراف و الرؤساء منا و إنما اتبعك أخساؤنا الذين لا مال لهم و لا جاه « بادي الرأي » أي في ظاهر الأمر و الرأي لم يتدبروا ما قلت و لم يتفكروا فيه و قال الزجاج معناه اتبعوك في الظاهر و باطنهم على خلاف ذلك و من قرأ بالهمز فالمعنى أنهم اتبعوك ابتداء الرأي أي حين ابتدأوا ينظرون و لو فكروا لم يتبعوك و قيل معناه إن في مبتدإ وقوع الرؤية عليهم يعلم أنهم أراذلنا و أسافلنا « و ما نرى لكم علينا من فضل » أي و ما نرى لك و لقومك علينا من فضل فإن الفضل إنما يكون في كثرة المال و المنزلة في الدنيا و الشرف في النسب و إنما قالوا ذلك لأنهم جهلوا طريقة الاستدلال و لو استدلوا بالمعجزات الدالة على نبوته لعلموا أنه نبي و إن من آمن به مؤمن و من خالفه كافر
مجمع البيان ج : 5 ص : 235
و عرفوا حقيقة الفضل و هكذا عادة أرباب الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء و يسترذلونهم و إن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند الله سبحانه « بل نظنكم كاذبين » هذا تمام الحكاية عن كفار قوم نوح قالوه لنوح و من آمن به « قال » نوح لقومه « يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي على برهان و حجة يشهد بصحة النبوة و هي المعجزة و قال ابن عباس على بينة أي على يقين و بصيرة و معرفة من ربوبية ربي و عظمته و اختلف في قول نوح (عليه السلام) هذا أنه جواب عما ذا فقيل أنه جواب عن قولهم « بل نظنكم كاذبين » فكأنه قال إن تظنوني كاذبا فما تقولون لو كنت على خلافه و على حجة من ربي واضحة أ لا تصدقونني و قيل بل هو جواب عن قولهم « ما نراك إلا بشرا مثلنا » أي و إن كنت بشرا فما ذا تقولون إذا أتيتكم بحجة دالة على صدقي أ لا تصدقونني و فيه بيان أن الرسالة إنما تظهر بالمعجزة فلا معنى لاعتبار البشرية و قيل هو جواب عن قولهم « ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا » فكأنه قال إنهم اعتصموا بالله و بما آتاهم من البينة و الرحمة فنالوا بذلك الرفعة و الفضل و أنتم قنعتم بالدنيا الدنية الفانية فأنتم في الحقيقة الأراذل لا هم و قيل هو جواب عن قولهم « و ما نرى لكم علينا من فضل » فكأنه قال لا تتبعوا المال و الجاه فإن الواجب اتباع الحجة و الدلالة و يجوز أن يكون جوابا عن جميع ذلك « و آتاني رحمة من عنده » رد عليهم بهذا جميع ما ادعوه و الرحمة و النعمة هي هاهنا النبوة أي و أعطاني نبوة من عنده « فعميت عليكم » أي خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها « أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون » أي أ تريدون مني أن أكرهكم على المعرفة و ألجئكم إليها على كره منكم هذا غير مقدور لي و الهاء كناية عن الرحمة فيدخل فيها النبوة و الدين و سائر النعم و قيل معناه أ نلزمكم قبولها فحذف المضاف و يجوز أن يكون الهاء كناية عن البينة و يكون المراد أن علي أن أدلكم بالبينة و ليس علي أن اضطركم إلى معرفتها .

مجمع البيان ج : 5 ص : 236
وَ يَقَوْمِ لا أَسئَلُكمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى اللَّهِ وَ مَا أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّهُم مُّلَقُوا رَبهِمْ وَ لَكِنى أَرَاشْ قَوْماً تجْهَلُونَ(29) وَ يَقَوْمِ مَن يَنصرُنى مِنَ اللَّهِ إِن طرَدتهُمْ أَ فَلا تَذَكرُونَ(30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْب وَ لا أَقُولُ إِنى مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيهُمُ اللَّهُ خَيراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فى أَنفُسِهِمْ إِنى إِذاً لَّمِنَ الظلِمِينَ(31)

اللغة

الطرد الإبعاد على جهة الهوان و تطارد الأقوال حمل بعضها على بعض و الإزدراء الاحتقار افتعال من الزراية يقال زريت عليه إذا عبثه و أزرت به إذا قصرت به قال الشاعر :
رأوه فازدروه و هو خرق
و ينفع أهله الرجل القبيح
و لم يخشوا مقالته عليهم
و تحت الرغوة اللبن الصريح

المعنى

ثم أنكر نوح استثقالهم التكليف و العاقل إنما يستثقل الأمر إذا ألزمته مئونة ثقله فقطع هذا العذر بقوله « و يا قوم لا أسألكم عليه مالا » أي لا أطلب منكم على دعائكم إلى الله أجرا فتمتنعون من إجابتي خوفا من أخذ المال « إن أجري إلا على الله » أي ما ثوابي و ما أجري في ذلك إلا على الله « و ما أنا بطارد الذين آمنوا » أي لست أطرد المؤمنين من عندي و لا أبعدهم على وجه الإهانة و قيل أنهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له أنفة من أن يكونوا معهم على سواء عن ابن جريج و الزجاج « إنهم ملاقوا ربهم » و هذا يدل على أنهم سألوه طردهم فأعلمهم أنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم و طردهم بجزائه من العذاب عن الزجاج و قيل معناه أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل و كيف يجوز طردهم و هم لا يستحقون ذلك عن الجبائي « و لكني أراكم قوما تجهلون » الحق و أهله و قيل معناه تجهلون أن الناس إنما يتفاضلون بالدين لا بالدنيا و قيل تجهلون فيما تسألون من طرد المؤمنين « و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم » معناه من يمنعني من عذاب الله إن أنا طردت المؤمنين فكانوا خصمائي عند الله في الآخرة « أ فلا تذكرون » أي أ فلا تتفكرون فتعلمون أن الأمر على ما قلته و فرق علي بن عيسى بين التفكر و التذكر بأن التذكر طلب معنى قد كان حاضرا للنفس و التفكر طلب معرفة الشيء بالقلب و إن لم يكن حاضرا للنفس و ليست النصرة المذكورة في الآية من الشفاعة في شيء لأن النصرة هي المنع على وجه المغالبة و القهر و الشفاعة هي المسألة على وجه الخضوع فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة
مجمع البيان ج : 5 ص : 237
للمذنبين على ما قاله بعضهم « و لا أقول لكم عندي خزائن الله » هذا تمام الحكاية عما قاله نوح لقومه و معناه إني لا أرفع نفسي فوق قدرها فأدعي أن عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء و أعطي ما أشاء و أمنع من أشاء عن الجبائي و أبي مسلم و قيل خزائن الله مفاتيح الله في الرزق و هذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا أو قولهم و ما نرى لكم علينا من فضل « و لا أعلم الغيب » أي و لا أدعي علم الغيب حتى أدلكم على منافعكم و مضاركم و قيل لا أعلم الغيب فأعلم ما تسرونه في نفوسكم فيكون جوابا لقولهم إن هؤلاء الذين آمنوا بك اتبعوك في ظاهر ما ترى منهم أي فسبيلي قبول إيمانهم الذي ظهر لي و لا يعلم ما يضمرونه إلا الله تعالى « و لا أقول إني ملك » فأخبركم بخبر السماء من قبل نفسي و إنما أنا بشر لا أعلم الأشياء من غير تعليم الله تعالى و قيل معناه لا أقول إني روحاني غير مخلوق من ذكر و أنثى بل أنا بشر مثلكم خصني الله بالرسالة « و لا أقول للذين تزدري أعينكم » أي لا أقول لهؤلاء المؤمنين الذين تستقلونهم و تستخفونهم و تحتقرهم أعينكم لما ترون عليهم من زي الفقراء « لن يؤتيهم الله خيرا » أي لا يعطيهم الله في المستقبل خيرا على أعمالهم و لا يثيبهم عليها بل أعطاهم الله كل خير في الدنيا من التوفيق و يعطيهم كل خير في الآخرة من الثواب « الله أعلم بما في أنفسهم » أي بما في قلوبهم من الإخلاص و غيره « إني إذا لمن الظالمين » إن طردتهم ، تكذيبا لظاهر إيمانهم أو قلت فيهم غير ما أعلم .
قَالُوا يَنُوحُ قَدْ جَدَلْتَنَا فَأَكثرْت جِدَلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كنت مِنَ الصدِقِينَ(32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شاءَ وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(33) وَ لا يَنفَعُكمْ نُصحِى إِنْ أَرَدت أَنْ أَنصحَ لَكُمْ إِن كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(34) أَمْ يَقُولُونَ افْترَاهُ قُلْ إِنِ افْترَيْتُهُ فَعَلىَّ إِجْرَامِى وَ أَنَا بَرِىءٌ مِّمَّا تجْرِمُونَ(35)

اللغة

الجدال و المجادلة المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجة أو شبهة و هو من الجدل شدة الفتل و يقال للصقر أجدل لأنه من أشد الجوارح و الجدال و المراء بمعنى غير
مجمع البيان ج : 5 ص : 238
أن المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره كمري الضرع بعد دروره و ليس كذلك الجدال و الفرق بين الحجاج و الجدال أن المطلوب بالحجاج ظهور الحجة و المطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب و الإعجاز هو الفوت بالهرب و الفرق بين افتراء الكذب و قول الكذب أن قول الكذب قد يكون على وجه تقليد الإنسان فيه لغيره و أما افتراء الكذب فهو افتعاله من قبل نفسه و أجرم و جرم بمعنى قال :
طريد عشيرة و رهين ذنب
بما جرمت يدي و جنى لساني

المعنى

ثم حكى الله سبحانه جواب قوم نوح عما قاله لهم فقال « قالوا يا نوح قد جادلتنا » أي خاصمتنا و حاججتنا « فأكثرت جدالنا » أي زدت في مجادلتنا على مقدار الكفاية و في بعض الروايات عن ابن عباس فأكثرت جدلنا و المعنى واحد « فأتنا بما تعدنا » من العذاب « إن كنت من الصادقين » في أن الله تعالى يعذبنا على الكفر أي فلسنا نؤمن بك و لا نقبل منك « قال » نوح « إنما يأتيكم به الله إن شاء » أي لا يأتي بالعذاب إلا الله سبحانه متى شاء لا يقدر عليه غيره فإن شاء عجل و إن شاء أخر « و ما أنتم بمعجزين » أي لا تفوتونه بالهرب « و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم » ذكر في تأويله وجوه ( أحدها ) إن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته بأن يحرمكم ثوابه و يعاقبكم لكفركم به فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم و قد سمى الله سبحانه العقاب غيا بقوله فسوف يلقون غيا و يشهد بصحة ما قلناه قول الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
و من يغو لا يعدم على الغي لائما و لما خيب الله سبحانه قوم نوح من رحمته و ثوابه و أعلم الله نوحا (عليه السلام) بذلك في قوله « لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » قال لهم لا ينفعكم نصحي مع إيثاركم ما يوجب خيبتكم و العذاب الذي جره إليكم قبيح أفعالكم و إذا طرأ شرط على شرط كان الثاني مقدما على الأول في المعنى و إن كان مؤخرا في اللفظ و التقدير و لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن أنصح لكم ( و ثانيها ) أن المعنى إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إياهم أي يريد عقوبتكم على ذلك و من عادة العرب أن تسمي العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه كما في قوله سبحانه « و جزاء سيئة سيئة مثلها و مكروا و مكر الله و الله يستهزىء بهم » و قد مر فيما مضى أمثال ذلك ( و ثالثها ) أن معناه إن كان الله يريد أن يهلككم فلا ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم و إن قبلتم قولي و آمنتم لأن الله تعالى
مجمع البيان ج : 5 ص : 239
حكم بأن لا يقبل الإيمان عند نزول العذاب عن الحسن و قد حكي عن العرب أنهم قالوا أغويت فلانا بمعنى أهلكته و يقال غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن ( و رابعها ) أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين و أن ما هم عليه بإرادة الله و لو لا ذلك لغيره و أجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب من قولهم و الإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون و هذا هو المحكي عن جعفر بن حرب و إنما شرط النصح بالإرادة في قوله « إن أردت أن أنصح لكم » مع وقوع هذا النصح استظهارا في الحجة عليهم لأنهم ذهبوا إلى أنه ليس بنصح فقال لو كان نصحا ما نفع من لا يقبله و لا يجوز أن يكون المراد بالإغواء في الآية فعل الكفر أو الدعاء إلى الكفر و الحمل عليه على ما يعتقده المجبرة لقيام الأدلة على أن خلق الكفر و إرادته من أقبح القبائح كالأمر به و كما لم يجز أن يأمر به فكذلك لا يجوز أن يفعله و يريده و لأنه لو جاز منه الإضلال لجاز منه أن يبعث من يدعو إلى الضلال و يظهر المعجزات على يده و في هذا ما فيه « هو ربكم و إليه ترجعون » أي هو خالقكم و رازقكم و إلى حكمه و تدبيره تصيرون فيجازيكم على أعمالكم « أم يقولون افتراه » قيل إنه يعني بذلك محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المراد أ يؤمن كفار محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بما أخبرهم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من نبأ قوم نوح (عليه السلام) أم يقولون افتراه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من تلقاء نفسه ف « قل » لهم يا محمد « إن افتريته » و اختلقته كما تزعمون « فعلي إجرامي » أي عقوبة جرمي لا تؤخذون به « و أنا بريء مما تجرمون » أي لا أؤخذ بجرمكم عن مقاتل و قيل يعني به نوحا (عليه السلام) و أنه يقول على الله الكذب عن ابن عباس .

النظم

و وجه اتصال هذه الآية بما قبلها على القول الأول أنها تتصل بقوله « أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله » .

مجمع البيان ج : 5 ص : 240
وَ أُوحِىَ إِلى نُوح أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِك إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَئس بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ(36) وَ اصنَع الْفُلْك بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لا تخَطِبْنى فى الَّذِينَ ظلَمُوا إِنهُم مُّغْرَقُونَ(37) وَ يَصنَعُ الْفُلْك وَ كلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسخَرُونَ(38) فَسوْف تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخْزِيهِ وَ يحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(39)

اللغة

الابتئاس حزن في استكانة و أنشد أبو عبيدة :
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
منه و أقعد كريما ناعم البال و هو افتعال من البؤس و قد يكون البؤس بمعنى الفقر أيضا و الصنع جعل الشيء موجودا بعد أن كان معدوما و مثله الفعل و ينفصلان من الحدوث من حيث إن الصنعة يقتضي صانعا و الفعل يقتضي فاعلا من حيث اللفظ و ليس كذلك الحدوث لأنه يفيد تجدد الوجود لا غير و الصناعة الحرفة التي يكتسب بها و الفلك السفينة و يكون واحدا و جمعا و السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل و منه التسخير التذليل يكون استضعافا بالقهر و الفرق بين السخرية و اللعب أن في السخرية خديعة و استنقاصا و لا يكون إلا بحيوان و قد يكون اللعب بجماد و الحلول النزول للمقام و هو من الحل خلاف الارتحال و حلول العرض وجوده في الجوهر من غير شغل حيز و المصحح للحلول التحيز .

الإعراب

سوف ينقل الفعل من الحال إلى الاستقبال مثل السين سواء إلا أن فيه معنى التسويف و هو تعليق النفس بما يكون من الأمور من يأتيه قيل في من هذه قولان ( أحدهما ) أن يكون بمعنى أي فكأنه قال أينا يأتيه عذاب يخزيه ( و الآخر ) أن يكون بمعنى الذي و المعنى واحد و من إذا كانت للاستفهام استغنت عن الصلة كما استغنت كيف و كم عن الصلة و إذا كانت بمعنى الذي فلا بد لها من الصلة لأن البيان مطلوب من المسئول دون السائل .

المعنى

« و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » أعلم الله سبحانه نوحا أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل « فلا تبتئس » أي لا تغتم و لا تحزن « بما كانوا يفعلون » و العقل لا يدل على أن قوما لا يؤمنون في المستقبل و إنما طريق ذلك السمع فلما علم أن أحدا منهم لا يؤمن في ما بعد و لا من نسلهم دعا عليهم فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا فلما أراد الله سبحانه إهلاكهم أمر نبيه باتخاذ السفينة له و لقومه فقال « و اصنع الفلك » أي أعمل السفينة لتركبها أنت و من آمن بك « بأعيننا » أي بمرأى منا عن ابن عباس و التأويل بحفظنا
مجمع البيان ج : 5 ص : 241
إياك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه و ذكر الأعين لتأكيد الحفظ و قيل أراد بالأعين الملائكة الموكلين بك و بحضرتهم و هم ينظرون بأعينهم إليك و إنما أضاف ذلك إلى نفسه إكراما و تعظيما لهم و قوله « و وحينا » معناه و على ما أوحينا إليك من صفتها و حالها عن أبي مسلم و قيل المراد بوحينا إليك أن اصنعها و ذلك أنه (عليه السلام) لم يعلم صنعة الفلك فعلمه الله تعالى عن ابن عباس أي فإنا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله و عرضه و هيأته « و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون » أي لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك و لا تشفع لهم فإنهم مغرقون عن قريب و هذا غاية في الوعيد كما يقول الملك لوزيره لا تذكر حديث فلان بين يدي و قيل إنه عنى به امرأته و ابنه و إنما نهاه عن ذلك ليصونه عن سؤال ما لا يجاب إليه و ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة « و يصنع الفلك » أي و جعل نوح (عليه السلام) يصنع الفلك كما أمره الله تعالى و قيل و أخذ نوح في صنعه السفينة بيده فجعل ينحتها و يسويها و أعرض عن قوله « و كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه » أي كلما اجتاز به جماعة من أشراف قومه و رؤسائهم و هو يعمل السفينة هزؤا من فعله و قيل إنهم كانوا يقولون له يا نوح صرت نجارا بعد النبوة على طريق الاستهزاء و قيل إنما كانوا يسخرون من عمل السفينة لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول و العرض و لا ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون و يتعجبون من عمله « قال » أي كان يقول لهم « إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون » و المراد أن تستجهلونا في هذا الفعل فإنا نستجهلكم عند نزول العذاب بكم كما تستجهلونا عن الزجاج و قيل معناه فإنا نجازيكم على سخريتكم عند الغرق و الهلاك و أراد به تعذيب الله إياهم فسمى الجزاء باسم المجزي به و يحتمل أن يريد فإنا نسخر منكم بعد الغرق على وجه الشماتة لا على وجه السفه « فسوف تعلمون » أينا أحق بالسخرية أو تعلمون عاقبة سخريتكم « من يأتيه عذاب يخزيه » هذا ابتداء كلام من نوح و الأظهر أن يكون متصلا بما قبله أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه و يفضحه في الدنيا و يكون يخزيه صفة العذاب « و يحل عليه عذاب مقيم » أي و ينزل عليه عذاب دائم في الآخرة .

[ القصة ]

قال الحسن كان طول السفينة ألف ذراع و مائتي ذراع و عرضها ستمائة ذراع و قال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسين ذراعا و ارتفاعها ثلاثين ذراعا و بابها في عرضها و قال ابن عباس كانت ثلاث طبقات طبقة للناس و طبقة للأنعام و الدواب و طبقة للهوام و الوحش و جعل أسفلها للوحوش و السباع و الهوام و أوسطها للدواب و الأنعام و ركب هو و من معه في الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد و كانت من خشب الساج و روت عائشة عن
مجمع البيان ج : 5 ص : 242
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة فعظمت و ذهبت كل مذهب فقطعها و جعل يعمل على سفينته و قومه يمرون عليه فيسألونه فيقول أعمل سفينة فيسخرون منه و يقولون تعمل سفينة على البر فكيف تجري فيقول سوف تعلمون فلما فرغ منها و فار التنور و كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه و كانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي و روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما أراد الله إهلاك قوم نوح عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يلد لهم مولود و لما فرغ نوح من اتخاذ السفينة أمره الله تعالى أن ينادي بالسريانية أن يجمع إليه جميع الحيوانات فلم يبق حيوان إلا و قد حضر فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين ما خلا الفأر و السنور و إنهم لما شكوا إليه سرقين الدواب و القذر دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج سنور و كان الذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا و في حديث آخر إنهم شكوا إليه العذرة فأمر الله الفيل فعطس فسقط الخنزير و روى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوة بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر .

مجمع البيان ج : 5 ص : 243
حَتى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كلّ زَوْجَينِ اثْنَينِ وَ أَهْلَك إِلا مَنْ سبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ ءَامَنَ وَ مَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ(40) * وَ قَالَ ارْكبُوا فِيهَا بِسمِ اللَّهِ مجْراهَا وَ مُرْساهَا إِنَّ رَبى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(41) وَ هِىَ تجْرِى بِهِمْ فى مَوْج كالْجِبَالِ وَ نَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فى مَعْزِل يَبُنىَّ ارْكب مَّعَنَا وَ لا تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ(42) قَالَ سئَاوِى إِلى جَبَل يَعْصِمُنى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ وَ حَالَ بَيْنهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)

القراءة

قرأ حفص عن عاصم « من كل زوجين » منونا و في المؤمنين كذلك و قرأ الباقون من كل زوجين مضافا و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر « مجريها » بفتح الميم و الباقون بضم الميم و اتفقوا على ضم الميم في « مرسيها » إلا ما يرى في الشواذ عن ابن محيصن أنه فتح الميم فيهما و قرأ عاصم « يا بني اركب معنا » بفتح الياء و الباقون بالكسر و روي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أبي جعفر محمد بن علي و جعفر بن محمد (عليهماالسلام) و عروة بن الزبير و نادى نوح ابنه و روي عن عكرمة ابنها و عن السدي ابناه و عن ابن عباس ابنه على الوقف .

الحجة

الوجه في قراءة حفص ما قاله أبو الحسن إن الاثنين زوجان قال الله تعالى « و من كل شيء خلقنا زوجين » و المرأة زوج الرجل و الرجل زوجها قال و قد يقال للاثنين هما زوج قال لبيد :
من كل محفوف يظل عصية
زوج عليه كلة و قرامها قال أبو علي من قرأ « من كل زوجين » كان قوله « اثنين » مفعول الحمل و المعنى احمل من الأزواج إذا كانت اثنين اثنين زوجين فالزوجان في قوله من كل زوجين يراد بهما الشياع و ليس يراد بهما الناقص عن الثلاثة و مثل ذلك قول الشاعر :
فاعمد لما يعلو فما لك بالذي
لا تستطيع من الأمور يدان إنما يريد تشديد انتفاء قوته عنه و تكثيره و يبين هذا المعنى قول الفرزدق :
و كل رفيقي كل رحل و إن هما
تعاطى القنا قوما هما أخوان فرفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كل رحل و إنما يريد الرفقاء إذا كانوا رفيقين و من نون فقال « من كل زوجين » فحذف المضاف إليه من كل و نون فالمعني من كل شيء و من كل زوج
 

Back Index Next