جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 6 ص : 536
سورة النحل
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَستَعْجِلُوهُ سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمَّا يُشرِكُونَ(1) يُنزِّلُ الْمَلَئكَةَ بِالرُّوح مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ(2)

القراءة

تشركون بالتاء كوفي غير عاصم و الباقون بالياء تنزل الملائكة بفتح التاء و الزاي و التشديد و رفع الملائكة روح و زيد عن يعقوب و سهل و هي قراءة الحسن و الباقون بالياء بكسر الزاي و نصب « الملائكة » و ابن كثير و أبو عمرو يخففان ينزل على أصلها و كذلك رويس عن يعقوب و الباقون يشددون .

اللغة

قيل إن التسبيح بالتشديد في اللغة على أربعة أقسام ( الأول ) التنزيه كقوله « سبحان الذي أسرى » ( و الثاني ) بمعنى الاستثناء كقوله « لو لا تسبحون » أي تستثنون بقولكم إن شاء الله ( و الثالث ) بمعنى الصلاة كقوله « فلو لا أنه كان من المسبحين » ( و الرابع ) بمعنى النور كما جاء في الحديث فلو لا سبحات وجهه أي نوره و الروح يأتي على عشرة أقسام الروح حياة النفوس بالإرشاد و الروح الرحمة كما ورد في القراءة فروح و ريحان و الروح النبوة كقوله « يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده » و الروح عيسى روح الله لأنه خلق من غير بشر و قيل من غير فحل و قيل لكونه رحمة على عباده بما يدعوهم إلى الله و الروح جبرائيل (عليه السلام) و الروح النفخ يقال أحييت النار بروحي أي بنفخي قال ذو الرمة يصف الزند و الزندة :
فلما بدت كفنتها و هي طفلة
بطلساء لم تكمل ذراعا و لا شبرا
و قلت له ارفعها إليك و أحيها
بروحك و اقتته لها قيتة قدرا و الروح الوحي في قوله « و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا » و قيل إنه جبرائيل و الروح ملك في السماء من أعظم من خلق الله فإذا كان يوم القيامة وقف صفا و الملائكة كلهم صفا و الروح روح الإنسان و قال ابن عباس في الإنسان روح و نفس فالنفس هي التي يكون فيها التمييز و الكلام و الروح هو الذي يكون به الغطيط و النفس فإذا نام العبد خرجت نفسه و بقي روحه و إذا مات خرجت نفسه و روحه معا .

المعنى

« أتى أمر الله » فيه أقوال ( أحدها ) إن معناه قرب أمر الله تعالى بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر و التكذيب عن الحسن و ابن جريج قال الحسن إن
مجمع البيان ج : 6 ص : 537
المشركين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ائتنا بعذاب الله فقال سبحانه إن أمر الله آت و كل ما هو آت قريب دان ( و ثانيها ) إن أمر الله أحكامه و فرائضه عن الضحاك ( و ثالثها ) إن أمر الله هو يوم القيامة عن الجبائي و روي نحوه عن ابن عباس و على هذا الوجه فيكون أتى بمعنى يأتي و جاء وقوع الماضي هاهنا لصدق المخبر بما أخبر به فصار بمنزلة ما قد مضى و لأن سبحانه قرب أمر الساعة فجعله أقرب من لمح البصر و قال اقتربت الساعة « فلا تستعجلوه » خطاب للمشركين المكذبين بيوم القيامة لعذاب الله المستهزءين به و كانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم قولهم فأمطر علينا حجارة من السماء و تقديره قل لهؤلاء الكفار لا تستعجلوا القيامة و العذاب فإن الله سيأتي بكل واحد منهما في وقته و حينه كما تقتضيه حكمته « سبحانه و تعالى عما يشركون » هذه كلمة تنزيه لله تعالى عما لا يليق به و بصفاته و تنزيه له من أن يكون له شريك في عبادته أي جل و تقدس و تنزه من أن يكون له شريك تعالى و تعظم و ارتفع من جميع صفات النقص « ينزل الملائكة » أي ينزل الله الملائكة أو تنزل الملائكة « بالروح من أمره » أي بالوحي عن ابن عباس و قيل بالقرآن عن ابن زيد و هما واحد و سمي روحا لأنه حياة القلوب و النفوس بالإرشاد إلى الدين و قيل بالنبوة عن الحسن و قوله « من أمره » أي بأمره و نظيره قوله « يحفظونه من أمر الله » أي بأمر الله لأن أحدا لا يحفظه عن أمره « على من يشاء من عباده » ممن يصلح للنبوة و السفارة بينه و بين خلقه « أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون » هذا تفسير للروح المنزل و بدل منه فإن المعنى تنزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر و المعاصي بأنه لا إله إلا أنا أي مروهم بتوحيدي و بأن لا يشركوا بي شيئا و معنى « فاتقون » فاتقوا مخالفتي و في هذا دلالة على أن الغرض من بعثة الأنبياء الإنذار و الدعاء إلى الدين .

النظم

وجه اتصال قوله « سبحانه و تعالى » بما تقدم إن الكفار كانوا يستعجلون العذاب على وجه التكذيب به و يكذبون البعث و القيامة فبين سبحانه أنه منزه عما يصفون به فإن الحكيم إذا كلف وجب أن يجازي المكلف فترك المجازاة قبيح و قيل إنهم كانوا ينكرون قدرة الله تعالى سبحانه على إعادة الخلق فنزه نفسه عن قولهم و اتصل قوله « ينزل الملائكة » بما تقدم فإنه سبحانه لما أوعدهم بالعذاب بين أنه ينزل الملائكة للتخويف و أنه لا يأخذ أحدا من المشركين حتى يحتج عليه بالنذر و قيل إنه سبحانه بين أن الحال حال التكليف لا حال نزول العذاب و إن الصلاح الآن إنزال الملائكة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالوحي و الكتاب للإنذار و بيان الأدلة و لذلك أتبعه بذكر الأدلة .

مجمع البيان ج : 6 ص : 538
خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالْحَقِّ تَعَلى عَمَّا يُشرِكُونَ(3) خَلَقَ الانسنَ مِن نُّطفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ(4) وَ الأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكمْ فِيهَا دِفءٌ وَ مَنَفِعُ وَ مِنْهَا تَأْكلُونَ(5) وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسرَحُونَ(6) وَ تحْمِلُ أَثْقَالَكمْ إِلى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بَلِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(7)

القراءة

قرأ أبو جعفر بشق الأنفس بفتح الشين و الباقون بكسرها .

الحجة

الشق و الشق بكسر الشين و فتحها بمعنى و كلاهما المشقة قال عمرو بن ملقط و هو جاهلي :
و الخيل قد تجشم أربابها
الشق و قد تعتسف الرواية و الرواية بفتح الشين .

اللغة

الأنعام جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سميت بذلك لنعمة مشيها بخلاف الحافر الذي يصلب مشيها و الدفء ما استدفأت به و دفىء يومنا دفا فهو دفىء و الإراحة رد الماشية بالعشي من مراعيها إلى مباركها و المكان الذي يراح فيه مراح و السروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة يقال سرحت الماشية سرحا و سروحا و سرحها أهلها قال :
كان بقايا الأثر فوق متونه
مدب الدبا فوق النقا و هو سارح و الأثقال جمع الثقل و هو المتاع الذي يثقل حمله .

الإعراب

و الأنعام منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده و التقدير و خلق الأنعام خلقها و قوله « لكم فيها دفء » جملة منصوبة الموضع على الحال من الأنعام و التقدير كائنة بهذه الصفة .

المعنى

لما تقدم ذكر بعث الملائكة للإنذار و بيان التوحيد و شرائع الإسلام أتبعه
مجمع البيان ج : 6 ص : 539
سبحانه بالاحتجاج على الخلق بالخلق و تعداد صنوف الأنعام فقال « خلق السماوات و الأرض بالحق » و معناه أنه خلقهما ليستدل بهما على معرفته و يتوصل بالنظر فيهما إلى العلم بكمال قدرته و حكمته و قيل خلقهما لينتفع بهما في الدين و الدنيا و ليعمل بالحق « تعالى عما يشركون » أي تقدس عن أن يكون له شريك ثم بين سبحانه دلالة أخرى فقال « خلق الإنسان من نطفة » و النطفة الماء القليل غير أنه بالتعارف صار اسما لماء الفحل « فإذا هو خصيم مبين » اختصر هاهنا ذكر تقلب أحوال الإنسان لذكره ذلك في أمكنة كثيرة من القرآن فالمعنى أنه خلق الإنسان من نطفة سيالة ضعيفة مهينة دبرها و صورها بعد أن قلبها حالا بعد حال حتى صارت إنسانا يخاصم عن نفسه و يبين عما في ضميره فبين سبحانه أنقص أحوال الإنسان و أكملها منبها على كمال قدرته و علمه و قيل خصيم مجادل بالباطل مبين ظاهر الخصومة عن ابن عباس و الحسن فعلى هذا يكون المعنى أنه خلقه و مكنه فأخذ يخاصم في نفسه و فيه تعريض لفاحش ما ارتكبه الإنسان من تضييع حق نعمة الله عليه ثم بين سبحانه نعمته في خلق الأنعام فقال « و الأنعام خلقها » معناه و خلق الأنعام من الماء كما خلقكم منه يدل عليه قوله « و الله خلق كل دابة من ماء » و أكثر ما يتناول الأنعام الإبل و يتناول البقر و الغنم أيضا و في اللغة هي ذوات الأخفاف و الأظلاف دون ذوات الحوافر « لكم فيها دفء » أي لباس عن ابن عباس و مجاهد و قيل ما يستدفا به مما يعمل من صوفها و وبرها و شعرها عن الحسن فيدخل فيه الأكسية و اللحف و الملبوسات و غيرها قال الزجاج أخبر سبحانه أن في الأنعام ما يدفئنا و لم يقل و لكم فيها ما يكنكم من البرد لأن ما ستر من الحر ستر من البرد و قال في موضع آخر سرابيل تقيكم الحر فعلم أنها تقي البرد أيضا فكذلك هاهنا و قيل إن معناه و خلق الأنعام لكم أي لمنافعكم ثم ابتدأ و أخبر و قال « فيها دفء » عن الحسن و جماعة « و منافع » معناه و لكم فيها منافع آخر من الحمل و الركوب و إثارة الأرض و الزرع و النسل « و منها تأكلون » أي و من لحومها تأكلون « و لكم فيها جمال » أي حسن منظر و زينة « حين تريحون » أي حين تردونها إلى مراحها و هي حيث تأوي إليه ليلا « و حين تسرحون » أي حين ترسلونها بالغداة إلى مراعيها و أحسن ما يكون النعم إذا راحت عظاما ضروعها ممتلئة بطونها منتصبة أسنمتها و كذلك إذا سرحت إلى المراعي رافعة رءوسها فيقول الناس هذه جمال فلان و مواشيه فيكون له فيها جمال « و تحمل أثقالكم » أي أمتعتكم « إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس » أي و تحمل الإبل و بعض البقر أحمالكم الثقيلة إلى بلد بعيدة لا يمكنكم أن تبلغوه من دون الأحمال إلا بكلفة و مشقة تلحق أنفسكم فكيف تبلغونه مع الأحمال لو لا أن الله تعالى سخر هذه الأنعام لكم حتى حملت أثقالكم إلى
مجمع البيان ج : 6 ص : 540
أين شئتم و قيل إن الشق معناه الشطر و النصف فيكون المراد إلا بأن يذهب شطر قوتكم أي نصف قوة الأنفس و قيل معناه تحمل أثقالكم إلى مكة لأنها من بلاد الفلوات عن ابن عباس و عكرمة « إن ربكم لرءوف » أي ذو رأفة « رحيم » أي ذو رحمة و لذلك أنعم عليكم بخلق هذه الأنعام ابتداء منه بهذه الأنعام .
وَ الخَْيْلَ وَ الْبِغَالَ وَ الْحَمِيرَ لِترْكبُوهَا وَ زِينَةً وَ يخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8) وَ عَلى اللَّهِ قَصدُ السبِيلِ وَ مِنْهَا جَائرٌ وَ لَوْ شاءَ لهََدَامْ أَجْمَعِينَ(9) هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً لَّكم مِّنْهُ شرَابٌ وَ مِنْهُ شجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10) يُنبِت لَكم بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الأَعْنَب وَ مِن كلِّ الثَّمَرَتِ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكرُونَ(11) وَ سخَّرَ لَكمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسخَّرَت بِأَمْرِهِ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ(12) وَ مَا ذَرَأَ لَكمْ فى الأَرْضِ مخْتَلِفاً أَلْوَنُهُ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْم يَذَّكرُونَ(13)

القراءة

قرأ حماد و يحيى عن أبي بكر عن عاصم ننبت بالنون و الباقون بالياء و قرأ ابن عامر و الشمس و القمر و النجوم مسخرات كلها بالرفع و قرأ حفص عن عاصم « و الشمس و القمر » بالنصب « و النجوم مسخرات » بالرفع و قرأ الباقون كل ذلك بالنصب .

الحجة

من قرأ « ينبت » بالياء فلما تقدم من قوله « هو الذي أنزل » فالياء أشكل بما تقدم من الإفراد و النون لا يمتنع أيضا و يقال نبت البقل و أنبته الله قال أبو علي و النصب في قوله « و الشمس و القمر » أحسن ليكون معطوفا على ما قبله و داخلا في إعرابه أ لا ترى أن ما في التنزيل من نحو قوله « و كلا ضربنا له الأمثال » « و الظالمين أعد لهم عذابا أليما » يختار فيه
مجمع البيان ج : 6 ص : 541
النصب ليكون مثل ما يعطف عليه و مشاكلا له فكذلك هنا إذا حمل ذلك على التسخير كان أشبه فإن قلت فقد جاء « مسخرات » بعد هذه الأشياء المنصوبة المحمولة على سخر فإن ذلك لا يمتنع لأن الحال تكون مؤكدة و مجيء الحال مؤكدة في التنزيل و غيره كثير كقوله « و هو الحق مصدقا » و : أنا ابن دارة معروفا
و كفى بالنأي من أسماء كاف و يقوي النصب قوله تعالى « و سخر لكم الشمس و القمر دائبين » فكما حمل هنا على التسخير كذلك في الأخرى و كذلك النجوم قد حملت على التسخير في قوله « و هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر » و كان ابن عامر قطعه عن سخر لئلا يجعل الحال مؤكدة فابتدأ الشمس و القمر و النجوم و جعل مسخرات خبرا عنها و يدل على جواز ذلك أنه إذا جاء سخر لكم الشمس و القمر و النجوم علم من هذا أنها مسخرات فجاز الإخبار بالتسخير عنها لذلك و أما حفص فإنما رفع « و النجوم مسخرات » لأنه لا يصح أن يقال و سخر النجوم مسخرات فقطعها مما قبلها فعلى هذا يكون حجة من نصب أن يقدر فعلا آخر و تقديره و جعل النجوم مسخرات .

اللغة

القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد و قاصد إذا قصد إلى ما يريد و الجائز المائل عن الحق و الشجر ما ينبت من الأرض و قام على ساق و له ورق و جمعه أشجار و منه المشاجرة لتداخل بعض الكلام في بعض كتداخل ورق الشجر و قال الأزهري الشجر ما ينبت من الأرض قام على ساق أو لم يقم تسيمون من الإسامة يقال أسمت الإبل إذا رعيتها و أطلقتها فترعى متصرفة حيث شاءت و سامت هي إذا رعت و هي تسوم و إبل سائمة و يقال سمتها إذا قصرتها على مرعى بعينه و سمتها الخسف إذا تركتها على غير مرعى و منه قيل سيم فلان خسفا إذا ذل و اهتضم قال الكميت في الإسامة :
راعيا كان مسجحا ففقدناه
و فقد المسيم هلك السوام و قال آخر :
و أسكن ما سكنت ببطن واد
و أظعن إن ظعنت فلا أسيم و ذهب قوم إلى أن السوم في البيع من هذا لأن كل واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه كما تذهب السائمة حيث شاءت و قد جاء في الحديث لا سوم قبل طلوع الشمس فحمله قوم على أن المواشي لا تسام قبل طلوع الشمس لئلا تنتشر و حمله آخرون على أن البيع في ذلك الوقت مكروه لأن المبيع لا تنكسر عيوبه
مجمع البيان ج : 6 ص : 542
فيدخل في بيع الغرر المنهي عنه و الذرأ إظهار الشيء بإيجاده يقال ذرأه يذرؤه و ذرأه و فطرة و أنشأه نظائر و ملح ذرىء أي ظاهر البياض .

الإعراب

نصب « الخيل و البغال و الحمير » على أنها مفعول في المعنى أي و خلق الخيل و البغال و الحمير و نصب زينة لأنها مفعول لها .
و خلقها زينة « و ما ذرأ » ما بمعنى الذي و موضعه نصب على تقدير و خلق ما ذرأ لكم و قيل هو في موضع الجر بالعطف على ذلك أي أن في ذلك ما ذرأ لكم .
مختلفا نصب على الحال و ألوانه فاعله .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما عدده من صنوف أنعامه فقال « و الخيل » أي و خلق لكم الخيل « و البغال و الحمير لتركبوها » في حوائجكم و تصرفاتكم « و زينة » أي و لتتزينوا بها من الله تعالى على خلقه بأن خلق لهم من الحيوان ما يركبونه و يتجملون به و ليس في هذا ما يدل على تحريم أكل لحومها و قد روى البخاري في الصحيح مرفوعا إلى أسماء بنت أبي بكر قال أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و يخلق ما لا تعلمون » من أنواع الحيوان و النبات و الجماد لمنافعكم « و على الله قصد السبيل » أي بيان قصد السبيل عن ابن عباس و معناه واجب على الله في عدله بيان الطريق المستقيم و هو بيان الهدى من الضلالة و الحلال من الحرام ليتبع الهدى و الحلال و يجتنب الضلالة و الحرام و هذا مثل قوله إن علينا للهدى « و منها جائر » معناه من السبيل ما هو جائر أي عادل عن الحق « و لو شاء لهداكم أجمعين » إلى قصد السبيل بالإلجاء و القهر فإنه قادر على ذلك و قيل معناه لهداكم إلى الجنة و الثواب تفضلا عن الجبائي و أبي مسلم و قيل إن معنى الآية و على الله الممر .
و من الطرق التي الممر فيها على الله جائر و كلاهما على الله لا يخرج أحدا عن قبضته و حكمه كقوله « إن ربك لبالمرصاد » و قيل على الله ممر ذي السبيل القصد و السبيل الجائر و إليه مرجع كل واحد منهما لا يخرج واحد عن سلطانه و لو أراد أن يحمل الجميع على الحق لفعل و من عدل عن الطريق المستقيم فليس ذلك لعجز من الله تعالى ثم عد سبحانه نعمة أخرى دالة على وحدانيته فقال « هو الذي أنزل من السماء ماء » أي مطرا « لكم منه شراب » أي لكم من ذلك الماء شراب تشربونه « و منه شجر » فيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون المراد و منه شرب شجر أو سقي شجر فحذف المضاف ( و الآخر ) أن يكون المراد و من جهة الماء شجر و من سقيه و إنباته شجر فحذف المضاف إلى الهاء في منه كما قال زهير :
مجمع البيان ج : 6 ص : 543

أ من أم أوفي دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم أي أ من ناحية أم أوفي و قال أبو ذؤيب :
أ منك البرق أرقبه فهاجا
فبت أخاله دهما خلاجا أي أ من جهتك و قال الجعدي :
لمن الديار عفون بالتهطال
بقيت على حجج خلون طوال أي على مر حجج و المعنى و ينبت منه شجر و نبات « فيه تسيمون » أي ترعون أنعامكم من غير كلفة و التزام مئونة لعلفها « ينبت لكم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات » أي ينبت الله لكم بذلك المطر هذه الأشياء التي عددها لتنتفعوا بها « إن في ذلك لآية » أي دلالة و حجة واضحة « لقوم يتفكرون » فيه فيعرفون الله تعالى به و خص المتفكرين فيه لأنهم المنتفعون به « و سخر لكم الليل و النهار و الشمس و القمر » قد مضى بيانه و التسخير في الحقيقة للشمس و القمر لأن النهار هو حركات الشمس من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس و الليل حركات الشمس تحت الأرض من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الفجر إلا أنه سبحانه أجرى التسخير على الليل و النهار على سبيل التجوز و الاتساع « و النجوم مسخرات بأمره » مضى بيانه « إن في ذلك » التسخير « لآيات » أي دلالات « لقوم يعقلون » عن الله و ينبئون أن المسخر لذلك على هذا تقدير الذي لا يختلف لأجل منافع خلقه و مصالحهم و المدبر لذلك قادر عالم حكيم « و ما ذرأ لكم في الأرض » أي سخر لكم ما خلقه لكم في الأرض أي لقوام أبدانكم من الملابس و المطاعم و المناكح من أنواع الحيوان و النبات و المعادن و سائر النعم « مختلفا ألوانه » لا يشبه بعضها بعضا « إن في ذلك لآية » أي دلالة « لقوم يذكرون » أي يتفكرون في الأدلة فينظرون فيها و يتعظون و يعتبرون بها .

مجمع البيان ج : 6 ص : 544
وَ هُوَ الَّذِى سخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكلُوا مِنْهُ لَحْماً طرِيًّا وَ تَستَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسونَهَا وَ تَرَى الْفُلْك مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ وَ لَعَلَّكمْ تَشكُرُونَ(14) وَ أَلْقَى فى الأَرْضِ رَوَسىَ أَن تَمِيدَ بِكمْ وَ أَنهَراً وَ سبُلاً لَّعَلَّكمْ تهْتَدُونَ(15) وَ عَلَمَت وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يهْتَدُونَ(16) أَ فَمَن يخْلُقُ كَمَن لا يخْلُقُ أَ فَلا تَذَكرُونَ(17) وَ إِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تحْصوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(18)

القراءة

في الشواذ قراءة الحسن و بالنجم بضم النون .

الحجة

هو جمع نجم مثل سقف و سقف و رهن و رهن .

اللغة

المخر شق الماء من عن يمين و شمال مخرت السفينة الماء تمخر مخرا فهي ماخرة و المخر أيضا صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها و مخر الأرض شقها للزراعة و مخرها بالماء إذا أرسل عليها الماء لتطيب و الميد الميل يمينا و شمالا و هو الاضطراب ماد يميد ميدا و العلامة صورة يعلم بها المعنى من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة و قد تكون وضعية و قد تكون برهانية .

الإعراب

قوله « أن تميد بكم » في موضع نصب بأنه مفعول له و تقديره كراهة أن تميد بكم و انتصب قوله « و أنهارا و سبلا » بمحذوف تقديره و جعل لكم أنهارا لدلالة قوله « ألقى » عليه لأنه لا يجوز أن يكون عطفا على ألقى و مثله قوله :
علفتها تبنا و ماء باردا و قول الآخر :
تسمع في أجوافهن صردا
و في اليدين جساة و بددا أي و ترى في اليدين يبسا و تفرقا و علامات منصوب عطف على قوله « و أنهارا و سبلا » و قيل و خلق لكم علامات .

مجمع البيان ج : 6 ص : 545

المعنى

ثم عدد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه فقال « و هو الذي سخر البحر » أي ذلله لكم و سهل لكم الطريق إلى ركوبه و استخراج ما فيه من المنافع « لتأكلوا منه لحما » أي لتصطادوا منه أنواع السمك و تأكلوا لحمه « طريا » و لا يجوز أن يهمز طريا لأنه من الطراوة « و تستخرجوا منه حلية » يعني اللآلىء التي تخرج من البحر بالغوص « تلبسونها » و تتزينون بها و تلبسونها نساءكم و لو لا تسخيره سبحانه ذلك لكم لما قدرتم على الدنو منه و الغوص فيه « و ترى الفلك مواخر فيه » أي و ترى أيها الإنسان السفن شواق في البحر و قواطع لمائه عن عكرمة و قيل جواري عن ابن عباس « و لتبتغوا من فضله » أي و لتركبوه للتجارة و تطلبوا من فضل الله تعالى « و لعلكم تشكرون » أي و لكي تشكروا الله على نعمه ليزيدكم منها و يثيبكم و الواو إنما دخلت في ذلك للدلالة على أن الله سبحانه أراد جميع ما ذكره إنعاما منه على عباده « و ألقى في الأرض رواسي » أي جبالا عالية ثابتة واحدها راسية « أن تميد بكم » الأرض أي كراهة أن تميد بكم أو لئلا تميد بكم أي تتحرك و تضطرب « و أنهارا » أي و جعل فيها أنهارا « و سبلا » أي طرقا لكي تجروا الماء في الأنهار إلى بساتينكم و حيث تريدون و تهتدوا بالطرق إلى حيث شئتم من البلاد و قيل أراد بالأنهار النيل و الفرات و دجلة و سيحان و جيحان و أمثالها « لعلكم تهتدون » قد ذكرنا معناه و قيل لتهتدوا بها إلى توحيد الله « و علامات » و جعل لكم علامات أي معالم تعلم بها الطرق و قيل العلامات الجبال يهتدى بها نهارا « و بالنجم هم يهتدون » ليلا عن ابن عباس و المراد بالنجم الجنس أي جميع النجوم الثابتة و قيل تم الكلام عند قوله « و علامات » ثم ابتدأ « و بالنجم هم يهتدون » و قيل إن العلامات هي النجوم أيضا لأن من النجوم ما يهتدى بها و منها يكون علامات لا يهتدى بها عن قتادة و مجاهد و قيل أراد به الاهتداء في القبلة قال ابن عباس سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنه فقال الجدي علامة قبلتكم و به تهتدون في بركم و بحركم و قال أبو عبد الله (عليه السلام) نحن العلامات و النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض « أ فمن يخلق كمن لا يخلق » معناه أ فمن يخلق هذه الأشياء في استحقاق العبادة و الإلهية كالأصنام التي لا تخلق شيئا حتى يسوي بينها في العبادة و بين خالق جميع ذلك « أ فلا تذكرون » أي أ فلا تتذكرون أيها المشركون فتعتبرون و تعرفون أن ذلك من الخطإ الفاحش و جعل من فيما لا يعقل لما اتصل بذكر الخلق ثم عطف سبحانه على ذلك تذكر كثرة نعمه فقال « و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » معناه و إن أردتم تعداد نعم الله سبحانه عليكم و معرفة تفاصيلها لم يمكنكم إحصاؤها و لا تعديدها و إنما يمكنكم أن تعرفوا جملها بين
مجمع البيان ج : 6 ص : 546
سبحانه أن من وراء النعم التي ذكرها نعما له لا تحصى « إن الله لغفور » لما حصل منكم من تقصير في شكر نعمه « رحيم » بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم في شكرها .
وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ(19) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يخْلُقُونَ شيْئاً وَ هُمْ يخْلَقُونَ(20) أَمْوَتٌ غَيرُ أَحْيَاء وَ مَا يَشعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21) إِلَهُكمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ قُلُوبهُم مُّنكِرَةٌ وَ هُم مُّستَكْبرُونَ(22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يحِب الْمُستَكْبرِينَ(23)

القراءة

« و الذين يدعون » بالياء عاصم غير الأعشى و البرجمي عن أبي بكر و يعقوب و سهل و الباقون بالتاء .

الحجة

من قرأ بالتاء فلأن ما بعده و ما قبله خطاب و من قرأ بالياء وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و يكون الخبر عن المشركين .

المعنى

لما قدم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمة و كمال قدرته عقبه ببيان علمه بسريرة كل أحد و على نيته ثم ذكر بطلان الإشراك في عبادته فقال « و الله يعلم ما تسرون و ما تعلنون » أخبر سبحانه أنه يعلم ما يسرونه و ما يظهرونه فيجازيهم على أفعالهم إذ لا يخفى عليه الجلي و الخفي من أحوالهم « و الذين يدعون من دون الله » إلها « لا يخلقون شيئا و هم يخلقون » يعني الأصنام لا يمكنها خلق شيء بل هي مخلوقة مربوبة منحوتة من الحجر و الخشب و نحوهما مما هو مخلوق لله تعالى ثم قال « أموات » أي هي أموات « غير أحياء » أكد كونها أمواتا بقوله « غير أحياء » لنفي الحياة عنها على الإطلاق فإن من الأموات من سبقت له حالة في الحياة و له حالة منتظرة في الحياة بخلاف الأصنام فإنه ليس لها حياة سابقة و لا منتظرة و قال « أموات » و لم يقل موات و إن كان الأموات جمع الميت الذي كان فيه حياة فزالت لأنهم صور و الأصنام على صور العقلاء و هيئاتهم و عاملوها معاملة العقلاء تسمية
مجمع البيان ج : 6 ص : 547
و اعتقادا و لذلك قال « لا يخلقون شيئا و هم يخلقون » « و ما يشعرون أيان يبعثون » معناه و ما تشعر هذه الأصنام متى تبعث عن الفراء و قيل في الآية إن معناه هم أموات يعني أن الكفار في حكم الأموات لذهابهم عن الحق و الدين و لا يدرون متى يبعثون و قيل إن المعنى و لا تدري الأصنام متى يبعث الخلق عن الجبائي و أيان في موضع نصب يبعثون و قرىء في الشواذ إيان بكسر الهمزة و الفتح أفصح و أصح ثم خاطب سبحانه عباده فقال « إلهكم إله واحد » لا يقدر على ما يستحق به العبادة من خلق أصول النعم سواه فاثبتوا على عبادته « فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة » أي جاحدة للحق تستبعد ما يرد عليها من المواعظ « و هم مستكبرون » عن الانقياد للحق ذاهبون عنه دافعون له من غير حجة و الاستكبار طلب الترفع بترك الإذعان للحق ثم قال سبحانه « لا جرم » أي حقا و هو بمنزلة اليمين قال الخليل و هو كلمة تحقيق و لا يكون إلا جوابا لقول فعلوا كذا فيقول السامع لا جرم يندمون و قال الزجاج معناه حق أن الله و وجب أن الله و لا رد لفعلهم قال الشاعر :
و لقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا المعنى أحقت فزارة بالغضب و قال أبو مسلم أصله من الكسب فكأنه قال لا يحتاج في معرفة هذا الأمر إلى اكتساب علم بل هو معلوم « أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون » و هذا تهديد لهم بأنه عالم بجميع أحوالهم فيجازيهم على أقوالهم و أفعالهم « إنه لا يحب المستكبرين » أي المتعظمين الذين يأنفون أن يكونوا أتباعا للأنبياء أي لا يريد ثوابهم و تعظيمهم .

مجمع البيان ج : 6 ص : 548
وَ إِذَا قِيلَ لهَُم مَّا ذَا أَنزَلَ رَبُّكمْ قَالُوا أَسطِيرُ الأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيرِ عِلْم أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ(25) قَدْ مَكرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتى اللَّهُ بُنْيَنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السقْف مِن فَوْقِهِمْ وَ أَتَاهُمُ الْعَذَاب مِنْ حَيْث لا يَشعُرُونَ(26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شرَكاءِى الَّذِينَ كُنتُمْ تُشقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْى الْيَوْمَ وَ السوءَ عَلى الْكفِرِينَ(27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئكَةُ ظالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السلَمَ مَا كنَّا نَعْمَلُ مِن سوءِ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(28) فَادْخُلُوا أَبْوَب جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْس مَثْوَى الْمُتَكَبرِينَ(29)

القراءة

قرأ نافع وحده تشاقون بكسر النون و الباقون بفتحها و قرأ حمزة و خلف في الموضعين يتوفاهم بالياء و الباقون بالتاء و في الشواذ قراءة مجاهد عليهم السقف بضم السين و روي عن أهل البيت (عليهم السلام) فأتى بنيتهم من القواعد .

الحجة

قد تقدم الوجه في قراءة نافع في سورة الحجر عند قوله « فبم تبشرون » فأما قراءة حمزة يتوفاهم بالياء فلأن الفعل مقدم و الإمالة حسنة في هذا النحو من الفعل و من قرأ بالتاء فلأن الجماعة مؤنثة كما جاء و إذ قالت الملائكة .

اللغة

قد مضى معنى الأساطير و الأوزار في سورة الأنعام و القواعد الأساس و الواحدة القاعدة و قواعد الهودج خشبات أربع معترضات في أسفله و الشقاق الخلاف في المعنى و تشاقون تكونون في جانب و المسلمون في جانب و من ثم قيل لمن خرج عن طاعة الإمام و عن جماعة المسلمين شق عصا المسلمين أي صار في جانب عنهم فلم يكن مجتمعا معهم في كلمتهم و هو مأخوذ من الشق الذي هو النصف كأنه صار في شق غير شقهم .

الإعراب

ما أنزل ما مبتدأ و ذا بمعنى الذي و المعنى ما الذي أنزل ربكم و أساطير مرفوعة على الجواب كأنهم قالوا الذي أنزل أساطير الأولين و تقديره و إذا قيل لهم هذا القول فالذي قام مقام فاعل قيل هو المصدر لا الجملة لأن الجملة نكرة و الفاعل يجوز إضماره و المضمر لا يكون قط نكرة بل هو أعرف المعارف و قوله « و من أوزار الذين يضلونهم » من زيادة على قول الأخفش أي و أوزار الذين يضلونهم و على قول سيبويه هو صفة مصدر محذوف و تقديره و أوزارا من أوزار الذين يضلونهم و ما يزرون في موضع رفع كما يرفع بعد بئس و نعم و تقديره و بئس الشيء وزرهم فما حرف موصول و يزرون صلته و ظالمي أنفسهم
مجمع البيان ج : 6 ص : 549
نصب على الحال أي في حال ظلمهم أنفسهم .

المعنى

ثم أبان سبحانه عن أحوال المشركين و أقوالهم فقال « و إذا قيل لهم » أي لمشركي قريش « ما ذا أنزل ربكم » على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قالوا أساطير الأولين » أي أجابوا فقالوا هذا المنزل في زعمكم هو عندنا أحاديث الأولين الكاذبة عن ابن عباس و غيره و يروى أنها نزلت في المقتسمين و هم ستة عشر رجلا خرجوا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدوا الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إذا سألهم الناس عما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قالوا أحاديث الأولين و أباطيلهم عن الكلبي و غيره « ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة » اللام للعاقبة و المعنى كان عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن حملوا أوزار كفرهم تامة يوم القيامة « و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم » أي و يحملون مع أوزارهم بعض أوزار الذين أضلوهم عن سبيل الله و أغووهم عن اتباع الحق و هو وزر الإضلال و الإغواء و لم يحملوا وزر غوايتهم و ضلالهم و قوله « بغير علم » معناه من غير علم منهم بذلك بل جاهلين به و على هذا ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا و أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليه فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا « ألا ساء ما يزرون » أي بئس الحمل حملهم و هو ما يحملونه من الآثام لأنه إذا تحمل إثمه و دخل النار كان سببا فكيف إذا تحمله بسبب فعل غيره « قد مكر الذين من قبلهم » أي من قبل هؤلاء المشركين بأنبيائهم من جهة التكذيب و غيره و هذا على سبيل التسلية لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الوعيد لقومه « فأتى الله بنيانهم من القواعد » أي أتى أمر الله بنيانهم التي بنوها من جوانب قواعدها فهدمها عن ابن عباس قال يعني نمرود بن كنعان بنى صرحا طويلا و رام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه فأرسل الله ريحا فألقت رأس الصرح في البحر و خر عليهم الباقي و قال الزجاج « من القواعد » يريد من أساطين البناء التي تعمده و قيل هو بخت نصر و قيل إن هذا مثل ضربه الله سبحانه لاستئصالهم و لا قاعدة هناك و لا سقف و المعنى فأتى الله مكرهم من أصله أي عاد ضرر المكر عليهم و بهم عن الزجاج و ابن الأنباري و هذا الوجه أليق بكلام العرب كما قالوا أتي فلان من مأمنه أي أتاه الهلاك من جهة مأمنه و إنما أسند سبحانه الإتيان إلى نفسه من حيث كان تخريب قواعدهم من جهته « فخر عليهم السقف من فوقهم » إنما قال « من فوقهم » مع حصول العلم بأن السقف لا يكون إلا من فوق لأحد وجوه ( منها ) إنه للتوكيد كما تقول لمن خاطبته قلت أنت كذا و كذا و كما يقال مشيت برجلي و تكلمت بلساني ( و منها ) إنما قال ذلك ليدل على أنهم كانوا تحته فإن الإنسان قد يقول بيتي قد تهدم علي
مجمع البيان ج : 6 ص : 550
و إن لم يكن هو تحته ( و منها ) أن يكون على في قوله « فخر عليهم » بمعنى عن فيكون المعنى فخر عنهم السقف من فوقهم أي خر عن كفرهم و جحدهم بالله و آياته و المراد من أجل كفرهم كما يقال اشتكى فلان عن دواء شربه و على دواء شربه أي من أجل الدواء قال الشاعر :
أرمي عليها و هي فرع أجمع أراد أرمي عنها و لو قال على هذا المعنى فخر عليهم السقف و لم يقل من فوقهم لجاز أن يتوهم متوهم أن السقف خر و ليس هم تحته و العرب لا تستعمل لفظة على في مثل هذا الموضع إلا في الشر و الأمر المكروه « و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون » أي جاءهم عذاب الاستئصال من حيث لا يعلمون لأنهم ظنوا أنهم على حق فكانوا لا يتوقعون العذاب و هذا مثل قوله « فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا » « ثم يوم القيامة يخزيهم » معناه ثم أنه تعالى مع ذلك يذلهم و يفضحهم يوم القيامة على رءوس الخلائق و يهينهم بالعذاب أي لا يقتصر بهم على عذاب الدنيا « و يقول » على سبيل التوبيخ لهم و التهجين « أين شركائي » الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة على زعمكم « الذين كنتم تشاقون فيهم » أي تعادون المؤمنين على قراءة فتح النون و على الكسر تعادونني فيهم « قال الذين أوتوا العلم » بالله تعالى و بدينه و شرائعه من المؤمنين و قيل هم الملائكة عن ابن عباس « إن الخزي اليوم و السوء على الكافرين » أي أن الهوان اليوم و العذاب الذي يسوء على الجاحدين لنعم الله المنكرين لتوحيده و صدق رسله « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » الذين في موضع جر بأنه بدل من الكافرين أو صفة لهم و معناه الذين يقبض ملك الموت و أعوانه أرواحهم ففارقوا الدنيا و هم ظالمون لأنفسهم بإصرارهم على الكفر « فألقوا السلم » أي استسلموا للحق و انقادوا حين لا ينفعهم الانقياد و الإذعان « ما كنا نعمل من سوء » أي يقولون ما كنا نعمل عند أنفسنا من سوء أي من معصية فكذبهم الله تعالى و قال بلى قد فعلتم « إن الله عليم بما كنتم تعملون » في الدنيا من المعاصي و غيرها و قيل إنه يقول لهم ذلك المؤمنون الذين أوتوا العلم و الملائكة « فادخلوا أبواب جهنم » أي طبقات جهنم و دركاتها « خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين » أي بئس منزل المتعظمين عن قبول الحق و اللام للتوكيد .

مجمع البيان ج : 6 ص : 551
* وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَا ذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيراً لِّلَّذِينَ أَحْسنُوا فى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسنَةٌ وَ لَدَارُ الاَخِرَةِ خَيرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) جَنَّت عَدْن يَدْخُلُونهَا تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ لهَُمْ فِيهَا مَا يَشاءُونَ كَذَلِك يجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَئكَةُ طيِّبِينَ يَقُولُونَ سلَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32) هَلْ يَنظرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَئكةُ أَوْ يَأْتىَ أَمْرُ رَبِّك كَذَلِك فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ مَا ظلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ يَظلِمُونَ(33) فَأَصابَهُمْ سيِّئَات مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِم مَّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ(34)

الإعراب

« ما ذا أنزل ربكم » ما و ذا هنا كالشيء الواحد و تقديره أي شيء أنزل ربكم و خيرا منصوب على أنه جواب ما ذا أي أنزل خيرا و قوله « للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة » يجوز أن يكون تفسيرا لقوله « خيرا » و يجوز أن يكون ابتداء كلام « و لنعم دار المتقين » المخصوص بالمدح محذوف المعنى و لنعم دار المتقين دار الآخرة و المبين لقوله « دار المتقين جنات عدن » و تقديره هي جنات عدن فيكون خبر مبتدإ محذوف و يجوز أن يكون جنات عدن مرتفعة بالابتداء و تكون المخصوصة بالمدح و التقدير جنات عدن نعم دار المتقين .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما أنزله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عقبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك فقال « و قيل للذين اتقوا » الشرك و المعاصي و هم المؤمنون « ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا » أي أنزل الله خيرا لأن القرآن كله هدى و شفاء و خير « للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة » و يجوز أن يكون هذا ابتداء كلام من الله تعالى معناه للمحسنين في هذه الدنيا حسنة مكافاة لهم و هي الثناء و المدح على ألسنة المؤمنين و الهدى و التوفيق للإحسان « و لدار الآخرة خير » أي و ما يصل إليهم من الثواب في الآخرة خير مما يصل إليهم في الدنيا و يجوز أن يكون الجمع من كلام المتقين و أجاز الحسن و الزجاج كلا الوجهين
مجمع البيان ج : 6 ص : 552
و قوله « و لنعم دار المتقين » أي و الآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه و اجتناب معاصيه و قيل معناه و لنعم دار المتقين الدنيا لأنهم نالوا بالعمل فيها الثواب و الجزاء عن الحسن و قيل معناه و لنعم دار المتقين « جنات عدن يدخلونها » كما يقال نعم الدار دار ينزلها « تجري من تحتها الأنهار » سبق معناه « لهم فيها ما يشاءون » أي يشتهون من النعم « كذلك يجزي الله المتقين » أي كذلك يجازي الله الذين اتقوا معاصيه « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين » أي طيبي الأعمال طاهري القلوب من دنس الشرك و قيل معناه طيبة نفوسهم بالمصير إليه لعلمهم بما لهم عنده من الثواب و قيل طيبين أي صالحين بأعمالهم الجميلة و قيل بطيب وفاتهم فلا يكون صعوبة فيها « يقولون سلام عليكم » أي تقول الملائكة سلام عليكم أي سلامة لكم من كل سوء « ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون » قيل إنهم لما بشروهم بالسلامة صارت الجنة كأنها دارهم و هم فيها فقولهم « ادخلوا الجنة » بمعنى حصلت لكم الجنة و قيل إنما يقولون ذلك عند خروجهم من قبورهم « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » قد مضى تفسيره في سورتي البقرة و الأنعام « كذلك فعل الذين من قبلهم » أخبر سبحانه أن الذين مضوا من الكفار فعلوا مثل ما فعل هؤلاء من تكذيب الرسل و جحد التوحيد فأهلكهم الله فما الذي يؤمن هؤلاء من أن يهلكهم الله « و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون » بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك « فأصابهم سيئات ما عملوا » أي عقاب سيئاتهم فسمى العقاب سيئة كما قال « و جزاء سيئة سيئة مثلها » « و حاق بهم » أي و حل بهم جزاء « ما كانوا به يستهزءؤن » .

مجمع البيان ج : 6 ص : 553
وَ قَالَ الَّذِينَ أَشرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شىْء نحْنُ وَ لا ءَابَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شىْء كَذَلِك فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسلِ إِلا الْبَلَغُ الْمُبِينُ(35) وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فى كلِّ أُمَّة رَّسولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطغُوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُم مَّنْ حَقَّت عَلَيْهِ الضلَلَةُ فَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَانْظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِن تحْرِص عَلى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يهْدِى مَن يُضِلُّ وَ مَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ(37)

القراءة

قرأ أهل الكوفة « لا يهدي » بفتح الياء و الباقون بضم الياء و فتح الدال و لم يختلفوا في « يضل » أنها مضمومة الياء مكسورة الضاد .

الحجة

قال أبو علي الراجع على اسم أن هو الذكر الذي في قوله « يضل » في قراءة من قرأ يهدي و من قرأ « يهدي » فمن جعل يهدي من هديته جاز أن يعود الذكر الفاعل الذي فيه إلى اسم أن و من جعل يهدي في معنى يهتدي و جعل من يضل مرتفعا به فالراجع إلى اسم أن الذكر الذي في يضل كما كان كذلك في قول من قال يهدي و الراجع إلى الموصول الذي هو من الهاء المحذوفة من الصلة تقديره يضله و المعنى أن من حكم بإضلاله لكفره و تكذيبه فلا يهدي و مثل هذا المعنى قوله « فمن يهديه من بعد الله » تقديره من بعد إضلال الله إياه و المفعول محذوف أي من بعد حكمه بإضلاله و من قرأ « لا يهدي » فهو في المعنى كقوله « من يضلل الله فلا هادي له » و هذا كقوله « و الله لا يهدي القوم الظالمين » و قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » فموضع من نصب بيهدي و قد قيل إن يهدي في معنى يهتدي بدلالة قوله « لا يهدي إلا أن يهدى » فموضع من على هذا رفع كما أنه لو قال يهتدي كان كذلك و قوله « لا يضل » من قولك ضل الرجل و أضله الله أي حكم بإضلاله كقولك كفر زيد و كفره الناس أي نسبوه إلى الكفر فقالوا إنه كافر كما أن أسقيته قلت له سقاك الله قال ذو الرمة :
و أسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره و ملاعبه .

اللغة

البلاغ و الإبلاغ إيصال المعنى إلي الغير و الحرص طلب الشيء بجد و اجتهاد يقال حرص يحرص حرصا و حرص يحرص بكسر الراء في الماضي و فتحها في المستقبل لغة و قد روي في الشواذ عن الحسن و إبراهيم إن تحرص بفتح الراء و الأول لغة أهل الحجاز و الأصل من السحابة الحارصة و هي التي تقشر وجه الأرض و شجة حارصة التي تقشر جلدة الرأس و كذلك الحرص كان صاحبه ينال من نفسه لشدة اهتمامه بما هو حريص فيه .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلي حكاية قول المشركين فقال « و قال الذين أشركوا »
مجمع البيان ج : 6 ص : 554
مع الله إلها آخر « لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء » أي لو أراد الله ما عبدنا من دونه شيئا من الأصنام و الأوثان « نحن و لا آباؤنا » الذين اقتدينا بهم « و لا حرمنا من دونه من شيء » من البحيرة و السائبة و غيرهما بل شاء ذلك منا و أراد بذلك فعلنا فأنكر الله سبحانه هذا القول عليهم و قال « كذلك » أي مثل ذلك « فعل الذين من قبلهم » من الكفار و الضلال كذبوا رسل الله و جحدوا آياته قالوا مثل قولهم و فعلوا مثل فعلهم « فهل على الرسل إلا البلاغ المبين » أي ليس عليهم إلا إبلاغ الرسالة و قد سبق بيان مثل هذه الآية في سورة الأنعام « و لقد بعثنا في كل أمة » أي في كل جماعة و قرن « رسولا » كما بعثناك يا محمد رسولا إلي أمتك « أن اعبدوا الله » أي ليقول لهم اعبدوا الله « و اجتنبوا الطاغوت » أي عبادة الطاغوت و أن هذه هي المفسرة و يعني بالطاغوت الشيطان و كل داع يدعو إلي الضلالة « فمنهم من هدى الله » معناه فمنهم من هداه الله بأن لطف له بما علم أنه يؤمن عنده ف آمن فسمى ذلك اللطف هداية و يجوز أن يريد فمنهم من هداه الله إلى الجنة بإيمانه و لا يجوز أن يريد بالهداية هنا نصب الأدلة كما في قوله « و أما ثمود فهديناهم » لأنه سبحانه سوى في ذلك بين المؤمن و الكافر « و منهم من حقت عليه الضلالة » معناه و منهم من أعرض عما دعاه إليه الرسول فخذله الله فثبتت عليه الضلالة و لزمته فلا يؤمن قط و قيل معناه وجبت عليه الضلالة و هي العذاب و الهلاك و قيل معناه و منهم من حقت عليه عقوبة الضلالة عن الحسن و قد سمى الله سبحانه العقاب ضلالا بقوله « إن المجرمين في ضلال و سعر » « فسيروا في الأرض » أي أرض المكذبين الذين عاقبهم الله أن لم تصدقوني « فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » أي فانظروا كيف حقت عليهم العقوبة و حلت بهم فلا تسلكوا طريقهم فينزل بكم مثل ما نزل بهم « إن تحرص على هداهم » أي على أن يؤمنوا بك « فإن الله لا يهدي من يضل » هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة لانهماكه في الكفر و إشارة إلى أن ذلك ليس لتقصير وقع من جهته (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و إعلام له أنهم لا يؤمنون أبدا و إذا كانوا هكذا فإن الله لا يهديهم بل يضلهم على المعنى الذي فسرناه قبل « و ما لهم من ناصرين » أي ليس لهم من ناصر ينصرهم و يخلصهم من العقاب و في هذا بيان أن الإضلال في الآية ليس المراد به ما ذكره أهل الجبر .

مجمع البيان ج : 6 ص : 555
وَ أَقْسمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لا يَبْعَث اللَّهُ مَن يَمُوت بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(38) لِيُبَينَ لَهُمُ الَّذِى يخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنهُمْ كانُوا كذِبِينَ(39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشىْء إِذَا أَرَدْنَهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(40)

القراءة

قرأ ابن عامر و الكسائي فيكون بالنصب و في يس مثله و الباقون بالرفع .

الحجة

من نصب فإنه يحمله على أن قال الزجاج الرفع على فهو يكون على معنى أن ما أراد الله فهو يكون فالنصب على ضربين ( أحدهما ) أن يكون عطفا على أن تقول ( و الآخر ) أن يكون نصبا على جواب كن قال أبو علي اعلم أن الذي أجازه من النصب على أن يكون جواب كن لم يجزه أحد من أصحابنا غيره لأن كن و إن كان على لفظ الأمر فليس القصد به هنا الأمر إنما هو و الله أعلم الإخبار عن كون الشيء و حدوثه .

الإعراب

« جهد أيمانهم » مصدر وضع موضع الحال و التقدير يجتهدون اجتهادا في إيمانهم و هذا مثل قولهم طلبته جهدك أي تجهد جهدك وعدا منصوب لتوكيد المعنى فإن المعنى بلى يبعثهم الله وعد الله ذلك وعدا و قوله « ليبين » اللام فيه يتعلق بالبعث أيضا أي يبعثهم ليبين لهم و ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين و يجوز أن يتعلق بقوله « و لقد بعثنا في كل أمة رسولا » أي و لقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم اختلافهم و قولنا مرفوع بالابتداء و خبره أن القول و المعنى إنما قولنا لكل مراد قولنا له كن .

النزول

قالوا كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه فوقع في كلامه و الذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا فقال المشرك و إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت و أقسم بالله لا يبعث الله من يموت فأنزل الله الآية عن أبي العالية .

المعنى

ثم حكى سبحانه عن المشركين نوعا آخر من كفرهم فقال « و أقسموا بالله جهد أيمانهم » أي حلفوا بالله مجتهدين في أيمانهم و المعنى أنهم قد بلغوا في القسم كل مبلغ « لا يبعث الله من يموت » أي لا يحشر الله أحدا يوم القيامة و لا يحيى من يموت بعد موته ثم كذبهم الله تعالى في ذلك فقال « بلى » يحشرهم الله و يبعثهم « وعدا » وعدهم به « عليه » إنجازه و تحقيقه من حيث الحكمة « حقا » ذلك الوعد ليس له خلف إذ لو لا البعث لما حسن التكليف لأن التكليف إنما يحسن لإثابة من عوض به « و لكن أكثر الناس لا يعلمون » صحة ذلك لكفرهم بالله و جحدهم نبوة أنبيائه و قيل لا يعلمون وجه الحكمة في
مجمع البيان ج : 6 ص : 556
البعث فلا يؤمنون به « ليبين لهم الذي يختلفون فيه » هذا بيان من الله تعالى إنه إنما يحشر الخلائق يوم القيامة ليبين لهم الحق فيما كانوا فيه يختلفون فيه في دار الدنيا لأنه يخلق فيهم العلم الضروري يوم القيامة الذي يزول معه التكليف « و ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين » في الدنيا في قولهم إن الله لا يبعث أحدا بعد موته و إذا تعلق اللام قوله « و لقد بعثنا » فالمعنى بعثنا إلى كل أمة رسولا ليبين لهم ذلك الرسول ما يختلفون فيه و يهديهم إلى طريق الحق و ينبههم عليه « إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون » قد ذكرنا تفسيره في سورة البقرة و المراد به هاهنا بيان أنه قادر على البعث لا يتعذر عليه ذلك فإنه إذا أراد شيئا كونه .
وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فى الدُّنْيَا حَسنَةً وَ لأَجْرُ الاَخِرَةِ أَكْبرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(41) الَّذِينَ صبرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُونَ(42) وَ مَا أَرْسلْنَا مِن قَبْلِك إِلا رِجَالاً نُّوحِى إِلَيهِمْ فَسئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنزَلْنَا إِلَيْك الذِّكرَ لِتُبَينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44)

القراءة

قرأ حفص نوحي بالنون و قد تقدم ذكره في سورة يوسف و روي عن علي (عليه السلام) لنثوينهم بالثاء و القراءة « لنبوئنهم » بالباء .


الحجة

قال ابن جني نصب حسنة هاهنا أي نحسن إليهم إحسانا و وضع حسنة موضع الإحسان كأنه واحد من الحسن دال عليه و دل قوله « لنبوئنهم » على ذلك الفعل لأنه إذا أقرهم على الفعل بإطالة مدتهم فقد أحسن إليهم كما قال ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ذلك ضد ما يعمل بالعاصين الذين يصطلمهم بذنوبهم و جرائم أفعالهم .

النزول

الآية الأولى نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب و عمار و بلال و خباب
مجمع البيان ج : 6 ص : 557
و غيرهم مكنهم الله بالمدينة و ذكر أن صهيبا قال لأهل مكة أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم و إن كنت عليكم لم يضركم فخذوا مالي و دعوني فأعطاهم ماله و هاجر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال له أبو بكر ربح البيع يا صهيب و يروى أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء قال له خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا و ما أخره لك أفضل ثم تلا هذه الآية .

المعنى

« و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » معناه و الذين فارقوا أوطانهم و ديارهم و أهليهم فرارا بدينهم و اتباعا لنبيهم في الله أي في سبيله لابتغاء مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون و عذبوهم بمكة و بخسوهم حقوقهم « لنبوئنهم في الدنيا حسنة » أي بلدة حسنة بدل أوطانهم و هي المدينة عن ابن عباس و قيل لنعطينهم حالة حسنة و هي النصر و الفتح و قيل هي ما استولوا عليه من البلاد و فتح لهم من الولايات « و لأجر الآخرة أكبر » مما أعطيناهم في الدنيا « لو كانوا يعلمون » أي لو كان الكفار يعلمون ذلك و قيل معناه لو علم المؤمنون تفاصيل ما أعد الله لهم في الجنة لازدادوا سرورا و حرصا على التمسك بالدين « الذين صبروا و على ربهم يتوكلون » هذا وصف لهؤلاء المهاجرين أي صبروا في طاعة الله على أذى المشركين و فوضوا أمورهم إلى الله تعالى ثقة به ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « و ما أرسلنا من قبلك » إلى الأمم الماضية « إلا رجالا » من البشر « نوحي إليهم » أي أوحينا إليهم كما أوحينا إليك و أرسلناهم إلى أممهم كما أرسلناك إلى أمتك و ذلك أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبين سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلا من يشاهدونه و يخاطبونه و يفهمون عنه و أنه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك « فاسألوا أهل الذكر » فيه أقوال ( أحدها ) أن المعنى بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أ كانوا مؤمنين أو كفارا و سمي العلم ذكرا لأن الذكر منعقد بالعلم فإن الذكر هو ضد السهو فهو بمنزلة السبب المؤدي إلى العلم في ذكر الدليل فحسن أن يقع موقعه و ينبىء عن معناه إذا تعلق به هذا التعلق عن الرماني و الزجاج و الأزهري ( و ثانيها ) أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب عن ابن عباس و مجاهد أي فاسألوا أهل التوراة و الإنجيل « إن كنتم لا تعلمون » يخاطب مشركي مكة و ذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود و النصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم لأنهم كانوا يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لشدة عداوتهم له ( و ثالثها ) أن المراد بهم أهل القرآن لأن الذكر هو القرآن عن ابن زيد و يقرب منه ما رواه جابر و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال نحن أهل الذكر و قد سمى الله رسوله ذكرا في قوله ذكرا رسولا على أحد الوجهين و قوله « بالبينات و الزبر » العامل فيه قوله « أرسلنا » و التقدير و ما
 

Back Index Next