جستجو در تأليفات معظم له
 
<<        الفهرس        >>




قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


به ربه، غير أنه إذا كان في رخاء و رفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الأمر و زعم أنه لا يدعو ربه و لا يسأل عنه، مع أنه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة و لا تبديل لخلق الله تعالى، و لما وقع الشدة و طارت الأسباب عن تأثيرها و فقدت الشركاء و الشفعاء تبين له أن لا منجح لحاجته و لا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري و نسي كل سبب من الأسباب، و وجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته و قضى حاجته و أظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك و النسيان.

و كقوله تعالى: "و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين:" المؤمن - 60، و الآية تدعو إلى الدعاء و تعد بالإجابة و تزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار و الوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

و بذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب كقوله تعالى: "فادعوا الله مخلصين له الدين": المؤمن - 14، و قوله تعالى: "و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين": الأعراف - 56، و قوله تعالى: "و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا خاشعين": الأنبياء - 90، و قوله تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين": الأعراف - 55، و قوله تعالى: "إذ نادى ربه نداء خفيا، إلى قوله، و لم أكن بدعائك رب شقيا": مريم - 4، و قوله تعالى: "و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله:" الشورى - 26، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، و هي تشتمل على أركان الدعاء و آداب الداعي، و عمدتها الإخلاص في دعائه تعالى و هو مواطاة القلب اللسان و الانقطاع عن كل سبب دون الله و التعلق به تعالى، و يلحق به الخوف و الطمع و الرغبة و الرهبة و الخشوع و التضرع و الإصرار و الذكر و صالح العمل و الإيمان و أدب الحضور و غير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.



قوله تعالى: فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: إن الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه و بين دعائهم شيء، و هو ذو عناية بهم و بما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، و صفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، و ليقبلوا إليه، و ليؤمنوا به في هذا النعت، و ليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.

بحث روائي

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، و في عدة الداعي، في الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك و ملح عجينك. و في المكارم، عنه (عليه السلام): الدعاء أفضل من قراءة القرآن لأن الله عز و جل قال: "قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم"،: و روي ذلك عن الباقر و الصادق (عليهما السلام). و في عدة الداعي، في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: و عزتي و جلالي لأقطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس و لأكسونه ثوب المذلة في الناس و لأبعدنه من فرجي و فضلي، أ يأمل عبدي في الشدائد غيري، و الشدائد بيدي و يرجو سوائي و أنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة، و بابي مفتوح لمن دعاني الحديث.

و في عدة الداعي، أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه، و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات و الأرض رزقه، فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له.

أقول: و ما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء و ليس إبطالا لسببية الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الأشياء و بين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، و للإنسان شعور باطني بذلك فإنه يشعر بفطرته أن لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، و يشعر أيضا أن كل ما يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلف عنه أثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدىء عنه كل أمر، و الركن الذي يعتمد عليه و يركن إليه كل حاجة في تحققها و وجودها غير هذه الأسباب و لازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي و يعتصم بذلك السبب الظاهري، و الإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه و التفات فإذا سأل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنه سأل ربه و اتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الأسباب إلى ربه فاستفاض منه، و إذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني و إنما هو أمر صوره له تخيله لعلل أوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، و هذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر.

و نظير ذلك: أن الإنسان كثيرا ما يحب شيئا و يهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه و أهم و أحب فترك الأول و أخذ بالثاني، و ربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع و خيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الأول و ترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه و أخذ بالبكاء و هو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء و إن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري و الشعور الباطني و له نظام آخر بحسب تخيله و النظام الفطري لا يقع فيه خطاء و لا في سيره خبط، و أما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء و السهو، فربما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، و هو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الأحاديث، و هو اللائح من قول علي (عليه السلام) فيما سيأتي: أن العطية على قدر النية الحديث.

و في عدة الداعي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة. و في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا. أقول: و ذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة كما مر، و قد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

و في العدة، أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): افزعوا إلى الله في حوائجكم، و الجئوا إليه في ملماتكم، و تضرعوا إليه و ادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، و ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، و إما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم. و في نهج البلاغة،: في وصية له (عليه السلام) لابنه الحسين (عليه السلام): ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه و استمطرت شئابيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الأمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفي عنك وباله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له. أقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد (عليه السلام) به: أن الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره و حمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله و أظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة و أجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة و الإجابة.

و قد بين (عليه السلام) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالإبطاء في الإجابة، و تبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة و لو أوتيها على الفور لم تكن هنيئة و على الرغبة فتبطىء إجابتها لأن السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطء، و كذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه و هو لا يعلم بذلك و يزعم أن فيه سعادته و إنما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

و في عدة الداعي، عن الباقر (عليه السلام): ما بسط عبد يده إلى الله عز و جل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه، و في خبر آخر: على وجهه و صدره.

أقول: و قد روي في الدر المنثور، ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، و جابر، و عبد الله بن عمر، و أنس بن مالك، و ابن أبي مغيث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثماني روايات، و في جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنه تعالى فيها - تعالى عن ذلك و تقدس -.

و هو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي و التوجه الباطني إلى موطن الصورة، و إظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك و أجزائها و شرائطها، و لو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، و منها الدعاء، و هو تمثيل التوجه القلبي و المسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، و يسأل حاجته بالذلة و الضراعة، و قد روى الشيخ في المجالس و الأخبار مسندا عن محمد و زيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين (عليهم السلام) عن النبي، و في عدة الداعي، مرسلا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين. و في البحار، عن علي (عليه السلام): أنه سمع رجلا يقول اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال (عليه السلام): أراك تتعوذ من مالك و ولدك، يقول الله تعالى: "إنما أموالكم و أولادكم فتنة" و لكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

أقول: و هذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ و له نظائر في الروايات، و فيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، و من هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء و الكثير و غير ذلك.

و في عدة الداعي، عن الصادق (عليه السلام): أن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. و في العدة، أيضا عن علي (عليه السلام): لا يقبل الله دعاء قلب لاه. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و السر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء و المسألة في السهو و اللهو.



و في دعوات الراوندي،: في التوراة يقول الله عز و جل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك و أجبته فيك، و إن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة.

أقول: و ذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به و رضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، و إذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه و لن يرضى أبدا عوقب بما يريده على غيره، و إن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: "و يدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير و كان الإنسان عجولا": الإسراء - 11.

و في عدة الداعي،: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر: يا أبا ذر أ لا أعلمك كلمات ينفعك الله عز و جل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، و إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني ادع الله في الرخاء و لا تنسه حتى يستجيب دعاءك في الشدة و لا ينساك، و ذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة و على تقديرها، و ليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال و على جميع التقادير، فهو لم يدع ربه، و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق، عن الصادق (عليه السلام): قال (عليه السلام): من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل البلاء، و قيل: صوت معروف، و لم يحجب عن السماء، و من لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء و قالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه الحديث، و هو المستفاد من إطلاق قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم:" التوبة - 67، و لا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال و الاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلا الطريقية و الوساطة في الإيصال، و الأمر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة و باب الكبرياء و لا يركن إلى سبب بعد سبب، و إن كان أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها و هذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب و الطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف و الداعي يريد ما يسأله بالقلب، و يسأل ما يريده باللسان و يستعين على ذلك بأركان وجوده و كل ذلك أسباب؟.

و اعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده و يرى ما يرى ببصره و يسمع ما يسمع بأذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، و من ركن إلى سبب من دون الله سبحانه و تعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو بأذنه في سمعها و هو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، و ليس ذلك تقييدا للقدرة الإلهية غير المتناهية و لا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة و الاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الإنسان قادر على المناولة و الرؤية و السمع لكن المناولة لا يكون إلا باليد، و الرؤية و السمع هما اللذان يكونان بالعين و الأذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الأسباب فزيد مثلا و هو فعل لله هو الإنسان الذي ولده فلان و فلانة في زمان كذا و مكان كذا و عند وجود شرائط كذا و ارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل و الشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقف على تحقق جميعها، و المتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: و إذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: و إذا سألت، و سببه، و المعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى و لا تستعن بغيره تعالى، و أما هو تعالى: فسلطانه دائم و ملكه ثابت و مشيته نافذة و كل يوم هو في شأن، و لذلك عقب الجملة بقوله: و لو أن الخلق كلهم جهدوا إلخ.

و من أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: أن الدعاء من القدر.

أقول: و فيه جواب ما استشكله اليهود و غيرهم على الدعاء: أن الحاجة المدعو لها إما أن تكون مقضية مقدرة أو لا، و هي على الأول واجبة و على الثاني ممتنعة، و على أي حال لا معنى لتأثير الدعاء، و الجواب: أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده، و الدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، و هذا هو المراد بقولهم: إن الدعاء من القدر، و في هذا المعنى روايات أخر.

ففي البحار، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يرد القضاء إلا الدعاء. و عن الصادق (عليه السلام): الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما. و عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): عليكم بالدعاء فإن الدعاء و الطلب إلى الله عز و جل يرد البلاء، و قد قدر و قضى فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله و سئل صرف البلاء صرفا. و عن الصادق (عليه السلام): أن الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة و لا ينال ما عند الله إلا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه. أقول: و فيها إشارة إلى الإصرار و هو من محققات الدعاء، فإن كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفاءه.

و عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام): دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

أقول: و فيها إشارة إلى إخفاء الدعاء و إسراره فإنه أحفظ لإخلاص الطلب.

و في المكارم، عن الصادق (عليه السلام): لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد و آل محمد.

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا:، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له.

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا: و قد قال له رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما قال: فقال: و ما هما قلت: ادعوني أستجب لكم فندعوه فلا نرى إجابة، قال أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال فمه؟ قلت: لا أدري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قلت: و ما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله و تمجده و تذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد و آله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال: و ما الآية الأخرى؟ قلت: و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و أراني أنفق و لا أرى خلفا، قال: أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله و أنفق في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه.

أقول: و الوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء و المسألة.

و في الدر المنثور، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء.

و عن ابن عمر أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، و في رواية: من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنة.



أقول: و هذه المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت أيضا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و معناه واضح مما مر.

و في الدر المنثور، أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال.

أقول: و ذلك أن الجهل بمقام الحق و سلطان الربوبية و الركون إلى الأسباب يوجب الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب و قصر المعلولات على عللها المعهودة و أسبابها العادية حتى أن الإنسان ربما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الإذعان بتعين الطرق و وساطة الأسباب المتوسطة فإنا نرى أن الحركة و السير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بأن السير واسطة و الله سبحانه و تعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة و أنه لو لا السير لم يكن قرب و لا اقتراب، و بالجملة أن المسببات لا تتخلف عن أسبابها و إن لم يكن للأسباب إلا الوساطة دون التأثير، و هذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الإلهية، و هذا التوهم هو الذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلف المسببات عن أسبابها العادية كالثقل و الانجذاب عن الجسم، و القرب عن الحركة، و الشبع عن الأكل، و الري عن الشرب، و هكذا، و قد مر في البحث عن الإعجاز أن ناموس العلية و المعلولية، و بعبارة أخرى توسط الأسباب بين الله سبحانه و بين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، و الكتاب و السنة تثبت أصل التوسط و تبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها.

إذا عرفت هذا علمت: أن العلم بالله يوجب الإذعان بأن ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما أن العمدة من معجزات الأنبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي يعلمون أني أقدر أن أعطيهم ما يسألوني.

و في المجمع، قال: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال و ليؤمنوا بي أي و ليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون، أي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه.

2 سورة البقرة - 187

أُحِلّ لَكمْ لَيْلَةَ الصيَامِ الرّفَث إِلى نِسائكُمْ هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَ أَنتُمْ لِبَاسٌ لّهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَنّكمْ كُنتُمْ تخْتَانُونَ أَنفُسكمْ فَتَاب عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنكُمْ فَالْئَنَ بَشِرُوهُنّ وَ ابْتَغُوا مَا كتَب اللّهُ لَكُمْ وَ كلُوا وَ اشرَبُوا حَتى يَتَبَينَ لَكُمُ الْخَيْط الأَبْيَض مِنَ الخَْيْطِ الأَسوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمّ أَتِمّوا الصيَامَ إِلى الّيْلِ وَ لا تُبَشِرُوهُنّ وَ أَنتُمْ عَكِفُونَ فى الْمَسجِدِ تِلْك حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ ءَايَتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ (187)

بيان


قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، الإحلال بمعنى الإجازة، و أصله من الحل مقابل العقد، و الرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، و قد كني به هاهنا عن عمل الجماع و هو من أدب القرآن الكريم و كذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة و الدخول و المس و اللمس و الإتيان و القرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، و كذا لفظ الوطء و الجماع و غيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية و إن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج و الغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، و تعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل.

قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، الظاهر من اللباس معناه المعروف و هو ما يستر به الإنسان بدنه، و الجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور و إشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته و يستر به عورته.

و هذه استعارة لطيفة، و تزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، فإن الإنسان يستر عورته عن غيره باللباس، و أما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقي به صاحبه عن الرفث إلى غيره، و أما الرفث إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.

قوله تعالى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم و عفا عنكم، الاختيان و الخيانة بمعنى، و فيه معنى النقص على ما قيل، و في قوله: أنكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لأنفسهم، و لو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة و العفو، و هما و إن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، و خاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك.

و على هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، و الآية بنزولها شرعت الحلية و نسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، و يشعر به أو يدل عليه قوله: أحل لكم، و قوله: كنتم تختانون، و قوله: فتاب عليكم و عفا عنكم، و قوله: فالآن باشروهن، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام أن يقال: فلا جناح عليكم أن تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، و هو ظاهر.

و ربما يقال: إن الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل و الشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق أهل السنة و الجماعة، أن المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم و سمعوا قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، و قد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون و يأكلون و يشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصية و خيانة لأنفسهم، و الشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل و الشرب بعد النوم، و ربما أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل و الشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت أن النكاح و الأكل و الشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، و ظهر بذلك: أن مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم، التشبيه في أصل فرض الصوم لا في خصوصياته، و أما قوله تعالى: أحل لكم فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر:" المائدة - 96، إذ من المعلوم أن صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، و كذا قوله تعالى: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، إنما يعني به أنهم كانوا يخونون بحسب زعمهم و حسبانهم ذلك خيانة و معصية، و لذا قال: تختانون أنفسكم و لم يقل: تختانون الله كما قال: "لا تخونوا الله و رسوله و تخونوا أماناتكم:" الأنفال - 27، مع احتمال أن يراد بالاختيان النقص، و المعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح و غيره، و كذا قوله تعالى: فتاب عليكم و عفا عنكم، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا.

و فيه ما عرفت: أن ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: أحل لكم، و قوله: كنتم تختانون أنفسكم، و قوله: فتاب عليكم و عفا عنكم، و إن لم تكن صريحة في النسخ غير أن لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: فالآن باشروهن "إلخ"، إذ لو لم يكن هناك إلا جواز مستمر قبل نزول الآية و بعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، و أما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فإنها لم تبين سائر أحكام الصوم أيضا مثل حرمة النكاح و الأكل و الشرب في نهار الصيام، و من المعلوم أن رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الأحكام، و الآية تنسخ ما بينه الرسول و إن لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.

فإن قلت: قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد أن لا يعم الناسخ و المنسوخ لبشاعة أن يعلل النسخ بما يعم الناسخ و المنسوخ معا و إن قلنا: إن هذه التعليلات الواقعة في موارد الأحكام حكم و مصالح لا علل، و لا يلزم في الحكمة أن تكون جامعة و مانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء و هن لباس لهم.

قلت: أولا إنه منقوض بتقييد قوله: أحل لكم بقوله: ليلة الصيام مع أن حكم اللباس جار في النهار كالليل و هو محرم في النهار، و ثانيا: أن القيود المأخوذة في الآية من قوله: ليلة الصيام، و قوله: هن لباس لكم، و قوله: أنكم كنتم تختانون أنفسكم، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ و الناسخ فكون أحد الزوجين لباسا للآخر يوجب أن يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله: ليلة الصيام، و الصيام هو الكف و الإمساك عن مشتهيات النفس من الأكل و الشرب و النكاح يوجب تقييد جواز الرفث و صرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم و وقوعهم في معصية مستمرة و خيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، و بذلك يعود إطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض إطلاقه و هو أن يعمل به ليلا لا نهارا، و المعنى و الله أعلم: أن إطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا و نهارا و حرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا أنكم تختانون أنفسكم فيه و أردنا التخفيف عنكم رأفة و رحمة، و أعدنا إطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام و قصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل.

و الحاصل: أن قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، و إن كان علة أو حكمة لإحلال أصل الرفث إلا أن الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام و هو مجموع قوله: هن لباس لكم إلى قوله: و عفا عنكم، و هذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ و لا يعم المنسوخ قطعا.

قوله تعالى: فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم، أمر واقع بعد الحظر فيدل على الجواز، و قد سبقه قوله تعالى: في أول الآية: أحل لكم و المعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن، و الابتغاء هو الطلب، و المراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الإنساني من طريق المباشرة، و فطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح و المباشرة، و سخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم و إن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة و نيل اللذة كما أنه تعالى كتب لهم بقاء الحياة و النمو بالأكل و الشرب و هو المطلوب الفطري و إن لم يقصدوا بالأكل و الشرب إلا الحصول على لذة الذوق و الشبع و الري، فإنما هو تسخير إلهي.

و أما ما قيل: إن المراد بما كتب الله لهم الحل و الرخصة فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، فيبعده: أن الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية و الرخصة.

قوله تعالى: و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل و بذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، و عمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق إلى ثمانية عشر درجة تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه و هو الفجر الثاني، و يسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه و يخبر به من قدوم النهار و اتصاله بطلوع الشمس.



و من هنا يعلم أن المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، و أن كلمة من، بيانية و أن قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبين من الخيط الأسود.

و من هنا يعلم أيضا: أن المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط أبيض و لا خيط أسود.

قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره إيثارا للإيجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، و في قوله: أتموا دلالة على أنه واحد بسيط و عبادة واحدة تامة من غير أن تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، و هذا هو الفرق بين التمام و الكمال حيث إن الأول انتهاء وجود ما لا يتألف من أجزاء ذوات آثار و الثاني انتهاء وجود ما لكل من أجزائه أثر مستقل وحده، قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي:" المائدة - 3، فإن الدين مجموع الصلاة و الصوم و الحج و غيرها التي لكل منها أثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في الكلام على الآية.

قوله تعالى: و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد، العكوف و الاعتكاف هو اللزوم و الاعتكاف بالمكان الإقامة فيه