جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج9 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 9 ص : 243
الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول إذ تقديره إني لكم منه نذير في الامتناع من جعل إله آخر معه و تقدير الأول إني لكم منه نذير في ترك القرار إليه بطاعته فهو كقولك أنذرك أن تكفر بالله أنذرك أن تتعرض لسخط الله و النذير المخبر بما يحذر منه و هو يقتضي المبالغة و المنذر صفة جارية على الفعل و المبين الذي يأتي ببيان الحق من الباطل ثم قال « كذلك » أي الأمر كذلك و هو أنه « ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون » أي لم يأت الذين من قبلهم يعني كفار مكة من الأمم رسول إلا قالوا ساحر محتال بالحيل اللطيفة أو مجنون به جنون فهو مغطى على عقله بما لا يتوجه للإدراك به ثم قال سبحانه « أ تواصوا به » أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب و الاستفهام للتوبيخ « بل هم قوم طاغون » معناه لم يتواصوا بذلك لكنهم طاغون طغوا في معصية الله و حملهم الطغيان فيما أعطيتهم و وسعت عليهم على تكذيب أنبيائي ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فتول عنهم » أي فأعرض عنهم يا محمد فقد بلغت و أنذرت و هو قوله « فما أنت بملوم » أي في كفرهم و جحودهم بل اللائمة و الذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه قال المفسرون لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنون و ظنوا أن الوحي قد انقطع و أن العذاب قد حل حتى نزلت الآية الثانية و روي بالإسناد عن مجاهد قال خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) مغتما مشتملا في قميصه فقال لما نزلت « فتول عنهم فما أنت بملوم » لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فتول عنهم » فلما نزل « و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين » طابت نفوسنا و معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكر تنفعهم عن الكلبي « و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون » أي لم أخلق الجن و الإنس إلا لعبادتي و المعنى لعبادتهم إياي عن الربيع فإذا عبدوني استحقوا الثواب و قيل إلا لآمرهم و أنهاهم و أطلب منهم العبادة عن مجاهد و اللام لام الغرض و المراد أن الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب و ذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات فصار كأنه سبحانه خلقهم للعبادة أنه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض و يكون كمن هيأ طعاما لقوم و دعاهم ليأكلوه فحضروا و لم يأكله بعضهم فإنه لا ينسب إلى السفه و يصح غرضه فإن الأكل موقوف على اختيار الغير و كذلك المسألة فإن الله إذا أزاح علل المكلفين من القدرة و الآلة و الألطاف و أمرهم بعبادته فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه لا من قبله سبحانه و قيل معناه إلا ليقروا بالعبودية طوعا و كرها عن ابن عباس « ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون » هذا نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لعائدة نفع يعود عليه تعالى فبين أنه لعائدة النفع على الخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه لأنه غني لنفسه فلا يحتاج إلى غيره و كل الخلق يحتاج إليه و قيل معناه ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي و لا أن يرزقوا أنفسهم و ما أريد
مجمع البيان ج : 9 ص : 244
أن يطعموا أحدا من خلقي و إنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله و من أطعم عيال أحد فقد أطعمه « إن الله هو الرزاق » لعباده و للخلائق كلهم فلا يحتاج إلى معين « ذو القوة » أي ذو القدرة « المتين » أي القوي الذي يستحيل عليه العجز و الضعف إذ هو القادر لنفسه يقال متن متانة فهو متين إذا قوي « فإن للذين ظلموا » أنفسهم بالكفر و المعاصي « ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم » أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح و عاد و ثمود « فلا يستعجلون » بإنزال العذاب عليهم فإنهم لا يفوتون « فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون » هذا يدل على أنهم أخروا إلى يوم القيامة و الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة .

النظم

وجه اتصال قوله « و السماء بنيناها بأيد » بما قبله هو أنه في قوم نوح آية و في السماء أيضا آية فهو متصل به في المعنى .

مجمع البيان ج : 9 ص : 245
( 52 ) سورة الطور مكية و آياتها تسع و أربعون ( 49 )

عدد آيها

تسع و أربعون آية كوفي شامي و ثمان بصري و سبع حجازي .

اختلافها

آيتان « و الطور » عراقي شامي « دعا » كوفي شامي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال و من قرأ سورة و الطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه و أن ينعمه في جنته و عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ بالطور في المغرب و روى محمد بن هشام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا و الآخرة .

تفسيرها

لما ختم الله سورة الذاريات بالوعيد افتتح هذه السورة بوقوع الوعيد فقال :
مجمع البيان ج : 9 ص : 246

سورة الطور
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ الطورِ(1) وَ كِتَب مَّسطور(2) فى رَقّ مَّنشور(3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ(4) وَ السقْفِ الْمَرْفُوع(5) وَ الْبَحْرِ المَْسجُورِ(6) إِنَّ عَذَاب رَبِّك لَوَقِعٌ(7) مَّا لَهُ مِن دَافِع(8) يَوْمَ تَمُورُ السمَاءُ مَوْراً(9) وَ تَسِيرُ الْجِبَالُ سيراً(10) فَوَيْلٌ يَوْمَئذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(11) الَّذِينَ هُمْ فى خَوْض يَلْعَبُونَ(12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعاًّ(13) هَذِهِ النَّارُ الَّتى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ(14) أَ فَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ(15) اصلَوْهَا فَاصبرُوا أَوْ لا تَصبرُوا سوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(16)

اللغة

قال المبرد يقال لكل جبل طور فإذا دخلت الألف و اللام للمعرفة فهو لشيء بعينه و الرق جلد يكتب فيه و أصله من اللمعان يقال ترقرق الشيء إذا لمع و الرقراق ترقرق السراب و المسجور المملوء يقال سجرت التنور أي ملأتها نارا و عين سجراء ممتلئة فيها حمرة كأنها احمرت مما هو حولها كالسجار للتنور قال لبيد :
فتوسطا عرض السري فصدعا
مسجورة متجاورا قلامها و المور تردد الشيء بالذهاب و المجيء كما يتردد الدخان ثم يضمحل مار يمور مورا فهو مائر و روى بيت الأعشى :
كان مشيتها من بيت جارتها
مور السحابة لا ريث و لا عجل و قيل مر السحابة و الخوض الدخول في الماء بالقدم و شبه به الدخول في القول و الدع الدفع يقال دعه يدعه دعا و صكه يصكه صكا مثله .

الإعراب


« و الطور » الواو للقسم و ما بعده عطف عليه و العامل في قوله « يوم تمور السماء مورا » قوله « واقع » أي يقع في ذلك اليوم و يجوز أن يكون يوم هاهنا على تقدير إذا و يكون العامل فيه جوابه و هو الفاء و ما بعده من قوله « فويل يومئذ للمكذبين » كما جاء « و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون » و قوله و « يوم يدعون » بدل من قوله « يوم تمور السماء » و إن شئت كان التقدير فيه يوم يدعون إلى نار جهنم دعا يقال لهم هذه
مجمع البيان ج : 9 ص : 247
النار التي كنتم بها تكذبون فيعمل فيه يقال .
« أ فسحر هذا » مبتدأ و خبر « أم أنتم » أي بل أنتم لا تبصرون .

المعنى


« و الطور » أقسم الله سبحانه بالجبل الذي كلم عليه موسى (عليه السلام) بالأرض المقدسة عن الجبائي و جماعة من المفسرين و قيل هو الجبل أقسم به لما أودع فيه من أنواع نعمه عن مجاهد و الكلبي « و كتاب مسطور » أي مكتوب و هو الكتاب الذي كتبه الله لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان و ما يكون و قيل هو القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ و هو الرق المنشور و قيل هو صحائف الأعمال التي تخرج إلى بني آدم يوم القيامة فمنهم آخذ كتابه بيمينه و آخذ بشماله و هذا كقوله « و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا » عن الفراء و قيل هو التوراة كتبها الله لموسى فخص الطو بالذكر لبركتها و كثرة منافعها في الدنيا و ذكر الكتاب لعظم موقعها من الدين عن الكلبي و قيل أنه القرآن يكتبه المؤمنون « في رق منشور » أي و ينشرونه لقراءته و الرق ما يكتب فيه و قيل الرق هو الورق عن أبي عبيدة و قيل إنما ذكر الرق لأنه من أحسن ما يكتب فيه و إذا كتبت الحكمة فيما هو على هذه الصفة كان أبهى و المنشور المبسوط « و البيت المعمور » و هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة عن ابن عباس و مجاهد و روي أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال و يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا و روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال البيت المعمور في السماء الدنيا و في السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخل فيه جبريل كل يوم طلعت فيه الشمس و إذا خرج انتفض انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه فيفعلون ثم لا يعودون إليه أبدا و عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) البيت الذي في السماء الدنيا يقال له الضراح و هو بفناء البيت الحرام لو سقط سقط عليه يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه أبدا و قيل البيت المعمور هو الكعبة البيت الحرام معمور بالحج و العمرة عن الحسن و هو أول مسجد وضع للعبادة في الأرض « و السقف المرفوع » هو السماء عن علي (عليه السلام) و مجاهد و قتادة و ابن زيد قالوا هي كالسقف للأرض رفعها الله « و البحر المسجور » أي المملوء عن قتادة و قيل هو الموقد المحمي بمنزلة التنور عن مجاهد و الضحاك و الأخفش و ابن زيد ثم قيل أنه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا ثم تفجر بعضها في بعض ثم تفجر إلى النار ورد به
مجمع البيان ج : 9 ص : 248
الحديث « إن عذاب ربك لواقع » هذا جواب القسم أقسم الله بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم القدرة على أن تعذيب المشركين حق واقع لا محالة « ما له من دافع » يدفع عنهم ذلك العذاب ثم بين سبحانه أنه متى يقع فقال « يوم تمور السماء مورا » أي تدور دورانا و تضطرب و تموج و تتحرك و تستدير كل هذه من عبارات المفسرين « و تسير الجبال سيرا » أي تسير الجبال و تزول من أماكنها حتى تستوي الأرض « فويل يومئذ للمكذبين » دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة و التقدير إذا كان هذا فويل لمن يكذب الله و رسوله « الذين هم في خوض » أي في حديث باطل يخوضون و هو الحديث الذي كان يخوض فيه الكفار من إنكار البعث و تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « يلعبون » أي يلهون بذكره « يوم يدعون » أي يدفعون « إلى نار جهنم دعا » أي دعا بعنف و جفوة قال مقاتل هو أن تغل أيديهم إلى أعناقهم و تجمع نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون إلى جهنم دفعا على وجوههم حتى إذا دنوا قال لهم خزنتها « هذه النار التي كنتم بها تكذبون » في الدنيا ثم وبخوهم لما عاينوا بما كانوا يكذبون به و هو قوله « أ فسحر هذا » الذي ترون أنتم « أم أنتم لا تبصرون » و ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السحر و إلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر فلما شاهدوا ما وعدوا به من العذاب وبخوا بهذا ثم يقال لهم « اصلوها » أي قاسوا شدتها « فاصبروا » على العذاب « أو لا تصبروا » عليه « سواء عليكم » الصبر و الجزع « إنما تجزون ما كنتم تعملون » في الدنيا من المعاصي بكفركم و تكذيبكم الرسول .

مجمع البيان ج : 9 ص : 249
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فى جَنَّت وَ نَعِيم(17) فَكِهِينَ بِمَا ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ رَبهُمْ عَذَاب الجَْحِيمِ(18) كلُوا وَ اشرَبُوا هَنِيئَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(19) مُتَّكِئِينَ عَلى سرُر مَّصفُوفَة وَ زَوَّجْنَهُم بحُور عِين(20) وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ اتَّبَعَتهُمْ ذُرِّيَّتهُم بِإِيمَن أَلحَْقْنَا بهِمْ ذُرِّيَّتهُمْ وَ مَا أَلَتْنَهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شىْء كلُّ امْرِى بمَا كَسب رَهِينٌ(21) وَ أَمْدَدْنَهُم بِفَكِهَة وَ لَحْم مِّمَّا يَشتهُونَ(22) يَتَنَزَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَ لا تَأْثِيمٌ(23) * وَ يَطوف عَلَيهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ(24) وَ أَقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلى بَعْض يَتَساءَلُونَ(25) قَالُوا إِنَّا كنَّا قَبْلُ فى أَهْلِنَا مُشفِقِينَ(26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَاب السمُومِ(27) إِنَّا كنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبرُّ الرَّحِيمُ(28)

القراءة

قرأ أبو عمرو و أتبعناهم بالنون و الألف و قطع الهمزة ذرياتهم بالألف و كسر التاء ألحقنا بهم ذرياتهم كذلك و قرأ أهل المدينة « و اتبعتهم » بالتاء و وصل الهمزة « ذريتهم » بالرفع ألحقنا بهم ذرياتهم على الجمع و قرأ ابن كثير و أهل الكوفة « و اتبعتهم ذريتهم » « ألحقنا بهم ذريتهم » كذلك و قرأ ابن عامر و يعقوب و سهل اتبعتهم ذرياتهم جمع ألحقنا بهم ذرياتهم أيضا و قرأ ابن كثير و ما ألتناهم بكسر اللام و الباقون « ألتناهم » بفتح اللام و قرأ أهل المدينة و الكسائي أنه هو البر الرحيم بالفتح و الباقون « إنه » بالكسر و في الشواذ قراءة عبد الله و إبراهيم و زوجناهم بعيس عين و قراءة الأعرج و ما آلتناهم على أفعلناهم .

الحجة

قال أبو علي الذرية تقع على الصغير و الكبير فالأول نحو قوله « ذرية طيبة » و الثاني نحو قوله « و من ذريته داود و سليمان » فإن حملت الذرية في الآية على الصغار كان قوله « بإيمان » في موضع نصب على الحال من المفعولين أي اتبعتهم بإيمان من الآباء ذريتهم ألحقنا الذرية بهم في أحكام الإسلام فجعلناهم في حكمهم في أنهم يرثون و يورثون و يدفنون في مقابر المسلمين و حكمهم حكم الآباء في أحكامهم إلا فيما كان موضوعا عن الصغير لصغره و إن جعلت الذرية للكبار كان قوله « بإيمان » حالا من الفاعلين الذين هم ذريتهم أي ألحقنا بهم ذريتهم في أحكام الدنيا و الثواب في الآخرة « و ما ألتناهم من عملهم » أي من جزاء عملهم من شيء كما قال فلا تظلم نفس شيئا و كما قال و من يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا يخاف ظلما و لا هضما و من قرأ « ذريتهم » فأفرد فلان الذرية تقع على الكثرة فاستغنى بذلك عن جمعه و كذا القول في « بهم ذريتهم » في أنه أفرد ذريتهم
مجمع البيان ج : 9 ص : 250

و ألحق التاء في اتبعتهم لتأنيث الاسم و من جمعه فلأن المجموع قد يجمع نحو أقوام و طرقات و في الحديث إنكن صواحبات يوسف و من قرأ ألتناهم بكسر اللام فيشبه أن يكون فعلنا لغة كما قالوا نقم ينقم و نقم ينقم و من قرأ ندعوه أنه بالفتح فالمعنى لأنه هو البر الرحيم و من كسر قطع الكلام عما قبله و استأنف قال ابن جني المرأة العيساء البيضاء و مثله جمل أعيس و ناقة عيساء قال كأنها البكرة العيساء و يقال ألته يألته ألتا و آلته يولته إيلاتا و لاته يليته ليتا و ولته يلته ولتا أي نقصه قال الحطيئة :
أبلغ لديك بني سعد مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتا و لا كذبا .

المعنى

لما تقدم وعيد الكفار عقبه سبحانه بالوعد للمؤمنين فقال « إن المتقين » الذين يجتنبون معاصي الله خوفا من عقابه « في جنات » أي في بساتين تجنها الأشجار « و نعيم » أي و في نعيم « فاكهين بما آتاهم ربهم » أي متنعمين بما أعطاهم ربهم من أنواع النعيم و قيل فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم عن الزجاج و الفراء « و وقاهم » أي و صرف عنهم « ربهم عذاب الجحيم كلوا و اشربوا » أي يقال لهم كلوا و اشربوا « هنيئا بما كنتم تعملون » أكلا و شربا هنيئا مأمون العاقبة من التخمة و السقم ثم ذكر حالهم في الأكل و الشرب فقال « متكئين على سرر مصفوفة » و السرر جمع سرير و المصفوفة المصطفة الموصول بعضها ببعض و قيل إن في الكلام حذفا تقديره متكئين على نمارق موضوعة على سرر لكنه حذف لأن اللفظ يدل عليه من حيث إن الاتكاء جلسة راحة و دعة و لا يكون ذلك إلا على الوسائد و النمارق « و زوجناهم بحور عين » فالحور البيض النقيات في حسن و كمال و العين الواسعات الأعين في صفاء و بهاء و معناه قرنا هؤلاء المتقين بحور عين على وجه التمتيع لهم و التنعيم و عن زيد بن أرقم قال جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون و يشربون فقال و الذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل على الأكل و الشرب و الجماع قال فإن الذي يأكل و يشرب يكون له الحاجة فقال عرق يفيض مثل ريح المسك فإذا كان ذلك ضمر بطنه « و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » يعني بالذرية أولادهم الصغار و الكبار لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمان منهم و الصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء فالولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده و اتبع بمعنى تبع و من قرأ و أتبعناهم فهو منقول من تبع و يتعدى إلى المفعولين و قيل الاتباع إلحاق الثاني بالأول في معنى يكون الأول عليه لأنه لو ألحق به من غير أن يكون في معنى هو عليه لم يكن اتباعا و كان إلحاقا و المعنى أنا نلحق الأولاد بالآباء في الجنة و الدرجة من أجل
مجمع البيان ج : 9 ص : 251
إيمان الآباء لتقر أعين الآباء باجتماعهم معهم في الجنة كما كانت تقر بهم في الدنيا عن ابن عباس و الضحاك و ابن زيد و في رواية أخرى عن ابن عباس أنهم البالغون ألحقوا بدرجات آبائهم و إن قصرت أعمالهم تكرمة لآبائهم فإن قيل كيف يلحقون بهم في الثواب و لم يستحقوه فالجواب أنهم يلحقون بهم في الجمع لا في الثواب و المرتبة و روى زاذان عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن المؤمنين و أولادهم في الجنة ثم قرأ هذه الآية و روي عن الصادق قال أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة « و ما ألتناهم من عملهم من شيء » أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذرياتهم عن ابن عباس و مجاهد و تم الكلام ثم ذكر سبحانه أهل النار فقال « كل امرىء بما كسب رهين » أي كل امرىء كافر مرتهن في النار بما كسب أي عمل من الشرك عن مقاتل و المؤمن من لا يكون مرتهنا لقوله كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فاستثنى المؤمنين و قيل معناه كل إنسان يعامل بما يستحقه و يجازى بحسب ما عمله إن عمل طاعة أثيب و إن عمل معصية عوقب و لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ثم ذكر سبحانه ما يزيدهم من الخير و النعمة فقال « و أمددناهم بفاكهة » أي أعطيناهم حالا بعد حال فإن الأمداد هو الإتيان بالشيء بعد الشيء و الفاكهة جنس الثمار « و لحم مما يشتهون » أي و أعطيناهم و أمددناهم بلحم من الجنس الذي يشتهونه « يتنازعون فيها كأسا » أي يتعاطون كأس الخمر ثم وصف الكأس فقال « لا لغو فيها و لا تأثيم » أي لا يجري بينهم باطل لأن اللغو ما يلغى و لا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا بين شرب الخمر و التأثيم تفعيل من الإثم يقال ثمة إذا جعله ذا إثم يعني إن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين و قيل معناه لا يتسابون عليها و لا يؤثم بعضهم بعضا عن مجاهد « و يطوف عليهم » للخدمة « غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون » في الحسن و الصباحة و الصفاء و البياض و المكنون المصون المخزون و قيل إنه ليس على الغلمان مشقة في خدمة أهل الجنة بل لهم في ذلك اللذة و السرور إذ ليست تلك الدار دار محنة و ذكر عن الحسن أنه قال قيل يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم فقال و الذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب « و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون » أي يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب و الخوف في الدنيا عن ابن عباس و هو قوله « قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين » أي خائفين في دار الدنيا من العذاب « فمن الله علينا و وقانا عذاب السموم » أي عذاب جهنم و السموم من أسماء جهنم عن الحسن و قيل
مجمع البيان ج : 9 ص : 252
أن المعنى يسأل بعضهم بعضا عما فعلوه في الدنيا فاستحقوا به المصير إلى الثواب و الكون في الجنان فيقولون إنا كنا في دار التكليف مشفقين أي خائفين رقيقي القلب فإن الإشفاق رقة القلب عما يكون من الخوف على الشيء و الشفقة نقيض الغلظة و أصله الضعف من قولهم ثوب شفق أي ضعيف النسج و منه الشفق للحمرة عند غروب الشمس لأنها حمرة ضعيفة و قوله « في أهلنا مشفقين » يريد فيمن يختص به ممن هو أولى بنا و الأهل هو المختص بغيره من جهة ما هو أولى به و السموم الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به و أصله من السم الذي هو مخرج النفس فكل خرق سم أو من السم الذي يقتل قال الزجاج يريد عذاب سموم جهنم و هو ما يوجد من لفحها و حرها « إنا كنا من قبل » أي في الدنيا « ندعوه » أي ندعو الله تعالى و نوحده و نعبده « إنه هو البر » أي اللطيف و أصله اللطف مع عظم الشأن و منه البرة للطفها مع عظم النفع بها و قيل البر الصادق فيما وعده « الرحيم » بعباده .

مجمع البيان ج : 9 ص : 253
فَذَكرْ فَمَا أَنت بِنِعْمَتِ رَبِّك بِكاهِن وَ لا مجْنُون(29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَّترَبَّص بِهِ رَيْب الْمَنُونِ(30) قُلْ تَرَبَّصوا فَإِنى مَعَكُم مِّنَ الْمُترَبِّصِينَ(31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَمُهُم بهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ(32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ(33) فَلْيَأْتُوا بحَدِيث مِّثْلِهِ إِن كانُوا صدِقِينَ(34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شىْء أَمْ هُمُ الْخَلِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السمَوَتِ وَ الأَرْض بَل لا يُوقِنُونَ(36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائنُ رَبِّك أَمْ هُمُ الْمُصيْطِرُونَ(37) أَمْ لهَُمْ سلَّمٌ يَستَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُستَمِعُهُم بِسلْطن مُّبِين(38) أَمْ لَهُ الْبَنَت وَ لَكُمُ الْبَنُونَ(39) أَمْ تَسئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَم مُّثْقَلُونَ(40)

القراءة

قرأ ابن كثير المسيطرون بالسين و في الغاشية بمصيطر بالصاد و قرأ ابن عامر كليهما بالسين و قرأ بإشمام الراء فيهما حمزة إلا العجلي فإنه قرأ بالصاد فيهما و قرأ الباقون بالصاد فيهما .

الحجة

قال أبو عبيدة المسيطرون الأرباب يقال تسيطرت علي اتخذتني خولا و الأصل السين و كل سين بعده طاء يجوز أن تقلب صادا تقول صطر و سطر و قد مر بيانه في سورة الفاتحة .

اللغة

الكاهن الذي يذكر أنه يخبر عن الحق على طريق العزائم و الكهانة صنعة الكاهن و المنون المنية و ريبها الحوادث التي تريب عند مجيئها قال :
تربص بها ريب المنون لعلها
سيهلك عنها بعلها أو سيجنح و التربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها و الأحلام جمع الحلم و هو الإمهال الذي يدعو إليه العقل و الحكمة و المسيطر الملزم غيره أمرا من الأمور قهرا مأخوذ من السطر و المثقل المحمول عليه ما يشق حمله .

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « فذكر » يا محمد أي فعظ هؤلاء المكلفين و لا تترك دعوتهم و إن أساءوا قولهم فيك « فما أنت بنعمة ربك » أي بأنعام ربك عليك بالنبوة و هذا قسم « بكاهن » و هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب بطريق خدمة الجن « و لا مجنون » و هو الموءوف بما يغطي على عقله و قد علم الكفار أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليس بكاهن و لا مجنون لكن قالوا ذلك على جهة التكذيب عليه ليستريحوا إلى ذلك كما يستريح السفهاء إلى التكذيب على أعدائهم « أم يقولون » أي بل يقولون هو « شاعر نتربص به ريب المنون » أي ننتظر به حدثان الموت و حوادث الدهر فيهلك كما هلك من تقدم من الشعراء و المنون يكون بمعنى الدهر و يكون بمعنى المنية و أم هذه المنقطعة بمعنى الترك و التحول كقول علقمة :
هل ما علمت و ما استودعت مكتوم
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم فكأنه قال حبلها مصروم لأن بعده قوله :
مجمع البيان ج : 9 ص : 254


أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
إثر الأحبة يوم البين مسكوم ثم قال سبحانه « قل » لهم يا محمد « تربصوا فإني معكم من المتربصين » أي إنكم إن تربصتم في حوادث الدهر فإني منتظر مثل ذلك بكم و تربص الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين قبيح و تربص النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين بالكفار و توقعهم لهلاكهم حسن و قوله « تربصوا » و إن كان بصيغة الأمر فالمراد به التهديد « أم تأمرهم أحلامهم بهذا » أي بل أ تأمرهم عقولهم بما يقولونه لك و يتربصونه بك قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام و العقول فأزرى الله سبحانه بعقولهم حيث لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل ثم أخبر سبحانه عن طغيانهم فقال « أم هم قوم طاغون » و قرأ مجاهد بل هم قوم طاغون و بل في المعنى قريبة من أم هنا إلا أن ما بعد بل متيقن و ما بعد أم مشكوك فيه و المعنى أن عقولهم لم تأمرهم بهذا و لم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك « أم يقولون تقوله » أي افتعل القرآن و تكذبه من تلقاء نفسه و التقول تكلف القول و لا يقال ذلك إلا في الكذب « بل لا يؤمنون » أي ليس الأمر كما زعموا بل ثبت أنه من عند الله و لكنهم لا يصدقون بذلك عنادا و حسدا و استكبارا ثم ألزمهم سبحانه الحجة تحداهم فقال « فليأتوا بحديث مثله » أي مثل القرآن و ما يقاربه في نظمه و فصاحته و حسن بيانه و براعته « إن كانوا صادقين » في أنه تقوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا لم يقدروا على الإتيان بمثله فليعلموا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يتقوله من تلقاء نفسه بل هو من عند الله تعالى ثم احتج عليهم بابتداء الخلق فقال « أم خلقوا من غير شيء » أي أم خلقوا لغير شيء أي أ خلقوا باطلا لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون و نحو هذا عن الزجاج و قيل معناه أم خلقوا عبثا و تركوا سدى عن ابن كيسان و هذا في المعنى مثل الأول و قيل معناه أ خلقوا من غير خالق و مدبر دبرهم « أم هم الخالقون » أنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر عن ابن عباس « أم خلقوا السماوات و الأرض » و اخترعوهما فلذلك لا يقرون بالله و بأنه خالقهم « بل لا يوقنون » بأن لهم إلها يستحق العبادة وحده و إنك نبي من جهة الله « أم عندهم خزائن ربك » أي بأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا عن مقاتل و عكرمة و قيل أراد خزائن المطر و الرزق عن الكلبي و ابن عباس و قيل خزائنه مقدوراته فلا يأتيهم إلا ما يحبون عن الجبائي « أم هم المصيطرون » أي الأرباب المسلطون على
مجمع البيان ج : 9 ص : 255
الناس فليس عليهم مسيطر و لا لهم ملزم و مقوم و قيل معناه أم هم المالكون الناس القاهرون لهم عن الجبائي « أم لهم سلم » أي مرقى و مصعد إلى السماء « يستمعون فيه » الوحي من السماء فقد وثقوا بما هم عليه و ردوا ما سواه « فليأت مستمعهم بسلطان مبين » أي بحجة ظاهرة واضحة أن ادعي ذلك و التقدير يستمعون عليه فهو كقوله « و لأصلبنكم في جذوع النخل » و إنما قيل لهم ذلك لأن كل من يدعي ما لا يعلم ببداية العقول فعليه إقامة البينة و الحجة « أم له البنات و لكم البنون » و هذا تسفيه لأحلامهم إذ أضافوا إلى الله سبحانه ما أنفوا منه و هذا غاية في جهلهم إذ جوزوا عليه سبحانه الولد ثم ادعوا أنه اختار الأدون على الأعلى « أم تسئلهم أجرا » أي ثوابا على أداء الرسالة و على ما جئتهم به من الدين و الشريعة « فهم من مغرم مثقلون » أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم فمنعهم ذلك عن الإيمان بك .
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْب فَهُمْ يَكْتُبُونَ(41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ(42) أَمْ لهَُمْ إِلَهٌ غَيرُ اللَّهِ سبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يُشرِكُونَ(43) وَ إِن يَرَوْا كِسفاً مِّنَ السمَاءِ ساقِطاً يَقُولُوا سحَابٌ مَّرْكُومٌ(44) فَذَرْهُمْ حَتى يُلَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصعَقُونَ(45) يَوْمَ لا يُغْنى عَنهُمْ كَيْدُهُمْ شيْئاً وَ لا هُمْ يُنصرُونَ(46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِك وَ لَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(47) وَ اصبرْ لِحُكمِ رَبِّك فَإِنَّك بِأَعْيُنِنَا وَ سبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك حِينَ تَقُومُ(48) وَ مِنَ الَّيْلِ فَسبِّحْهُ وَ إِدْبَرَ النُّجُومِ(49)

القراءة

قرأ ابن عامر و عاصم يصعقون بضم الياء و الباقون بفتحها و قرأ زيد عن يعقوب و أدبار النجوم بفتح الألف و الباقون بكسرها .

مجمع البيان ج : 9 ص : 256

الحجة

يقال صعق الرجل يصعق و من قرأ « يصعقون » بضم الياء فإنه على نقل الفعل بالهمزة صعقهم و أصعقهم غيرهم و حكى أبو الحسن صعق فعلى هذا يجوز أن يكون يصعقون منه و من قرأ و أدبار النجوم فإنه يكون كقولهم أعقاب النجوم قال :
فأصبحت من ليلي الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب .

اللغة

الكيد هو المكر و قيل هو فعل ما يوجب الغيظ في خفية و الكسف جمع كسفة فهو مثل سدرة و سدر و الكسفة القطعة من الغيم بقدر ما يكسف ضوء الشمس و المركوم هو الموضوع بعضه على بعض .

المعنى

ثم قال سبحانه « أم عندهم الغيب فهم يكتبون » أي أ عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يموت قبلهم و هذا جواب لقولهم نتربص به ريب المنون عن قتادة و قيل أ عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه و يخبرون به الناس عن ابن عباس و قيل هو جواب لقولهم إن كان أمر الآخرة حقا كما تدعون فلنا الجنة و مثله و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى عن الحسن و الغيب الذي لا يعلمه إلا الله هو ما لا يعلمه العاقل ضرورة و لا عليه دلالة فالله عالم به لأنه يعلمه لنفسه و العالم لنفسه يعلم جميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء منها « أم يريدون كيدا » أي مكرا بك و تدبير سوء في بابك سرا على ما دبروه في دار الندوة « فالذين كفروا هم المكيدون » أي هم المجزيون بكيدهم فإن ضرر ذلك يعود عليهم و يحيق بهم مكرهم كما جزى الله سبحانه أهل دار الندوة بكيدهم أن قتلهم ببدر « أم لهم إله غير الله » يرزقهم و يحفظهم و ينصرهم يعني أن الذين اتخذوهم آلهة لا تنفعهم لا تدفع عنهم ثم نزه سبحانه نفسه فقال « سبحان الله عما يشركون » به من الآلهة ثم ذكر سبحانه عنادهم و قسوة قلوبهم فقال « و إن يروا كسفا من السماء ساقطا » يعني إن عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لن ينتهوا عن كفرهم و قالوا هو قطعة من السحاب و هو قوله « يقولوا سحاب مركوم » بعضه على بعض و كل هذه الأمور المذكورة بعد أم في هذه السورة إلزامات لعبدة الأوثان على مخالفة القرآن ثم قال سبحانه يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فذرهم » يا محمد أي اتركهم « حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون » أي يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم و قيل الصعقة النفخة الأولى التي يهلك عندها جميع الخلائق ثم وصف سبحانه ذلك اليوم فقال « يوم لا
مجمع البيان ج : 9 ص : 257
يغني عنهم كيدهم شيئا » أي لا تنفعهم حيلتهم و لا تدفع عنهم شيئا « و لا هم ينصرون و إن للذين ظلموا » يعني كفار مكة « عذابا دون ذلك » أي دون عذاب الآخرة يعني القتل يوم بدر عن ابن عباس و قيل يريد عذاب القبر عن ابن عباس أيضا و البراء بن عازب و قيل هو الجوع في الدنيا و القحط سبع سنين عن مجاهد و قيل هو مصائب الدنيا عن ابن زيد و قيل هو عام جميع ذلك « و لكن أكثرهم لا يعلمون » ما هو نازل بهم « و اصبر » يا محمد « لحكم ربك » الذي حكم به و ألزمك التسليم له إلى أن يقع عليهم العذاب الذي حكمنا عليهم و قيل و اصبر على أذاهم حتى يرد أمر الله عليك بتخليصك « فإنك بأعيننا » أي بمرأى منا ندركك و لا يخفى علينا شيء من أمرك و نحفظك لئلا يصلوا إلى شيء من أمرك و نحفظك لئلا يصلوا إلى شيء من مكروهك « و سبح بحمد ربك حين تقوم » من نومك عن أبي الأحوص و قيل حين تقوم إلى الصلاة المفروضة فقل سبحانك اللهم و بحمدك عن الضحاك و قيل معناه و صل بأمر ربك حين تقوم من مقامك عن ابن زيد و قيل الركعتان قبل صلاة الفجر عن ابن عباس و الحسن و قيل حين تقوم من نوم القائلة و هي صلاة الظهر عن زيد بن أسلم و قيل حين تقوم من المجلس فقل سبحانك اللهم و بحمدك لا إله إلا أنت اغفر لي و تب علي عن عطا و سعيد بن جبير و قد روي مرفوعا أنه كفارة المجلس و قيل معناه اذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصلاة عن الكلبي فهذه سبعة أقوال « و من الليل فسبحه » يعني صلاة الليل و روى زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية قالا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يقوم من الليل ثلاث مرات فينظر في آفاق السماء و يقرأ الخمس من آل عمران التي آخرها إنك لا تخلف الميعاد ثم يفتتح صلاة الليل الخبر بتمامه و قيل معناه صل المغرب و العشاء الآخرة عن مقاتل « و إدبار النجوم » يعني الركعتين قبل صلاة الفجر عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح و قيل يعني صلاة الفجر المفروضة عن الضحاك و قيل إن المعنى لا تغفل عن ذكر ربك صباحا و مساء و نزهه في جميع أحوالك ليلا نهارا فإنه لا يغفل عنك و عن حفظك و في هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قد ضمن حفظه و كلاءته حتى يبلغ رسالته .

مجمع البيان ج : 9 ص : 258
( 53 ) سورة النجم مكية و آياتها ثنتان و ستون ( 62 )
المعدل عن ابن عباس و قتادة غير آية منها نزلت بالمدينة « الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش » الآية و عن الحسن قال هي مدنية .

عدد آيها

اثنتان و ستون آية كوفي و آية في الباقين .


اختلافها

ثلاث آيات « من الحق شيئا » كوفي « عن من تولى » شامي « الحياة الدنيا » غير شامي .

فضلها

أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و من جحد به . يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من كان يدمن قراءة و النجم في كل يوم أو في كل ليلة عاش محمودا بين الناس و كان مفقودا و كان محببا بين الناس .

تفسيرها

افتتح الله سبحانه هذه السورة بذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما ختم بذكر سورة الطور حتى اتصلت بها اتصال النظير بالنظير فقال :
مجمع البيان ج : 9 ص : 259

سورة النجم
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى(1) مَا ضلَّ صاحِبُكمْ وَ مَا غَوَى(2) وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الهَْوَى(3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى(4) عَلَّمَهُ شدِيدُ الْقُوَى(5) ذُو مِرَّة فَاستَوَى(6) وَ هُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى(7) ثمَّ دَنَا فَتَدَلى(8) فَكانَ قَاب قَوْسينِ أَوْ أَدْنى(9) فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)

القراءة

أمال حمزة و الكسائي و خلف أواخر آيات هذه السورة كلها و جميع أشباهها و قرأ أهل المدينة و أبو عمرو بين الفتح و الكسر إلى الفتح أقرب و كذلك كل سورة آياتها على الياء مثل سورة طه و الشمس و ضحاها و الليل إذا يغشى و الضحى و أشباهها و كل ما كان على وزن فعلى أو فعلى أو فعلى في جميع القرآن فإن أبا عمرو يقرؤها بين الفتح و الكسر أيضا في رواية شجاع و أكثر الروايات عن اليزيدي و الباقون يفتحون و يفخمون و ابن كثير و عاصم أشد تفخيما في ذلك كله .

الحجة

أما ترك الإمالة و التفخيم للألف فهو قول كثير من الناس و الإمالة أيضا قول كثير منهم فمن ترك كان مصيبا و من أخذ بها كان مصيبا .

اللغة

الهوي و النزول و السقوط نظائر هوى يهوي هويا أو هويا قال الهذلي :
و إذا رميت به الفجاج رأيته
يهوي مخارمها هوي الأجدل و منه سميت الهاوية لأنها تهوي بأهلها من أعلاها إلى أسفلها و الغي الخيبة و منه الغواية و الوحي إلقاء المعنى إلى النفس في خفيفة إلا أنه صار كالعلم فيما يلقيه الملك إلى النبي من البشر عن الله تعالى و منه قوله و أوحى ربك إلى النحل أي ألهمها مراشدها و القوة القدرة و أصله الشدة و أصل المرة شدة الفتل ثم تجري المرة على القدرة فالمرة و القوة و الشدة نظائر و الأفق ناحية السماء و جمعه آفاق و قد سمي نواحي الأرض آفاقا على التشبيه قال الشاعر في المعنى الأول :
أخذنا ب آفاق السماء عليكم
لنا قمراها و النجوم الطوالع و قال امرؤ القيس في المعنى الثاني :
لقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
مجمع البيان ج : 9 ص : 260

و التدلي الامتداد إلى جهة السفل يقال دلاه صاحبه فتدلى و القاب و القيب و القاد و القيد عبارة عن مقدار الشيء .

الإعراب

« و هو بالأفق الأعلى » مبتدأ و خبر في موضع الحال و قال الفراء هو معطوف على الضمير في استوى أي استوى جبرائيل و النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالأفق الأعلى و التقدير استوى هو و هو قال و حسن ذلك لئلا يتكرر هو و أنشد :
أ لم تر أن النبع يصلب عوده
و لا يستوي و الخروع المتقصف قال الزجاج و هذا لا يجوز إلا في الشعر لأنهم يستقبحون استويت و زيد و إنما المعنى فاستوى جبرائيل و هو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية لأنه كان يتمثل للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل فأحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يراه على صورته الحقيقية فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق : .

المعنى


« و النجم إذا هوى » فقيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن الله أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوما متفرقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ثلاث و عشرين سنة عن الضحاك و مجاهد و الكلبي فسمي القرآن نجما لتفرقه في النزول و العرب تسمي التفريق تنجيما و المفرق منجما ( و ثانيها ) أنه أراد بالنجم الثريا أقسم بها إذا سقطت و غابت مع الفجر عن ابن عباس و مجاهد و العرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة قال أبو ذؤيب :
فوردن و العيوق مقعد رابي
الضرباء فوق النجم لا يتتلع قال ابن دريد و الثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة و واحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم ( و ثالثها ) أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت أي سقطت و غابت و خفيت عن الحسن و أراد به الجنس كما قال الراعي :
و بات يعد النجم في مستحيرة
سريع بأيدي الأكلين جمودها
مجمع البيان ج : 9 ص : 261
ثم قيل أشار بأفول النجم إلى طلوعه لأن ما يأفل يطلع فاستدل بأفوله و طلوعه على وحدانية الله تعالى و حركات النجم و توصف بالهوي عن الجبائي و قيل إن هويه سقوطه يوم القيامة فيكون كقوله و إذا الكواكب انتثرت عن الحسن ( و رابعها ) أنه يعني به الرجوم من النجوم و هو ما يرمي به الشياطين عند استراق السمع عن ابن عباس و روت العامة عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نزل من السماء السابعة ليلة المعراج و لما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و طلق ابنته و تفل في وجهه و قال كفرت بالنجم و برب النجم فدعا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عليه و قال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق و ألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه أنيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس و في ذلك يقول حسان :
سائل بني الأصفر إن جئتهم
ما كان أنباء بني واسع
لا وسع الله له قبره
بل ضيق الله على القاطع
رمى رسول الله من بينهم
دون قريش رمية القاذع
و استوجب الدعوة منه بما
بين للناظر و السامع
فسلط الله به كلبة
يمشي الهوينا مشية الخادع
و التقم الرأس بيافوخه
و النحر منه قفرة الجائع
من يرجع العام إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع
قد كان هذا لكم عبرة
للسيد المتبوع و التابع « ما ضل صاحبكم و ما غوى » يعني النبي أي ما عدل عن الحق و ما فارق الهدى إلى الضلال و ما غوى فيما يؤديه إليكم و معنى غوى ضل و إنما أعاده تأكيدا و قيل معناه ما خاب عن إصابة الرشد و قيل ما خاب سعيه بل ينال ثواب الله و كرامته « و ما ينطق عن الهوى » أي و ليس ينطق بالهوى و هكذا كما يقال رميت بالقوس و عن القوس و قيل معناه و لا يتكلم بالقرآن و ما يؤديه إليكم عن الهوى الذي هو ميل الطبع « إن هو إلا وحي يوحى » أي ما القرآن و ما ينطق به من الأحكام إلا وحي من الله يوحي إليه أي يأتيه به جبرائيل و هو قوله « علمه شديد القوى » يعني جبرائيل (عليه السلام) أي القوي في نفسه و خلقته عن ابن عباس
مجمع البيان ج : 9 ص : 262

و الربيع و قتادة و القوى جمع القوة « ذو مرة » أي ذو قوة و شدة في خلقه عن الكلبي قال و من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود فرفعها إلى السماء ثم قبلها و من شدته صيحته لقوم ثمود حتى هلكوا و قيل معناه ذو صحة و خلق حسن عن ابن عباس و قتادة و قيل شديد القوى في ذات الله ذو مرة أي صحة في الجسم سليم من الآفات و العيوب و قيل ذو مرة أي ذو مرور في الهواء ذاهبا و جائيا و نازلا و صاعدا عن الجبائي « فاستوى » جبرائيل على صورته التي خلق عليها بعد انحداره إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و هو » كناية عن جبرائيل (عليه السلام) أيضا « بالأفق الأعلى » يعني أفق المشرق و المراد بالأعلى جانب المشرق و هو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء قالوا إن جبرائيل كان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في صورة الآدميين فسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض و مرة في السماء أما في الأرض ففي الأفق الأعلى و ذلك أن محمدا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كان بحراء فطلع له جبرائيل (عليه السلام) من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مغشيا عليه فنزل جبرائيل (عليه السلام) في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه و هو قوله « ثم دنا فتدلى » و تقديره ثم تدلى أي قرب بعد بعده و علوه في الأفق الأعلى فدنا من محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الحسن و قتادة ثم دنا جبرائيل (عليه السلام) بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال الزجاج معنى دنا و تدلى واحد لأن معنى دنا قرب و تدلى زاد في القرب كما تقول قد دنا مني فلان و قرب و لو قلت قرب مني و دنا جاز و قيل إن المعنى استوى جبرائيل (عليه السلام) أي ارتفع و علا إلى السماء بعد أن علم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن سعيد بن المسيب و قيل استوى أي اعتدل واقفا في الهواء بعد أن كان ينزل بسرعة ليراه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الجبائي و قيل معناه استوى جبرائيل (عليه السلام) و محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بالأفق الأعلى يعني السماء الدنيا ليلة المعراج عن الفراء « فكان قاب قوسين » أي كان ما بين جبرائيل و رسول الله قاب قوسين و القوس ما يرمي به عن مجاهد و عكرمة و عطا عن ابن عباس و خصت بالذكر على عادتهم يقال قاب قوس و قيب قوس و قيد قوس و قاد قوس و هو اختيار الزجاج و قيل معناه و كان قدر ذراعين عن عبد الله بن مسعود و سعيد بن جبير و شقيق بن سلمة و روي مرفوعا عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله « فكان قاب قوسين أو أدنى » قال قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين فعلى هذا يكون معنى القوس ما يقاس به الشيء و الذراع يقاس به قال ابن السكيت قاس الشيء يقوسه قوسا لغة في قاسه يقيسه إذا قدره و قوله « أو أدنى » قال الزجاج إن العباد قد خوطبوا على لغتهم و مقدار فهمهم و قيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدد فالمعنى فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك و هو كقوله أو يزيدون و قد مر القول فيه و قال عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأى جبرائيل
مجمع البيان ج : 9 ص : 263
(عليه السلام) و له ستمائة جناح أورده البخاري و مسلم في الصحيح « فأوحى إلى عبده ما أوحى » أي فأوحى الله على لسان جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أوحى و ما يحتمل أن تكون مصدرية و يحتمل أن تكون بمعنى الذي و قيل معناه فأوحى جبرائيل (عليه السلام) إلى عبد الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أوحى الله تعالى إليه عن الحسن و الربيع و ابن زيد و هو رواية عطا عن ابن عباس و قال سعيد بن جبير أوحي إليه أ لم يجدك يتيما ف آوى إلى قوله « و رفعنا لك ذكرك » و قيل أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت و على الأمم حتى تدخلها أمتك و قيل أوحى الله إليه سرا بسر و في ذلك يقول القائل :
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول و لا قلم للخلق يحكيه
سر يمازجه أنس يقابله
نور تحير في بحر من التيه .
مَا كَذَب الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11) أَ فَتُمَرُونَهُ عَلى مَا يَرَى(12) وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13) عِندَ سِدْرَةِ المُْنتَهَى(14) عِندَهَا جَنَّةُ المَْأْوَى(15) إِذْ يَغْشى السدْرَةَ مَا يَغْشى(16) مَا زَاغَ الْبَصرُ وَ مَا طغَى(17) لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبرَى(18) أَ فَرَءَيْتُمُ اللَّت وَ الْعُزَّى(19) وَ مَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى(20)

القراءة

قرأ أبو جعفر و هشام ما كذب بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و يعقوب أ فتمرونه بغير ألف و الباقون « أ فتمارونه » و قرأ ابن كثير و الشموني عن الأعمش و أبي بكر و منائة بالمد و الهمزة و الباقون « و مناة » بغير همزة و لا مد و روي عن علي (عليه السلام) و أبي هريرة و أبي الدرداء و زر بن حبيش جنة المأوى بالهاء و عن ابن عباس و مجاهد و اللات بتشديد التاء .

الحجة


من قرأ كذب بتشديد الذال فمعناه ما كذب قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما رآه بعينه تلك الليلة بل صدقه و حققه و من قرأ بالتخفيف فمعناه ما كذب فؤاده فيما رأى و قال أبو علي
مجمع البيان ج : 9 ص : 264

كذب فعل يتعدى إلى مفعول بدلالة قوله :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا و معنى كذبتك عينك أرتك ما لا حقيقة له فعلى هذا يكون المعنى لم يكذب فؤاده ما أدركه بصره أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة و إدراكا على الحقيقة و يشبه أن يكون الذي شدد أراد هذا المعنى و أكده .
« أ فتمارونه على ما يرى » أي أ ترومون إزالته عن حقيقة ما أدركه و علمه بمجادلتكم أو أ تجحدونه ما قد علمه و لم يعترض عليه فيه شك فإن معنى قوله « أ فتمارونه » أ تجادلونه جدالا تريدون به دفعه عما علمه و شاهده من الآيات الكبرى و من قرأ أ فتمرونه فمعناه أ فتجحدونه و مناة صنم من حجارة و اللات و العزى كانتا من حجارة أيضا و لعل منائة بالمد لغة و من قرأ جنة المأوى يعني فعله يريد جن عليه فأجنه الله و المأوى و هو الفاعل و المعنى ستره و قال الأخفش أدركه و عن ابن عباس قال كان رجل بسوق عكاظ يلت السويق و السمن عند صخرة فإذا باع السويق و السمن صب على الصخرة ثم يلت فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لذلك الرجل .


المعنى

ثم بين سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة الأسرى و حقق رؤيته فقال « ما كذب الفؤاد ما رأى » أي لم يكذب فؤاد محمد ما رآه بعينه فقوله « ما رأى » مصدر في موضع نصب لأنه مفعول كذب و المعنى أنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى و لم يربل صدقه الفؤاد رؤيته قال المبرد معنى الآية أنه رأى شيئا فصدق فيه قال ابن عباس رأى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ربه بفؤاده و روي ذلك عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي (عليه السلام) و هذا يكون بمعنى العلم أي علمه علما يقينا بما رآه من الآيات الباهرات كقول إبراهيم (عليه السلام) و لكن ليطمئن قلبي و إن كان عالما قبل ذلك و قيل إن الذي رآه هو جبرائيل على صورته التي خلقه الله عليها عن ابن عباس و ابن مسعود و عائشة و قتادة و قيل إن الذي رآه هو ما رآه من ملكوت الله تعالى و أجناس مقدوراته عن الحسن قال و عرج بروح محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السماء و جسده في الأرض و قال الأكثرون و هو الظاهر من مذهب أصحابنا و المشهور في أخبارهم أن الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه و لم يكن ذلك في المنام و هذا المعنى ذكرناه في سورة بني إسرائيل و الفرق بين الرؤية في اليقظة و بين الرؤية في المنام أن رؤية الشيء في اليقظة هو إدراكه بالبصر على الحقيقة و رؤيته في المنام تصوره بالقلب على توهم الإدراك بحاسة البصر من غير أن يكون كذلك و عن أبي العالية قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هل رأيت ربك ليلة المعراج قال رأيت نهرا و رأيت وراء النهر حجابا و رأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك
مجمع البيان ج : 9 ص : 265

و روي عن أبي ذر و أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سئل عن قوله « ما كذب الفؤاد ما رأى » قال رأيت نورا و روي ذلك عن مجاهد و عكرمة و ذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) رأي ربه قال الشعبي و أخبرني مسروق قال سألت عائشة عن ذلك فقالت إنك لتقول قولا إنه ليقف شعري منه قال مسروق قلت رويدا يا أم المؤمنين و قرأت عليها و النجم إذا هوى حتى انتهيت إلى قوله قاب قوسين أو أدنى فقالت رويدا أنى يذهب بك إنما رأى جبرائيل في صورة من حدثك أن محمدا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) رأى ربه فقد كذب و الله تعالى يقول « لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و من حدثك أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعلم الحس من الغيب فقد كذب و الله تعالى يقول إن الله عنده علم الساعة إلى آخره و من حدثك أن محمدا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كتم شيئا من الوحي فقد كذب و الله تعالى يقول بلغ ما أنزل إليك من ربك و لقد بين الله سبحانه ما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بيانا شافيا فقال « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » « أ فتمارونه » أي أ فنجادلونه « على ما يرى » و ذلك أنهم جادلوه حين أسري به فقالوا له صف لنا بيت المقدس و أخبرنا عن عيرنا في طريق الشام و غير ذلك مما جادلوه به و من قرأ أ فتمرونه فالمعنى أ فتجحدونه يقال مريت الرجل حقه إذا جحدته و قيل معناه أ فتدفعونه عما يرى و على في موضع عن عن المبرد و المعنيان متقاربان لأن كل مجادل جاحد « و لقد رآه نزلة أخرى » أي رأى جبرائيل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى و ذلك أنه رآه مرتين في صورته على ما مر ذكره « عند سدرة المنتهى » أي رآه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو عند سدرة المنتهى و هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة انتهى إليها علم كل ملك عن الكلبي و مقاتل و قيل إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء و ما يهبط من فوقها من أمر الله عن ابن مسعود و الضحاك و قيل إليها تنتهي أرواح الشهداء و قيل إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها و يقبض منها و إليها ينتهي ما يعرج من الأرواح و يقبض منها و المنتهى موضع الانتهاء و هذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة فأضيفت إليه و قيل هي شجرة طوبى عن مقاتل و السدرة هي شجرة النبوة « عندها جنة المأوى » أي عند سدرة المنتهى جنة المقام و هي جنة الخلد و هي في السماء السابعة و قيل في السماء السادسة و قيل هي الجنة التي كان آوى إليها آدم و تصير إليها أرواح الشهداء عن الجبائي و قتادة و قيل هي التي يصير إليها أهل الجنة عن الحسن و قيل هي التي يأوي إليها جبرائيل و الملائكة عن عطا عن ابن عباس « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قيل يغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر عن الحسن و مقاتل و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبح الله تعالى و قيل يغشاها من النور و البهاء و الحسن و الصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى عن الحسن و قيل
 

Back Index Next