جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 ملازما له.  الاعتكاف عبادة خاصة من أحكامها لزوم المسجد و عدم الخروج منه إلا لعذر و الصيام معه، و لذلك صح أن يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد.

قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها، أصل الحد هو المنع و إليه يرجع جميع استعمالاته و اشتقاقاته كحد السيف و حد الفجور و حد الدار و الحديد إلى غير ذلك، و النهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها و التعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الأكل و الشرب و المباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الأحكام و الحرمات الإلهية التي بينها لكم و هي أحكام الصوم بإضاعتها و ترك التقوى فيها.

بحث روائي

في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال كان الأكل و النكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء و نام و لم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار، و كان النكاح حراما في الليل و النهار في شهر رمضان، و كان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الأنصاري، أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب، و كان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، و كان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرق له و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل الله تبارك و تعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد الليل.

أقول: و قوله: يعني إلى قوله: و كان رجل، من كلام الراوي، و هذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني و العياشي و غيرهما، و في جميعها أن سبب نزول قوله: و كلوا و اشربوا "إلخ"، إنما هو قصة خوات بن جبير الأنصاري و أن سبب نزول قوله: أحل لكم "إلخ"، ما كان يفعله الشبان من المسلمين.

و في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب التفسير و الرواية عن البراء بن عازب قال كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته و لا يومه حتى يمسي و أن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا و لكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام و جاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أ نمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا: أقول: و روي بطرق أخر القصة و في بعضها أبو قبيس بن صرمة و في بعضها صرمة بن مالك الأنصاري على اختلاف ما في القصة.

و في الدر المنثور، أيضا: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء و الطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام و النساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله أحل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن يعني انكحوهن.

أقول: و الروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة و في أكثرها اسم من عمر، و هي متحدة في أن حكم النكاح بالليل كحكم الأكل و الشرب و أنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، و ظاهر ما أوردناه من الرواية الأولى أن النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل و النهار جميعا بخلاف الأكل و الشرب فقد كانا محللين في أول الليل قبل النوم محرمين بعده، و سياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الأكل و الشرب محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ أن يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض إلخ، و قد قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، و لم يأت بقيد يدل على الغاية، و كذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: أن الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الأكل و الشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "إلخ"، قبل قوله: كلوا و اشربوا.

و في الدر المنثور، أيضا: أن رسول الله قال الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا و لا يحرمه، و أما المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة و يحرم الطعام.

أقول: و الروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة و الخاصة و كذا الروايات في الاعتكاف و حرمة الجماع فيه.

2 سورة البقرة - 188

وَ لا تَأْكلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلى الحُْكامِ لِتَأْكلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَلِ النّاسِ بِالاثْمِ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

بيان


قوله تعالى: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرف مجازا، و المصحح لهذا الإطلاق المجازي كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إلى فعلها و أقدمها فالإنسان أول ما ينشأ.

وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس و المسكن و النكاح و نحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، و لذلك كان تسمية التصرف و الأخذ، و خاصة في مورد الأموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.

و المال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل إليه القلب، و البين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، و الباطل يقابل الحق الذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.

و في تقييد الحكم، أعني قوله: و لا تأكلوا أموالكم، بقوله: بينكم، دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس و إنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا و في إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الإنساني من اعتبار أصل الملك و احترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل و التاريخ، و قد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك و المال و لام الملك و الاستخلاف و غيرها في أزيد من مائة مورد و لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع، و كذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع و التجارة و نحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: "و أحل الله البيع:" البقرة - 275، و قوله تعالى: "و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض:" النساء - 29، و قوله تعالى: "تجارة تخشون كسادها:" التوبة - 24، و غيرها، و السنة المتواترة تؤيده.

قوله تعالى: و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا، الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، و هو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، و الفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء، و الجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، و يمكن أن يكون الواو بمعنى مع و الفعل منصوبا بأن المقدرة، و التقدير مع أن تأكلوا فتكون الآية بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، و هو النهي عن تصالح الراشي و المرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما و تقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه و أخذ الراشي فريقا آخر منها بالإثم و هما يعلمان أن ذلك باطل غير حق.

بحث روائي

في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) في الآية: كانت تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم الله عن ذلك.

و في الكافي، أيضا عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز و جل في كتابه: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام، قال يا أبا بصير إن الله عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما أنه لم يعن حكام أهل العدل و لكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت و هو قول الله عز و جل: أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.

و في المجمع، قال: روي عن أبي جعفر (عليه السلام) يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.

أقول: و هذه مصاديق و الآية مطلقة.

بحث علمي اجتماعي

كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، و منها النبات و الحيوان و الإنسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده و بقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، و لا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها و نشوئها و توليد مثلها، و كذلك أقسام الحيوان و الإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه و لو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه.

و هذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، و الحيوان و الإنسان بالشعور الغريزي أن التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية و الانتفاع في حفظ الوجود و البقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى أن الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين فهذا حاصل الأمر و ملاكه و لذلك فالفاعل من الإنسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره و التصرف فيما يريد هو التصرف فيه، و هذا أصل الاختصاص الذي لا يتوقف في اعتباره، إنسان و هو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا و لك ذلك، و لي أن أفعل كذا و لك أن تفعل كذا.

و يشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما اصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج و نحو ذلك، و ما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء و نحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته و قضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالا، و لا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا و ترتيبه و تعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، و عند ذلك يتنوع الاختصاص الإجمالي المذكور أنواعا متفرقة ذوات أسام مختلفة فيسمى الاختصاص المالي بالملك و غيره بالحق و غير ذلك.

و هم و إن أمكن أن يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة و البيع و الشراء و الغصب بقوة السلطان و غير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالإنسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، و ينقصوا من بعض، و يثبتوا لبعض و ينفوا عن بعض، لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، و لذلك نرى أن المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد و ينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم و هم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله و لن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، و في بطلان الفطرة فناء الإنسان.

و سنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة و الربح و الإرث و الغنيمة و الحيازة، و من حيث الموضوع كالبالغ و الصغير و غيرهما في موارد يناسب ذلك إن شاء الله العزيز.

2 سورة البقرة - 189

يَسئَلُونَك عَنِ الأَهِلّةِ قُلْ هِىَ مَوَقِيت لِلنّاسِ وَ الْحَجّ وَ لَيْس الْبرّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوت مِن ظهُورِهَا وَ لَكِنّ الْبرّ مَنِ اتّقَى وَ أْتُوا الْبُيُوت مِنْ أَبْوَبِهَا وَ اتّقُوا اللّهَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ (189)

بيان

قوله تعالى: يسئلونك إلى قوله: و الحج، الأهلة جمع هلال و يسمى القمر هلالا أول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الأولى و الثانية كما قيل، و قال بعضهم الليالي الثلاثة الأول، و قال بعضهم حتى يتحجر، و التحجر أن يستدير بخطة دقيقة، و قال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل و ذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا و يسمى في الرابعة عشر بدرا، و اسمه العام عند العرب الزبرقان.

و الهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، و من قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لأن الناس يهلون بذكره إذا رأوا.

و المواقيت جمع ميقات و هو الوقت المضروب للفعل، و يطلق أيضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام و ميقات أهل اليمن، و المراد هاهنا الأول.

و في قوله تعالى: يسئلونك عن الأهلة، و إن لم يشرح أن السؤال في أمرها عما ذا؟ عن حقيقة القمر و سبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال و القمر و البدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أول الشهر القمري كما ذكره بعضهم، أو عن غير ذلك.

و لكن إتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الأهلة دليل على أن السؤال لم يكن عن ماهية القمر و اختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة، و أيضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال و سبب تشكله الخاص كان الأنسب أن يقال: يسألونك عن الهلال إذ لا غرض حينئذ يتعلق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال و رسمه الشهور القمرية، و عبر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك فأجيب بالفائدة.

و يستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس و الحج، فإن المواقيت و هي الأزمان المضروبة للأفعال، و الأعمال إنما هي الشهور دون الأهلة التي ليست بأزمنة و إنما هي أشكال و صور في القمر.

و بالجملة قد تحصل أن الغرض في السؤال إنما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فأجيب ببيان الفائدة و أنها أزمان و أوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم و معادهم فإن الإنسان لا بد له من حيث الخلقة من أن يقدر أفعاله و أعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، و لازم ذلك أن يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا و كبارا مثل الليل و النهار و اليوم و الشهر و الفصول و السنين بالعناية الإلهية التي تدبر أمور خلقه و تهديهم إلى صلاح حياتهم، و التقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم و الجاهل و البدوي و الحضري و يسهل حفظه على الجميع إنما هو تقطيع الأيام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الإدراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها و لم ينل دقيق حسابها الإنسان إلا بعد قرون و أحقاب من بدء حياته في الأرض و هو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما.

فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في أمور دينهم و دنياهم و للحج خاصة فإنه أشهر معلومات، و كان اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.

قوله تعالى: و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى قوله: من أبوابها، ثبت بالنقل أن جماعة من عرب الجاهلية كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها و دخلوا منه فنهى عن ذلك الإسلام و أمرهم بدخول البيوت من أبوابها، و نزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، و بذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله.

و لو لا ذلك لأمكن أن يقال: إن قوله: و ليس البر إلى آخره، كناية عن النهي عن امتثال الأوامر الإلهية و العمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، و لا الصيام في غير شهر رمضان و هكذا و كانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، و كان المعنى أن هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرعت فيها و لا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، و الصوم في غير شهر رمضان و هكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.

و على التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفي البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين و إلا لم يكن معنى لنفي كونه برا فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، و أثبت أن البر هو التقوى، و كان الظاهر أن يقال: و لكن البر هو التقوى، و إنما عدل إلى قوله: و لكن البر من اتقى، إشعارا بأن الكمال إنما هو في الاتصاف بالتقوى و هو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن الآية.

و الأمر في قوله تعالى: و أتوا البيوت من أبوابها، ليس أمرا مولويا و إنما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت و وضع الباب مدخلا و مخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.

قوله تعالى: و اتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة أن التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الإيمان و مقامات الكمال، و من المعلوم أن جميع المقامات لا يستوجب الفلاح و السعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك و الضلال و إنما تهدي إلى الفلاح و تبشر بالسعادة، و لذلك قال تعالى: و اتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، و يمكن أن يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الأمر الخاص الموجود في الآية و ترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأهلة فنزلت هذه الآية "يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها أجل دينهم و عدة نسائهم و وقت حجهم.

أقول: و روي هذا المعنى فيه بطرق أخر عن أبي العالية و قتادة و غيرهما، و روي أيضا: أن بعضهم سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حالات القمر المختلفة فنزلت الآية.

و هذا هو الذي ذكرنا آنفا أنه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج وكيع، و البخاري، و ابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها - و لكن البر من اتقى و أتوا البيوت من أبوابها.



و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام و كانت الأنصار و سائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر و أنه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال: إني رجل أحمس قال فإن: ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها.

أقول: و قد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، و الحمس جمع أحمس كحمر و أحمر من الحماسة و هي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم و شدة بأسهم.

و ظاهر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش و لذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت "إلخ"، و على هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، و هي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، و لكنك قد عرفت أن الآية تنافيه حيث تقول: ليس البر بأن تأتوا، و حاشا الله سبحانه أن يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الأحكام ثم يذمه أو يقبحه و ينسخه بعد ذلك و هو ظاهر.

و في محاسن البرقي، عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: و أتوا البيوت من أبوابها قال يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور كان.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى و لو لا هم ما عرف الله عز و جل و بهم احتج الله تبارك و تعالى على خلقه.

أقول: الرواية من الجري و بيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الأولى، و لا شك أن الآية بحسب المعنى عامة و إن كانت بحسب مورد النزول خاصة، و قوله (عليه السلام) و لو لا هم ما عرف الله، يعني البيان الحق و الدعوة التامة الذين معهم، و له معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إن شاء الله و الروايات في معنى الروايتين كثيرة.

2 سورة البقرة - 190 - 195

وَ قَتِلُوا فى سبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْث ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْث أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشدّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقَتِلُوهُمْ عِندَ المَْسجِدِ الحَْرَامِ حَتى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِك جَزَاءُ الْكَفِرِينَ (191) فَإِنِ انتهَوْا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (192) وَ قَتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ للّهِ فَإِنِ انتهَوْا فَلا عُدْوَنَ إِلا عَلى الظلِمِينَ (193) الشهْرُ الحَْرَامُ بِالشهْرِ الحَْرَامِ وَ الحُْرُمَت قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَ اتّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ (194) وَ أَنفِقُوا فى سبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى التهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يحِب الْمُحْسِنِينَ (195)

بيان


سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، و قد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد و هو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، و للفتنة، و للقصاص، و النهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، و كل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، و ليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم و هو ظاهر، و لا قيدا احترازيا، و المعنى قاتلوا الرجال دون النساء و الولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، و يقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله.

بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال و الوصف للإشارة، و المراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين و هم مشركوا مكة.

فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:" الحج - 40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.

على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده و أطرافه و لوازمه فقوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله، لأصل الحكم، و قوله تعالى: لا تعتدوا إلخ، تحديد له من حيث الانتظام، و قوله تعالى: و اقتلوهم "إلخ"، تحديد له من حيث التشديد، و قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام "إلخ"، تحديد له من حيث المكان، و قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة "إلخ"، تحديد له من حيث الأمد و الزمان، و قوله تعالى: الشهر الحرام "إلخ"، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال و القتل و معاملة بالمثل معهم، و قوله تعالى: و أنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية و هو الإنفاق للتجهيز و التجهز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، و لا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد و هو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، و كونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين و إعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس و أعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فإن الدفاع محدود بالذات، و التعدي خروج عن الحد، و لذلك عقبه بقوله تعالى: و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.

قوله تعالى: و لا تعتدوا "إلخ" الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا و اعتدى إذا جاوز وحده، و النهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، و الابتداء بالقتال، و قتل النساء و الصبيان، و عدم الانتهاء إلى العدو، و غير ذلك مما بينه السنة النبوية.

قوله تعالى: و اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي وجد و أدرك فمعنى الآية معنى قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:" التوبة - 6، و الفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء، و لذلك يطلق على نفس الامتحان و الابتلاء و على ما يلازمه غالبا و هو الشدة و العذاب على ما يستعقبه كالضلال و الشرك، و قد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، و المراد به في الآية الشرك بالله و رسوله بالزجر و العذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قبلها.

فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم و جلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، و ما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة و الفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع الحياتين و انهدام الدارين.

قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه "إلخ"، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، و الضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.

قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع و الكف، و المراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين و قبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان، و أما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه و هو قوله: و لا تقاتلوهم عند المسجد، و على هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله، و قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.

و في قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، و المعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.

قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، و الفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله و يكره عليه المشركون بمكة، و يدل عليه قوله تعالى: و يكون الدين لله، و الآية نظيرة لقوله تعالى: "و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:" الأنفال - 40، و في الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال و إن ردت فلا ولاية إلا لله و نعم المولى و نعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، و من المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، و لا معنى لقتال هذا شأنه و غايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق و هو الدين الذي يستقر على التوحيد.

و يظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:" التوبة - 30، بناء على أن دينهم لله سبحانه و تعالى، و ذلك أن الآية أعني قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه و تعالى هو أن لا يعبد الأصنام و يقر بالتوحيد، و أهل الكتاب مقرون به، و إن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق، لكن الإسلام قنع منهم بمجرد التوحيد، و إنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم و إظهار الإسلام على الدين كله.

قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة و آمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى: "فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين:" التوبة - 12.

قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص، الحرمات جمع حرمة و هي ما يحرم هتكه و يجب تعظيمه و رعاية جانبه، و الحرمات: حرمة الشهر الحرام و حرمة الحرم و حرمة المسجد الحرام، و المعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، و قد هتكوا حين صدوا النبي و أصحابه عن الحج عام الحديبية و رموهم بالسهام و الحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه و ليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله و يمتثلون أمره في إعلاء كلمته و لو هتكوا حرمة الحرم و المسجد الحرام بالقتال فيه و عنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات و أعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات و إنما شرع القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.

ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالا للشدة و البأس و السطوة و سائر القوى الداعية إلى الطغيان و الانحراف عن جادة الاعتدال و الله سبحانه و تعالى لا يحب المعتدين، و هم أحوج إلى محبة الله تعالى و ولايته و نصره فقال تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين.



و أما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابلة اعتداء و أما إذا كان في مقابلة الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان و ارتقاء عن حضيض الاستعباد و الظلم و الضيم، كالتكبر مع المتكبر، و الجهر بالسوء لمن ظلم.

قوله تعالى: و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله و الكلام في تقييد الإنفاق هاهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، و الباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، و المعنى: و لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة و الاستطاعة و القدرة فإن اليد مظهر لذلك، و ربما يقال: إن الباء للسببية و مفعول لا تلقوا محذوف، و المعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة، و التهلكة و الهلاك واحد و هو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، و هو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.

و الكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط كما أن البخل و الإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة و ذهاب القدرة، و فيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، و كما أن التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر و المسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة و بطلان المروة.

ثم ختم سبحانه و تعالى الكلام بالإحسان فقال: و أحسنوا إن الله يحب المحسنين، و ليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين و ما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، و الكف في مورد الكف، و الشدة في مورد الشدة، و العفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية

<<        الفهرس        >>