جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 أعني الصدقة و الربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء و المعوزين و قد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، و استعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، و هموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فإن أحسن إليهم بالصنيعة و المعروف بلا عوض - و الحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان و حسن النية و أثرت الأثر الجميل، و إن أسيء إليهم بإعمال القسوة و الخشونة و إذهاب المال و العرض و النفس قابلوها بالانتقام و النكاية بأي وسيلة، و قلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم و خراب بيوتهم و خسران مساعيهم.

و يجب عليك: أن تعلم أولا: أن العلل و الأسباب التي تبنى عليها الأمور و الحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود و التأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها و نتائجها التي يغلب تحققها، و نوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام، و نلحق الشاذ النادر بالمعدوم، و أما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.

و التدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال و الأعمال و مفاسدها مما يؤدي إلى السعادة و الشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال و بناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك و يضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.

و ثانيا: أن المجتمع كالفرد و الأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما أن للفرد حياة و عمرا و موتا مؤجلا و أفعالا و آثارا فكذلك المجتمع في حياته و موته و عمره و أفعاله و آثاره.

و بذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: "و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون:" الحجر - 5.

و على هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه و زواله و أثره.

فالعفة و الخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الإنسان و الاجتناب عن ازدواجه و عن مجالسته و زوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا و المجتمع على خلافه، و أما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي و الاستهجان العام للفعل و قد أذهبه التداول و الشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل و الأمراض التناسلية و المفاسد الآخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب و اختلالها و فساد الانشعابات القومية و الفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة.

و كذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة و البطء.

إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، و قل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب و عوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء و المذلة، و بين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل و الدول بالرسمية، و وضعت عليها القوانين، و أسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها و تعارف بينها و انصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية و تراكمها في جانب، و حلول الفقر و الحرمان العمومي في جانب آخر، و ظهور الانفصال و البينونة التامة بين القبيلين: الموسرين و المعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا و سوف يؤثر أثره السيىء المشئوم، و هذا النوع من الظهور و البروز و إن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، و ربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، و اليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد.

قال تعالى: "و تلك الأيام نداولها بين الناس:" آل عمران - 140، و هذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناس، على ناس و طائفة، على طائفة و حكومة على حكومة، و أمة، على أمة، و ظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.

و القرآن ليس يتكلم عن الفرد و لا في الفرد و إن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعادة الإنسان: نوعه و فرده، و مهيمنا على سعادة الدنيا: حاضرها و غابرها.

فقوله تعالى يمحق الله الربا و يربي الصدقات يبين حال الربا و الصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، و المحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق و إن سمي ربا و الصدقة ربا رابية و إن لم تسم ربا، و إلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، و توصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى و هو الانمحاق.



و بما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي و خسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة و العيان يكذبه، و إنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر و طيب الحياة و هناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال و وضع درهم على درهم، و مبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءا، و الهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس و بغض المعوزين له، و وجه ضعفه ظاهر.

و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد به محق الآخرة و ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.

و كذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: و من عاد "إلخ"، و قد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال و الدفع جميعا.

قوله تعالى: و الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، و المعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية، و هي طرق المعاملات الفطرية، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال الطمع و الحرص في أموال الناس و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.

قوله تعالى: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات "إلخ"، تعليل يبين به ثواب المتصدقين و المنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله و ذروا ما بقي من الربا، و هو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، و له بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، و هدد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله الآية.

و هذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.

و في تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان، و تأكيد لما تقدم من قوله: و من عاد "إلخ"، و قوله: و الله لا يحب كل كفار "إلخ".

قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، الإذن كالعلم وزنا و معنى، و قرىء فآذنوا بالأمر من الإيذان، و الباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين و نحوه، و المعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله و رسوله، و تنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، و نسبة الحرب إلى الله و رسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل و التشريع و لرسوله فيه سهم بالتبليغ، و لو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، و أما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى: "ليس لك من الأمر شيء": آل عمران - 128.

و الحرب من الله و رسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله:" الحجرات - 9، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه و هو محاربته إياهم من طريق الفطرة و هو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، و هي التي تقطع أنفاسهم، و تخرب ديارهم، و تعفي آثارهم، قال تعالى: "و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:" الإسراء - 16.

قوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون، كلمة و إن تبتم، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا و له بقايا على مدينيه و معامليه، و قوله: فلكم رءوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا و لا تظلمون بالتعدي إلى رءوس أموالكم، و في الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا: و على كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: و على إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رءوس أموالكم و المال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات و أصناف الكسب ثالثا.

قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، و النظرة المهلة، و الميسرة اليسار، و التمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه و أمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.

و الآية و إن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية و يأمر بالإنظار.

قوله تعالى: و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي و إن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.

قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله "إلخ"، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم و الجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، و يهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى و الورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، و هو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.

و أما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، و معنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

و قد قيل: إن هذه الآية: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوا و عشيا، و يقولون ربنا متى تقوم الساعة.



أقول: و هو مثال برزخي و تصديق لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.

و في الدر المنثور، أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يقومون - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

أقول: و قد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و في بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.

و في التهذيب، بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام فقال: و هل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع و حرم الربا، فاربح و لا ترب. قلت: و ما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، و حنطة بحنطة مثلين بمثل.

و في الفقيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.

أقول: و قد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال و الذي هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟ أنه إنما يكون في النقدين و ما يكال أو يوزن، و المسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.

و في الكافي، عن أحدهما و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال الموعظة التوبة.

و في التهذيب، عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيء حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر (عليه السلام) مخرجك من كتاب الله عز و جل: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى - فله ما سلف و أمره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: و قال لو أن رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أن في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله و إن عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله و ليرد الزيادة.

و في الفقيه، و العيون، عن الرضا (عليه السلام): هي كبيرة بعد البيان. قال: و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

و في الكافي،: أنه سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز و جل.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): و قد سئل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات الآية، و قيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر.

أقول: و الرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية و التحريم و تقابله الصدقة في شأنه، و هي لا تنافي ما مر من عموم المحق.

و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أنه قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الربا خمسة: آكله و موكله و شاهديه و كاتبه أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل و المرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد.

و فيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة و هو مثل أحد.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و عائشة و ابن عمر و أبي برزة الأسلمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: أنه لما أنزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله و قال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله - و ذروا ما بقي من الربا الآية.

أقول: و روي قريبا منه في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).

و في المجمع، أيضا عن السدي و عكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس و خالد بن الوليد و كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإسلام و لهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كل دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن السدي: إلا أن فيه و نزلت في العباس بن عبد المطلب و رجل من بني المغيرة.

و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و المتحصل من روايات الخاصة و العامة أن الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، و كانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية.

و هذا يؤيد ما قدمناه في البيان: أن الربا كان محرما في الإسلام قبل نزول هذه الآيات و مبينا للناس، و أن هذه إنما تؤكد التحريم و تقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه قبض و لم يبين للناس أمر الربا كما في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و أنه قد مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.

على أن من مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و بين ذلك للناس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور، بطرق عديدة عن ابن عباس و السدي و عطية العوفي و أبي صالح و سعيد بن جبير: أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا.

و في المجمع، أيضا عن علي (عليه السلام): إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.



أقول: و قد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.

و فيه،: في قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: و اختلف في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد.

و فيه،: أنه أي إنظار المعسر واجب في كل دين: عن ابن عباس و الضحاك و الحسن و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

و فيه،! قال الباقر (عليه السلام): إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.

أقول: و الرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، و قد مر له معنى آخر، و الروايات في هذه المعاني و ما يلحق بها كثيرة و المرجع فيها كتاب الدين من الفقه.

بحث علمي

تقدم مرارا في المباحث السابقة: أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، و بعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، و يرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله و ما عمله و العمل في هذا الباب أعم من الفعل و الانفعال و كان نسبة و رابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع أي أنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، و يعده ملكا جائز التصرف لشخصه، و العقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.

لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحدة دعي ذلك إلى الاجتماع التعاوني و أن ينتفع كل بعمل غيره و ما حازه و ملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، و استقر ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل و يملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، و يعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، و هذا أصل المعاملة و المعاوضة.

غير أن التباين التام بين الأموال و الأمتعة من حيث النوع، و من حيث شدة الحاجة و ضعفها، و من حيث كثرة الوجود و قلته يولد الإشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، و الحمار لغرض الحمل، و الماء لغرض الشرب، و الجوهرة الثمينة للتقلد و التختم مثلا لها أوزان و قيم مختلفة في حاجة الحياة، و نسب مختلفة لبعضها إلى بعض.

فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس و الدرهم و الدينار، و كان الأصل في وضعه: أنهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة و السلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية أفراده كالمثاقيل و المكائيل و غيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة و يقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه و نسبة بعضها إلى بعض.

ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء كواحد الطول من الذراع و نحوه، و واحد الحجم و هو الكيل، و واحد الثقل و الوزن كالمن و نحوه، و عند ذلك تعينت النسب و ارتفع اللبس، و بان مثلا أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير و المن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، و تبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا و على هذا القياس.

ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل و التوسعة كنقود الفضة و النحاس و البرنز و الورق و النوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

ثم افتتح باب الكسب و التجارة بعد رواج البيع و الشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله و شغله بالتعويض و تبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، و استقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم و الدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، و كأنه كل متاع يحتاج إليه الإنسان لأنه الذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده و يحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، و ربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع و الأمتعة و هو الصرف.

و قد ظهر بما مر: أن أصل المعاملة و المعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، و هذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، و أما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به و هو مما يقيم أود الاجتماع، و يرفع حاجة المحتاج و لا فساد يترتب عليه، و إن كان مع زيادة في المبدل منه و هي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟ الربا - و نعني به تبديل المثل بالمثل و زيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل و أخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل و ما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار و الإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة و هو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد و لازمه أن له في غده ثمانية و هو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته و حياته في الانمحاق و الانتقاص و لا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه و يبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين و ليس له و لا واحد 20 - 0 = المال و هو الهلاك و فناء السعي في الحياة.

و أما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه و العشرة التي للمقترض، و ذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب و يخلو الجانب الآخر من المال، و ليس إلا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين و انجرار المال إلى طبقة الموسرين، و يؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، و تحكمهم في أموال الناس و أعراضهم و نفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون و يتهوسون لما في الإنسان من قريحة التعالي و الاستخدام، و إلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع و الانتقام، و هذا هو الهرج و المرج و فساد النظام الذي فيه هلاك الإنسانية و فناء المدنية.

هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء و أهل العسرة، و أما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك و غيرها كالربا على القرض و الاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، و يوجب ازدياد رءوس أموال التجارة و اقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، و وقوع التطاول بينها و أكل بعضها، بعضا و انهضام بعضها في بعض، و فناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، و يجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، و عاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.



و لا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، و تقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، و تقدمهم البارز في مزايا الحياة، و حرمان آخرين و هم الأكثرون من أوجب واجباتهم، و قد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية و العدالة و الحرية و التساوي في حقوق الإنسانية، و كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، و يعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، و كانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف و استذلال الطبقة السافلة و التعالي عليهم، و التحكم المطلق بما شاءوا، و أنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، و رجع كيدهم و مكرهم إلى أنفسهم، و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، و كان عاقبة الذين أساءوا السوآى، و الله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها، و من مفاسد الربا المشئومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، و حبس الألوف و الملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع و الشرى، و جلوس قوم على أريكة البطالة و الإتراف، و حرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة و هو اتكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم، و لا يعيش به آخرون لحرمانهم.

بحث آخر علمي

قال الغزالي في كتاب الشكر من الإحياء:، من نعم الله تعالى خلق الدراهم و الدنانير و بهما قوام الدنيا، و هما حجران لا منفعة في أعيانهما و لكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه و ملبسه و سائر حاجاته، و قد يعجز عما يحتاج إليه و يملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران و هو محتاج إلى جمل يركبه و من يملك الجمل و ربما يستغني عنه و يحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، و لا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، و لا مناسبة بين الزعفران و الجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، و كذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدري أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته و منزلته حتى إذا تقررت المراتب، و ترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير و الدراهم حاكمين و متوسطين بين الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة دينار و هذا المقدار من الزعفران يسوي مائة، فهما من حيث إنهما متساويان لشيء واحد متساويان، و إنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما، و لو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا و لم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، و يكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.

و لحكمة أخرى و هي: التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما، و لا غرض في أعيانهما، و نسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشيء و هو في معناه كأنه كل الأشياء، و الشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها و تحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه و هو وسيلة إلى كل غرض، و كالحرف لا معنى له في نفسه و تظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية.

و فيهما أيضا حكم يطول ذكرها.

ثم قال ما محصله: إنهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.

و فرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم و إبطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن و منعه عن الحكم بين الناس و إلقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.

و فرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب و الفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال و هما مقصودان لغيرهما، و ذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة و المكس و الأعمال التي يقوم بها أخساء الناس.

و فرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم و الدنانير فإنه كفر بالنعمة و ظلم، فعنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض يتعلق بأعيانهما.

و قد اشتبه عليه الأمر في اعتبار أصلهما و الفروع التي فرعها على ذلك: أما أولا: فإنه ذكر أن لا غرض يتعلق بهما في أنفسهما، و لو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الأمتعة و الحوائج، و كيف يجوز أن يقدر شيء شيئا بما ليس فيه؟ و هل يمكن أن يقدر الذراع طول شيء إلا بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل شيء إلا بثقله الذي فيه؟.

على أن اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم إلا بكونهما مقصودين لأنفسهما، و كيف يتصور عزة و كرامة من غير مطلوبية.

على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار و الدرهم أعني الذهب و الفضة في الاعتبار، و الواقع يكذب ذلك، و لكان جميع أنواع النقود متساوية القيم، و لم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد و الملح و غيرهما.

و أما ثانيا: فلأن الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى: "و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله الآية:" التوبة - 34، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما

<<        الفهرس        >>