جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و الحديث مع كونه مرفوعا و معارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له و ادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.

و الذي ينبغي أن يقال: أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، و أما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق: أن الآية بقرينة صدرها و ذيلها و ما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم و المتشابه، و تفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه و ثابت على اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم و طريقتهم في الأخذ بالقرآن و مدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين و طريقتهم و ذمهم، و الزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول و لا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة، إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: و ما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف و استثناء و غير ذلك.

فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى و اختصاصه به.

لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب قال تعالى قل لا يعلم من في السموات و الأرض الغيب إلا الله": النمل - 65، و قال تعالى: "إنما الغيب لله: يونس - 20، و قال تعالى: و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو": الأنعام - 59، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول: الجن - 27، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره و هو من ارتضى من رسول، و لذلك نظائر في القرآن.

و أما الجهة الأولى - و هي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه: أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل، فهو و إن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية و الحفظ، نظير قولك: "في الصيف ضيعت اللبن" لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل و هو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد، و هو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.

كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية و إن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر و النهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها و يظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية و الإشارة كما أن قول السيد لخادمه، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود و البقاء، و هو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن، و هو يقتضي الغذاء اللازم، و هو يقتضي الري، و هو يقتضي الأمر بالسقي مثلا، فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده و بقائه، و لو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر و كذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب و الرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن و القبح الذي عندهم و هو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية و مكانية و سوابق عادات و رسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه و تكرر المشاهدة ممن شاهده من أهل منطقته، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك، و لو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتي به من الفعل أو الترك.

فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة، و لذلك ترى أنه تعالى في قوله: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاء للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له و ليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم و تبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم و هو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه و اتبعوه.

فقد تبين: أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها و شرائعها و سائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.

و إذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى: و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف - 4، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى و أحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع و التفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا و ألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله و معرفته ما دام في أم الكتاب، و أم الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب": الرعد - 39، و بقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ": البروج - 22.

و يدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير": هود - 1، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه و لا فصل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و آية آية و تنزيله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و يدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى: "و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا": إسراء - 106، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق و نزل تنزيلا و أوحي نجوما.

و ليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على حال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق و أنزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقرىء منا قطعات ثم يعلمه و يقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.

و ذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي و بين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا و هو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا شيء من ذلك و لا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع و ينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد، و لا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى: "فاعف عنهم و اصفح": المائدة - 13، و قوله تعالى: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار": التوبة - 123، و قوله تعالى: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها": المجادلة - 1، و قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة": التوبة - 103، و نحو ذلك فيلغى سبب النزول و زمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمراد بالقرآن في قوله: و قرآنا فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.

و بالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرؤه و نعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثل من المثال - و هو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم - و هو الذي تعتمد و تتكي عليه معارف القرآن المنزل و مضامينه، و ليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة و لا المعاني المدلول عليها بها، و هذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه و نعوته عليه.

و بذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، و يظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية و النفوس غير المطهرة.

ثم إنه تعالى قال: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة - 79، و لا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون و المحفوظ من التغير، و من التغير تصرف الأذهان بالورود عليه و الصدور منه و ليس هذا المس إلا نيل الفهم و العلم، و من المعلوم أيضا: أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و هو المذكور في قوله: و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم.



و هؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم، و ليس ينزلها إلا الله سبحانه، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا": الأحزاب - 33، و قوله تعالى: "و لكن يريد ليطهركم": المائدة - 6، و ما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه، و ليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب، و ليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به و يريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها و إرادتها و زوال الرجس عن هاتين الجهتين، و يرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك و نوسان بين الحق و الباطل، و ثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى اتباع الهوى و نقض ميثاق العلم و هذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم، هذا.

و لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل، و لازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله و هو تعالى سبب غير مغلوب، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم، بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية، و قد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم و مدحهم بذلك، و شكرهم على الإيمان و العمل الصالح في قوله: "لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك" الآية: النساء - 162، و لم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.

و كذلك إن الآية أعني قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة، و أما أنهم يعلمون كل التأويل و لا يجهلون شيئا منه و لا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، و لو ثبت لثبت بدليل منفصل.

5 - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه؟

و من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات و هو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه، و أنه قول فصل يميز بين الحق و الباطل، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، و ليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته، أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، و أقطع لمادة الخلاف و الزيغ؟.

و أجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق و مشقة البحث و ذلك موجب لمزيد الأجر و الثواب! و كالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه و كان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، و في ذلك خروج عن ظلمة التقليد و دخول في ضوء النظر و الاجتهاد! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، و في ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة و الصرف و النحو و أصول الفقه!.

فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر و الذي يستحق الإيراد و البحث من الأجوبة وجوه ثلاثة: الأول: أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى و التسليم لرسله.

و فيه: أن الخضوع هو نوع انفعال و تأثر من الضعيف في مقابل القوي، و الإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته و بهورة الإدراك كقدرة الله غير المتناهية و عظمته غير المتناهية و سائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها، و أما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر و يغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها و هو لا يعقل.

الثاني: أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث و التنقير، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

و فيه: أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل و الفكر في الآيات الآفاقية و الأنفسية إجمالا في موارد من كلامه، و تفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات و الأرض و الجبال و الشجر و الدواب و الإنسان و اختلاف ألسنته و ألوانه، و ندب إلى التعقل و التفكر و السير في الأرض و النظر في أحوال الماضين، و حرض على العقل و الفكر، و مدح العلم بأبلغ المدح و في ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للأقدام و مصارع للأفهام.

الثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس و فيهم العامة و الخاصة، و الذكي و البليد و العالم و الجاهل، و كان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته و تشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة و لو بطريق الكناية و التعريض و يؤمر العامة فيها بالتسليم و تفويض الأمر إلى الله تعالى.

و فيه: أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها، و لازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات، و عند ذلك يبقى السؤال و هو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب و لا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ على حاله، و منشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة و الخاصة و هي مداليل المحكمات، و معان سنخها بحيث لا يتلقاها إلا الخاصة من المعارف العالية و الحكم الدقيقة، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات، و قد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا و غير ذلك.

و الذي ينبغي أن يقال: أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر.

و يتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني و التعليم الإلهي و الأمور التي بنيت عليها معارفه و الغرض الأقصى من ذلك و هي أمور: منها: أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية و الأحكام و القوانين و سائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، و أن هذا التأويل الذي تستقبله و تتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام و تسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله و أزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوه.

و هذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء، و مفتاحه التطهير الإلهي، و قد قال تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج و لكن يريد ليطهركم": المائدة - 7، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.

و هذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة، و إن كانت الدعوة متعلقه بالجميع متوجهة إلى الكل، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة و بعض التطهير في آخرين، و يختلف ذلك باختلاف درجات الناس، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.



قال تعالى: "اتقوا الله حق تقاته": آل عمران - 102، و لكن لا يحصل كماله إلا في أفراد و فيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم و أفهامهم، و هكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية و الدعوة، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم و الصنعة و الثروة و الراحة و غيرها لكن لا ينالها إلا البعض، و من دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.

و بالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.

و منها: أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم و العمل: أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدإ و المعاد و ما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبطه به من الواقعيات معرفة حقيقية و أما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية، و لا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم و العرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها و المزاولة عليها توجه نفسه، و خلوص قلبه إلى المبدإ و المعاد، و إشرافه على عالم المعنى و الطهارة، و التجنب عن قذارة الماديات و ثقلها.

و أنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه": الفاطر - 10، و ضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى: و لكن يريد ليطهركم الآية، و إلى قوله تعالى: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم": المائدة - 105، و قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات": المجادلة - 11، و ما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين و هداية الإنسان إليه، و السبيل الذي سلكه لذلك فافهم.

و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة: هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها، و التكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله و بآياته، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية و فساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.

و هذه النتيجة - على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا: فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة و أمعنت النظر فيه: من أين شرع و في أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف.

و قد ذكرناك فيما مر: أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات و ابتغاء تأويلها، و لم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.

و منها: أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس و ركوز العلم بينهم ما استطيع، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة، و كيف لا؟ و لا يوجد بين كتب الوحي كتاب، و لا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم و يحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن و الإسلام.

و هذا المعنى هو الموجب لأن يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا، و ارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا، و بعبارة أخرى أن يفهمه أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده و وسط في خلقه و بقائه ملائكته و سائر خلقه من سماء و أرض و نبات و حيوان و مكان و زمان و ما عداها، و أنه سائر إلى معاده و ميعاده سيرا اضطراريا، و كادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله، أيما إلى جنة، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.

ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي، و ما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟ أي يبين له الأحكام العبادية و القوانين الاجتماعية، و هذه طائفة أخرى.

ثم يبين له: أن هذه الأحكام و القوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه: أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى، و أن تشريعها و جعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هذه طائفة ثالثة.

و ظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة، و الطائفة الأولى بمنزلة النتيجة، و الطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى، و دلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة و لا حاجة إلى إيرادها.

و منها: أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس و لا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة و الطبيعة، و كان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني و كليات القواعد و القوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني و الكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس و المحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، و هذا أمر لا ينكره أحد.

و لا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته و عيشته، فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء، و إن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال، و على قدر ما نال و هذا ينال المعاني من البيان الحسي و العقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.

ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف و تشمل عامة الطبقات و هو ظاهر.

و هذا المعنى أعني اختلاف الأفهام و عموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال، و هو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان و يعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل و لا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا.

و الآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف - 4، و ما يشابهه من الآيات و إن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة و الكناية، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق و الباطل فقال تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال": الرعد - 17، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه و يصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة و لا نافعة يعلوهما و يربوهما لكنها ستزول و تبطل، و يبقى الحق الذي ينفع الناس، و إنما يزول و يزهق بحق آخر هو مثله، و هذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا، و يصاحبه و يعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه، ليحق الحق بكلماته و يبطل الباطل و لو كره المجرمون، و الكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.

و بالجملة: المتحصل من الآية الشريفة: أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب، من غير تقييد بكمية و لا كيفية، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة و الضيق، و هذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف و الأحكام التشريعية، و مصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة.

و هذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي.

و هي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال و ذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه و يضع مكانه حكما آخر.

هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.



و أما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ و الدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها، و هذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات و المألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها، و جل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية، و مصالح الأحكام و ملاكاتها كما مر، و أما الأحكام و القوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة، و من هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات و المعارف، دون متن الأحكام و القوانين الدينية.

و منها: أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات و لا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات، و لما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام و الجسمانيات أحد محذورين: فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس و المحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة، و فيه بطلان الحقائق و فوت المرادات و المقاصد و إن لم تجمد و انتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة و النقيصة.

نظير ذلك أنا لو ألقي إلينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السرى، أو تمثل لنا بقول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.

و قد حيل بين العير و النزوان.

فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح و القوم و السرى، و نفهم من ذلك أن المراد: أن حسن تأثير عمل و تحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه و بدا أثره، و أما هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره، و يظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر، و أما إذا لم نعهد الممثل و جمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل و عاد المثل خبرا من الأخبار، و لو لم نجمد و انتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد و ما يجب حفظه للفهم و هو ظاهر.

و لا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة، و تقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا، و يوضح بعضها أمر بعض، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا: أن البيانات أمثال و لها في ما وراءها حقائق ممثلة، و ليست مقاصدها و مراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس و المحسوس و ثانيا: بعد العلم بأنها أمثال: يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام، و ما يجب حفظه منها للحصول على المرام، و إنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك.

و ذاك نفي بعض ما في هذا.

و إيضاح المقاصد المبهمة و المطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة و الأمثال و الأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة و اللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لغة دون لغة، و ليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.

فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة، و أن يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى، و اندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية و البيان.

و قد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور: الأول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم و متشابه، و ذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه و عدم اشتمالها.

الثاني: أن لجميع القرآن محكمه و متشابهه تأويلا.

و أن التأويل ليس من قبيل المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف و المقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال، و أن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.

الثالث: أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون و هم راسخون في العلم.

الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها و مقاصدها، و هذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا و قد أوضحناه فيما مر.

الخامس: أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.

السادس: أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.

السابع: أن الإحكام و التشابه وصفان يقبلان الإضافة و الاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة، متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أخرى.

و لا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، و لا مانع من وجود محكم على الإطلاق.

الثامن: أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.

التاسع: أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى، مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو مثل عموم المجاز، و لا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.

و لتوضيح ذلك نقول: قال الله تبارك و تعالى: "اتقوا الله حق تقاته": آل عمران - 102، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه و الايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى، و يعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب و درجات بعضها فوق بعض.

و قال أيضا: "أ فمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله و مأويه جهنم و بئس المصير هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون": آل عمران - 163، فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات و مراتب، و الدليل على أن المراد بها درجات العمل قوله: و الله بصير بما يعملون، و نظير الآية قوله تعالى: "و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون": الأحقاف - 19، و قوله تعالى: "و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون": الأنعام - 132، و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و فيها ما يدل على أن درجات الجنة و دركات النار بحسب مراتب الأعمال و درجاتها.



و من المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه، و قد استدل تعالى على كفر اليهود و على فساد ضمير المشركين و على نفاق المنافقين من المسلمين و على إيمان عدة من الأنبياء و المؤمنين بأعمالهم و أفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها، فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم و يدل عليه.

و بالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم و يحصله و يركزه في النفس كما قال تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين": العنكبوت - 69، و قال تعالى: "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين": الحجر - 99، و قال أيضا: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون": الروم - 10، و قال: "فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون": البراءة - 77، و الآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف و الجهالات و هي العلوم المخالفة للحق ما يناسبه.

و قال تعالى - و هو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح و العلم النافع -: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه": الفاطر - 10، فبين أن شأن الكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى و يقرب صاحبه منه، و شأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم و الاعتقاد.

و من المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك و الريب و كمال توجه النفس إليه و عدم تقسيم القلب فيه و في غيره و هو مطلق الشرك فكلما كمل خلوصه من الشك و الخطوات اشتد صعوده و ارتفاعه.

و لفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود و وصف العمل بالرفع، و الصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع، و هما أعني الصعود و الارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو و اقترابه منه، و مرتفع من جهة انفصاله من السفل و ابتعاده منه، فالعمل يبعد الإنسان و يفصله من الدنيا و الإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة و التشتت و التفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية و كلما زاد الرفع و الارتفاع زاد صعود الكلم الطيب، و خلصت المعرفة عن شوائب الأوهام و قذارات الشكوك، و من المعلوم أيضا كما مر: أن العمل الصالح ذو مراتب و درجات، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب و توليد العلوم و المعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.

و الكلام في العمل الطالح و وضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح و رفعه و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم": الحمد - 6.

فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم و بعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل و العلم، و لازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب و الدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة و الدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها، فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة.

و قد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده و خص كل صنف بنوع من العلم و المعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين و خص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم، قال تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": الصافات - 160، و خص بهم أشياء أخر من المعرفة و العلم سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى، و كالموقنين و خص بهم مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قال تعالى: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام - 75، و كالمنيبين و خص بهم التذكر، قال تعالى: "و ما يتذكر إلا من ينيب": المؤمن - 13، و كالعالمين و خص بهم عقل أمثال القرآن، قال تعالى: "و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون": العنكبوت - 43، و كأنهم أولوا الألباب و المتدبرون لقوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها": محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - 24، و لقوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا": النساء - 82، فإن مؤدى الآيات الثلاث يرجع إلى معنى واحد و هو العلم بمتشابه القرآن و رده إلى محكمه، و كالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة - 79، و كالأولياء و هم أهل الوله و المحبة لله و خص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه و لذلك لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشيء، قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون": يونس - 62، و كالمقربين و المجتبين و الصديقين و الصالحين و المؤمنين و لكل منهم خواص من العلم و الإدراك يختصون بها، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.

و نظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها، و لها خواص رديئة في باب العلم و المعرفة، و لها أصحاب كالكافرين و المنافقين و الفاسقين و الظالمين و غيرهم، و لهم أنصباء من سوء الفهم و رداءة الإدراك لآيات الله و معارفه الحقة، طوينا ذكرها إيثارا للاختصار، و سنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء الله.

العاشر: أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق و بيان حالها فالآية منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها، و هذا المعنى هو المسمى بجري القرآن، و قد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.

بحث روائي

في تفسير العياشي،: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم و المتشابه قال: المحكم ما يعمل به و المتشابه ما اشتبه على جاهله.

أقول: و فيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به.

و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): أن القرآن محكم و متشابه: فأما المحكم فتؤمن به و تعمل به و تدين، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول الله عز و جل: و أما الذين في قلوبهم زيغ - فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة - و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله - و الراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا. و الراسخون في العلم هم آل محمد.

أقول: و سيجيء كلام في معنى قوله (عليه السلام): و الراسخون في العلم هم آل محمد.

و فيه، أيضا عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله.

قال: و في رواية: الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما يشبه بعضه بعضا.

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: فالمنسوخات من المتشابهات و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتبعوا متشابهها فتضلوا.

أقول: الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه، و هي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن التشابه يقبل الارتفاع، و أنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له.

و أما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم و وجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم و بقائه، و يفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع.

و أما ما ذكره (عليه السلام) في خبر العيون: أن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فقد وردت في هذا المعنى عنهم (عليهم السلام) روايات مستفيضة، و الاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف، و لا تبين إلا ما تعرض له و قد عرفت فيما مر: أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ و هو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود و على غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة و الإجمال، و لا من أوصاف أعم من اللفظ و المعنى.



و بعبارة أخرى: إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية، و هذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه و محكم كما في القرآن، و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم و في تفسير العياشي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): أن رجلا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا و معرفة؟ فغضب و خطب الناس فقال فيما قال عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته و تقدمك فيه الرسول من معرفته، و استضىء من نور هدايته فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، و لا في سنة الرسول و أئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله، و لا تقدر عظمة الله و اعلم يا عبد الله: أن الراسخين في العلم الذين اختارهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كل من عند ربنا، و قد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك و لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.

أقول: قوله (عليه السلام): و اعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم الخ ظاهر في أنه (عليه السلام) أخذ الواو في قوله تعالى: و الراسخون في العلم يقولون، للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية و مقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به، فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه و هو ظاهر بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت كما سيأتي.

و قوله (عليه السلام): الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب، خبر أن، و الكلام ظاهر في تحضيض المخاطب و ترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم، و هذا دليل على تفسيره (عليه السلام) الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه و لم يتعد إلى ما جهله.

و المراد بالغيوب المحجوبة بالسدد: المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الأفهام العامة و لذا أردفه بقوله ثانيا: فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره، و لم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله.

أقول: و الرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى و الراسخون في العلم، معطوفا على المستثنى في قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان و ما تقدم من الرواية، و لا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في الصدر الأول بين الناس.

و أما قوله (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم، و قد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق (عليه السلام) قوله: و الراسخون في العلم هم آل محمد، و هذه الجملة مروية في روايات أخر أيضا فجميع ذلك من باب الجري و الانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم و يأتي من الروايات.

و في الكافي، أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أن قال: يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين: أنهم قالوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا - و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سره لعلانيته موافقا، لأن الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه.

أقول: قوله (عليه السلام): لم يخف الله من لم يعقل عن الله، في معنى قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، و قوله (عليه السلام): و من لم يعقل عن الله "الخ" أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه، و لم يزل القلب مضطربا في الإذعان به و إذا تم التعقل و عقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه و كان ما يقوله هو الذي يفعله، و قوله: و لا يكون أحد كذلك الخ بيان لعلامة الرسوخ في العلم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أنس و أبي أمامة و وائلة بن أسقف و أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الراسخين في العلم فقال: من برت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عف بطنه و فرجه فذلك من الراسخين في العلم.

أقول: و يمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.

أقول: و هو منطبق على الآية، فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله: الذين في قلوبهم زيغ، فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم و ارتيابه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة: أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول الله و إن القلوب لتتقلب؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه، الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر و نواس بن شمعان و عبد الله بن عمر و أبي هريرة، و المشهور في هذا الباب ما في حديث نواس: قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن.

و قد روى اللفظة فيما أظن الشريف الرضي في المجازات النبوية.

و روي عن علي (عليه السلام): أنه قيل له. هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه.

أقول: و هو من غرر الأحاديث، و أقل ما يدل عليه: أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.

و الكافي، عن الصادق عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كل جديد، و يقربان كل بعيد، و يأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، و ماحل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكر حيوة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلص، و قلة التربص.

أقول: و رواه العياشي في تفسيره إلى قوله: فليجل جال.

و في الكافي، و تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة، و ضياء من الأحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.

أقول: و الروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).



و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا و له حد و لكل حد مطلع، ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شيء وقع، قال الله: و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم، نحن نعلمه.

أقول: الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ مختلفة و إن كان المعنى واحدا كما في تفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطلعا.

و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: أن للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن.

و قوله (عليه السلام) منه ما مضى و منه ما يأتي، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل و التأويل فقوله: يجري كما يجري الشمس و القمر يجري فيهما معا، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين": التوبة - 120، على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية، و هذا نوع من الانطباق، و كانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، و انطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين، و هذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول، و كانطباقها و انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة و الذكر و الحضور في تقصيرهم و مساهلتهم في ذكر الله تعالى، و هذا نوع آخر أدق من ما تقدمه، و كانطباقها عليهم في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية، و هذا نوع آخر أدق من الجميع.

و من هنا يظهر أولا: أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله و مقاماتهم، و قد صور الباحثون عن مقامات الإيمان و الولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه.

و ثانيا: أن الظهر و البطن أمران نسبيان، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره و بالعكس كما يظهر من الرواية التالية.

و في تفسير العياشي، عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء و هو كلام متصل ينصرف على وجوه.

و فيه، أيضا عنه (عليه السلام) في حديث قال: و لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، و لكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات و الأرض و لكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.

و في المعاني، عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن و بطنه فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك و في تفسير الصافي، عن علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان: ظاهر و باطن و حد و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحد هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد الله من العبد بها.

أقول: المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه (عليه السلام) عده من المعاني، فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى، و المراد بقوله: هو أحكام الحلال و الحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا، و الحد و المطلع نسبيان كما أن الظاهر و الباطن نسبيان كما عرفت فيما تقدم، فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.

و المطلع إما بضم الميم و تشديد الطاء و فتح اللام اسم مكان من الاطلاع، أو بفتح الميم و اللام و سكون الطاء اسم مكان من الطلوع، و هو مراد الله من العبد بها كما ذكره (عليه السلام).

و قد ورد هذه الأمور الأربعة في النبوي المعروف هكذا: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر و بطن و لكن حد مطلع.

و في رواية: و لكل حد و مطلع.

و معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و لكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين: أن لكل واحد من الظهر و البطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه، هذا هو الظاهر، و يمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الأخرى: و لكل حد و مطلع بأن يكون المعنى: و لكل منهما حد هو نفسه و مطلع و هو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل، لكن هذا لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان "الخ" إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى و إن كان ربما انطبق بعضها على بعض.

و على هذا فالمتحصل من معاني الأمور الأربعة: أن الظهر هو المعنى الظاهر البادىء من الآية، و الباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا، قريبا منه أو بعيدا بينهما واسطة، و الحد هو نفس المعنى سواء كان ظهرا أو بطنا و المطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد و هو بطنه متصلا به فافهم.

و في الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل القرآن على سبعة أحرف.

أقول: و الحديث و إن كان مرويا باختلاف ما في لفظه، لكن معناها مروي مستفيضا و الروايات متقاربة معنى، روتها العامة و الخاصة.

و قد اختلف في معنى الحديث اختلافا شديدا ربما أنهي إلى أربعين قولا، و الذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيرا لهذه السبعة الأحرف، و عليه التعويل.

ففي بعض الأخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل، و في بعضها: زجر و أمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال.

و عن علي (عليه السلام): أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام، كل منها كاف شاف، و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص.

فالمتعين حمل السبعة الأحرف على أقسام الخطاب و أنواع البيان و هي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله و إلى صراطه المستقيم، و يمكن أن يستفاد من هذه الرواية حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى.

بحث آخر روائي

في الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أقول: و هذا المعنى رواه الفريقان، و في معناه أحاديث أخر رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

75 - و في منية المريد، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.



أقول: و رواه أبو داود في سننه.

75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار.

75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.

أقول: و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي.

75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه.

75 - و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر و إن أخطأ فهو أبعد من السماء.

75 - و فيه، عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا (عليه السلام) قال: الرأي في كتاب الله كفر.

أقول: و في معناها روايات أخر مروية في العيون و الخصال و تفسير العياشي و غيرها.

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): من فسر القرآن برأيه، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد و ربما أطلق على القول عن الهوى و الاستحسان و كيف كان لما ورد قوله: برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمرا بالإتباع و الاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم على ما يراه أهل الحديث، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربيا مبينا، و الآمرة بالتدبر فيه، و كذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن و عرض الأخبار عليه.

بل الإضافة في قوله: برأيه تفيد معنى الاختصاص و الانفراد و الاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي و نحكم بذلك: أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير و الشهادات و غيرهما، كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة و نعهده من مصاديق الكلمات حقيقة و مجازا.

و البيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض كما قاله علي (عليه السلام) فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها و يجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا": النساء - 82، و قد مر بيانه في الكلام على الإيجاز و غيره.

فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف و بعبارة أخرى إنما نهى (عليه السلام) عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره و إن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع، و الدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية الأخرى: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ فإن الحكم بالخطإ مع فرض الإصابة ليس إلا لكون الخطإ في الطريق و كذا قوله (عليه السلام) في حديث العياشي: إن أصاب لم يؤجر.

و يؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن القرآن لم يكن مؤلفا بعد و لم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.

و المحصل: أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن و اعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، و لازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، و هذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة، و كونه هي السنة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه و عرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه و الاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.

و من هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال: أحدها: أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، و هي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الإتقان: اللغة، و النحو، و التصريف، و الاشتقاق، و المعاني، و البيان، و البديع، و القراءة، و أصول الدين، و أصول الفقه، و أسباب النزول و كذا القصص، و الناسخ و المنسوخ، و الفقه، و الأحاديث المبينة لتفسير المجملات و المبهمات، و علم الموهبة، و يعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.

الثاني: أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تبعا فيرد إليه بأي طريق أمكن و إن كان ضعيفا.

الرابع: التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.

الخامس: التفسير بالاستحسان و الهوى: و هذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان، و هنا وجوه أخر نتبعها بها.

السادس: أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة و التابعين ففيه تعرض لسخط الله تعالى.

السابع: القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره، نقلهما ابن الأنباري.

الثامن: أن المراد به القول في القرآن بغير علم و تثبت، سواء علم أن الحق خلافه أم لا.

التاسع: هو الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم، و ليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص، و يكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم.

العاشر: أنه الأخذ بظاهر القرآن بناء على أن له ظهورا لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم.

فهذه وجوه عشرة، و ربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و كيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة، فلا نطيل بالتكرار.

و بالجملة فالمتحصل من الروايات و الآيات التي تؤيدها كقوله تعالى: أ فلا يتدبرون القرآن الآية، و قوله تعالى: "الذين جعلوا القرآن عضين": الحجر - 91، و قوله تعالى: "إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أ فمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة" الآية: حم السجدة - 40، و قوله تعالى: "يحرفون الكلم عن مواضعه،: النساء - 46، و قوله تعالى: "و لا تقف ما ليس لك به علم": إسراء - 36، إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق و هو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.

و ليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ و سرد الجمل و إعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي و قد قال تعالى: "و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم": إبراهيم - 4، و قال تعالى: "و هذا لسان عربي مبين: النحل - 103، و قال تعالى: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون": الزخرف - 3.



و إنما الاختلاف من جهة المراد و المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.

توضيح ذلك أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية و قطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي، و اعتدنا بالأجسام و الجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الأمور و فهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق و النظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك، و عند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر و هو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.

مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد و ثروة يقول: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، و تعقلنا مفهوم الكلام و معاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق: أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فإن الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت، و أن له فيها مقدارا وفرا من الذهب و الفضة و الورق و الأثاث و الزينة و السلاح، فإن هذه الأمور هي التي يمكن أن تخزن عندنا و تحفظ حفظا، و أما الأرض و السماء و البر و البحر و الكوكب و الإنسان فهي و إن كانت أشياء لكنها لا تخزن و لا تتراكم، و لذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة، و كذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق و هو أن كثيرا من الأشياء لا يخزن، و أن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة و الغارة أوجب تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشيء و الخزائن.

ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه": الحجر - 21، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم.

و إن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا، و أذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال و خاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: و ما ننزله إلا بقدر معلوم، و يقول أيضا: "و ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها": الجاثية - 5، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز و الماء و أن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر و نزوله لتهيئة المواد الغذائية.

و هذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذا لا مستند له إلا أنا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر، و الذي بأيدينا هاهنا عدم العلم دون العلم بالعدم.

و إن تعالينا عن هذا المستوى أيضا و اجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم و أبقينا الكلام على إطلاقه التام، و حكمنا أن قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان و الحيوان و النبات و غيرها لا تنزل من السماء، و إنما تحدث حدوثا في الأرض حكمنا بأن قوله: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، و أن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة و إنما يخرج منه و ينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيته تعالى، و هذا أيضا كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم، إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول، و لا علم لنا بغيره.

و إذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله و القيامة و ما يتعلق بها، و حكم أحكامه و ملاكاتها، و تأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم، و تحريف لكلمه عن مواضعها.

و قد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم و المتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة إلى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها.

و قد فرقت في الآيات المتفرقة، و بينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض، و لذلك كان بعضها شاهدا على البعض، و الآية مفسرة للآية، و لو لا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقائقها، و لم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه.

و من هنا يظهر: أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.

و من هنا يظهر أيضا أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير موقعها، و وضع الكلمة في غير موضعها.

و يلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار و المفوضة آيات القدر، و غالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية و هي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية، و هو قولهم: إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.

و بالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها، و دفع مقاصد بعضها ببعض، و يبطل بذلك المرادان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات - بعضها مع بعض - ليس إلا لاختلال الأمر و اختلاط المراد فيهما معا.

و هذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية: في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) قال: ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

و في المعاني، و المحاسن، مسندا و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.

قال الصدوق: سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى.

أقول: ما أجاب به لا يخلو عن إبهام، فإن أراد به الخلط المذكور و ما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية و تأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق، و إن أراد به تفسير الآية بالآية و الاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ، و الروايتان التاليتان تدفعانه.

و في تفسير النعماني، بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلالا و حرم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علما باقيا في أوصيائه، فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال الله سبحانه: "فنسوا حظا مما ذكروا به - و لا تزال تطلع على خائنة منهم"، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجوا بأول الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا و أضلوا. و اعلموا رحمكم الله: أنه من لم يعرف من كتاب الله عز و جل الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام، و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكي و المدني و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير، و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، و المؤكد منه و المفصل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب و رسوله و مأواه جهنم و بئس المصير.



و في نهج البلاغة، و الإحتجاج، قال (عليه السلام): ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا و إلههم واحد، و نبيهم واحد، و كتابهم واحد فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه و أدائه؟ و الله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء و فيه تبيان كل شيء، و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: و لو كان من عند غير الله - لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، و أن القرآن ظاهره أنيق، و باطنه عميق لا تحصى عجائبه، و لا تنقضي غرائبه، و لا تكشف الظلمات إلا به.

أقول: و الرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن، و قوله: فيه تبيان، نقل للآية بالمعنى.

و في الدر المنثور، و أخرج ابن سعد و ابن الضريس في فضائله و ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب فقال: بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، و ضرب الكتاب بعضه ببعض. قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به، و ما تشابه عليكم فآمنوا به.

و فيه، أيضا و أخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما يتدارءون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه.

أقول: و الروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض القرآن بعضا، و هو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها، و الإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابها و المتشابه محكما و نحو ذلك.

فالتكلم في القرآن بالرأي، و القول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقا، و ضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم الجميع حول معنى واحد و هو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره.

فإن قلت: لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس و يفهموه كما قال تعالى: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس": الزمر - 41، و قال تعالى: "هذا بيان للناس،: آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات، و لا ريب أن مبينه هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قال تعالى "و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم": النحل - 44، و قد بينه للصحابة، ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا فهو بيان نبوي لا يجوز التجافي و الإغماض عنه بنص القرآن، و ما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو و إن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه و تعليمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين و من يتلوهم، و كيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية، و سعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة، و اجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الإسلام.

و من هنا يظهر: أن العدول عن طريقتهم و سنتهم، و الخروج من جماعتهم، و تفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم و آرائهم بدعة، و السكوت عما سكتوا عنه واجب.

و في ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى، فإنه يبلغ زهاء ألوف من الروايات، و قد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي و عن الصحابة و التابعين.

قلت: قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه و خاصة قوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا": النساء - 82، تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث، و يرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات، و الآية في مقام التحدي، و لا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات - و المقام هذا المقام - إلى فهم الصحابة و تلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدي إليه اللفظ و لو بعد التدبر و التأمل و البحث، و إما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر و لا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي و لا تتم به الحجة و هو ظاهر.

نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: "و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا": الحشر - 7 و ما في معناه من الآيات، و كذا تفاصيل القصص و المعاد مثلا.

و من هنا يظهر أن شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المقام هو التعليم فحسب و التعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم و إرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به و الحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنما التعليم تسهيل للطريق و تقريب للمقصد، لا إيجاد للطريق و خلق للمقصد، و المعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية و نضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم و يأنس به فلا يقع في جهد الترتيب و كد التنظيم فيتلف العمر و موهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.

و هذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: "و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" الآية: النحل - 44، و قوله تعالى: "و يعلمهم الكتاب و الحكمة": الجمعة - 2، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يعلم الناس و يبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه، و يبينه الله سبحانه بكلامه، و يمكن للناس الحصول عليه بالأخرة لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى: "كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون": حم السجدة - 3، و قوله تعالى: "و هذا لسان عربي مبين": النحل - 103.

على أن الأخبار المتواترة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن و الأخذ به و عرض الروايات المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يمكن استفادته من الكتاب، و لو توقف ذلك على بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الدور الباطل و هو ظاهر.

على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم، و القول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية، و يجتنب عن خرق إجماعهم، و الخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق، و لم يستلزموا هذا المنهج و لم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به و لم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم و لا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.

على أن هذا الطريق و هو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الإسلام من الصحابة و التابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره، و بطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوائل و الكتب المؤلفة في التفسير في القرون الأولى من الإسلام، و لم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث و تدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء": النحل - 89، من دقائق المعارف في القرآن؟ و أما استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم و الجد و الاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات و التناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف و لا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق و اختلاط طريقه بغيره.

فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود، و أن البيان الإلهي و الذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، أي إنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى و أنه نور و أنه تبيان لكل شيء مفتقرا إلى هاد غيره و مستنيرا بنور غيره و مبينا بأمر غيره؟ فإن قلت: قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر: فأما الأكبر فكتاب ربي، و أما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس و ثلاثين صحابيا، و في بعض الطرق: لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، و الحديث دال على حجية قول أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن و وجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره و الاقتصار على ذلك و إلا لزم التفرقة بينهم و بينه.



قلت: ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آنفا جار هاهنا بعينه، و الحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن و قصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت (عليهم السلام).

كيف و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لن يفترقا، فيجعل الحجية لهما معا فللقرآن الدلالة على معانيه و الكشف عن المعارف الإلهية، و لأهل البيت الدلالة على الطريق و هداية الناس إلى أغراضه و مقاصده.

على أن نظير ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن و التدبر فيه و عرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت (عليهم السلام).

على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم (عليهم السلام) مشتملة على الاستدلال بآية على آية، و الاستشهاد بمعنى على معنى، و لا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب و يستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له.

على أن هاهنا روايات عنهم (عليهم السلام) تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن، بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك و أهلك.

و يقرب منه ما فيه، و في الإحتجاج، عنه (عليه السلام) قال: إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث.

و بما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه و عدم احتجابها من العقول و بين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي، عن جابر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن للقرآن بطنا و للبطن ظهرا، ثم قال: يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء، و هو كلام متصل ينصرف على وجوه، و هذا المعنى وارد في عدة روايات.

و قد رويت الجملة أعني قوله: و ليس شيء أبعد "الخ" في بعضها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد روي عن علي (عليه السلام): أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث، فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه و الذي نهي عنه تفسيره من غير طريقه و قد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه و تفسير الآية بالآية و ذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم و تهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود، و الله الهادي.

3 سورة آل عمران - 10 - 18

إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَ لا أَوْلَدُهُم مِّنَ اللّهِ شيْئاً وَ أُولَئك هُمْ وَقُودُ النّارِ (10) كدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللّهُ شدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُل لِّلّذِينَ كَفَرُوا ستُغْلَبُونَ وَ تُحْشرُونَ إِلى جَهَنّمَ وَ بِئْس الْمِهَادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فى فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَتِلُ فى سبِيلِ اللّهِ وَ أُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْى الْعَينِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشاءُ إِنّ فى ذَلِك لَعِبرَةً لأُولى الأَبْصرِ (13) زُيِّنَ لِلنّاسِ حُب الشهَوَتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَطِيرِ الْمُقَنطرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَ الْفِضةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسوّمَةِ وَ الأَنْعَمِ وَ الْحَرْثِ ذَلِك مَتَعُ الْحَيَوةِ الدّنْيَا وَ اللّهُ عِندَهُ حُسنُ الْمَئَابِ (14) * قُلْ أَ ؤُنَبِّئُكم بِخَيرٍ مِّن ذَلِكمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنّتٌ تَجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَ أَزْوَجٌ مّطهّرَةٌ وَ رِضوَنٌ مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ (15) الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إِنّنَا ءَامَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ قِنَا عَذَاب النّارِ (16) الصبرِينَ وَ الصدِقِينَ وَ الْقَنِتِينَ وَ الْمُنفِقِينَ وَ الْمُستَغْفِرِينَ بِالأَسحَارِ (17) شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَ الْمَلَئكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قَائمَا بِالْقِسطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ (18)

بيان

قد تقدم: أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين و آخرين سماعين لهم و لما يلقيه إليهم أعداء الإسلام من النزاعات و الوساوس لتقليب الأمور عليهم و إفساد دعوتهم، و مبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم و انتهاض المشركين و اليهود و النصارى لإبطال دعوتهم و إخماد نارهم و إطفاء نورهم بأي وسيلة أمكنت من لسان أو يد.

و أن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة و إلى الصبر و الثبات ليصلح بذلك أمرهم و ينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم، و ما يطرأ و يهجم عليهم منه من خارجه.

و قد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله تعالى: إن الله لا يخلف الميعاد تعريضا للمنافقين و الزائقين قلبا و دعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين، و التسليم و الإيمان فيما اشتبه لهم و لم يفتهموه من كنهه و حقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين و يجر المسلمين إلى الفتنة و اختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات و ابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي و الضلال و يتبدل به الاجتماع افتراقا، و الشمل شتاتا.

ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار و المشركين و أنهم سيغلبون و ليسوا بمعجزين لله سبحانه و لا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم و الالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها و ولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئا و قد أخطئوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره، و لو كان المال و الأولاد و ما أشبهها مغنية من الله شيئا لأغنت آل فرعون و من قبلهم من الأمم الظالمة أولي الشوكة و القدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا و أخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون و يؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا و ثواب الآخرة و رضوان ربهم سبحانه.

فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود و النصارى على ما سيأتي.

قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا، أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى و رفع حاجته فلا حاجة به إليه، و الإنسان في بادي تكونه و شعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه، و هذا أول علمه الفطري إلى احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب و أحس بحوائجه بدأ بإحساس الحاجة إلى كماله البدني النباتي و هو الغذاء و الولد، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات الحيوانية، و هي التي يزينوا له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس و المسكن و المنكح و غير ذلك، و عندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال و الولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء و الولد، ثم انكباب نفسه على مشتهياته، و قصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب، و يعطي لها الاستقلال، و حينئذ ينسى ربه، و يتشبث بذيل المال و الولد، و في هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه و يكفر بها، و قد التبس عليه الأمر فإن ربه هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا يستغني عنه شيء بحال و لا يغني عنه شيء بحال.

و بهذا البيان يظهر وجه تقديم الأموال على الأولاد في الآية فإن الركون إلى المال - و قد عرفت أن الأصل فيه الغذاء - أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد و أعرف منه و إن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال.

و في الآية إيجاز شبيه دفع الدخل، و التقدير: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و زعموا أن أموالهم و أولادهم تغنيهم من الله، و قد أخطئوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت و لا في شيء، على ما تدل عليه الآية التالية.

قوله تعالى: و أولئك هم وقود النار، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار و تشتعل، و الآية جارية مجرى قوله تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة": البقرة - 24، و قوله تعالى: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم": الأنبياء - 98، و قد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.

و الإتيان بالجملة الاسمية، و الابتداء باسم الإشارة، و كونه دالا على البعد و توسيط ضمير الفصل، و إضافة الوقود إلى النار دون أن يقال وقود، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر، و لازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار و إيقاد جهنم، و أن غيرهم إنما يحترقون بنارهم، و يتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى: "ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض" الآية: الأنفال - 37.

قوله تعالى: كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم إلى آخر الآية: الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر قال تعالى: "و سخر لكم الشمس و القمر دائبين": إبراهيم - 33 و منه تسمية العادة دأبا لأنه سير مستمر، و هذا المعنى هو المراد في الآية.

و قوله: كدأب، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة: لن تغني عنهم، و يفسر الدأب قوله: كذبوا بآياتنا و هو في موضع الحال، و تقدير الكلام كما مرت إليه الإشارة: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و استمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم و أولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون و من قبلهم و قد كذبوا بآياتنا.

و قوله: فأخذهم الله بذنوبهم، ظاهر الباء أنها تفيد السببية، يقال: أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين، و قياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون و الذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم و يعذبون بها فكذلك آل فرعون و من قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم و كان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي أذنبوها، و كان مكرهم هو الحائق بهم، و ظلمهم عائدا إليهم، قال تعالى: و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله": الفاطر - 43، و قال تعالى: "و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون": البقرة - 57.

و من هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان و لا يتوجه إليه من جهة دون جهة، و في محل دون محل، و على شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق و تحت، و في بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار و التوقي و الالتجاء مثلا و هذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله و ذنبه و هو مع الإنسان في باطنه و ظاهره من غير أن ينفك عنه، و يجعل الإنسان وقودا لنار أحاط به سرداقها، و لا ينفعه فرار و لا قرار، و لا يوجد منه مناص و لا خلاص، فهو شديد العقاب.

و في قوله تعالى: كذبوا بآياتنا فأخذهم الله، التفات من الغيبة إلى الحضور أولا ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا، أما قوله: كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع و تقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل: إن فلانا بذي فحاش سيىء المحاضرة و قد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته، فجملة و قد ابتليت به تصحيح للخبر و إثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية و نحو من الشهادة.

فالمعنى - و الله أعلم - أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر و تكذيب الآيات، و لا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين و قد كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم.



و أما قوله: فأخذهم الله، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام و هو أسلوب الغيبة، و فيه مع ذلك إرجاع الحكم إلى مقام الألوهية القائمة بجميع شئون العالم و المهيمنة على كل ما دق و جل، و لذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله و الله شديد العقاب، و لم يقل و هو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم و تكذيبهم هذا منازعة و محاربة مع من له جلال الألوهية و يهون عليه أخذ المذنب بذنبه، و هو شديد العقاب لأنه الله جل اسمه.

قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى آخر الآية، الحشر هو إخراج الجماعة عن مقرهم بالإزعاج، و لا يستعمل في الواحد، قال تعالى: "و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا": الكهف - 47، و المهاد هو الفراش، و ظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما أنه ظاهر الآية السابقة: إن الذين كفروا لن تغني عنهم "الخ" دون اليهود، و هذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبة عليهم و حشرهم إلى جهنم و قد أشارت الآية السابقة إلى تقويهم و تعززهم بالأموال و الأولاد.

قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا، ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا، و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ستغلبون و تحشرون "الخ" و من الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار و التفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في أبصار العيون، و على هذا يكون الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: "قل للذين" بتوجيهه إليه و إلى من معه من المؤمنين، لكن السياق، كما عرفت، للأول أنسب.

و الآية - بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين و نصرة تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله - و إن لم تتعرض بتشخيص القصة و تسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر، و السورة نازلة بعدها بل و بعد أحد.

على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية و هم على ذكر منها حيث يقول: قد كان لكم آية "الخ" و لم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر، و الذي ذكره في قصة بدر في سورة الأنفال من قوله تعالى: "و إذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا و إلى الله ترجع الأمور": الأنفال - 44، و إن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم و لا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي و الاختلاط لينهزموا بذلك.

و كيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر، على أن قراءة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه.

فمحصل معنى الآية: أنكم أيها المشركون لو كنتم من أولي الأبصار و البصائر لكفاكم في الاعتبار و الدلالة على أن الغلبة للحق و أن الله يؤيد بنصره من يشاء و لا يغلب بمال و لا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه، و قد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة، و لا يقاسون بهم قوة، كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع و ثمانية سيوف و فرسان، و كان جيش المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة و القوة و الخيل و الجمال و الهيئة ما لا يقدر بقدر، فنصر الله المؤمنين على قلتهم و ذلتهم على أعدائه و كثرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأي العين، و أيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال و أولاد و لم يغنهم جمعهم و لا كثرتهم و قوتهم من الله شيئا.

و قد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون و الذين من قبلهم في تكذيب آيات الله و أخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هاهنا بعينه.

و في موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل و الإبادة ففي آياته تهديد بالقتال.

قوله تعالى: فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة، لم يقل و أخرى في سبيل الشيطان أو في سبيل الطاغوت و نحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى و أن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله و الجهاد في سبيله و بين الكفر به تعالى.

و الظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله: فئة تقاتل، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة و ستة و عشرين و لقد كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و أما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن يكون المعنى: يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ، و هو ظاهر.

و ربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة، و يكون المعنى: يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم يرون الألف ألفين و لازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة و ذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر: "و إذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم": الأنفال - 44، فإن الآية تنافي الآية.

و أجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم على هذا أن يقال: يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك.

و أما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف و المقام، و لا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم و تزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة و حمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك و ولوا الأدبار، و هذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة: "لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان": الرحمن - 39، مع قوله: "و قفوهم إنهم مسئولون": الصافات - 24، و ليس إلا أن الموقف غير الموقف.

و في شأن الضميرين أعني في قوله: يرونهم مثليهم، احتمالات أخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ، و لذلك تركنا ذكرها، و الله العالم.

قوله تعالى: و الله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، التأييد من الأيد و هو القوة، و المراد بالأبصار قيل: هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون، و قيل: هو البصائر لأن العبرة إنما تكون بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري، و الأمر هين، فإن الله سبحانه في كلامه يعد من لا يعتبر بالعبر و المثلات أعمى، و يذكر أن العين يجب أن تبصر و تميز الحق من الباطل و في ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر، و أن البصيرة و البصر في مورد المعارف الإلهية واحد بنوع من الاستعارة لنهاية ظهورها و وضوحها، و الآيات في ذلك كثيرة جدا، و من أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور": الحج - 46، أي إن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرءوس، و قوله تعالى: "و لهم أعين لا يبصرون بها": الأعراف - 179، و الآية في مقام التعجيب، و قوله تعالى: و جعل على بصره غشاوة": الجاثية - 23، إلى غير ذلك من الآيات، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر و تفهم فهو من الاستعارة بالكناية، و النكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس، و يزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.

و ظاهر قوله: إن في ذلك "الخ" أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله: قل للذين كفروا "الخ"، و الدليل عليه الكاف في قوله: ذلك، فإنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في هذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء إلى قلة فهمهم و عمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.

قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء "الخ"، الآية و ما يتلوها بمنزلة البيان و شرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا "الخ" إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال و الأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات و انقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة، و قد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا، ليس لها إلا أنها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب و الاشتهاء و لا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته و بقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين: البقرة - 36.



و إنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة و يأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها و زينتها بعين الاستقلال و ينسوا بها ما وراءها، و يأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم، قال تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا": الكهف - 8.

إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات و ذرائع إلى رضوان الله سبحانه أمورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها و زعموا أنها تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة و وبالا بعد ما كانت مثوبة مقربة.

قال تعالى: "إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس إلى أن قال: و يوم يحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم إلى أن قال: و ردوا إلى الله موليهم الحق و ضل عنهم ما كان يفترون": يونس - 30 تشير الآيات إلى أمر الحيوة و زينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه، و أنه قادر على تدبيرها و تنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء - كالأصنام و ما بمعناها من المال و الولد و غيرهما، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة، و يزيل الروابط التي بينه و بين شركائه، و عند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير و يظهر له معنى ما علمه في الدنيا و حقيقته، و رد إلى الله مولاه الحق.

و هذا التزين أعني: ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال و جمال الغاية و المقصد لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة، و قد قال تعالى: "إن الله بالغ أمره": الطلاق - 3، و قال تعالى: "و الله غالب على أمره": يوسف - 21، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى: "و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون": الأنعام - 43، و قال تعالى: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم": الأنفال - 48.

نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة، و تستقيم التربية كما قال تعالى: "أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون: العنكبوت - 4، و على هذا الإذن يمكن أن يحمل قوله تعالى: "كذلك زينا لكل أمة عملهم: الأنعام - 108، و إن أمكن أيضا أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا: الكهف - 7.

و بالجملة التزيين تزيينان: تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة و ابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال و الجاه و الأولاد و النفوس، و هو سلوك إلهي حسن، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآيات، و كقوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق": الأعراف - 32.

و تزيين لجلب القلوب و إيقافها على الزينة و إلهائها عن ذكر الله و هو تصرف شيطاني مذموم، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان، و حذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى: "و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون" الآية، و قوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين": الحجر - 39، و قوله تعالى: زين لهم سوء أعمالهم": التوبة - 37، إلى غير ذلك من الآيات.

و هذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث إن الشيطان و كل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل و يتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده و شاءه، و ينتظم بذلك أمر الصنع و الإيجاد، و يفوز الفائزون بحسن إرادتهم و اختيارهم، و يمتاز المجرمون.

و بما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله: زين للناس حب الشهوات "الخ" ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور و إن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزيينا صالحا لأن يدعو إلى عبادته تعالى و هو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى و هو المنسوب إليه بالإذن، لكن لاشتمال الآية على ما لا ينسب إليه مستقيما كما يجيء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس.

و من هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين: أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم، و كذا حب كثرة المال مذموم، و قد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية و في ما يتلوها.

و يظهر به فساد ما ذكره بعضهم: أن الكلام في طبيعة البشر و الحب الناشىء فيها و مثله لا يسند إلى الشيطان بحال و إنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا.

قال: و لذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال تعالى: "و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم"، و قال "و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون"، و أما الحقائق و طبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له، قال عز و جل: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" و قال: كذلك زينا لكل أمة عملهم" فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع، انتهى.

وجه الفساد: أنه و إن أصاب في قوله: إن الحقائق و طبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله: إن الكلام في طبيعة البشر و ما ينشأ منها بحسب الطبع، و ذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق و التدبير و الإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان، خلق الخلق و هداهم إلى سعادتهم، و أن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بآياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب، و بالجملة الذين أطاعوا الشيطان و اتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره و تدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنة الامتحان فهو الخالق للطبائع و قواها و ميولها و أفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب و الكرامة، و هو الذي أذن لإبليس و لم يمنعه من الوسوسة و النزعة و لم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منهم شهداء، و إنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلي بذلك نفوس المؤمنين، و يطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة و الشدة و الابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين و جهالة الذين في قلوبهم مرض بإفساد الأمور و تقليبها عليهم، و التقصير في طاعة الله و رسوله، و من الخارج بالدعوة الشاقة الدينية، و وثوب الكفار من العرب عليهم من جانب، و أهل الكتاب و اليهود منهم خاصة من جانب آخر، و تهديد الكفار كالروم و العجم بالقوة و العدة من جانب آخر، و هؤلاء الكافرون و من يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا و زخارفها حيث أخذوها غاية و هي مقدمة و الغاية أمامها.

فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الأمم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم و تكوينهم و جميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل و أعمال السعادة و الشقاوة و الطاعة و المعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته، و لا يغلب في أمره لا في الدنيا و لا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن و امتحان، و أما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

و كذلك الآيات أعني قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار و إن كذبوا آيات ربهم و بدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه و جنته فركنوا و اعتمدوا عليها و استغنوا بها عن ربهم، و نسوا مقامه ليسوا بمعجزين و لا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم، و يؤيد عباده المؤمنين عليهم و سيحشرهم إلى جهنم و بئس المهاد، و هم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا و عند الله حسن المآب، فالآيات أيضا تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح و الطالح من أعمالهم.

على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله و إنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى: "كذلك زينا لكل أمة عملهم" يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك و يؤيد ما ذكرناه و هو قوله تعالى: "و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون": الأنعام - 108، و هو ظاهر.



و كذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن التزيين على قسمين محمود و مذموم و الأعمال نوعان حسنة و سيئة، و إنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن، و الباقي للشيطان و هو و إن كان حقا من وجه و لكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل و نحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل، و لا يأمر بالسوء و الفحشاء، و أما النسبة غير المستقيمة و بالواسطة التي يعبر عنه بالإذن و نحوه فلا مانع عنها، و لو لا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شيء، و خلقه لكل شيء، و ملكه لكل شيء، و انتفاء الشريك عنه على الإطلاق، و القرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى: "يضل من يشاء": الرعد - 27، و قوله: "أزاغ الله قلوبهم": الصف - 5، و قوله: "الله يستهزىء بهم و يمدهم في طغيانهم: البقرة - 15، و قوله: "أمرنا مترفيها ففسقوا": الإسراء - 16، إلى غير ذلك من الآيات، و لم ينشأ خطؤهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء و آثارها و أفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الأمور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء و قبيل المصنوعات و ما يتقدم عليها و ما يتأخر عنها.

و لزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب و العلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة و لا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها و كل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب و لا في حدوثه حظ، فأجرام تدور، و بحر تسري و فلك تجري، و أرض تقل، و نبات ينبت، و حيوان يدب، و إنسان يعيش و يكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها و لا وحدة جسمية من المادة و قوتها: توحدها.

ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال و التلاشي بين عناوين الأعمال و صور الأفعال من خير و شر، و سعادة و شقاوة، و هدى و ضلال، و طاعة و معصية و إحسان و إساءة، و عدل و ظلم، و غير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود و لا متشابكة التحقق.

و قد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات و أنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض، يتبدل جزء منه إلى جزء، و يتحول بعضه إلى بعض، فيوما إنسان، و يوما نبات، و يوما جماد، و يوما جمع، و يوما فرق، و حيوة البعض بعينها ممات الآخر، و كون الجديد منه فساد للقديم بعينه.

و كذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها و ما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات و هو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع، و إن عزب عن علمنا و إدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم، و أوضحته الأبحاث الطبيعية و الرياضية اليوم أتم إيضاح، و لقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها و طبيعيها و رياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث، و ذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية و الأرضية، و ارتباط ما بينها، و نفع بعضها في بعض، و اشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة، و نفوذ القدر في جميعها و السلوك إلى المعاد، و أن إلى ربك المنتهى.

و كذلك أوصاف الأفعال و عناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الأمور المتقابلة المتعاندة فلو لا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع و الإيجاد أن تكون شيء ما يحتاج إلى فساد آخر، و سبق أمر يتوقف على لحوق آخر.

و لو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي، و لا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق، فإن الإطاعة مثلا حسنة لأن المعصية سيئة، و الحسنة موجبة للثواب، لأن السيئة موجبة للعقاب، و الثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له، و اللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها، و السعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها و الشقاوة هي التي يتوجه عنها، و لو لا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.

فالإطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء و إنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله و يحيى بموته، و كيف يمكن أن تقع دعوة إلى شيء من غير تحذير عما يخالفه؟ و كيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الأغراض و الميول؟.

فقد تبين من ما ذكرناه: أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح و على المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه و خلقه غير أن الكون و الفساد في غير الأعمال و أوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق و الأمر له.

لا شريك له و قبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة و قبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان و تسليط الهوى على الإنسان و تأمير الظالمين على الناس و نحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال و الإخزاء و الخذلان و نحوها نسبة غير مستقيمة، و هي التي يعبر عنها بالإذن فيقال: إنه تعالى أذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة و التسويل، و لم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى، و لم يضرب بين الظالم و ما يريده من الظلم بحجاب لأن السعادة و الشقاوة مبنيتان على الاختيار، فمن سعد فباختياره، و من شقي فباختياره، و لو لا ذلك لم تتم الحجة، و لم تجر سنة الاختيار و الامتحان.

و لم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم، فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء و ضرورة تأثير الأسباب و اعترفوا بذلك لزمهم الإيجاب في جانب الصانع تعالى و سلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته.

و أما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال و أسندوها إلى إرادته و قدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب و الإجبار في جانب المصنوع و هو الإنسان، و ببطلان الاختيار يبطل الثواب و العقاب، و التكليف و التشريع.

مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول: "و الله غالب على أمره": يوسف - 21 و يقول: "ألا له الخلق و الأمر": الأعراف - 54 و يقول: "لله ما في السموات و الأرض": يونس - 55، على أنها و ما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": البقرة - 26.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات فنقول: الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى و هو الشيطان أو النفس: أما أولا فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال و الأولاد و استغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه، و الأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى.

و أما ثانيا: فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زين للإنسان أو لبني آدم و نحوها كقوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين": التين - 5، و قوله تعالى: "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر الآية: الأسرى - 70، و أما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص و دناءة الفكر نحو قوله: "فأبى أكثر الناس إلا كفورا": الأسرى - 89، و قوله: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى": الحجرات - 13 و غير ذلك.

و أما ثالثا: فلأن الأمور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية، و لفظ البنين بالأولاد، و لفظ القناطير المقنطرة، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء، و كذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد و مطلق الأموال دون خصوص البنين و خصوص القناطير المقنطرة، و لذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول: إن المراد حب مطلق الزوجية و مطلق الأولاد و مطلق الأموال و إنما ذكرت النساء و البنين و القناطير لكونها أقوى الأفراد و أعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له.



و أما رابعا: فلأن كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية و توجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان و الأزواج و الرضوان، و لا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة و إبطالا للأمرين معا كالذي يريد الشبع و يمتنع عن الأكل.

فإن قلت: الآية أعني قوله: زين للناس حب الشهوات "الخ" بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة": الأعراف - 32، و لازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه.

قلت: بين الآيتين فرق من حيث المقام: فإن المقام فيما نحن فيه: مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها و إلهائها الناس عما لهم عند الله، و حثهم على الإعراض عنها و التوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان و أنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا و بالاختصاص في الآخرة، و لذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد.

و عدت هذه الزينة رزقا طيبا.

و إن قلت: إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات، و من المعلوم أن تزيين الحب للإنسان و جذبه لنفسه و جلبه لقلبه أمر طبيعي و خاصة ذاتية له فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم، و لا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله: زين.

قلت: لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه و يصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم أمور تستصحب الحسن و الجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الأمور و المنتفع من هذا القصد هي المرأة، و بالجملة فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه و الولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا": مريم - 59، و يؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله: من النساء و البنين و القناطير، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف و الولوع و إن كان بمعنى المشتهيات.

قوله تعالى: من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة "الخ"، النساء جمع لا واحد له من لفظه، و البنين جمع ابن و هو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة، و القناطير جمع قنطار و هو ملء مسك ذهبا أو هو المسك المملوء، و المقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار و هو جامد، و هذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل و التامر و العطار لبائع البقل و التمر و العطر، و فائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له، و التلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقدة كما يقال: دنانير مدنرة و دواوين مدونة، و يقال: حجاب محجوب و ستر مستور، و الخيل: هو الأفراس، و المسومة مأخوذة من سامت الإبل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة، أو من سمت الإبل في المرعى و أسمتها و سومتها بمعنى أعلمتها.

فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة، و الأنعام جمع نعم بفتحتين و هو الإبل و البقر و الغنم، و البهائم أعم منه و يطلق على غير الوحش و الطير و الحشرات، و الحرث هو الزرع و فيه معنى الكسب و هو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.

و بناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج و الأولاد و المال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس و التعبير عن الأولاد بخصوص البنين، و التعبير عن المال بالقناطير المقنطرة "الخ" بما تكلف به جمع من المفسرين.

بل على كون الناس أصنافا في الشغف و الولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء و غرامهن و التقرب إليهن و الأنس بصحبتهن، و يستصحب ذلك أذنابا من وجوه الفساد و معاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف و الأغاني و شرب المسكرات و أمور أخر غيرهما، و هذا مما يختص بالرجال عادة، و لا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ، و من محب للبنين و التكاثر و التقوي بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو، و يختص أيضا بالبنين دون البنات، و من مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير، و يملأ المخازن من وجوه النقد، و ظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب و الفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه، و يوجد غالبا في الحاضر دون البادي، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة و أمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام، أو يستحب الحرث، و ربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض و ربما تفترق.

و هذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها و جعله أصلا في اقتناء مزايا الحيوة، و جعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني، و قلما يوجد أو لا يوجد أصلا في الناس من ساوى بين جميعها، و قصد الجميع قصدا أولا معتدلا.

و أما مثل الجاه و المقام و الصدارة و نحوها فهي جميعا أمور وهمية بالحقيقة إنما تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات.

و من هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل و الانغمار في حبها و هو المنسوب إلى الشيطان دون أصل الحب المودع في الفطرة و هو المنسوب إلى الله سبحانه.

قوله تعالى: ذلك متاع الحياة الدنيا، أي هذه الشهوات أمور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم و هما الحيوة الدنيا و الحيوة الأخرى، و الحيوة الدنيا و كذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة، و صلاح العقبى و حسن المآب إنما هو عند الله سبحانه و هو قوله تعالى: و الله عنده حسن المآب.

قوله تعالى: قل أ أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات إلى آخر الآية، الآية مسوقة لبيان قوله: و الله عنده حسن المآب و قد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للإنسان لكونها باقية و حسنة حقيقة من غير بطلان، و هي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها و آثارها غير أنها خالية عن القبح و الفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها، و هي الجنة و مطهرات الأزواج و رضوان الله تعالى.

و قد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، و لذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله: من النساء و البنين و القناطير المقنطرة "الخ".

و أما الرضوان بكسر الراء و ضمها فهو الرضا و هو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه و يدافعه، و يقابله السخط.

و قد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه، و هو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف و الأحوال و غير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة، و لذلك ربما قوبل بينه و بين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته، و رضى العبد عنه لجزائه الحسن أو لحكمة كقوله تعالى: "رضي الله عنهم و رضوا عنه: البينة - 8، و قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية": الفجر - 28، و قوله تعالى: "و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات" الآية: البراءة - 100.



و ذكر الرضوان هاهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمرا هو كذلك عنى بذكره في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية، و كذا في مقابل الفضل و الرحمة في قوله: "فضلا من ربهم و رضوانا": المائدة - 2، و قوله: "و مغفرة من الله و رضوان": الحديد - 29، و قوله: "برحمة منه و رضوان": البراءة - 21.

و لعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه و في قوله تعالى: رضي الله عنهم الآية و قوله: راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم، و الرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيئول إلى معنى قوله "لهم ما يشاءون فيها": ق - 35، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان.
<<        الفهرس        >>