جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 

مجمع البيان ج : 6 ص : 513
موزون و أفعاله موزونة و المراد ما ذكرناه و على هذا المعنى تأول المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين و أنها التعديل و المساواة بين الثواب و العقاب « و جعلنا لكم فيها معايش » أي خلقنا لكم في الأرض معايش من زرع أو نبات عن ابن عباس و الحسن و قيل معايش أي مطاعم و مشارب تعيشون بهما و قيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة « و من لستم له برازقين » يعني العبيد و الدواب يرزقهم الله و لا ترزقونهم و معناه يدور على ما تقدم ذكره في الإعراب و أتى بلفظة من دون لفظة ما لأنه غلب العقلاء على غيرهم « و إن من شيء » أي و ليس من شيء ينزل من السماء و ينبت من الأرض « إلا عندنا خزائنه » معناه إلا و نحن مالكوه و القادرون عليه و خزائن الله سبحانه مقدوراته لأنه تعالى يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس و يقدر من كل جنس على ما لا نهاية له و قيل المراد به الماء الذي منه النبات و هو مخزون عنده إلى أن ينزله و نبات الأرض و ثمارها إنما تنبت بماء السماء و قال الحسن المطر خزائن كل شيء « و ما ننزله » أي و ما ننزل المطر « إلا بقدر معلوم » تقتضيه الحكمة و قيل إنه سبحانه استعار الخزائن للقدرة على إيجاد الأشياء و عبر عن الإيجاد بالإنزال لأن الإنزال في معنى الإعطاء و الرزق و المعنى أن الخير كله من عند الله لا يوجد و لا يعطي إلا بحسب المصلحة و الحاجة ثم بين سبحانه كيفية الإنزال فقال « و أرسلنا الرياح لواقح » أي أجرينا الرياح لواقح أي ملقحة للسحاب محملة بالمطر « فأنزلنا من السماء ماء » أي مطرا « فأسقيناكموه » أي فأسقيناكم ذلك الماء و مكناكم منه « و ما أنتم له بخازنين » أي و ما أنتم أيها الناس له بحافظين و لا محرزين بل الله يحفظه ثم يرسله من السماء ثم يحفظه في الأرض ثم يخرجه من العيون بقدر الحاجة و لا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع « و إنا لنحن نحيي و نميت » أخبر سبحانه أنه يحيي الخلق إذا شاء و يميتهم إذا أراد « و نحن الوارثون » الأرض و من عليها أخبر أنه يرث الأرض لأنه إذا أفنى الخلق و لم يبق أحد كانت الأشياء كلها راجعة إليه يتفرد بالتصرف فيها « و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد
مجمع البيان ج : 6 ص : 514
علمنا المستأخرين » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه و لقد علمنا الماضين منكم و لقد علمنا الباقين عن مجاهد و الضحاك و قتادة ( و ثانيها ) علمنا الأولين منكم و الآخرين عن الشعبي ( و ثالثها ) علمنا المستقدمين في صفوف الحرب و المتأخرين عنها عن سعيد بن المسيب ( و رابعها ) علمنا المتقدمين في الخير و المبطئين عنه عن الحسن ( و خامسها ) علمنا المتقدمين إلى الصف الأول في الصلاة و المتأخرين عنه فإنه كان يتقدم بعضهم إلى الصف الأول ليدركوا فضيلته و كان يتأخر بعضهم لينظروا إلى أعجاز النساء فنزلت الآية فيهم عن ابن عباس ( و سادسها ) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حث الناس على الصف الأول في الصلاة و قال خير صفوف الرجال أولها و شرها آخرها و خير صفوف النساء آخرها و شرها أولها و قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن الله و ملائكته يصلون على الصف المتقدم فازدحم الناس و كانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا لنبيعن دورنا و لنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت هذه الآية عن الربيع بن أنس فعلى هذا يكون المعنى إنا نجازي الناس على نياتهم « و إن ربك هو يحشرهم » معناه إن ربك يا محمد أو أيها السامع هو الذي يجمعهم يوم القيامة و يبعثهم بعد إماتتهم للمجازاة و المحاسبة « إنه حكيم » في أفعاله « عليم » بما استحق كل منهم .

النظم

إنما اتصل قوله « و إنا لنحن نحيي و نميت » و ما بعده بما ذكره فيما قبل من أنواع النعم فبين سبحانه أنه يرثهم كل ما خولهم من ذلك تزهيدا في الدنيا و ترغيبا في الآخرة عن أبي مسلم و قيل إنه لما بين أنواع نعمه عرفهم بعد أنه لم يخلق ذلك للبقاء و إنما أنعم به عليهم ليكون طريقا إلى نعم الآخرة عن القاضي و قيل إنه لما ذكرهم نعم الدنيا نبه بالإحياء و الإماتة و علمه بجميع الأشياء و حشر الخلق على وجوب الانقطاع إليه و العبادة و الطاعة له .

مجمع البيان ج : 6 ص : 515
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الانسنَ مِن صلْصل مِّنْ حَمَإ مَّسنُون(26) وَ الجَْانَّ خَلَقْنَهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السمُومِ(27) وَ إِذْ قَالَ رَبُّك لِلْمَلَئكَةِ إِنى خَلِقُ بَشراً مِّن صلْصل مِّنْ حَمَإ مَّسنُون(28) فَإِذَا سوَّيْتُهُ وَ نَفَخْت فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سجِدِينَ(29) فَسجَدَ الْمَلَئكَةُ كلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلا إِبْلِيس أَبى أَن يَكُونَ مَعَ السجِدِينَ(31) قَالَ يَإِبْلِيس مَا لَك أَلا تَكُونَ مَعَ السجِدِينَ(32) قَالَ لَمْ أَكُن لأَسجُدَ لِبَشر خَلَقْتَهُ مِنْ صلْصل مِّنْ حَمَإ مَّسنُون(33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنهَا فَإِنَّك رَجِيمٌ(34) وَ إِنَّ عَلَيْك اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ(35)

اللغة

الصلصال الطين اليابس أخذ من الصلصلة و هي القعقعة و يقال لصوت الحديد و لصوت الرعد صلصلة و هي صوت شديد متردد في الهواء و صل يصل إذا صوت قال :
رجعت إلى صوت كجرة حنثم
إذا قرعت صفرا من الماء صلت و يقال الصلصال المنتن أخذ من صل اللحم و أصل إذا أنتن و الحمأ جمع حمأة و هو الطين المتغير إلى السواد يقال حمئت البئر و أحمأتها أنا و المسنون المصبوب من سننت الماء على وجهه أي صببته و يقال سننت بالسين غير معجمة أرسلت الماء و شننت بالشين معجمة صببت و قيل إنه المتغير من قولهم سننت الحديد على المسن إذا غيرتها بالتحديد و أصلها الاستمرار في جهة من قولهم هو على سنن واحد و السنة الطريقة و سنة الوجه صورته قال ذو الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة
ملساء ليس بها خال و لا ندب قال سيبويه جمع الجان جنان فهو مثل حائط و حيطان و راع و رعيان و السموم الريح الحارة أخذ من دخولها بلطفها في مسام البدن و منه السم القاتل يقال سم يومنا يسم إذا هبت فيه ريح السموم .

الإعراب

من جعل الجان جمعا قال و لم يقل خلقناها كما قال مما في بطونه و مما في بطونها و قوله « ما لك ألا تكون مع الساجدين » ما مبتدأ و لك خبره و التقدير أي شيء ثابت لك و إلا تكون تقديره في أن لا تكون فحذف في و هي متعلقة بالخبر أيضا فلما حذفت في
مجمع البيان ج : 6 ص : 516
انتصب موضع أن لا تكون على قول سيبويه و بقي على الجر على قول الخليل و أبو الحسن حمل أن على الزيادة و لا تكون في موضع الحال قال و تقديره ما لك خارجا عن الساجدين .

المعنى

لما ذكر سبحانه الإحياء و الإماتة و النشأة الثانية عقبه ببيان النشأة الأولى فقال « و لقد خلقنا الإنسان » يعني آدم « من صلصال » أي من طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت عن ابن عباس و الحسن و قتادة و أكثر المفسرين و قيل طين صلب يخالطه الكثيب عن الضحاك و قيل منتن عن مجاهد و اختاره الكسائي « من حمإ » أي من طين متغير « مسنون » أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب و الفضة و قيل إنه الرطب عن ابن عباس و قيل مسنون مصور عن سيبويه قال أخذ من سنة الوجه « و الجان » و هو إبليس عن الحسن و قتادة و قيل هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر عن ابن عباس و قيل هم الجن نسل إبليس و هو منصوب بفعل مضمر معناه و خلقنا الجان « خلقناه من قبل » أي من قبل خلق آدم « من نار السموم » أي من نار لها ريح حارة تقتل و قيل هي نار لا دخان لها و الصواعق تكون منها و روى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة و خلق الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار و قيل السموم النار الملتهبة عن أبي مسلم و في هذا إشارة إلى أن الإنسان لا يفضل بأصله و إنما يفضل بدينه و علمه و صالح عمله و أصل آدم (عليه السلام) كان من تراب و ذلك قوله خلقه من تراب ثم جعل التراب طينا و ذلك قوله و خلقته من طين ثم ترك ذلك الطين حتى تغير و استرخى و ذلك قوله « من حمإ مسنون » ثم ترك حتى جف و ذلك قوله « من صلصال » فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة « و إذ قال ربك للملائكة » تقديره و اذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة « إني خالق » أي سأخلق « بشرا » أي آدم و سمي بشرا لأنه ظاهر الجلد لا يواريه شعر و لا صوف « من صلصال من حمإ مسنون » مر معناه « فإذا سويته » بإتمام خلقته و إكمال خلقه و قيل معناه عدلت صورته « و نفخت فيه من روحي » و النفخ إجراء الريح في الشيء باعتماد فلما أجرى الله سبحانه الروح في آدم على هذه الصفة كان قد نفخ الروح فيه و إنما أضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له و تشريفا و هي إضافة الملك « فقعوا له ساجدين » أي اسجدوا له قال الكلبي أي فخروا له ساجدين « فسجد الملائكة كلهم أجمعون » هذا توكيد بعد توكيد عند سيبويه و قال المبرد و يدل قوله « أجمعون » على اجتماعهم في السجود أي فسجدوا كلهم في حالة واحدة قال الزجاج و قول سيبويه أجود لأن أجمعون معرفة فلا يكون حالا « إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين » أي امتنع أن يكون معهم فلم يسجد معهم و قد سبق القول في أن إبليس هل كان
مجمع البيان ج : 6 ص : 517
من الملائكة أو لم يكن و اختلاف العلماء فيه و ما لكل واحد من الفريقين من الحجج و ذكرنا ما يتعلق بذلك من الكلام في سورة البقرة فلا معنى للإعادة و أن يكون في محل نصب أي أبي الكون مع الساجدين « قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين » قال الزجاج معناه أي شيء يقع لك في أن لا تكون مع الساجدين فموضع أن نصب بإسقاط في و إفضاء الناصب إلى أن و هذا خطاب من الله سبحانه لإبليس و معناه لم لا تكون مع الساجدين فتسجد كما سجدوا و إنما قال سبحانه بنفسه على جهة الإهانة له كما يقول لأهل النار اخسئوا فيها و لا تكلمون و قال الجبائي إنما قال سبحانه ذلك على لسان بعض رسله لأنه لا يصح أن يكلمه الله بلا واسطة في زمان التكليف « قال » أي قال إبليس مجيبا لهذا الكلام « لم أكن لأسجد » أي ما كنت لأسجد و قيل معناه ما كان ينبغي أن أسجد « لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون » لأني أشرف أصلا منه و لم يعلم أن التفاضل بالدين و الأعمال لا بالأصل « قال فاخرج منها » أي من الجنة « فإنك رجيم » أي مشئوم مطرود ملعون و قيل معناه اخرج من السماء عن أبي مسلم و قيل من الأرض فألحقه بالبحار لا يدخل الأرض إلا كالسارق و قيل رجيم مرجوم أي إن رجعت إلى السماء رجمت بمثل الشهب التي يرجم به الشياطين عن الجبائي « و إن عليك اللعنة » أي و إن عليك مع ذلك اللعنة أي الإبعاد من رحمة الله و لذلك لا يجوز أن يلعن بهيمة « إلى يوم الدين » أي يوم الجزاء و هو يوم القيامة و المراد أن الله سبحانه قد لعنك و أهل السماء و الأرض يلعنونك لعنة لازمة لك إلى يوم القيامة ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار و فيه بيان أنه لا يؤمن قط و قال بعض المحققين إنما قال سبحانه هنا « و إن عليك اللعنة » بالألف و اللام و قال في سورة ص لعنتي بالإضافة لأن هناك يقول لما خلقت بيدي مضافا فقال و إن عليك لعنتي على المطابقة و قال هنا « ما لك ألا تكون مع الساجدين » و ساق الآية على اللام في قوله « و لقد خلقنا الإنسان » و قوله « و الجان » فأتى باللام أيضا في قوله « و إن عليك اللعنة » .

مجمع البيان ج : 6 ص : 518
قَالَ رَب فَأَنظِرْنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّك مِنَ الْمُنظرِينَ(37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَب بمَا أَغْوَيْتَنى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فى الأَرْضِ وَ لأُغْوِيَنهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلا عِبَادَك مِنهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قَالَ هَذَا صِرَطٌ عَلىَّ مُستَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِى لَيْس لَك عَلَيهِمْ سلْطنٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ(42) وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43) لهََا سبْعَةُ أَبْوَب لِّكلِّ بَاب مِّنهُمْ جُزْءٌ مَّقْسومٌ(44)

القراءة

قرأ يعقوب صراط علي بالرفع و هي قراءة أبي رجاء و ابن سيرين و قتادة و الضحاك و مجاهد و قيس بن عبادة و عمرو بن ميمون و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) و الباقون من القراء قرءوا « علي » .

الحجة

قال ابن جني علي هنا كقولهم كريم شريف و ليس المراد به علو الشخص و النصبة و قال أبو الحسن في قراءة الجماعة « هذا صراط علي مستقيم » هو كقولك الدلالة اليوم علي أي هذا صراط في ذمتي و تحت ضماني كقولك صحة هذا المال علي و توفية عدته علي و ليس معناه عنده مستقيم علي كقولنا قد استقام على الطريق و استقر على كذا و ما أحسن ما ذهب إليه أبو الحسن فيه .

اللغة

الإغواء الدعاء إلى الغي و الإغواء خلاف الإرشاد و هذا أصله و قد يكون بمعنى الحكم بالغي على وجه الذم و التزيين جعل الشيء متقبلا في النفس من جهة الطبع أو العقل بحق أو بباطل و أغواء الشيطان تزيينه الباطل حتى يدخل صاحبه فيه .

المعنى

ثم بين سبحانه ما سأله إبليس عند إياسه من الآخرة فقال عز اسمه « قال رب فأنظرني » أي فأمهلني و أخرني « إلى يوم يبعثون » أي يحشرون للجزاء استنظره إبليس إلى يوم القيامة لئلا يموت إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد فلم يجبه الله تعالى إلى ذلك بل « قال » له « فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم » الذي هو آخر أيام التكليف و هو النفخة الأولى حين يموت الخلائق عن ابن عباس و قيل الوقت المعلوم يوم القيامة أنظره الله سبحانه في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة عن الحسن و الجبائي و أبي مسلم و قيل هو الوقت الذي قدر الله أجله فيه و هو معلوم لله سبحانه غير معلوم لإبليس فأبهم و لم يبين لأن في بيانه إغراء بالمعصية عن البلخي و اختلف في تجويز إجابة دعاء الكافر و قال الجبائي لا يجوز لأن في إجابة الدعاء تعظيما له و قال ابن الإخشيد يجوز ذلك لأن الإجابة كالنعمة في احتمالها أن يكون ثوابا و تعظيما و أن يكون استصلاحا و لطفا « قال » إبليس « رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن الإغواء الأول و الثاني بمعنى
مجمع البيان ج : 6 ص : 519
الإضلال أي كما أضللتني لأضلنهم و هذا لا يجوز لأن الله سبحانه لا يضل عن الدين إلا أن يحمل على أن إبليس كان معتقدا للخير ( و ثانيها ) إن الإغواء الأول و الثاني بمعنى التخييب أي بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك عن الجبائي ( و ثالثها ) إن معناه بما أضللتني عن طريق جنتك لأضلنهم بالدعاء إلى معصيتك ( و رابعها ) بما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده فسمي ذلك غواية كما قال فزادتهم رجسا إلى رجسهم لما ازدادوا عندها عن البلخي و الباء في قوله « بما أغويتني » قيل إن معناها القسم هاهنا عن أبي عبيدة و قيل هي بمعنى السبب أي بكوني غاويا لأزينن كما يقال بطاعته لندخلن الجنة و بمعصيته لندخلن النار و مفعول التزيين محذوف و تقديره لأزينن الباطل لهم أي لأولاد آدم حتى يقعوا فيه ثم استثنى من جملتهم فقال « إلا عبادك منهم المخلصين » و هم الذين أخلصوا عبادتهم لله و امتنعوا عن عبادة الشيطان و انتهوا عما نهاهم الله عنه و من قرأ المخلصين بفتح اللام فهم الذين أخلصهم الله بأن وفقهم لذلك و لطف لهم فيه ليس للشيطان عليهم سبيل « قال » الله سبحانه « هذا صراط علي مستقيم » قيل فيه وجوه ( أحدها ) إنه على وجه التهديد له كما تقول لغيرك افعل ما شئت و طريقك علي أي لا تفوتني عن مجاهد و قتادة و مثله قوله إن ربك لبالمرصاد ( و ثانيها ) معناه أن ما نذكره من أمر المخلصين و الغاوين طريق ممره علي أي ممر من مسلكه علي مستقيم لا عدول فيه عني و أجاز لي كلا من الفريقين بما عمل ( و ثالثها ) أن معناه هذا دين مستقيم علي بيانه و الهداية إليه « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » هذا إخبار منه تعالى بأن عباده الذين يطيعونه و ينتهون إلى أوامره لا سلطان للشيطان عليهم و لا قدرة له على أن يكرههم على المعصية و يحملهم عليها و لكن من يتبعه فإنما يتبعه باختياره قال الجبائي و ذلك يدل على أن الجن لا يقدرون على الإضرار ببني آدم لأنه على عمومه ثم استثنى سبحانه من جملة العباد من يتبع إبليس على إغوائه و ينقاد له و يقبل منه فقال « إلا من اتبعك من الغاوين » لأنه إذا قبل منه صار له عليه سلطان بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من اتباع الهوى و قيل إن الاستثناء منقطع و المراد لكن من اتبعك من الغاوين جعل لك على نفسه سلطانا « و إن جهنم لموعدهم أجمعين » أي موعد إبليس و من تبعه « لها سبعة أبواب » فيه قولان ( أحدها ) ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض و وضع إحدى يديه على الأخرى فقال هكذا و إن الله وضع الجنان على العرض و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم و فوقها لظى و فوقها الحطمة و فوقها سقر و فوقها الجحيم و فوقها السعير و فوقها الهاوية و في رواية الكلبي أسفلها الهاوية و أعلاها جهنم و عن ابن عباس أن الباب الأول جهنم و الثاني سعير و الثالث سقر و الرابع
مجمع البيان ج : 6 ص : 520
جحيم و الخامس لظى و السادس الحطمة و السابع الهاوية اختلفت الروايات في ذلك كما ترى و هو قول مجاهد و عكرمة و الجبائي قالوا إن أبواب النيران كإطباق اليد على اليد ( و الآخر ) ما روي عن الضحاك قال للنار سبعة أبواب و هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم و أعمارهم في الدنيا ثم يخرجون و الثاني فيه اليهود و الثالث فيه النصارى و الرابع فيه الصابئون و الخامس فيه المجوس و السادس فيه مشركو العرب و السابع فيه المنافقون و ذلك قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار و هو قول الحسن و أبي مسلم و القولان متقاربان « لكل باب منهم » أي من الغاوين « جزء مقسوم » أي نصيب مفروض عن ابن عباس .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فى جَنَّت وَ عُيُون(45) ادْخُلُوهَا بِسلَم ءَامِنِينَ(46) وَ نَزَعْنَا مَا فى صدُورِهِم مِّنْ غِل إِخْوَناً عَلى سرُر مُّتَقَبِلِينَ(47) لا يَمَسهُمْ فِيهَا نَصبٌ وَ مَا هُم مِّنهَا بِمُخْرَجِينَ(48) * نَبىْ عِبَادِى أَنى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَ أَنَّ عَذَابى هُوَ الْعَذَاب الأَلِيمُ(50)

اللغة

الغل الحقد الذي ينغل في القلب و منه الغل الذي يجعل في العنق و الغلول الخيانة التي يطوق عارها صاحبها و السرير المجلس الرفيع موطأ للسرور و جمعه الأسرة و السرر و النصب التعب و الوهن الذي يلحق من العمل مشتق من الانتصاب لأن صاحبه ينتصب بالانقطاع عن العمل للوهن الذي يلحقه .

المعنى

لما ذكر سبحانه عباده المخلصين عقبه بذكر حالهم في الآخرة فقال « إن المتقين » الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه « في جنات » أي في بساتين خلقت لهم « و عيون » من ماء و خمر و عسل يفور من الفوارة ثم يجري في مجاريها « ادخلوها بسلام » أي يقال لهم ادخلوا الجنات بسلامة من الآفات و براءة من المكاره و المضرات « آمنين » من الإخراج منها ساكني النفس إلى انتفاء الضرر فيها « و نزعنا ما في صدورهم من غل » أي و أزلنا عن صدور أهل الجنة ما فيها من أسباب العداوة من الغل أي الحقد و الحسد و التنافس
مجمع البيان ج : 6 ص : 521
و التباغض « إخوانا » منصوب على الحال أي و هم يكونون إخوانا متوادين يريد مثل الإخوان فيصفو لذلك عيشهم « على سرر » أي كائنين على مجالس السرور « متقابلين » متواجهين ينظر بعضهم إلى وجه بعض قال مجاهد لا يرى الرجل في الجنة قفا زوجته و لا ترى زوجته قفاه لأن الأسرة تدور بهم كيف ما شاءوا حتى يكونوا متقابلين في عموم أحوالهم و قيل متقابلين في الزيادة إذا تزاوروا استوت مجالسهم و منازلهم و إذا افترقوا كانت منازل بعضهم أرفع من بعض « لا يمسهم فيها » أي في الجنة « نصب » أي عناء و تعب لأنهم لا يحتاجون إلى إتعاب أنفسهم لتحصيل مقاصدهم إذ جميع النعم حاصلة لهم « و ما هم منها بمخرجين » أي يبقون فيها مؤبدين ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخبر عباده بكثرة عفوه و مغفرته و رحمته لأوليائه و شدة عذابه لأعدائه فقال « نبىء » يا محمد « عبادي أني أنا الغفور » أي كثير الستر لذنوب المؤمنين « الرحيم » كثير الرحمة لهم « و أن عذابي هو العذاب الأليم » فلا تعولوا على محض غفراني و رحمتي و خافوا عقابي و نقمتي .
وَ نَبِّئْهُمْ عَن ضيْفِ إِبْرَهِيمَ(51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سلَماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ(52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشرُك بِغُلَم عَلِيم(53) قَالَ أَ بَشرْتُمُونى عَلى أَن مَّسنىَ الْكبرُ فَبِمَ تُبَشرُونَ(54) قَالُوا بَشرْنَك بِالْحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقَنِطِينَ(55) قَالَ وَ مَن يَقْنَط مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضالُّونَ(56) قَالَ فَمَا خَطبُكُمْ أَيهَا الْمُرْسلُونَ(57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى قَوْم مجْرِمِينَ(58) إِلا ءَالَ لُوط إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنهَا لَمِنَ الْغَبرِينَ(60)

القراءة

قرأ نافع وحده فبم تبشرون خفيفة النون مكسورة و قرأ ابن كثير وحده فبم تبشرون مشددة النون مكسورة و قرأ الباقون « تبشرون » مفتوحة النون خفيفة و روى أبو علي
مجمع البيان ج : 6 ص : 522
الضرير عن روح و غيره عن يعقوب فبم تبشروني بإثبات الياء و قرأ أبو عمرو و الكسائي يقنط و يقنطوا بكسر النون حيث كان و الباقون بفتح النون و قرأ لمنجوهم خفيفة أهل الكوفة غير عاصم و يعقوب و الباقون بالتشديد و قرأ قدرنا بالتخفيف أبو بكر عن عاصم و كذلك في النمل و الباقون بالتشديد .

الحجة

قال أبو علي الوجه في قراءة نافع أنه أراد تبشرونني إلا أنه حذف النون الثانية استثقالا لأن التكرير بها وقع و لم يحذف النون الأولى التي هي علامة الرفع و قد حذفوا هذه النون في كلامهم لأنها زائدة و لأن علامة الضمير الياء من دونها قال :
أ بالموت الذي لا بد إني
ملاق لا أباك تخوفيني و قال :
تراه كالثغام يعل مسكا
يسوء الفاليات إذا فليني و الوجه في تشديد ابن كثير النون أنه أدغم النون الأولى التي هي علامة الرفع في الثانية المتصلة بالياء التي هي المضمر المنصوب المتكلم و من فتح النون فلأنه لم يعد الفعل إلى المفعول به كما عدى غيره و حذف المفعول به كثير و النون علامة الرفع و قنط يقنط و قنط يقنط لغتان و كان قنط يقنط أعلى و يدل على ذلك إجماعهم في قوله قنطوا و حكي أن يقنط لغة و هذا يدل على أن يقنط أكثر لأن مضارع فعل يجيء على يفعل و يفعل و حجة من قرأ « لمنجوهم » قوله نجينا هودا و الذين آمنوا و حجة من قرأ بالتخفيف قوله فأنجاه الله من النار و قدرت بالتخفيف لغة في قدرت يدل على ذلك قول الهذلي :
و مفرهة عنس قدرت لساقها
فخرت كما تتايع الريح بالقفل و المعنى قدرت ضربتي لساقها فضربتها فحذف لدلالة الكلام عليه فمن قرأ قدرنا مخففا كان في معنى التشديد .

اللغة

الضيف هو المنضوي إلى غيره لطلب القرى و هو يقع على الواحد و الاثنين و الجمع لأنه في الأصل مصدر وصف به و قد يجمع بالأضياف و الضيوف و الضيفان و الوجل
مجمع البيان ج : 6 ص : 523
الخوف يقال وجل يوجل و يأجل و ييجل و ييجل إذا خاف و الخطب الأمر الجليل و منه الخطبة و الخطبة و المجرم المنقطع عن الحق إلى الباطل و هو القاطع لنفسه عن المحاسن إلى القبائح و الغابر الباقي فيمن يهلك قال الشاعر :
فما ونى محمد مذ أن غفر
له الإله ما مضى و ما غبر .

الإعراب

سلاما منصوب على المصدر كأنهم قالوا سلمنا إلا آل لوط قال الزجاج هو استثناء ليس من الأول و قوله « إلا امرأته » استثناء من الهاء و الميم في قوله « إنا لمنجوهم » و قوله « قدرنا إنها لمن الغابرين » في معنى علمنا أنها لمن الغابرين قال أبو عبيدة في الآية معنى فقهي كان أبو يوسف يتأوله فيها و هو أن الله استثنى آل لوط من المجرمين ثم استثنى امرأة لوط من آل لوط فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين و كذلك كل استثناء في الكلام إذا جاء بعد استثناء آخر دعا المعنى إلى أول الكلام كقول الرجل لفلان علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما فإنه يكون إقرارا بسبعة و كذلك لو قال له علي خمسة إلا درهما إلا ثلثا كان إقرارا بأربعة و ثلث .

المعنى

لما ذكر سبحانه الوعد و الوعيد عقبه بذكر قصة إبراهيم (عليه السلام) و قوم لوط مصدقا لما ذكره و إرشادا إلى الدلالة بالعاجل على الآجل فقال « و نبئهم عن ضيف إبراهيم » أي و أخبرهم عن أضياف إبراهيم « إذ دخلوا عليه » يعني الملائكة و إنما سماهم ضيفا لأنهم جاءوه في صورة الأضياف « فقالوا سلاما » أي سلموا عليه سلاما على وجه الدعاء و التحية و بشروه بالولد و بإهلاك قوم لوط « قال » إبراهيم « إنا منكم وجلون » أي خائفون « قالوا لا توجل » أي لا تخف « إنا نبشرك » أي نخبرك بما يسرك « بغلام عليم » أي بولد يكون غلاما إذا ولد و يكون عليما إذا بلغ « قال » إبراهيم « أ بشرتموني » بالمولود « على أن مسني الكبر » أي في حال الكبر الذي يوجب اليأس عن الولد « فبم تبشرون » أ بأمر الله تعالى فأثق به أم من جهة أنفسكم و معنى مسني الكبر غيرني الكبر عن حال الشباب الذي يطمع في الولد إلى حال الهرم و قيل معناه عن رأس الكبر « قالوا بشرناك بالحق » أي قالت الملائكة لإبراهيم إنا بشرناك بذلك على وجه الحقيقة بأمر الله « فلا تكن من القانطين » أي اليائسين فأجابهم إبراهيم (عليه السلام) بأن « قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون » أي و من الذي ييأس من رحمة الله و حسن إنعامه إلا العادلون عن الحق الضالون عن طريق الهدى الجاهلون بقدرته على خلق الولد من الشيخ الكبير و هذا القول من إبراهيم (عليه السلام) يدل على أنه لم يكن قانطا و لكنه استبعد ذلك فظنت الملائكة قنوطا فنفى ذلك عن نفسه « قال » إبراهيم (عليه السلام) بعد ذلك
مجمع البيان ج : 6 ص : 524
للملائكة « فما خطبكم أيها المرسلون » أي ما الأمر الجليل الذي بعثتم له و ما شأنكم و سماهم مرسلين لما علم أنهم ملائكة « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » أي مذنبين و قيل كافرين أخبروه بهلاكهم و اقتصروا على هذا لأن من المعلوم أن الملائكة إنما يرسلون إلى المجرمين للهلاك « إلا آل لوط » استثنى منهم آل لوط و هم خاصته و عشيرته و إنما استثناهم منهم و إن لم يكونوا مجرمين من حيث كانوا من قوم لوط و ممن بعث إليهم و قيل إن معناه لكن آل لوط « إنا لمنجوهم أجمعين » أي نخلصهم أجمعين من العذاب « إلا امرأته » استثنى امرأة لوط من آل لوط لأنها كانت كافرة « قدرنا إنها لمن الغابرين » أي من الباقين في المدينة مع المهلكين أي قضينا أنها تهلك كما يهلكون .
فَلَمَّا جَاءَ ءَالَ لُوط الْمُرْسلُونَ(61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكرُونَ(62) قَالُوا بَلْ جِئْنَك بِمَا كانُوا فِيهِ يَمْترُونَ(63) وَ أَتَيْنَك بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصدِقُونَ(64) فَأَسرِ بِأَهْلِك بِقِطع مِّنَ الَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبَرَهُمْ وَ لا يَلْتَفِت مِنكمْ أَحَدٌ وَ امْضوا حَيْث تُؤْمَرُونَ(65) وَ قَضيْنَا إِلَيْهِ ذَلِك الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطوعٌ مُّصبِحِينَ(66) وَ جَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَستَبْشِرُونَ(67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضيْفِى فَلا تَفْضحُونِ(68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تخْزُونِ(69) قَالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَك عَنِ الْعَلَمِينَ(70) قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتى إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ(71) لَعَمْرُك إِنهُمْ لَفِى سكْرَتهِمْ يَعْمَهُونَ(72)

اللغة

الإسراء سير الليل يقال سرى يسري سرى و أسرى إسراء لغتان قال امرؤ القيس :
مجمع البيان ج : 6 ص : 525

سريت بهم حتى تكل مطيهم
و حتى الجياد ما يقدن بإرسان و القطع كأنه جمع قطعة مثل يسرة و يسر و تمرة و تمر و الاتباع اقتفاء الأثر و الاتباع في المذهب و الاقتداء بمعنى و خلافه الابتداع و الأدبار جمع دبر هو جهة الخلف و القبل جهة القدام و قد يكنى بهما عن الفرج و الدابر الأصل و قيل إن الدابر الآخر و عقب الرجل دابره و العمر و العمر واحد غير أنه لا يجوز في القسم إلا بالفتح لأن الفتح أخف عليهم و هم يكثرون القسم بلعمري و لعمرك فلزموا الأخف .

الإعراب

« أن دابر هؤلاء مقطوع » موضع أن نصب بأنه بدل من ذلك الأمر لأنه تفسيره و يجوز أن يكون نصبا على حذف الجار فكأنه قال و قضينا إليه بأن دابرهم مقطوع و قوله « مصبحين » نصب على الحال و « يستبشرون » أيضا في موضع نصب على الحال لعمرك مرفوع على الابتداء و خبره محذوف و التقدير لعمرك قسمي أو لعمرك ما أقسم به و لا يستعمل إظهار هذا الخبر قال الزجاج إن باب القسم يحذف معه الفعل تقول و الله لأفعلن و بالله لأفعلن و المعنى أحلف بالله فحذف الفعل للعلم به فكذلك حذف خبر الابتداء لدلالة الكلام عليه .

المعنى

ثم أخبر سبحانه أن الملائكة لما خرجوا من عند إبراهيم (عليه السلام) أتوا لوطا (عليه السلام) يبشرونه بهلاك قومه فقال « فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون » و إنما قال لهم لوط ذلك لأنهم جاءوه على صفة المرد على هيئة و جمال لم ير مثلهم قط فأنكر شأنهم و هيأتهم و قيل إنه أراد إني أنكركم فعرفوني أنفسكم ليطمئن قلبي « قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون » أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه إذا خوفتهم به « و أتيناك بالحق » أي بالعذاب المستيقن به « و إنا لصادقون » فيما أخبرناك به و قيل معناه و أتيناك بأمر الله تعالى و لا شك أن أمره سبحانه حق « فأسر بأهلك بقطع من الليل » و معناه سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل و يبقى قطعة منه « و اتبع أدبارهم » أي اقتف أثرهم و كن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا يتخلف أحد منهم « و لا يلتفت منكم أحد » أي لا يلتفت أحد منكم إلى ما خلف وراءه في المدينة و هذا كما يقول القائل امض لشأنك و لا تعرج على شيء و قيل لا ينظر أحد منكم وراءه لئلا يروا العذاب فيفزعوا و لا يحتمل قلبهم ذلك عن الحسن و أبي مسلم « و امضوا حيث تؤمرون » أي اذهبوا إلى الموضع الذي أمركم الله بالذهاب إليه و هو الشام عن السدي « و قضينا إليه ذلك الأمر » أي أعلمنا لوطا و أخبرناه و أوحينا إليه ما ننزل به من العذاب « أن
مجمع البيان ج : 6 ص : 526
دابر هؤلاء مقطوع » يعني أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح و هو قوله « مصبحين » أي داخلين في وقت الصبح و المراد أنهم مستأصلون بالعذاب وقت الصباح على وجه لا يبقى منهم أثر و لا نسل و لا عقب « و جاء أهل المدينة يستبشرون » يبشر بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط و إنما فرحوا طمعا في أن ينالوا الفجور منهم « قال » لوط لهم « إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون » فيهم و الفضيحة إلزام العار و الشنار بالإنسان و معناه لا تلزموني فيهم عارا بقصدكم إياهم بالسوء « و اتقوا الله » باجتناب معاصيه « و لا تخزون » في ضيفي و الخزي الانقماع بالعيب الذي يستحيي منه « قالوا أ و لم ننهك عن العالمين » معناه أ و لم ننهك أن تجير أحدا أو تضيف أحدا قال الجبائي و هذا القول إنما كان من لوط لقومه قبل أن يعلم إنهم ملائكة بعثوا لإهلاك قومه و إنما ذكر مؤخرا و هو في المعنى مقدم كما ذكر في غير هذه السورة « قال » لوط لهم و أشار إلى بناته لصلبه « هؤلاء بناتي » فتزوجوهن إن كان لكم رغبة في التزويج عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قوله « إن كنتم فاعلين » كناية عن النكاح إن كنتم متزوجين قيل و إنما قال ذلك للرؤساء الذين يكفون الاتباع و قد كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر يومئذ و قد كان ذلك أيضا جائزا في صدر شريعتنا ثم حرم عن الحسن و الجبائي و قيل إنهن كن بنات قومه عرضهن عليهم بالتزويج و الاستغناء بهن عن الذكران و الأول أوضح « لعمرك » أي و حياتك يا محمد و مدة بقائك حيا و قال المبرد هو دعاء و معناه أسأل الله عمرك قال ابن عباس ما خلق الله عز و جل و لا ذرأ و لا برأ نفسا أكرم عليه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال لعمرك « إنهم لفي سكرتهم يعمهون » و معناه إنهم لفي غفلتهم يتحيرون و يترددون فلا يبصرون طريق الرشد .

مجمع البيان ج : 6 ص : 527
فَأَخَذَتهُمُ الصيْحَةُ مُشرِقِينَ(73) فَجَعَلْنَا عَلِيهَا سافِلَهَا وَ أَمْطرْنَا عَلَيهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيل(74) إِنَّ فى ذَلِك لاَيَت لِّلْمُتَوَسمِينَ(75) وَ إِنهَا لَبِسبِيل مُّقِيم(76) إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ(77) وَ إِن كانَ أَصحَب الأَيْكَةِ لَظلِمِينَ(78) فَانتَقَمْنَا مِنهُمْ وَ إِنهُمَا لَبِإِمَام مُّبِين(79) وَ لَقَدْ كَذَّب أَصحَب الحِْجْرِ الْمُرْسلِينَ(80) وَ ءَاتَيْنَهُمْ ءَايَتِنَا فَكانُوا عَنهَا مُعْرِضِينَ(81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِْبَالِ بُيُوتاً ءَامِنِينَ(82) فَأَخَذَتهُمُ الصيْحَةُ مُصبِحِينَ(83) فَمَا أَغْنى عَنهُم مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ(84)

القراءة

قرأ جميع القراء « الأيكة » هاهنا لأنها مكتوبة بالألف إلا ورشا عن نافع فإنه يترك الهمزة و يرد حركتها إلى اللام .

الحجة

إذا خففت الهمزة في الأيكة و قد ألحقتها الألف و اللام حذفتها و ألقيت حركتها على اللام و يجوز فيه إذا استأنف لغتان فمن قال الحمر قال اليكة و من قال الحمر قال ليكة .


اللغة

الأيكة الشجر الملتف و جمعها أيك مثل شجرة و شجر قال أمية :
كبكا الحمام على فروع
الأيك في الطير الجوانح و قيل الأيكة الغيضة و المتوسم الناظر في السمة الدالة و هي العلامة و يقال وسمت الشيء وسما إذا أثرت فيه بسمة و منه الوسمي أول المطر لأنه يسم الأرض بالنبات و توسم الرجل طلب كلأ الوسمي قال :
و أصبحن كالدوم النواعم غدوة
على وجهة من طاعن متوسم و توسم فيه الخبر إذا عرف سمة ذلك فيه و الإمام الطريق و الإمام المبين اللوح المحفوظ و الإمام في اللغة هو المتقدم الذي يتبعه من بعده الحجر أخذ من الحجر الذي هو المنع و منه سمي العقل حجرا لأنه يمنع من القبائح .

الإعراب

انتصب قوله « مشرقين » و « مصبحين » على الحال يقال أشرقوا و هم مشرقون إذا صادفوا شروق الشمس و هو طلوعها كما يقال أصبحوا إذا صادفوا الصبح فمعنى مشرقين مصادفين لطلوع الشمس و إن في قوله « و إن كان أصحاب الأيكة » مخففة من الثقيلة آمنين منصوب على الحال .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن كيفية عذاب قوم لوط فقال « فأخذتهم الصيحة مشرقين » أي أخذهم الصوت الهائل في حال شروق الشمس « فجعلنا عاليها سافلها
مجمع البيان ج : 6 ص : 528
و أمطرنا عليهم حجارة من سجيل » مضى تفسيره في سورة هود « إن في ذلك لآيات للمتوسمين » معناه إن فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط لدلالات للمتفكرين المعتبرين عن قتادة و ابن زيد و قيل للمتفرسين عن مجاهد و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله و قال إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ثم قرأ هذه الآية و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نحن المتوسمون و السبيل فينا مقيم و السبيل طريق الجنة ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره « و إنها لبسبيل مقيم » معناه إن مدينة لوط لبطريق مسلوك يسلكها الناس في حوائجهم فينظرون إلى آثارها و يعتبرون بها لأن الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها و هي مدينة سدوم و قال قتادة إن قرى قوم لوط بين المدينة و الشام « إن في ذلك لآية » أي عبرة و دلالة « للمؤمنين » و خص المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بها « و إن كان أصحاب الأيكة لظالمين » و أصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم شعيب (عليه السلام) و أرسل إلى أهل مدين فأهلكوا بالصيحة و أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها عن قتادة و جماعة من المفسرين و معنى الآية أنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم و كانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحر سبعة أيام ثم أنشأ سبحانه سحابة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا « فانتقمنا منهم » أي من قوم شعيب و من قوم لوط أي عذبناهم بما انتقمناه منهم و الانتقام هو المجازاة على جناية سابقة و فرق علي بن عيسى بين الانتقام و العقاب بأن الانتقام هو نقيض الإنعام و العقاب هو نقيض الثواب « و إنهما لبإمام مبين » معناه و إن مدينتي قوم لوط و أصحاب الأيكة بطريق يؤم و يتبع و يهتدي به عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و سمي الطريق إماما لأن الإنسان يؤمه و قيل معناه و إن حديث مدينتيهما لمكتوب مذكور في اللوح المحفوظ أو حديث لوط و حديث شعيب عن الجبائي فيكون نظير قوله « و كل شيء أحصيناه في إمام مبين » و المبين الظاهر ثم أخبر سبحانه عن إهلاك قوم صالح فقال « و لقد كذب أصحاب الحجر المرسلين » و الحجر اسم البلد الذي كان فيه ثمود و إنما سموا أصحاب الحجر لأنهم كانوا سكانه كما يسمى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصحاري لأنهم كانوا يسكنونها و قيل إن الحجر اسم لواد كان يسكنها هؤلاء عن قتادة و إنما قال تعالى « المرسلين » لأن في تكذيب صالح تكذيب المرسلين لأنه كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون و إلى الإيمان بالمرسلين فكان في تكذيب أحدهم تكذيب الجميع و قيل بعث الله إليهم رسلا منهم صالح عن الجبائي « و آتيناهم آياتنا » أي آتينا أصحاب الحجر الحجج و المعجزات و الدلالات الدالة على صدق الأنبياء و قيل آتينا الرسل
مجمع البيان ج : 6 ص : 529
الآيات عن الحسن « فكانوا عنها » أي عن الآيات « معرضين » أعرضوا عن التفكر فيها و الاستدلال بها « و كانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين » أي و كان قوم صالح في القوة بحيث ينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها و كانوا آمنين من خرابها و سقوطها عليهم و قيل كانوا آمنين من عذاب الله و قيل آمنين من الموت لطول أعمارهم « فأخذتهم الصيحة مصبحين » أي فأهلكوا بالصيحة في وقت دخولهم في الصباح « فما أغنى عنهم » أي فما دفع عنهم العذاب و لم يغنهم « ما كانوا يكسبون » أي يجمعون من المال و الأولاد و أنواع الملاذ .
وَ مَا خَلَقْنَا السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ مَا بَيْنهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الساعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصفَح الصفْحَ الجَْمِيلَ(85) إِنَّ رَبَّك هُوَ الخَْلَّقُ الْعَلِيمُ(86) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَك سبْعاً مِّنَ الْمَثَانى وَ الْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ(87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ وَ لا تحْزَنْ عَلَيهِمْ وَ اخْفِض جَنَاحَك لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَ قُلْ إِنى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلى الْمُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ(91)

اللغة

عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قال عزة و عزون و الأصل عزوة و التعضية التفريق مأخوذ من الأعضاء يقال عضيت الشيء أي فرقته و بعضته قال رؤبة :
و ليس دين الله بالمعضي و قال آخر :
تلك ديار تأزم المأزما
و عضوات تقطع اللهازما و قيل أصل عضة عضهة فحذفت الهاء كما حذفت من شفة و شاة و أصلها شفهة و شاهة بدلالة أن الجمع شفاه و شياه بالهاء و التصغير شفيهة و شويهة .

مجمع البيان ج : 6 ص : 530

المعنى

« و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق » معناه و ما خلقناهما عبثا بل لما اقتضته الحكمة و هي أنا قد تعبدنا أهلها ثم نجازيهم بما عملوا « و إن الساعة » و هي يوم القيامة « لآتية » أي جائية بلا شك بعذابهم و قيل بمجازاة الخلائق كلهم و قيل هو تفسير قوله « إلا بالحق » « فاصفح الصفح الجميل » أي فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين و عن مجاوبتهم و أعف عنهم عفوا جميلا و اختلف في الآية فقيل إنها منسوخة ب آية القتال عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و الضحاك و قيل لا نسخ فيه بل هو فيما بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و بينهم لا فيما أمر به من جهة جهادهم .
أمره بالصفح عنهم في موضع الصفح لقوله « فأعرض عنهم و عظهم » عن الحسن قال القاضي و الصفح ممدوح في سائر الحالات و هو كالحلم و التواضع و قد يلزمنا الصفح الجميل مع لزوم التشدد في أمر الجهاد و حكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب و قيل هو العفو بغير تعنيف و توبيخ « إن ربك هو الخلاق » للأشياء « العليم » بتدبير خلقه فلا يخفى عليه ما يجري بينكم و يجوز أن يريد إن ربك هو الذي خلقكم و علم ما هو الأصلح لكم و قد علم إن الصفح أصلح الآن إلى أن يؤمر بالسيف ثم ذكر سبحانه ما خص به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من النعم فقال « و لقد آتيناك سبعا من المثاني » و قد تقدم الكلام فيه و إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب و هو قول علي (عليه السلام) و ابن عباس و الحسن و أبي العالية و سعيد بن جبير و إبراهيم و مجاهد و قتادة و روي ذلك عن أبي عبد الله و أبي جعفر (عليه السلام) و قيل هي السبع الطوال و هي السور السبع من أول القرآن و إنما سميت مثاني لأنه يثني فيها الأخبار و العبر عن ابن عباس في رواية أخرى و ابن مسعود و ابن عمر و الضحاك و قيل المثاني القرآن كله لقوله « كتابا متشابها مثاني » عن أبي مالك و طاووس و روي نحو ذلك عن عباس و مجاهد و من قال هي فاتحة الكتاب اختلفوا في سبب تسميتها مثاني فقيل لأنها تثنى قراءتها في الصلاة عن الحسن و أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل لأنها تثني بها مع ما يقرأ من القرآن عن الزجاج و قيل لأن فيها الثناء مرتين و هو الرحمن الرحيم و قيل لأنها مقسومة بين الله و عبده على ما روي في الخبر و قيل لأن نصفها ثناء و نصفها دعاء و قيل لأنها نزلت مرتين تعظيما و تشريفا لها و قيل لأن حروفها كلها مثناة نحو الرحمن الرحيم إياك و إياك و الصراط و صراط و قيل لأنها تثني أهل الفسق عن الفسق و من قال المراد بالمثاني القرآن كله فإن من في قوله « من المثاني » يكون للتبعيض و من قال إنها الحمد كان من للتبيين و قال الراجز :
نشدتكم بمنزل القرآن
أم الكتاب السبع من مثاني ثنتين من آي من القرآن
و السبع سبع الطول الدواني
مجمع البيان ج : 6 ص : 531
« و القرآن العظيم » تقديره و آتيناك القرآن العظيم وصفه بالعظيم لأنه يتضمن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين بأوجز لفظ و أحسن نظم و أتم معنى « لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم » أي لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم و أنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأموال و الأولاد و غير ذلك من زهرات الدنيا فإنها في معرض الزوال و الفناء مع ما يتبعها من الحساب و الجزاء و على هذا فيكون أزواجا منصوبا على الحال و المراد به الأشباه و الأمثال و قيل إن معناه لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشباه يشبه بعضها بعضا فإن ما أنعمنا عليك و على من اتبعك من أنواع النعم و هي النبوة و القرآن و الإسلام و الفتوح و غيرها أكثر و أوفر مما آتيناهم و قيل إن معناه و لا تنظرن و لا تعظمن في عينيك و لا تمدهما إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين و الأزواج الأصناف و يكون على هذا مفعولا به نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها و كان رسول الله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا « و لا تحزن عليهم » أي على كفار قريش إن لم يؤمنوا و نزل بهم العذاب عن الكلبي و قيل لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم عن الحسن و قيل لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك عن الجبائي « و اخفض جناحك للمؤمنين » أي ألن لهم جانبك و ارفق بهم عن ابن عباس و العرب تقول فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما و أصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم خفضه فالمعنى تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك « و قل إني أنا النذير المبين » معناه و قل إني أنا المعلم بموضع المخافة ليتقى المبين لكم ما تحتاجون إليه و ما أرسلت به إليكم « كما أنزلنا على المقتسمين » قيل فيه قولان ( أحدهما ) إن معناه أنزلنا القرآن عليك كما أنزلنا على المقتسمين و هم اليهود و النصارى « الذين جعلوا القرآن عضين » أي فرقوه و جعلوه أعضاء كأعضاء الجزور ف آمنوا ببعضه و كفروا ببعضه عن قتادة قال آمنوا بما وافق دينهم و كفروا بما خالف دينهم و قيل سماهم مقتسمين لأنهم اقتسموا كتب الله تعالى ف آمنوا ببعضها و كفروا ببعضها عن ابن عباس ( و الآخر ) إن معناه إني أنذركم عذابا كما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة يصدون عن رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و الإيمان به قال مقاتل و كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم يقولون لمن أتى مكة لا تغتروا بالخارج منا و المدعي النبوة فأنزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة ثم وصفهم فقال « الذين جعلوا القرآن عضين » أي جزءوه أجزاء فقالوا سحر و قالوا أساطير الأولين و قالوا مفترى عن ابن عباس .

النظم

وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها هو أن الأمم لما خالفوا الحق أهلكوا لأن
مجمع البيان ج : 6 ص : 532
الله تعالى ما خلق السماوات و الأرض إلا بالحق و إن الساعة آتية للجزاء و إن جميع ما خلق الله يرجع إلى عالم يدبره و اتصل قوله « و لقد آتيناك سبعا من المثاني » بقوله « فاصفح الصفح الجميل » فإنه سبحانه لما أمره بالصفح عن أذاهم بين ما خصه الله به من النعم و ما له من الحجة عليهم و اتصل قوله « كما أنزلنا » على القول الأول بهذا أي كما أنزلنا عليهم أنزلنا إليك القرآن و على القول الثاني يتصل بقوله « أنا النذير » .
فَوَ رَبِّك لَنَسئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ(93) فَاصدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِض عَنِ الْمُشرِكِينَ(94) إِنَّا كَفَيْنَك الْمُستهْزِءِينَ(95) الَّذِينَ يجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَسوْف يَعْلَمُونَ(96) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّك يَضِيقُ صدْرُك بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك وَ كُن مِّنَ السجِدِينَ(98) وَ اعْبُدْ رَبَّك حَتى يَأْتِيَك الْيَقِينُ(99)

اللغة

الصدع و الفرق و الفصل نظائر و صدع بالحق إذا تكلم به جهارا قال أبو ذؤيب :
و كأنهن ربابة و كأنه
يسر يفيض على القداح و يصدع و الصديع الصبح قال :
كان بياض غرته الصديع .

الإعراب

« فاصدع بما تؤمر » إن جعلت ما بمعنى الذي كان العائد من الصلة إلى الموصول محذوفا و يكون تقديره على استعمال الصيغة فيه فاصدع بما تؤمر بالصدع به ثم تحذف الباء التي في به فيصير بالصدعة و لا يجوز الإضافة مع لام المعرفة فتحذف لام المعرفة توصلا بحذفه إلى الإضافة فيصير بما تؤمر بصدعه ثم يحذف المضاف و يقيم المضاف إليه مقامه فيبقى بما تؤمر به ثم يحذف حرف الجر على حد قولك أمرتك الخير في
مجمع البيان ج : 6 ص : 533
أمرتك بالخير فيصير بما تؤمره ثم يحذف العائد المنصوب من الصلة على ما قد تكرر بيانه في مواضع فيصير بما تؤمر و هذا من لطائف أسرار النحو و إن جعلت ما مصدرية كان على تقدير فاصدع بالأمر كما تقول عجبت مما فعلت و التقدير عجبت من فعلك و لا يحتاج هنا إلى عائد يعود إلى ما لأنه حرف و حكى يونس النحوي عن رؤبة أنه قال في هذه اللفظة أفصح ما في القرآن .

المعنى

لما بين سبحانه كفرهم بالقرآن و تعضيتهم له بين عقيب ذلك لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه يسألهم عما فعلوه و يجازيهم عليه فقال « فو ربك » يا محمد « لنسألنهم أجمعين » أقسم بنفسه و أضاف نفسه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشريفا له و تنبيها للخلق على عظيم منزلته عنده لنسألن هؤلاء الكفار سؤال توبيخ و تقريع بأن نقول لهم لم عصيتم و ما حجتكم في ذلك فيظهر عند ذلك خزيهم و فضيحتهم عند تعذر الجواب « عما كانوا يعملون » معناه عما عملوا فيما عملوا عن سفيان بن عيينة و قيل عن لا إله إلا الله و الإيمان برسله عن الكلبي و قيل عما كانوا يعبدون و بما ذا أجابوا المرسلين عن أبي العالية « فاصدع بما تؤمر » أي أظهر و أعلن و صرح بما أمرت به غير خائف عن ابن عباس و ابن جريج و مجاهد و ابن زيد و قيل معناه فافرق بين الحق و الباطل بما أمرت به عن الجبائي و الأخفش و قيل أبن ما تؤمر به و أظهره عن الزجاج قال و تأويل الصدع في الزجاج و في الحائط أن تبين بعض الشيء عن بعض « و أعرض عن المشركين » أي لا تخاصمهم إلى أن تؤمر بقتالهم و قيل معناه لا تلتفت إليهم و لا تخف عنهم عن أبي مسلم و قيل و أعرض عن مجاوبتهم إذا آذوك عن الجبائي « إنا كفيناك المستهزءين » أي كفيناك شر المستهزءين و استهزاءهم بأن أهلكناهم و كانوا خمسة نفر من قريش العاص بن وائل و الوليد بن المغيرة و أبو زمعة و هو الأسود بن المطلب و الأسود بن عبد يغوث و الحرث بن قيس عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قيل كانوا ستة رهط عن محمد بن ثور و سادسهم الحارث بن الطلاطلة و أمه عيطلة قالوا و أتى جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المستهزءون يطوفون بالبيت فقام جبرائيل و رسول الله إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى بيده إلى ساقه فمر الوليد على قين لخزاعة و هو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها و جعلت تضرب ساقه فخدشته فلم يزل مريضا حتى مات و مر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرائيل إلى رجله فوطىء العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فقال لدغت فلم يزل يحكها حتى مات و مر به الأسود بن المطلب بن عبد مناف فأشار إلى عينه فعمي و قيل رماه بورقة خضراء فعمي و جعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك و مر به
مجمع البيان ج : 6 ص : 534
الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات و قيل أصابه السموم فصار أسود فأتى أهله فلم يعرفوه فمات و هو يقول قتلني رب محمد و مر به الحارث بن الطلاطلة فأومى إلى رأسه فامتخط قيحا فمات و قيل إن الحرث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى أنقد بطنه فمات ثم وصفهم سبحانه بالشرك فقال « الذين يجعلون مع الله إلها آخر » أي اتخذوا معه إلها يعبدونه « فسوف يعلمون » هذا وعيد لهم و تهديد « و لقد نعلم أنك » يا محمد « يضيق صدرك » أي قلبك « بما يقولون » من تكذيبك و الاستهزاء بك و هذا تعزية من الله تعالى لنبيه و تطييب لقلبه « فسبح بحمد ربك » أي قل سبحان الله و بحمده « و كن من الساجدين » أي المصلين عن الضحاك و ابن عباس قال و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة و قيل معناه احمد ربك على نعمه إليك و كن من الذين يسجدون لله و يوجهون بعبادتهم إليه « و أعبد ربك حتى يأتيك اليقين » أي إلى أن يأتيك الموت عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قيل حتى يأتيك اليقين من الخير و الشر عند الموت عن قتادة و سمي الموت يقينا لأنه موقن به و يحتمل أن يكون أراد حتى يأتيك العلم الضروري بالموت و الخروج من الدنيا الذي يزول معه التكليف قال الزجاج المعنى اعبد ربك أبد الآبدين و لو قال اعبد ربك بغير توقيت لجاز أن يكون الإنسان مطيعا إذا عبد الله مرة فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا .

مجمع البيان ج : 6 ص : 535
( 16 ) سورة النحل مكية و آياتها ثمان و عشرون و مائة ( 128 )
أربعون آية من أولها مكية و الباقي من قوله « و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم » إلى آخر السورة مدنية عن الحسن و قتادة و قيل مكية كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أحد « و إن عاقبتم فعاقبوا » إلى آخر السورة نزلت بين مكة و المدينة عن ابن عباس و عطا و الشعبي و في إحدى الروايات عن ابن عباس بعضها مكي و بعضها مدني فالمكي من أولها إلى قوله « و لكم عذاب عظيم » و المدني قوله « و لا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا » إلى قوله « بأحسن ما كانوا يعملون » .

عدد آيها

مائة و ثمان و عشرون آية ليس فيها اختلاف .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا و أعطي من الأجر كالذي مات و أحسن الوصية و إن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال من قرأ سورة النحل في كل شهر كفي المغرم في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون و الجذام و البرص و كان مسكنه في جنة عدن و هي وسط الجنان .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار كان افتتاح هذه السورة بوعيدهم أيضا فقال :
 

Back Index Next