جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان جلد 10

مجمع البيان ج : 10 ص : 427

( 62 ) سورة الجمعة مدينة و آياتها إحدى عشرة ( 11 )
و هي إحدى عشرة آية بالإجماع .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة الجمعة أعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين . منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سبح اسم ربك و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين فإذا فعل فكأنما يعمل عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كان ثوابه و جزاؤه على الله الجنة .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة الصف بالترغيب في عبادته و الدعاء إليها و ذكر تأييد المؤمنين بالنصر و الظهور على الأعداء افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك و على جميع الأشياء فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 428

سورة الجمعة
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسبِّحُ للَّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ المَْلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الحَْكِيمِ(1) هُوَ الَّذِى بَعَث فى الأُمِّيِّينَ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضلَل مُّبِين(2) وَ ءَاخَرِينَ مِنهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ(3) ذَلِك فَضلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ(4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثمَّ لَمْ يحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يحْمِلُ أَسفَارَا بِئْس مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ(5)

اللغة

الأسفار الكتب واحدها سفر و إنما سمي بذلك لأنه يكشف عن المعنى بإظهاره يقال سفر الرجل عمامته إذا كشفها و سفرت المرأة عن وجهها فهي سافرة و منه و الصبح إذا أسفر .

الإعراب


« و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين » إن هذه مخففة من إن و لهذا لزمها اللام الفارقة في خبر كان لئلا يلتبس بأن النافية و آخرين مجرورة لأنه صفة محذوف معطوف على الأميين أي و في قوم آخرين و يحتمل أن يكون منصوبا بالعطف على هم في يعلمهم .
« يحمل أسفارا » في موضع النصب على الحال .
« بئس مثل القوم » المخصوص بالذم محذوف تقديره بئس مثل القوم الذين كذبوا ب آيات الله مثلهم فيكون الذين في موضع جر و يجوز أن يكون التقدير بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و على هذا يكون الذين في موضع رفع و هو المخصوص بالذم .

المعنى


« يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض » أي ينزهه سبحانه كل شيء و يشهد له بالوحدانية و الربوبية بما ركب فيها من بدائع الحكمة و عجائب الصنعة الدالة على أنه قادر عالم حي قديم سميع بصير حكيم لا يشبه شيئا و لا يشبهه شيء و إنما قال مرة سبح و مرة يسبح إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي و المستقبل « الملك » أي القادر على تصريف الأشياء « القدوس » أي المستحق للتعظيم الطاهر عن كل نقص « العزيز » القادر الذي لا يمتنع عليه شيء « الحكيم » العالم الذي يضع الأشياء موضعها « هو الذي بعث في الأميين » يعني العرب و كانت أمة أمية لا تكتب و لا تقرأ و لم يبعث إليهم نبي عن مجاهد و قتادة و قيل يعني أهل مكة لأن مكة تسمى أم القرى « رسولا منهم » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) نسبه نسبهم و هو من جنسهم كما قال لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه و وجه النعمة في أنه جعل النبوة في أمي موافقته لما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء
مجمع البيان ج : 10 ص : 429
السالفة و لأنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم التي تلاها و الكتب التي قرأها و أقرب إلى العلم بأن ما يخبرهم به من إخبار الأمم الماضية و القرون الخالية على وفق ما في كتبهم ليس ذلك إلا بالوحي « يتلو عليهم آياته » أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال و الحرام و الحجج و الأحكام « و يزكيهم » أي و يطهرهم من الكفر و الذنوب و يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء « و يعلمهم الكتاب و الحكمة » الكتاب القرآن و الحكمة الشرائع و قيل إن الحكمة تعم الكتاب و السنة و كل ما أراده الله تعالى فإن الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يجتبي أو يجتنب من أمور الدين و الدنيا « و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين » معناه و ما كانوا من قبل بعثه إليهم إلا في عدول عن الحق و ذهاب عن الدين بين ظاهر « و آخرين منهم » أي و يعلم آخرين من المؤمنين « لما يلحقوا بهم » و هم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم و شريعته تلزمهم و إن لم يلحقوا بزمان الصحابة عن مجاهد و ابن زيد و قيل هم الأعاجم و من لا يتكلم بلغة العرب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مبعوث إلى من شاهده و إلى كل من بعدهم من العرب و العجم عن ابن عمر و سعيد بن جبير و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية فقيل له من هؤلاء فوضع يده على كتف سلمان و قال لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء و على هذا فإنما قال منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم و أمة واحدة و إن اختلف أجناسهم كما قال سبحانه و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض و من لم يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنهم ليسوا ممن عناهم الله تعالى بقوله « و آخرين منهم » و إن كان مبعوثا إليهم بالدعوة لقوله سبحانه « و يزكيهم و يعلمهم » و من لم يؤمن فليس ممن زكاه و علمه القرآن و السنة و قيل إن قوله « لما يلحقوا بهم » يعني في الفضل و السابقة فإن التابعين لا يدركون شأن السابقين من الصحابة و خيار المؤمنين « و هو العزيز » الذي لا يغالب « الحكيم » في جميع أفعاله « ذلك فضل الله » يعني النبوة التي خص الله بها رسوله عن مقاتل « يؤتيه » أي يعطيه « من يشاء » بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة و تحمل أعباء الرسالة « و الله ذو الفضل العظيم » ذو المن العظيم على خلقه ببعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و روى محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال جاء الفقراء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا رسول الله إن للأغنياء ما يتصدقون و ليس لنا ما نتصدق و لهم ما يحجون و ليس لنا ما نحج و لهم ما يعتقون و ليس لنا ما نعتق فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كبر الله مائة مرة كان أفضل من عتق رقبة و من سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها و يلجمها و من هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه فرجع
مجمع البيان ج : 10 ص : 430
الفقراء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) « ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء » ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال « مثل الذين حملوا التورية » أي كلفوا القيام بها و العمل بما فيها « ثم لم يحملوها » حق حملها من أداء حقها و العمل بموجبها لأنهم حفظوها و دونوها كتبهم ثم لم يعلموا بما فيها « كمثل الحمار يحمل أسفارا » لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يحس بما فيها فمثل من يحفظ الكتاب و لا يعمل بموجبه كمثل من لا يعلم ما فيما يحمله قال ابن عباس فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به و على هذا فمن تلا القرآن و لم يفهم معناه و أعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به و إن حفظه و هو طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل و أنشد أبو سعيد الضرير في ذلك :
زوامل للأسفار لا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطي إذا غدا
بأسفاره إذ راح ما في الغرائر « بئس مثل القوم الذين كذبوا ب آيات الله » معناه بئس القوم قوم هذا مثلهم لأنه سبحانه ذم مثلهم و المراد به ذمهم و اليهود كذبوا بالقرآن و التوراة حين لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و الله لا يهدي القوم الظالمين » أي لا يفعل بهم من الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون و قيل لا يثيبهم و لا يهديهم إلى الجنة و عن محمد بن مهران قال يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم و تلا هذه .

مجمع البيان ج : 10 ص : 431
قُلْ يَأَيهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَْوْت إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(6) وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ(7) قُلْ إِنَّ الْمَوْت الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَقِيكمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عَلِمِ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(8) يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِى لِلصلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصلَوةُ فَانتَشِرُوا فى الأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِن فَضلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ(10) وَ إِذَا رَأَوْا تجَرَةً أَوْ لهَْواً انفَضوا إِلَيهَا وَ تَرَكُوك قَائماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَرَةِ وَ اللَّهُ خَيرُ الرَّزِقِينَ(11)

اللغة

الزعم قول عن ظن أو علم و لذلك صار من باب الظن و العلم و عمل ذلك العمل قال :
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل و الأولياء جمع ولي و هو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة و الله ولي المؤمنين لأنه يوليهم النصرة عند حاجتهم و المؤمن ولي الله لهذه العلة و يجوز أن يكون لأنه يولي المطيع له نصرة عند حاجته و التمني هو قول القائل لما كان ليته لم يكن و لما لم يكن ليته كان فهو يتعلق بالماضي و المستقبل و هو من جنس الكلام عن الجبائي و القاضي و قال أبو هاشم هو معنى في النفس يوافق هذا القول و الجمعة و الجمعة لغتان و جمعها جمع و جمعات قال الفراء و فيها لغة ثالثة جمعة بفتح الميم كضحكة و همزة و إنما سمي جمعة لأنه تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات و قيل لأنه تجتمع فيه الجماعات و قيل إن أول من سماها جمعة كعب بن لؤي و هو أول من قال أما بعد و كان يقال للجمعة العروبة عن أبي سلمة و قيل إن أول من سماها جمعة الأنصار قال ابن سيرين جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة و قيل قبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام و للنصارى يوم أيضا مثل ذلك فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله عز و جل و نشكره و كما قالوا يوم السبت لليهود و يوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة
مجمع البيان ج : 10 ص : 432
فصلى بهم يومئذ و ذكرهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا و تعشوا من شاة واحدة و ذلك لقلتهم فأنزل الله تعالى في ذلك « إذا نودي للصلوة » الآية فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام فأما أول جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأصحابه فقيل إنه قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مهاجرا حتى نزل قبا على عمرو بن عوف و ذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين الضحى فأقام بقبا يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد و كانت هذه الجمعة أول جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الإسلام فخطب في هذه الجمعة و هي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل فقال الحمد لله أحمده و أستعينه و أستغفره و أستهديه و أومن به و لا أكفره و أعادي من يكفره و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و النور و الموعظة على فترة من الرسل و قلة من العلم و ضلالة من الناس و انقطاع من الزمان و دنو من الساعة و قرب من الأجل من يطع الله و رسوله فقد رشد و من يعصهما فقد غوى و فرط و ضل ضلالا بعيدا أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة و أن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه و إن تقوى الله لمن عمل به على وجل و مخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة و من يصلح الذي بينه و بين الله من أمره في السر و العلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره و ذخرا فيما بعد الموت و حين يفتقر المرء إلى ما قدم و ما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه و بينه أمدا بعيدا و يحذركم الله نفسه و الله رءوف بالعباد و الذي صدق قوله و نجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول ما يبدل القول لدي و ما أنا بظلام للعبيد فاتقوا الله في عاجل أمركم و آجله في السر و العلانية فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا و من يتق الله فقد فاز فوزا عظيما و إن تقوى الله توقي مقته و توقي عقوبته و توقي سخطه و إن تقوى الله تبيض الوجوه و ترضي الرب و ترفع الدرجة خذوا بحظكم و لا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم الله كتابه و نهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا و يعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم و عادوا أعداءه و جاهدوا في سبيل الله حق جهاده هو اجتباكم و سماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من حي عن بينة و لا حول و لا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله و اعلموا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه و بين الله يكفه الله ما بينه و بين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس و لا يقضون عليه و يملك من الناس و لا يملكون منه الله أكبر و لا قوة إلا بالله العلي العظيم فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة .

مجمع البيان ج : 10 ص : 433

النزول

قال جابر بن عبد الله أقبلت عير و نحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الجمعة فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية « و إذا رأوا تجارة أو لهوا » و قال الحسن و أبو مالك أصاب أهل المدينة جوع و غلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام و النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلا رهط فنزلت الآية فقال و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا و قال المقاتلان بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة و كان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته و كان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره فينزل عند أحجار الزيت و هو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة و كان ذلك قبل أن يسلم و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا و امرأة فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لو لا هؤلاء لسموت عليهم الحجارة من السماء و أنزل الله هذه الآية و قيل لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط عن الكلبي عن ابن عباس و قيل إلا أحد عشر رجلا عن ابن كيسان و قيل إنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل يوم مرة لعير تقدم من الشام و كل ذلك يوافق يوم الجمعة عن قتادة و مقاتل .

المعنى

لما تقدم ذكر اليهود في إنكارهم ما في التوراة أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال « قل » يا محمد « يا أيها الذين هادوا » أي سموا يهودا « إن زعمتم أنكم أولياء لله » أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله و أن الله ينصركم « من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين » إنكم أبناء الله و أحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه ثم أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم و اضطرابهم في دعواهم و أنهم غير واثقين بذلك فقال « و لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم » من الكفر و المعاصي « و الله عليم بالظالمين » أي عالم بأفعالهم و أحوالهم و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة البقرة و فيه معجزة للرسول لأنه أخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا لما يعرفون من صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كذبهم فكان الأمر كما قال و روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لو تمنوا لماتوا عن آخرهم « قل » يا محمد « إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم » أي إنكم و إن فررتم من الموت و كرهتموه فإنه لا بد ينزل بكم و يلقاكم و يدرككم و لا ينفعكم الهرب منه و إنما قال فإنه ملاقيكم بالفاء سواء فروا منه أو لم يفروا منه فإنه ملاقيهم مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه لأنه إذا كان الفرار بمنزلة السبب في ملاقاته فلا معنى للتعرض للفرار لأنه لا يباعد منه و إلى هذا المعنى أشار أمير
مجمع البيان ج : 10 ص : 434
المؤمنين (عليه السلام) في قوله كل امرىء لاق ما يفر منه و الأجل مساق النفس و الهرب منه موافاته و قال زهير :
و من هاب أسباب المنايا ينلنه
و لو نال أسباب السماء بسلم و لا شك أنها تناله هابها أو لم يهبها و لكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية فالهيبة لا معنى لها و قيل إن التقدير قل إن الموت هو الذي تفرون منه فجعل الذي في موضع الخبر لا صفة للموت و يكون « فإنه » مستأنفا « ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة » أي ترجعون إلى الله الذي يعلم سركم و علانيتكم يوم القيامة « فينبؤكم بما كنتم تعملون » في دار الدنيا و يجازيكم بحسبها ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال « يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة » أي إذا أذن لصلاة الجمعة و ذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنه لم يكن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نداء سواه قال السايب بن زيد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مؤذن واحد بلال فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ثم كان أبو بكر و عمر كذلك حتى إذا كان عثمان و كثر الناس و تباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق و يقال له الزوراء و كان يؤذن له عليها فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه « فاسعوا إلى ذكر الله » أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين عن قتادة و ابن زيد و الضحاك و قال الزجاج معناه فامضوا إلى السعي الذي هو الإسراع و قرأ عبد الله بن مسعود فامضوا إلى ذكر الله و روي ذلك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) و عمر بن الخطاب و أبي بن كعب ابن عباس و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام) و قال ابن مسعود لو علمت الإسراع لأسرعت حتى يقع ردائي عن كتفي و قال الحسن ما هو السعي على الأقدام و قد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار و لكن بالقلوب و النية و الخشوع و قيل المراد بذكر الله الخطبة التي تتضمن ذكر الله و المواعظ « و ذروا البيع » أي دعوا المبايعة قال الحسن كل بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فإنه بيع حرام لا يجوز و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه « ذلكم » يعني ما أمرتكم به من حضور الجمعة و استماع الذكر و أداء الفريضة و ترك البيع « خير لكم » و أنفع لكم عاقبة « إن كنتم تعلمون » منافع الأمور و مضارها و مصالح أنفسكم و مفاسدها و قيل معناه اعلموا ذلك عن الجبائي و في هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة و في تحريم جميع التصرفات عند سماع أذان الجمعة لأن البيع إنما خص بالنهي عنه لكونه من أعم التصرفات في أسباب المعاش و فيها دلالة على أن الخطاب للأحرار لأن العبد
مجمع البيان ج : 10 ص : 435

لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه و فرض الجمعة لازم جميع المكلفين إلا أصحاب الأعذار من السفر أو المرض أو العمى أو العرج أو أن يكون امرأة أو شيخا هما لا حراك به أو عبدا أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع و عند حصول هذه الشرائط لا يجب إلا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه السلطان للصلاة و العدد يتكامل عند أهل البيت (عليهم السلام) بسبعة و قيل ينعقد بثلاثة سوى الإمام عن أبي حنيفة و الثوري و قيل إنما ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين عن الشافعي و قيل ينعقد باثنين سوى الإمام عن أبي يوسف و قيل ينعقد بواحد كسائر الجماعات عن الحسن و داود و الاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير موضعه كتب الفقه « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض » يعني إذا صليتم الجمعة و فرغتم منها فتفرقوا في الأرض « و ابتغوا من فضل الله » أي و اطلبوا الرزق في البيع و الشراء و هذا إباحة و ليس بأمر و إيجاب و روي عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال في قوله « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا » الآية ليس بطلب دنيا و لكن عيادة مريض و حضور جنازة و زيارة أخ في الله و قيل المراد بقوله « و ابتغوا من فضل الله » طلب العلم عن الحسن و سعيد بن جبير و مكحول و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت و روى عمرو بن زيد عن أبي عبد الله قال إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال أ ما تسمع قول الله عز اسمه « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله » أ رأيت لو أن رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال رزقي ينزل علي كان يكون هذا أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم قال قلت من هؤلاء الثلاثة قال رجل تكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها لخلى سبيلها و الرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به و الرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له « و اذكروا الله كثيرا » أي اذكروه على إحسانه و اشكروه على نعمه و على ما وفقكم من طاعته و أداء فرضه و قيل إن المراد بالذكر هنا الفكر كما قال تفكر ساعة خير من عبادة سنة و قيل معناه اذكروا الله في تجارتكم و أسواقكم كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب له ألف حسنة و يغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر « لعلكم تفلحون » أي لتفلحوا و تفوزوا بثواب النعيم علق سبحانه الفلاح بالقيام بما تقدم ذكره من أعمال الجمعة و غيرها و صح الحديث عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله و لبس
مجمع البيان ج : 10 ص : 436

صالح ثيابه و مس من طيب بيته أو دهنه ثم لم يفرق بين اثنين غفر الله له ما بينه و بين الجمعة الأخرى و زيادة ثلاثة أيام بعدها أورده البخاري في الصحيح و روى سلمان التميمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إن الله عز و جل في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار كلهم قد استوجب النار ثم أخبر سبحانه عن جماعة قابلوا أكرم الكرم بالأم اللؤم فقال « و إذا رأوا تجارة أو لهوا » أي عاينوا ذلك و قيل معناه إذا علموا بيعا و شراء أو لهوا و هو الطبل عن مجاهد و قيل المزامير عن جابر « انفضوا إليها » أي تفرقوا عنك خارجين إليها و قيل مالوا إليها و الضمير للتجارة و إنما خصت برد الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم و هم بها أسر من الطبل لأن الطبل إنما دل على التجارة عن الفراء و قيل عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به و كأنه على حذف و المعنى و إذا رأوا تجارة انفضوا إليها و إذا رأوا لهوا انفضوا إليه فحذف إليه لأن إليها يدل عليه و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال انصرفوا إليها « و تركوك قائما » تخطب على المنبر قال جابر بن سمرة ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه و سئل عبد الله بن مسعود أ كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخطب قائما فقال أ ما تقرأ « و تركوك قائما » و قيل أراد قائما في الصلاة ثم قال تعالى « قل » يا محمد لهم « ما عند الله » من الثواب على سماع الخطبة و حضور الموعظة و الصلاة و الثبات مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « خير » و أحمد عاقبة و أنفع « من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين » يرزقكم و إن لم تتركوا الخطبة و الجمعة .

مجمع البيان ج : 10 ص : 437
( 63 ) سورة المنافقون مدنية و آياتها إحدى عشرة ( 11 )
مدنية بالإجماع و هي إحدى عشرة آية .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق .

تفسيرها

لما ختم الله سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق من ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائما في الصلاة أو في الخطبة و الاشتغال باللهو و طلب الارتفاق افتتح هذه السورة بذكر المنافقين أيضا فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 438

سورة المنافقون
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَك الْمُنَفِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّك لَرَسولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّك لَرَسولُهُ وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ(1) اتخَذُوا أَيْمَنهُمْ جُنَّةً فَصدُّوا عَن سبِيلِ اللَّهِ إِنهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ(2) ذَلِك بِأَنهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطبِعَ عَلى قُلُوبهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(3) * وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُك أَجْسامُهُمْ وَ إِن يَقُولُوا تَسمَعْ لِقَوْلهِِمْ كَأَنهُمْ خُشبٌ مُّسنَّدَةٌ يحْسبُونَ كلَّ صيْحَة عَلَيهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنى يُؤْفَكُونَ(4) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ تَعَالَوْا يَستَغْفِرْ لَكُمْ رَسولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصدُّونَ وَ هُم مُّستَكْبرُونَ(5)

القراءة

قرأ أبو عمرو غير عباس و الكسائي خشب ساكنة الشين و الباقون « خشب » بضمها و قرأ نافع و روح عن يعقوب و سهل لووا بتخفيف الواو و الباقون « لووا » بتشديدها و هو اختيار أبي عبيدة و في الشواذ قراءة الحسن اتخذوا إيمانهم بالكسر .

الحجة

قال أبو علي من قرأ خشب جعله مثل بدنة و بدن و مثله أسد و أسد و وثن و وثن في قوله إن يدعون من دونه إلا أثنا قال سيبويه هي قراءة و التثقيل أن فعل قد جاء في نظيره قالوا أسد كما قالوا في جمع ثمر ثمر قال الشاعر
يقدم إقداما عليكم كالأسد قال أبو الحسن التحريك في خشب لغة أهل الحجاز و حجة من قرأ لووا بالتخفيف قوله « ليا بألسنتهم » فاللي مصدر لوى مثل طوى طيا و التثقيل لأن الفعل للجماعة فهو كقوله مفتحة لهم الأبواب و قد جاء
تلوية الخاتن زب المعذر أنشده أبو زيد و قوله إيمانهم بالكسر هو على حذف المضاف أي اتخذوا إظهار إيمانهم جنة و قد مر أمثال ذلك .

اللغة

الجنة السترة المتخذة لدفع الأذية كالسلاح المتخذ لدفع الجراح و الجنة البستان الذي يجنه الشجر و الجنة الجنون الذي يستر العقل و الفقه العلم بالشيء فقهت الحديث أفقهه و كل علم فقه إلا لما اختص به علم الشريعة و كل من علمها يقال أنه فقيه و أفقهتك الشيء بينت لك و فقه الرجل بالضم صار فقيها قال ابن دريد الجسم كل شخص مدرك و كل عظيم الجسم جسيم و جسام و الأجسم العظيم الجسم قال الشاعر :
و أجسم من عاد جسوم رجالهم
و أكثر إن عدوا عديدا من الرمل و اختلف المتكلمون في حد الجسم فقال المحققون منهم هو الطويل العريض العميق و لذلك متى ازداد ذهابه في هذه الجهات الثلاث قيل أجسم و جسيم و قيل هو المؤلف و قيل هو القائم بالنفس و معناه أنه لا يحتاج إلى محل و الصحيح القول الأول و الأجسام ما تأتلف من الجواهر و هي أجزاء لا تتجزء ائتلفت بمعان يقال لها المؤتلفات فإذا رفعت عنها بقيت أجزاء لا تتجزء و اختلف في أقل أجزاء الأجسام و الصحيح أنه ما تألف من ثمانية أجزاء و قيل من ستة أجزاء عن أبي الهذيل و قيل من أربعة أجزاء عن البلخي .

مجمع البيان ج : 10 ص : 439

الإعراب


« ساء ما كانوا يعملون » تقديره ساء العمل عملهم فقوله « ما كانوا يعملون » موصول و صلة في موضع رفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدإ محذوف هو المخصوص بالذم .
« أنى يؤفكون » أنى في موضع نصب على الحال بمعنى كيف و التقدير أ جاحدين يؤفكون و يجوز أن يكون في محل النصب على المصدر و التقدير أي أفك يؤفكون و قيل معناه من أين يؤفكون أي يصرفون عن الحق بالباطل عن الزجاج فعلى هذا يكون منصوبا على الظرف و يصدون في موضع نصب على الحال .

المعنى


خاطب الله سبحانه نبيه فقال « إذا جاءك » يا محمد « المنافقون » و هم الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر و اشتقاقه من النفق و النافقاء كما قال الشاعر :
للمؤمنين أمور غير مخزية
و للمنافق سر دونه نفق « قالوا نشهد إنك لرسول الله » أي أخبروا بأنهم يعتقدون أنك رسول الله « و الله يعلم » يا محمد « إنك لرسوله » على الحقيقة و كفى بالله شهيدا « و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون » في قولهم إنهم يعتقدون أنك رسول الله فكان إكذابهم في اعتقادهم و أنهم يشهدون ذلك بقلوبهم و لم يكذبوا فيما يرجع إلى ألسنتهم لأنهم شهدوا بذلك و هم صادقون فيه و في هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان إنما هو بالقلب و من قال شيئا و اعتقد خلافه فهو كاذب « اتخذوا أيمانهم جنة » أي سترة يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا و لا يسبوا و لا تؤخذ أموالهم « فصدوا عن سبيل الله » أي فأعرضوا بذلك عن دين الإسلام و قيل معناه منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق بأن دعوهم إلى الكفر في الباطن و هذا من خواص المنافقين يصدون العوام عن الدين كما تفعل المبتدعة « إنهم ساء ما كانوا يعملون » أي بئس الذين يعملونه من إظهار الإيمان مع إبطان الكفر و الصد عن السبيل « ذلك بأنهم آمنوا » بألسنتهم عند الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله « ثم كفروا » بقلوبهم لما كذبوا بهذا عن قتادة و قيل معناه آمنوا ظاهرا عند النبي و المسلمين ثم كفروا إذا خلوا بالمشركين و إنما قال ثم كفروا لأنهم جددوا الكفر بعد إظهار الإيمان « فطبع على قلوبهم » أي ختم عليها بسمة تميز بها الملائكة بينهم و بين المؤمنين على الحقيقة و قيل لما ألفوا الكفر و العناد و لم يصغوا إلى الحق و لا فكروا في المعاد خلاهم الله و اختارهم و خذلهم فصار ذلك طبعا على قلوبهم و هو الفهم إلى ما اعتادوه من الكفر عن أبي مسلم « فهم لا يفقهون » أي لا يعلمون الحق من حيث أنهم لا يتفكرون حتى يميزوا بين الحق و الباطل « و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم » بحسن منظرهم و تمام خلقتهم و جمال بزتهم « و إن يقولوا تسمع
مجمع البيان ج : 10 ص : 440
لقولهم » أي و إذا قالوا شيئا أصغيت إلى كلامهم لحسن منطقهم و فصاحة لسانهم و بلاغة بيانهم « كأنهم خشب مسندة » أي كأنهم أشباح بلا أرواح شبههم الله في خلوهم من العقول و الأفهام بالخشب المسندة إلى شيء لا أرواح فيها و قيل أنه شبههم بخشب نخرة متأكلة لا خير فيها و يحسب من رآها أنها صحيحة سليمة من حيث أن ظاهرها يروق و باطنها لا يفيد فكذلك المنافق ظاهره معجب رائع و باطنه عن الخير زائغ « يحسبون كل صيحة عليهم » وصفهم الله تعالى بالخور و الهلع أي يظنون كل صيحة يسمعونها كائنة عليهم و المعنى يحسبون أنها مهلكتهم و أنهم هم المقصودون بها جبنا و وجلا و ذلك مثل أن ينادي مناد في العسكر أو يصيح أحد بصاحبه أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة و قيل معناه إذا سمعوا صيحة ظنوا أنها آية منزلة في شأنهم و في الكشف عن حالتهم لما عرفوا من الغش و الخيانة في صدورهم و لذلك قيل المريب خائف ثم أخبر سبحانه بعداوتهم فقال « هم العدو » لك و للمؤمنين في الحقيقة « فاحذرهم » أن تأمنهم على سرك و توقهم « قاتلهم الله » أي أخزاهم و لعنهم و قيل أنه دعاء عليهم بالهلاك لأن من قاتله الله فهو مقتول و من غالبه فهو مغلوب « أنى يؤفكون » أي أنى يصرفون عن الحق مع كثرة الدلالات و هذا توبيخ و تقريع و ليس باستفهام عن أبي مسلم و قيل معناه كيف يكذبون من الإفك « و إذا قيل لهم تعالوا » أي هلموا « يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم » أي أكثروا تحريكها بالهزء لها استهزاء بدعائهم إلى ذلك و قيل أمالوها إعراضا عن الحق و كراهة لذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ذلك لكفرهم و استكبارهم « و رأيتهم » يا محمد « يصدون » عن سبيل ] الله [ الحق « و هم مستكبرون » أي متكبرون مظهرون أنه لا حاجة لهم إلى الاستغفار .

مجمع البيان ج : 10 ص : 441
سوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَستَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَستَغْفِرْ لهَُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لهَُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ(6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلى مَنْ عِندَ رَسولِ اللَّهِ حَتى يَنفَضوا وَ للَّهِ خَزَائنُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَكِنَّ الْمُنَفِقِينَ لا يَفْقَهُونَ(7) يَقُولُونَ لَئن رَّجَعْنَا إِلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ وَ للَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ الْمُنَفِقِينَ لا يَعْلَمُونَ(8) يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكمْ أَمْوَلُكُمْ وَ لا أَوْلَدُكمْ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ(9) وَ أَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت فَيَقُولَ رَب لَوْ لا أَخَّرْتَنى إِلى أَجَل قَرِيب فَأَصدَّقَ وَ أَكُن مِّنَ الصلِحِينَ(10) وَ لَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَ اللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)

القراءة

قرأ أبو عمرو و أكون بالنصب و الباقون « و أكن » بالجزم و قرأ حماد و يحيى بما يعلمون بالياء و الباقون بالتاء .

الحجة


من قرأ « و أكن » عطفه على موضع قوله « فأصدق » لأنه في موضع فعل مجزوم أ لا ترى أنك إذا قلت أخرني أصدق كان جزما بأنه جواب الجزاء و قد أغنى السؤال عن ذكر الشرط و التقدير أخرني فإنك إن تؤخرني أصدق فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم بأنه جواب الشرط حمل قوله « و أكن » عليه و مثل ذلك قوله « و من يضلل الله فلا هادي له و يذرهم » لما كان فلا هادي له في موضع فعل مجزوم حمل و يذرهم عليه و مثل ذلك قول الشاعر :
فأبلوني بليتكم لعلي
أصالحكم و ستدرج نويا حمل و استدرج على موضع الفاء المحذوفة و ما بعدها من لعلي و كذلك قوله :
أيا سلكت فإنني لك كاشح
و على انتقاصك في الحياة و ازدد حمل و ازدد على موضع الفاء و ما بعدها و أما قول أبي عمرو و أكون فإنما حمله على اللفظ دون الموضع و كان الحمل على اللفظ أولى لظهوره في اللفظ و قربه و زعموا أن في
مجمع البيان ج : 10 ص : 442

حرف أبي فأتصدق و أكون و من قرأ بما يعملون بالياء فعلى قوله « و لن يؤخر الله نفسا » لأن النفس و إن كان واحدا في اللفظ فالمراد به الكثرة و من قرأ بالتاء كان خطابا شائعا .

اللغة

الانفضاض التفرق و فض الكتاب إذا فرقه و نشره و سميت الفضة فضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة و كل شيء يشغلك عن شيء فقد ألهاك عنه قال :
ألهى بني جشم عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم و قال امرؤ القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت و مرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول .

النزول

نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق و أصحابه و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه و قائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل منهم من قتل و نفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أبناءهم و نساءهم و أموالهم فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه و سنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال و كان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال إنك لهتاك فقال و ما يمنعني أن أفعل ذلك و اشتد لسان جعال على عبد الله فقال عبد الله و الذي يحلف به لآزرنك و يهمك غير هذا و غضب ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتوهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم فقال زيد بن أرقم أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)
مجمع البيان ج : 10 ص : 443

و ذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالرحيل و أرسل إلى عبد الله فأتاه فقال ما هذا الذي بلغني عنك فقال عبد الله و الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط و إن زيدا لكاذب و قال من حضر من الأنصار يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه فعذره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و فشت الملامة من الأنصار لزيد و لما استقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أ و ما بلغك ما قال صاحبكم زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد فأنت و الله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو و الله الذليل و أنت العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه و إنه ليرى أنك قد استلبته ملكا و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله أنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و أني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال بل ترفق به و تحسن صحبته ما بقي معنا قالوا و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم و تخوفوها و ضلت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ذلك ليلا فقال مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل من هو قال رفاعة فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب و لا يعلم مكان ناقته أ لا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق و بمكان الناقة و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك أصحابه و قال ما أزعم أني أعلم الغيب و ما أعلمه و لكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق و بمكان ناقتي هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها و آمن ذلك المنافق فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع و كان من عظماء اليهود و قد مات ذلك اليوم قال زيد بن أرقم فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة جلست في البيت لما بي من الهم و الحياء فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد و تكذيب عبد الله بن أبي ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بإذن زيد فرفعه عن
مجمع البيان ج : 10 ص : 444
الرحل ثم قال يا غلام صدق فوك و وعت أذناك و وعى قلبك و قد أنزل الله فيما قلت قرآنا و كان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال ما لك ويلك قال و الله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله و لتعلمن اليوم من الأعز من الأذل فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال أما إذا جاء أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى و مات فلما نزلت هذه الآيات و بان كذب عبد الله قيل له نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أومن فقد آمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزل « و إذا قيل لهم تعالوا » إلى قوله « و لكن المنافقين لا يعلمون » .

المعنى

ثم ذكر سبحانه أن استغفاره لا ينفعهم فقال « سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم » أي يتساوى الاستغفار لهم و عدم الاستغفار « لن يغفر الله لهم » لأنهم يبطنون الكفر و إن أظهروا الإيمان « إن الله لا يهدي القوم الفاسقين » أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين و الإيمان إلى طريق الجنة قال الحسن أخبره سبحانه أنهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة و أن يكون الباطن مثل الظاهر فبين الله تعالى أن ذلك لا ينفعهم مع إبطانهم الكفر و النفاق ثم قال سبحانه « هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله » من المؤمنين المحتاجين « حتى ينفضوا » أي يتفرقوا عنه و إنما قالوا هم من عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لكن الله سبحانه سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشريفا له و تعظيما لقدره « و لله خزائن السماوات و الأرض » و ما بينهما من الأرزاق و الأموال و الأغلاق فلو شاء لأغناهم و لكنه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم و يمتحنهم بالفقر و يتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا و ينالوا الثواب و كريم الم آب « و لكن المنافقين لا يفقهون » ذلك على الحقيقة لجهلهم بوجوه الحكمة و قيل لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون « يقولون لأن رجعنا إلى المدينة » من غزوة بني المصطلق « ليخرجن الأعز » يعنون نفوسهم « منها الأذل » يعنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين فرد الله سبحانه عليهم بأن قال « و لله العزة و لرسوله » بإعلاء الله كلمته و إظهاره دينه على الأديان « و للمؤمنين » بنصرته إياهم في الدنيا و إدخالهم الجنة في العقبي و قيل و لله العزة بالربوبية و لرسوله بالنبوة و للمؤمنين بالعبودية أخبر سبحانه بذلك ثم حققه بأن أعز رسوله و المؤمنين و فتح عليهم مشارق الأرض و مغاربها و قيل عز الله خمسة عز الملك و البقاء و عز العظمة و الكبرياء و عز البذل و العطاء و عز الرفعة و العلاء و عز الجلال و البهاء و عز الرسول خمسة عز
مجمع البيان ج : 10 ص : 445
السبق و الابتداء و عز الأذان و النداء و عز قدم الصدق على الأنبياء و عز الاختيار و الاصطفاء و عز الظهور على الأعداء و عز المؤمنين خمسة عز التأخير بيانه نحن الآخرون السابقون و عز التيسير بيانه و لقد يسرنا القرآن للذكر يريد الله بكم اليسر و عز التبشير ، بيانه و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا و عز التوقير ، بيانه و أنتم الأعلون و عز التكثير ، بيانه أنهم أكثر الأمم « و لكن المنافقين لا يعلمون » فيظنون أن العزة لهم و ذلك لجهلهم بصفات الله تعالى و ما يستحقه أولياؤه و وجه الجمع بين هذه الآية و بين قوله فلله العزة جميعا أن عز الرسول و المؤمنين من جهته عز اسمه و إنما يحصل به و بطاعته فلله العز بأجمعه ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال « يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم » أي لا تشغلكم « أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله » أي عن الصلوات الخمس المفروضة و قيل ذكر الله جميع طاعاته عن أبي مسلم و قيل ذكره شكره على نعمائه و الصبر على بلائه و الرضاء بقضائه و هو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع « و من يفعل ذلك » أي من يشغله ماله و ولده عن ذكر الله « فأولئك هم الخاسرون » خسروا ثواب الله و رحمته « و أنفقوا مما رزقناكم » في سبيل البر فيدخل فيه الزكوات و سائر الحقوق الواجبة « من قبل أن يأتي أحدكم الموت » أي أسباب الموت « فيقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب » أي هلا أخرتني و ذلك إذا عاين علامات الآخرة فيسأل الرجعة إلى الدنيا ليتدارك الفائت قالوا و ليس في الزجر عن التفريط في حقوق الله آية أعظم من هذه و قوله « إلى أجل قريب » أي مثل ما أجلت لي في دار الدنيا « فأصدق » أي فأتصدق و أزكي مالي و أنفقه في سبيل الله « و أكن من الصالحين » أي من الذين يعملون الأعمال الصالحة و قيل من الصالحين أي من المؤمنين و الآية في المنافقين عن مقاتل و قيل من المطيعين لله و الآية في المؤمنين عن ابن عباس قال ما من أحد يموت و كان له مال فلم يؤد زكاته و أطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت قالوا يا ابن عباس اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال أنا أقرأ عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية إلى قوله « من الصالحين » قال الصلاح هنا الحج و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) « و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها » يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده و الأجل المقيد هو الأجل المحكوم بأن العبد يموت عنده إن لم يقتطع دونه أو لم يزد عليه أو لم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة « و الله خبير بما تعملون » أي عليم بأعمالكم يجازيكم بها .

النظم


وجه اتصال هذه الآية الأخيرة بما قبلها أن معناه أنه سبحانه لو علم أنكم تتوبون لجعل في أجلكم تأخيرا إلى وقت آخر و لكنه علم أنكم لا تتوبون .

مجمع البيان ج : 10 ص : 446
( 64 ) سورة التغابن مدنية و آياتها ثماني عشرة ( 18 )
و قال ابن عباس مكية غير ثلاث آيات من آخرها نزلن بالمدينة « يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم » إلى آخر السورة .

عدد آيها

ثماني عشرة آية بالإجماع .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة . ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة .

تفسيرها

لما ختم الله تعالى تلك السورة بذكر الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع و العاصي فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 447

سورة التغابن
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسبِّحُ للَّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ لَهُ الْمُلْك وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكمْ فَمِنكمْ كافِرٌ وَ مِنكم مُّؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2) خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالحَْقِّ وَ صوَّرَكمْ فَأَحْسنَ صوَرَكمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3) يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ(4) أَ لَمْ يَأْتِكمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(5)

المعنى


« يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض » تسبيح المكلفين بالقول و تسبيح الجمادات بالدلالة « له الملك » منفردا دون غيره و الألف و اللام لاستغراق الجنس و المعنى أنه المالك لجميع ذلك و المتصرف فيه كيف يشاء « و له الحمد » على جميع ذلك لأن خلق ذلك أجمع - الغرض فيه الإحسان إلى خلقه و النفع لهم به فاستحق بذلك الحمد و الشكر « و هو على كل شيء قدير » يوجد المعدوم و يفني الموجود و يغير الأحوال كما يشاء « هو الذي خلقكم » أي أنشأكم و أوجدكم عن عدم كما أراد و الخطاب للمكلفين عن الجبائي و قيل بل هو عام و قد تم الكلام هنا ثم ابتدأ فقال « فمنكم كافر » لم يقر بأن الله خلقه كالدهرية « و منكم مؤمن » مقر بأن الله خلقه عن الزجاج و قيل معناه فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافقين و منكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار و ذويه عن الضحاك و قيل فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب و منكم مؤمن بالله كافر بالكواكب يريد في شأن الأنواء عن عطاء بن أبي رباح و المراد بالآية ظاهر فلا معنى للاسترواح إلى مثل هذه التأويلات و المعنى أن المكلفين جنسان منهم كافر فيدخل فيه أنواع الكفر و منهم مؤمن و لا يجوز حمله على أنه سبحانه خلقهم مؤمنين و كافرين لأنه لم يقل كذلك بل أضاف الكفر و الإيمان إليهم و إلى فعلهم و لدلالة العقول على أن ذلك يقع على حسب قصودهم و أفعالهم و لذلك يصح الأمر و النهي و الثواب و العقاب و بعثة الأنبياء على أنه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر و القبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر و الضلال و يؤيده بالمعجزات تعالى عن ذلك و تقدس هذا و قد قال تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كل مولود يولد على الفطرة تمام الخبر و قال (صلى الله عليهوآلهوسلّم) حكاية عن الله سبحانه خلقت عبادي كلهم حنفاء و نحو ذلك من الأخبار كثير « و الله بما تعملون بصير » أي خلق الكافر و هو عالم بما يكون منه من الكفر و خلق المؤمن و هو عالم بما يكون منه من الإيمان فيجازيهما على حسب أعمالهما « خلق السماوات و الأرض بالحق » أي بالعدل و بأحكام الصنعة و صحة التقدير و قيل معناه للحق و هو أن خلق العقلاء تعريضا إياهم للثواب العظيم و خلق ما عداهم تبعا لهم لما في خلقهما لهم من اللطف « و صوركم » يعني البشر كلهم « فأحسن صوركم » من حيث
 

 
  Index Next