جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج2 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 مع قيام الحاجة إلى العمل و المبادلة دائما كما سيجيء بيان ذلك في تفسير الآية.

و أما ثالثا: فلأن ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب و الفضة و كونه ظلما و كفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما، و كذا في بيع الصرف، و لم يعدا في الشرع ظلما و كفرا و لا حراما.

و أما رابعا: فلأن ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم و الكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة و القرض، و لم يجر في الربا الذي في المكيل و الموزون مع أن الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعا و منعا.

و الذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض.

قال تعالى: "و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:" الروم - 39، فجعل الربا رابيا في أموال الناس و ذلك أنه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أن البذر من النبات ينمو بالتغذي من الأرض و ضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو و يزيد هو و ينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، و هذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم، و بذلك يظهر أن المراد بقوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس و لا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.

2 سورة البقرة - 282 - 283

يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مّسمّى فَاكتُبُوهُ وَ لْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كاتِب بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْب كاتِبٌ أَن يَكْتُب كمَا عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكتُب وَ لْيُمْلِلِ الّذِى عَلَيْهِ الْحَقّ وَ لْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَ لا يَبْخَس مِنْهُ شيْئاً فَإِن كانَ الّذِى عَلَيْهِ الْحَقّ سفِيهاً أَوْ ضعِيفاً أَوْ لا يَستَطِيعُ أَن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ وَ استَشهِدُوا شهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكمْ فَإِن لّمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتَانِ مِمّن تَرْضوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ أَن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَ لا يَأْب الشهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَ لا تَسئَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صغِيراً أَوْ كبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسط عِندَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشهَدَةِ وَ أَدْنى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَن تَكُونَ تِجَرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكمْ فَلَيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَ أَشهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَ لا يُضارّ كاتِبٌ وَ لا شهِيدٌ وَ إِن تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسوقُ بِكمْ وَ اتّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (282) * وَ إِن كُنتُمْ عَلى سفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهَنٌ مّقْبُوضةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الّذِى اؤْتُمِنَ أَمَنَتَهُ وَ لْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشهَدَةَ وَ مَن يَكتُمْهَا فَإِنّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

بيان

قوله تعالى: إذا تداينتم "إلخ"، التداين، مداينة بعضهم بعضا، و الإملال و الإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، و البخس هو النقص و الحيف و السأمة هي الملال، و المضارة مفاعلة من الضرر و يستعمل لما بين الاثنين و غيره.

و الفسوق هو الخروج عن الطاعة.

و الرهان، و قرىء فرهن بضمتين و كلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.

و الإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.

و الضمير البارز في قوله: أن يمل هو فليملل وليه، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين الأوليين هو المسئول بالأمر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك و ما لا يستطيعه هو فعلى وليه.

و قوله: أن تضل إحداهما، على تقدير حذر أن تضل إحداهما، و في قوله: إحداهما الأخرى وضع الظاهر موضع المضمر، و النكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين، و من الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى، فالمعنيان مختلفان.

و قوله و اتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر و النهي، و أما قوله: و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث: "يبين الله لكم أن تضلوا:" النساء - 176، فالمراد به الامتنان بتعليم شرائع الدين و مسائل الحلال و الحرام.

و ما قيل: إن قوله: و اتقوا الله و يعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم الإلهي، فيه أنه و إن كان حقا يدل عليه الكتاب و السنة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية و ارتباط ذيلها بصدرها.

و يؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فإنه لو لا كون قوله و يعلمكم الله، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق أن يقال: يعلمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: و اتقوا الله و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم، أظهر الاسم أولا و ثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين، و أظهر ثالثا ليدل به على التعليل، كأنه قيل: هو بكل شيء عليم لأنه الله.

و اعلم: أن الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين و الرهن و غيرهما، و الأخبار فيها و فيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه، و لذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه.

2 سورة البقرة - 284

لِّلّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ إِن تُبْدُوا مَا فى أَنفُسِكمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (284)

بيان

قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السماوات و الأرض، و هو توطئة لقوله بعده: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن له ما في السماوات و الأرض و من جملتها أنتم و أعمالكم و ما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.

و ربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لأعمال القلوب و صفات النفس فما في النفوس هو مما في السماوات، و لله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الأرض، و لله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدي أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.

قوله تعالى: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، و معنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف و اللغة من معناه، و لا مستقر في النفس إلا الملكات و الصفات من الفضائل و الرذائل كالإيمان و الكفر و الحب و البغض و العزم و غيرها فإنها هي التي تقبل الإظهار و الإخفاء.

أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس و يحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لو لا تلك الصفات و الملكات النفسانية من إرادة و كراهة و إيمان و كفر و حب و بغض و غير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشؤها.

و أما إخفاؤها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.

و بالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت و الاستقرار في النفس، و لا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا و قوله: أو تخفوه فإن الوصفين يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشأ للظهور أو غير منشإ له و هو الخفاء، و هذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، و أما الخطورات و الهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان و كذلك التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع و عزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، و لا منشأ لصدور الأفعال.

فتحصل: أن الآية إنما تدل على الأحوال و الملكات النفسانية التي هي مصادر الأفعال من الطاعات و المعاصي، و أن الله سبحانه و تعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم:" البقرة - 225، و قوله تعالى: "فإنه آثم قلبه": البقرة - 283، و قوله تعالى: "إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:" الإسراء - 36، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب و هي النفوس أحوالا و أوصافا يحاسب الإنسان بها، و كذا قوله تعالى: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا و الآخرة:" النور - 9، فإنها ظاهرة في أن العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي، هذا.

فهذا ظاهر الآية و يجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفى، و أما كون الجزاء في صورتي الإخفاء و الإظهار على حد سواء، و بعبارة أخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل و سواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

و قد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره و ليس إلا تكليفا بما لا يطاق، فمن ملتزم بذلك و من مؤول يريد به التخلص.

فمنهم من قال: إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، و هو تكليف بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية.

و فيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر.

على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب.

على أنه تعالى يخبر بقوله: "و ما جعل عليكم في الدين من حرج:" الحج - 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

و منهم من قال: إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و مرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها و هو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنها مخصوصة بالكفار.

و منهم من قال: إن المعنى أن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا و تعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

و منهم من قال: إن المراد بالآية مطلق الخواطر إلا أن المراد بالمحاسبة الأخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإن الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى: "فينبؤكم بما كنتم تعملون:" المائدة - 105، و يدفع هذا و ما قبله؟ بمخالفة ظاهر الآية كما تقدم.

قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله على كل شيء قدير، الترديد في التفريع بين المغفرة و العذاب لا يخلو من الإشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات و الأحوال النفسانية السيئة، و إن كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مئونة القرائن الخاصة.

و قوله: و الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

بحث روائي

في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لله ما في السموات و ما في الأرض - و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة و الصيام و الجهاد و الصدقة و قد أنزل الله هذه الآية و لا نطيقها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخرها: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و أبي داود في ناسخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، و روي قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس.



و روى النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود و عائشة.

و روي عن الربيع بن أنس: أن الآية محكمة غير منسوخة و إنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

و روي عن ابن عباس بطرق: أن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و أدائها. فهي محكمة غير منسوخة.

و روي عن عائشة أيضا: أن المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم و الحزن إذا هم بالمعصية و لم يفعلها، فالآية أيضا محكمة غير منسوخة.

و روي من طريق علي عن ابن عباس: في قوله: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك و علانيتك يحاسبكم به الله فإنها لم تنسخ، و لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم و يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم و هو قوله: يحاسبكم به الله يقول يخبركم. و أما أهل الشك و الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، و هو قوله: و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.

أقول: و الروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدم أن ظاهر الآية هو: أن المحاسبة إنما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها و إما من طريق الجوارح، و ليس في الخطور النفساني كسب، و لا يتفاوت في ذلك الشهادة و غيرها و لا فرق في ذلك بين المؤمن و الكافر، و ظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات و الهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية و تؤيده سائر الآيات على ما تقدم.

و أما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية: أولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.

ثانيها: اشتماله على جواز تكليف ما لا يطاق و هو مما لا يرتاب العقل في بطلانه.

و لا سيما منه تعالى، و لا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترأها القوم "إلخ" أن النسخ إنما وقع قبل العمل و هو محذور.

ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أن قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لا يصلح لأن يكون ناسخا لشيء، و إنما يدل على أن كل نفس إنما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فإنما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن إلا نفسها فالجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل.

رابعها: أنه سيجيء أيضا: أن وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانية أصلا، و مواجهة الناسخ للمنسوخ مما لا بد منه في باب النسخ.

بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض إلى آخر الآية على ما سيأتي إن شاء الله.

2 سورة البقرة - 285 - 286

ءَامَنَ الرّسولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كلّ ءَامَنَ بِاللّهِ وَ مَلَئكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسلِهِ لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّن رّسلِهِ وَ قَالُوا سمِعْنَا وَ أَطعْنَا غُفْرَانَك رَبّنَا وَ إِلَيْك الْمَصِيرُ (285) لا يُكلِّف اللّهُ نَفْساً إِلا وُسعَهَا لَهَا مَا كَسبَت وَ عَلَيهَا مَا اكْتَسبَت رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَا أَوْ أَخْطأْنَا رَبّنَا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَ لا تُحَمِّلْنَا مَا لا طاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اعْف عَنّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا أَنت مَوْلَانَا فَانصرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكفِرِينَ (286)

بيان

الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبينة لغرضها، و قد مر في ما مر أن غرض السورة بيان أن من حق عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، و هذا هو الذي تشتمل عليه الآية الأولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، و في السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب و النبوة و الملك و غيرها و ما قابلوه من العصيان و التمرد و نقض المواثق و الكفر، و هذا هو الذي يشير إليه و إلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الأولى و تمام الآية الثانية، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله و ختمه إلى بدئه.

و من هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب أن يتصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر أن المتقين من عباده يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و ينفقون من رزق الله و يؤمنون بما أنزل الله على رسوله و على الرسل من قبله و يوقنون بالآخرة، فلا جرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، و بين بالمقابلة حال الكفار و المنافقين.

ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب و خاصة اليهود و ذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية، و أكرمهم بأنواع النعم، و عظائم الحباء، فلم يقابلوه إلا بالعتو و عصيان الأمر و كفر النعمة، و الرد على الله و على رسله، و معاداة ملائكته، و التفريق بين رسل الله و كتبه.

فقابلهم الله بحمل الإصر الشاق من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم و تحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ و نزول الصاعقة و الرجز من السماء عليهم.

ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول و من تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية و الإرشاد إلا بأنعم القبول و السمع و الطاعة، مؤمنين بالله و ملائكته و كتبه و رسله، غير مفرقين بين أحد من رسله، و هم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية و عزة الربوبية، فإنهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الإجابة.

لأن وجودهم مبني على الضعف و الجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطإ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط و المؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجئوا إلى جناب العزة و منبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا، و لا يحمل عليهم إصرا، و لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، و أن يعفو عنهم و يغفر لهم و ينصرهم على القوم الكافرين.

فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، و هو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: أن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية الدال على التكليف بما لا يطاق، و أن الآية الأولى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، و الآية الثانية ناسخة لذلك!.

و ما ذكرناه هو المناسب لما ذكروا في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فإن هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و استقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الأنصار للدين الإلهي و قيامهم لنصرة رسول الله بالأموال و الأنفس، و ترك المؤمنين من المهاجرين الأهلين و البنين و الأموال و الأوطان في جنب الله و لحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيه بالسمع و القبول، و شكر منه لهم، هذا، و يدل عليه بعض الدلالة آخر الآية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فإن الجملة يومىء إلى أن سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.

و في الآية من الإجمال و التفصيل، و الإيجاز ثم الإطناب، و أدب العبودية و جمع مجامع الكمال و السعادة عجائب.

قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون، تصديق لإيمان الرسول و المؤمنين، و إنما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له، و هذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده و تقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: "فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:" الفتح - 26، و قوله تعالى: "يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا:" التحريم - 8.

قوله تعالى: كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله، تفصيل للإجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة، فإن ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان و تصديق الكتب و الرسل و الملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به.

قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، و قد مر في قوله تعالى: "و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم:" البقرة - 127، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية، و أنه من أجمل السياقات القرآنية، و النكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم و قالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، و إن كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده و في نفسه، و أما تكلمهم به لسانا واحدا فليس إلا بلسان الحال.

و من عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا "إلخ"، حيث حكى البعض من غير توسيط القول و البعض الآخر بتوسيطه، و هما جميعا من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.

و الوجه في هذه التفرقة أن قولهم: لا نفرق "إلخ" مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا و أطعنا.

و قد بدأ تعالى بالإخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الأفراد فقال: كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال: لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين، لأن الذي جرى من هذه الأمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى و بين عيسى و محمد، و النصارى فرقت بين موسى و عيسى، و بين محمد فانشعبوا شعبا و تحزبوا أحزابا و قد كان الله تعالى خلقهم أمة واحدة على الفطرة، و كذلك المؤاخذة و الحمل و التحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، و كذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.

قوله تعالى: و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير، قولهم سمعنا و أطعنا، إنشاء و ليس بإخبار و هو كناية عن الإجابة إيمانا بالقلب و عملا بالجوارح، فإن السمع يكنى به لغة عن القبول و الإذعان.

و الإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع و الإطاعة يتم به أمر الإيمان.

و قولهم سمعنا و أطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها.



و هذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، و هو العبادة كما قال تعالى: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون:" الذاريات - 57، و قال تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني:" يس - 61.

و قد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه و هو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء و الرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبودية كما ذكره أول ما شرع الشريعة لآدم و ولده فقال: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون:" البقرة - 38، و ليس إلا المغفرة.

و القوم لما قالوا: سمعنا و أطعنا و هو الإجابة بالسمع و الطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم و هو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا و أطعنا: غفرانك ربنا و إليك المصير، و المغفرة و الغفران: الستر، و يرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب و هو ستر على نواقص مرحلة العبودية، و يظهر عند مصير العبد إلى ربه، و لذلك عقبوا قولهم: غفرانك ربنا بقولهم: و إليك المصير.

قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت، الوسع هو الجدة و الطاقة، و الأصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الإنسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الأفعال الاختيارية، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنه تسعه قدرته، و ما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل: وسع الإنسان أي طاقته و ظرفية قدرته.

و قد عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: أن يسمع و يطيع، و من البين أن الإنسان إنما يقول: "سمعا" فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، و أما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع و القبول.

و من البين أيضا أن الإنسان إنما يقول: "طاعة" فيما يقبل مطاوعة الجوارح و أدوات العمل، فإن الإطاعة هي مطاوعة الإنسان و تأثر قواه و أعضائه عن تأثير الأمر المؤثر مثلا، و أما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مرة ثانية فلا يقبل إطاعة و لا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فأجابه داعي الحق بالسمع و الطاعة لا تتحقق إلا في ما هو اختياري للإنسان تتعلق به قدرته، و هو الذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الإنسان إنما وجده و تلبس به من طريق الوسع و الطاقة.

فظهر مما ذكرنا أن قوله: لا يكلف الله، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم و الإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، و هي أيضا السنة الجارية عند العقلاء و ذوي الشعور من خلقه، و هو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول و المؤمنين: سمعنا و أطعنا من غير زيادة و لا نقيصة.

و الجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا، متعلقة المضمون بما تقدمها و ما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.

أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع و الطاعة و هو ما في وسعهم أن يأتوا به.

و أما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سأله النبي و المؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطإ و النسيان، و عدم حمل الإصر عليهم، و عدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، كل ذلك و إن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرد و المعصية، و أما المؤاخذة على الخطإ و النسيان فإنهما و إن كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما.

فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بإيجاب التحفظ عنهما، و خاصة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، و مثله الكلام في حمل الإصر فإنه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزاء لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه و يحترج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل، لأنها مما اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا و أطعنا و هو قول ينبىء عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف و الفتور، و التفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم و قد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم و سألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة و الحمل و التحميل لأنهم علموا بما علمهم الله أن لا حول و لا قوة إلا بالله، و أن لا عاصم من الله إلا رحمته.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان معصوما من الخطإ و النسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله و يصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، و يدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، الإصر هو الثقل على ما قيل، و قيل هو حبس الشيء بقهره، و هو قريب من المعنى الأول فإن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه و يثقل عليه.

و المراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب و خاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، و على ما يشير إليه قوله تعالى: "و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم:" الأعراف - 157.

قوله تعالى: ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت أن العقل لا يجوزه أبدا، و أن كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: و قالوا سمعنا و أطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ و نحوه.

قوله تعالى: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا، العفو محو أثر الشيء، و المغفرة ستره، و الرحمة معروفة، و أما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، و بعبارة أخرى من الأخص فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب و إمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، و المغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب و الستر عليه، و الرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب و هيئته.

و عطف هذه الثلاثة أعني قوله: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا على قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق و النظم يشعر: بأن المراد من العفو و المغفرة و الرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطإ و النسيان و نحوها.

و منه يظهر أن المراد بهذه المغفرة المسئولة هاهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدم، و هذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطإ، فسؤال المغفرة غير مكرر.

و قد كرر لفظ الرب في هذه الأدعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالإيماء و التلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية و المذلة.

قوله تعالى: أنت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين، استيناف و دعاء مستقل، و المولى هو الناصر لكن لا كل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولي الأمر، و لما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى: "و الله ولي المؤمنين:" آل عمران - 68، و قال تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:" محمد - 11.

و هذا الدعاء منهم يدل على أنهم ما كان لهم بعد السمع و الطاعة لأصل الدين هم إلا في إقامته و نشره و الجهاد لإعلان كلمة الحق، و تحصيل اتفاق كلمة الأمم عليه، قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين:" يوسف - 108، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين و هو الذي يتعقب الجهاد و القتال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سائر أقسام الدعوة و الإنذار، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، و يشير إلى ما به من الأهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه:" الشورى - 13، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع و الطاعة، و الله أعلم.

و الحمد لله

<<        الفهرس        >>