جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و من هنا يظهر: أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها و خاصة القناطير المقنطرة من بينها أفادته إطلاق المشية و أعطته سعة القدرة فله ما يشاء، و عنده ما يريد.

و قد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء.

قوله تعالى: و الله بصير بالعباد.

لما تحصل من هذه الآية و التي قبلها: أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين الدنيا و الآخرة نعما يتنعم بها و مآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج، و ما يؤكل و يشرب، و الملك و نحوها، و هي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر و المؤمن مبذول لهما معا و ما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك، و بلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله: و الله بصير بالعباد، و معناه: أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن و الكافر ليس مبنيا على العبث و الجزاف تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق و الله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق و هو التقوى في المؤمن دون الكافر، و قد وصف هذا التقوى و عرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله: الذين يقولون ربنا إلى آخر الآيتين و ملخصه: أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم و عدم استغنائهم عنه، و يصدقون ذلك بالعمل الصالح و لكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا و ينسى آخرته و عاقبة أمره.

و من ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم إلى آخر الآية و ما في معناهما من الآيات كقوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون،: الأعراف - 32، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.

أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها و أعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى و الأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده و يحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية و أن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث.

فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه، و إنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه و إنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء، و أيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات و القوى الفعالة و المترتبة ليحفظ بقاء نوعه و الأمر في وجود النبات و الحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان.

ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها و خاصة في تسخير ذوات الشعور منها و هي الحيوان و الإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها و إيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ و هي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها و هي بقاء الوجود و تغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة، و يلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها و يلعب بها، فلو لا ما في الغذاء و النكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء، و بطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع فيه لذة الغذاء و لذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب و عناء و يقاسي كل مصيبة و بلاء، و هو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور، و أما الصنع و الخلقة فينال بغيته و يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد و قد حصل بالتغذي، و إلا بقاء وجود النوع و قد حصل بالنكاح و السفاد و لم يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال.

و إذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض، فلذة الأكل و الشرب و جميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل و فساد التركيب و هو الموت، و لذة النكاح و جميع اللذائذ المرتبطة به و هي أمور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء و الاضمحلال، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت و لا فناء و حيوة مأمونة من كل شر و مكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ و أي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن و أعضاؤه كالكلي و المثانة و الطحال و الكبد و غيرها و جميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد؟.

و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا و النعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة و يتعلق بها كما قال: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها": الكهف - 7، و قال "المال و البنون زينة الحيوة الدنيا": الكهف - 46، و قال: "تبتغون عرض الحيوة الدنيا": النساء - 94، و قال - و هو أجمع للغرض -: "و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى": طه - 131، و قال أيضا: "و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحيوة الدنيا و زينتها و ما عند الله خير و أبقى أ فلا تعقلون": القصص - 60، إلى غير ذلك من الآيات، و جميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا، و اللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحيوة و أمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة و لا مخلوقة، و هذا هو حق الأمر!.

لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث هاهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور، و ليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن و على بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر و القوى الفعالة فيها، و لو فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود و لا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك.

فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا و يأكل و يشرب و ينكح و يتصرف في كل شيء بالأخذ و الإعطاء و يحس و يتخيل و يعقل و يسر و يفرح و يبتهج و هكذا، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها و بعضها مقدمة لبعضها، و هو السائر الدائر في مثل مسافة دورية.

فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء و كتب عليه الخلود و الدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده و إيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم و مصائب من سنخ نقم الدنيا و مصائبها.

و كل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.



فالإنسان هو الإنسان و ما يحتاج إليه و يستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه و يستكمل به من مطالبه و مقاصده و إنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء و ما يلحق به.

هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول: "و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون": المؤمنون - 16، انظر إلى موضع قوله: و لقد خلقنا، و الخلق هو الجمع و التركيب، و إلى موضع قوله: ثم أنشأناه، الدال على تبديل نحو الخلق و الإيجاد، و إلى موضع قوله: ثم إنكم يوم القيامة، و المخاطب به هو الذي أنشىء خلقا آخر.

و يقول أيضا: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون": الأعراف - 25 فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها و من نقمها.

و تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة الآية: البقرة - 213.

و قد قال تعالى في هذه النعم الأرضية: "ذلك متاع الحيوة الدنيا" ثم قال: "و ما الحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع: الرعد - 26، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به، و هذا من أبدع البيان، و باب ينفتح به للمتدبر ألف باب، و فيه تصديق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.

و بالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة و هو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته و شقائه أي ما يراه فوزا و فلاحا لنفسه و ما يراه خيبة و خسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها و هما نعيم الجنة و عذاب النار.

و بعبارة أخرى واضحة، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة و شقاء بحسبها في بقائه شخصا و نوعا و هما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل و الشرب و النكاح و قد زينت له بلذائذ مقدمية و هذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال و أخذ في الفعالية بالشعور و الإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره و إرادته فما لا يشعر به و لا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد و إن كان كمالا طبيعيا و كذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به و إن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن و المال و الولد، و نلتذ بما نشعر به من اللذائذ و إن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة و نظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الإنسان و إن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ، و شقاؤه هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن، إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به و يشاؤه، و شره فيما يعلم به و لا يريده.

فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل و الشرب و النكاح و ما فوق ذلك و هو الجنة، و شقاؤه أن لا ينال ذلك و هو النار.

قال تعالى: "لهم فيها ما يشاءون": النحل - 31.

قوله تعالى: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار وصف للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة: للذين اتقوا، فوصفهم أنهم يقولون ربنا و فيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية و استرحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم: إننا آمنا، و الجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى: "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان": الحجرات - 17 بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم، قال تعالى: "و آمنوا به يغفر لكم": الأحقاف - 31، و لذلك فرعوا عليه قولهم: فاغفر لنا ذنوبنا، بفاء التفريع.

و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم و ثباتهم في إيمانهم.

و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به و عبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان و الإطاعة أيضا من نعمه و لا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من حق، و من الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم و يقيهم عذاب النار إن آمنوا به، قال تعالى: "و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم": الأحقاف - 31.

و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة و الجنة كقوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار و مساكن طيبة في جنات عدن": الصف - 12، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، و هذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه إن وفقنا له.

قوله تعالى: الصابرين و الصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق، فالصبر لسبقه على بقية الخصال و إطلاقه يشمل أقسام الصبر، و هي ثلاث: صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية، و صبر عند المصيبة.

و الصدق و إن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول و فعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر و القنوت و غيرهما و ليس بمراد فالمراد به و الله أعلم الصدق في القول فحسب.

و القنوت هو الخضوع لله سبحانه و يشمل العبادات و أقسام النسك و الإنفاق هو بذل المال لمن يستحق البذل و الاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل و الاستغفار فيه، و السنة تفسره بصلوة الليل و الاستغفار في قنوت الوتر، و قد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل و الدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل و التهجد به: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا": المزمل - 19 الدهر - 29.

قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط، أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور و حس ثم استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل و التأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق و الواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق و الواقع، فبهذه العناية كان التحمل و التأدية كلاهما شهادة أي حفظا و إقامة للحق و القسط هو العدل.

و لما كانت الآيات السابقة أعني قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا، إلى قوله: و المستغفرين بالأسحار، تبين: أن الله سبحانه لا إله غيره و لا يغني عنه شيء، و أن ما يحسبه الإنسان مغنيا عنه و يركن إليه في حيوته ليس إلا زينة و إلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه و لا ينال إلا بتقوى الله تعالى، و بعبارة أخرى: هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر و المؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.

فشهد و هو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو و إذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغنى شيء من هذه منه شيئا لكان إلها دونه أو معتمدا إلى إله دونه منتهيا إليه و لا إله غيره.

شهد بهذه الشهادة و هو قائم بالقسط في فعله، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب و المسببات و إلقاء الروابط بينها، و جعل الكل راجعا إليه بالسير و الكدح و التكامل و ركوب طبق، عن طبق و وضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع منها الإنسان في عاجله لأجله و في طريقه لمقصده لا ليركن إليه و يستقر عنده فالله يشهد بذلك و هو شاهد عدل.



و من لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه و على وحدته في ألوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه و مثبت لوحدانيته، بيان ذلك: أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب و الزور فملازمة الصدق و المجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم و الجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا.

و نحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه و نطمع فيه ثم نعترض عليها و نناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا، و جميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم، فنظام الكون و هو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.

و لو كان هناك إله يغني منه في شيء من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه و في دائرة قضائه و عمله.

و بالجملة فالله سبحانه يشهد، و هو شاهد عدل، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه و هو قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو، على ما هو ظاهر الآية الشريفة، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا": النساء - 166.

و الملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم و يعملون بأمره و يسبحونه و في تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء - 27، و قال تعالى: "و الملائكة يسبحون بحمد ربهم": الشورى - 5 و أولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية و الأنفسية و قد ملأت مشاعرهم و رسخت في عقولهم.

و قد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل و إن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه، و بكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات.

و ثانيا: أن قوله تعالى: قائما بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله، و العامل فيه شهد، و بعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى و لا للملائكة و أولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله: لا إله إلا هو، و قوله: قائما بالقسط: بتوسيط قوله: و الملائكة و أولوا العلم، و لو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط و الملائكة، و من ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.

و من أردإ الإشكال ما ذكره بعضهم: أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا و هو متوقف عليه فيكون بيانا دوريا، و من هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة و اتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه و إخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره و كذا عبادة ملائكته له و إطاعتهم لأمره، و كذا ما يشاهده أولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.

و الجواب: أن فيه خلطا و مغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو فرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا و أجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من مقدمات عقلية نظرية و إن كانت يقينية و أنتجت اليقين.

فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب و الزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، و الله سبحانه و هو الله الذي لا سبيل للنقص و الباطل إليه لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة و أولي العلم يثبت شهادتهم.

على أن من أثبت له شركاء كالأصنام و أربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله و وسائط بينه و بين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى": الزمر - 3، و كذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له، و بالجملة ما اتخذ له من شريك فإنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، و إذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا، و جرى الكلام مجرى قوله: "قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السموات و لا في الأرض": يونس - 18، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات و الأرض و لا يخفى عليه شيء، و بالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية و العظمة كقوله: "سبحانه و تعالى عما يشركون": يونس - 18، و نحو ذلك، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى، و المخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام، فيئول المعنى إلى أنه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق و التدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله و شهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له، و لعلم و اعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق و التدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له، و لعلم به و شهد أثره أولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.

فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة و إدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك و عرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده و هو يشاركه، و لعلم به القوى المجرية و العمال المتوسطون بين العرش و الرعية و كيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده و هم يحملون أوامره و يجرون أحكامه بين ما في أيديهم من الأحكام و الأوامر و لعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة و كيف لا و هم يطيعون أوامره و عهوده و يعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده، و عمال الدولة لا يعرفونه، و عقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده؟ فليس.

قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة، و من أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى: "قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه": يونس - 68، فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى، و نظيره بوجه قوله تعالى: "و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم" الآية: المائدة - 64.

و بالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله و الملائكة و أولي العلم - بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي و يخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم و هو في الآية هو الله سبحانه و على من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول: لا إله إلا هو.

نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك: "و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم": النور - 16، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتانا و أرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه.

فموضع قوله: لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه و لذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم، و لو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة و القيام بالقسط، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الألوهية، و المتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره و ما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.



و قد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية، و كذا وجه تتميمها بالاسمين: العزيز الحكيم، و الله العالم.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون الآية روى محمد بن إسحاق عن رجاله قال: لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا ببدر و قدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم و قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا و الله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، و روى ما يقرب منه القمي في تفسيره، و قد عرفت مما تقدم: أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة، و أن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد، و الله أعلم.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما تلذذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء، و هو قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين الآية ثم قال: و إن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب.

أقول: و قد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا و شهوات الجنة خيرا منها.

و مراده (عليه السلام) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الإضافي أي إن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان، و أما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه و مشاهدة آياته الكبرى و لطائف رضوانه و إكرامه و غيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه (عليه السلام)، و قد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشيء بنعمة وجوده، و أخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها.

و هناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور و القرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة، و قد روي في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه يسخى نفسي في سرعة الموت و القتل فينا قول الله تعالى: "أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" و هو ذهاب العلماء، و سيجيء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.

و في المجمع،: في قوله تعالى: القناطير المقنطرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) القنطار ملء مسك ثور ذهبا.

و في تفسير القمي، قال (عليه السلام): الخيل المسومة المرعية.

و في الفقيه، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله و أتوب إليه سبعين مرة و هو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من الله تعالى.

أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت، و هو من سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، أيضا عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين، و قوله (عليه السلام): و وجبت له المغفرة من الله، مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: فاغفر لنا ذنوبنا، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضاء للاستجابة.

3 سورة آل عمران - 19 - 25

إِنّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الاسلَمُ وَ مَا اخْتَلَف الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَ مَن يَكْفُرْ بِئَايَتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سرِيعُ الحِْسابِ (19) فَإِنْ حَاجّوك فَقُلْ أَسلَمْت وَجْهِىَ للّهِ وَ مَنِ اتّبَعَنِ وَ قُل لِّلّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب وَ الأُمِّيِّينَ ءَ أَسلَمْتُمْ فَإِنْ أَسلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وّ إِن تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْك الْبَلَغُ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ (20) إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النّبِيِّينَ بِغَيرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسطِ مِنَ النّاسِ فَبَشرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئك الّذِينَ حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مَا لَهُم مِّن نّصِرِينَ (22) أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكتَبِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتَبِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَ هُم مّعْرِضونَ (23) ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسنَا النّارُ إِلا أَيّاماً مّعْدُودَتٍ وَ غَرّهُمْ فى دِينِهِم مّا كانُوا يَفْترُونَ (24) فَكَيْف إِذَا جَمَعْنَهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْب فِيهِ وَ وُفِّيَت كلّ نَفْسٍ مّا كسبَت وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (25)

بيان

الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب و هم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة، و أهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ففيهم و في أمرهم نزل معظم السورة و إليهم يعود.

قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة و كان هذا المعنى هو المراد هاهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغيا بينهم فيكون المعنى: أن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به، و لم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، و لم ينصب الآيات الدالة إلا له و هو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد و حق العمل، و بعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف و الأحكام، و هو و إن اختلف كما و كيفا في شرائع أنبيائه و رسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا و إنما اختلاف الشرائع بالكمال و النقص دون التضاد و التنافي، و التفاضل بينها بالدرجات، و يجمع الجميع أنها تسليم و إطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.

فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده و بينه لهم، و لازمه أن يأخذ الإنسان بما تبين له من معارفه حق التبين، و يقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه و أما اختلاف أهل الكتاب من اليهود و النصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، و بيانه تعالى لما هو عنده دين و هو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر و كون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك، و إنما حملهم على ذلك بغيهم و ظلمهم من غير عذر و ذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر و حقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به، و من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه و آخرته: أما في الدنيا فبالخزي و سلب سعادة الحيوة عنه، و أما في الآخرة فبأليم عذاب النار.

و الدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا و الآخرة قوله تعالى بعد آيتين: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين.

و مما تقدم يظهر أولا: أن المراد بكون الدين عند الله و حضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات و بحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة.

و ثانيا: أن المراد بالآيات هو آيات الوحي، و البيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية و ما يزاملها من المعارف الإلهية.

و الآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي و هو الانتقام، كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنم الآية على تهديد المشركين و الكفار، و لعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب و المشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله: قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم "الخ"، و فيه إشعار بالتهديد أيضا.

قوله تعالى: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن، الضمير في حاجوك راجع إلى أهل الكتاب و هو ظاهر و المراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: إن اختلافنا ليس لبغي منا بعد البيان بل إنما هو شيء ساقنا إليه عقولنا و أفهامنا و اجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه و أن ما تراه و تدعو إليه يا محمد من هذا القبيل، أو يقولوا ما يشابه ذلك، و الدليل على ذلك قوله: فقل: أسلمت وجهي لله، و قوله: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم و حجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم.

و معناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: إن الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه كتب الله و لا يرتاب فيه سليم العقل، و يتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك و أنت مسلم، فإن حاجوك في أمر الدين فقل: أسلمت وجهي لله و من اتبعن فهذا هو الدين و لا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم: أ أسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا و ليقبلوا ما أنزل الله عليك و على من قبلك و لا حجة عليهم و لا مخاصمة بعد ذلك بينكم، و إن تولوا فلا تخاصمهم و لا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري، و هو أن الدين هو التسليم لله سبحانه، و ما عليك إلا البلاغ.

و قد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب و الأميين بقوله: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم، لكون الدين مشتركا بينهم و إن اختلفوا في التوحيد و التشريك.

و قد علق الإسلام على الوجه - و هو ما يستقبلك من الشيء أو الوجه بالمعنى الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس و المشاعر إسلاما لجميع البدن - ليدل على معنى الإقبال و الخضوع لأمر الرب تعالى، و عطف قوله: و من اتبعن حفظا لمقام التبعية و تشريفا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم إلى آخر الآية، المراد بالأميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب، و كذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله: "ليس علينا في الأميين سبيل": آل عمران - 75 و الأمي هو الذي لا يكتب و لا يقرأ.

و في قوله تعالى: و إن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد دلالة أولا: على النهي عن المراء و الإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري لا تكون إلا مراء و لجاجا في البحث.

و ثانيا: على أن الحكم في حق الناس و الأمر مطلقا إلى الله سبحانه، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى: "ليس لك من الأمر شيء": آل عمران - 128، و قال تعالى: "لست عليهم بمصيطر: الغاشية - 23.

و ثالثا: على تهديد أهل الكتاب و المشركين فإن ختم الكلام بقوله: و الله بصير بالعباد، بعد قوله: فإنما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك و يدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية، و هو قوله تعالى: "قولوا آمنا بالله إلى أن قال: و نحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم": البقرة - 137، تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي و يطيب نفسه، فالآية أعني قوله: "و إن تولوا فإنما عليك البلاغ، كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم و بين ربهم، و إرجاع أمرهم إليه، و هو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم و يسأله لسان استعدادهم.

و من هنا يظهر: أن ما ذكره بعض المفسرين، أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد في أمر الدين و أن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقة لغير ذلك.

و في قوله: بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية و لم يقل: بصير بهم أو بصير بالناس و نحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده و مربوبون له أسلموا أو تولوا.

قوله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله إلى آخر الآية، الكلام في الآية و إن كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار و بيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب و خاصة اليهود.



و قوله: يكفرون، و يقتلون، في موضعين للاستمرار و يدلان على كون الكفر بآيات الله و هو الكفر بعد البيان بغيا، و قتل الأنبياء و هو قتل من غير حق، و قتل الذين يدعون إلى القسط و العدل و ينهون عن الظلم و البغي دأبا و عادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود، فقد قتلوا جمعا كثيرا و جما غفيرا من أنبيائهم و عبادهم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر و كذا النصارى جروا مجراهم.

و قوله: فبشرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب و نزول السخط، و ليس هو العذاب الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة "الخ" فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي و الأخروي معا، أما الأخروي فأليم عذاب النار، و أما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل و الإجلاء و ذهاب الأموال و الأنفس، و ما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.

و في قوله تعالى: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين، دلالة أولا: على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر.

و ثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: و ما لهم من ناصرين.

قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى آخر الآية يومىء إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم و أنهم يبغون باتخاذ الخلاف و إيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنها إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له و تولوا و أعرضوا عنه و ليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم لن تمسنا "الخ" و بما افتروه على الله في دينهم.

و المراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب و إنما لم يقل: أوتوا الكتاب، و قيل: أوتوا نصيبا من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لأن تحريفهم له و تغييرهم و تصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا من أجزائه كما يومىء إليه قوله في آخر الآية التالية: و غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، و كيف كان فالمراد - و الله أعلم - أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا و اغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم و استغناء به عن الكتاب.

قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار "الخ" معناه واضح، و اغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين، و على هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم أمة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض.

و إما لأن الاغترار بغرور النفس و الغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية باطلة و ذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب و من اليهود خاصة ببعيد و قد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى: "و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلى بعضهم إلى بعض قالوا أ تحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أ فلا تعقلون أ و لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون": البقرة - 77.

على أن الإنسان يجري في أعماله و أفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية، و الصور التي زينتها و نمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج و الدخان و أكل التراب و نحوها يستعملها و هو يعلم أنها مضرة، و أن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر و الاجتناب، و نظائر ذلك كثيرة.

فهم لاستحكام الكبر و البغي و حب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم، و هم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه و لم يزالوا يكررونه و يلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا و ركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار و التلقين تغرهم في دينهم و تمنعهم عن التسليم لله و الخضوع للحق الذي أنزله في كتابه.

قوله تعالى: فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه إلى آخر الآية، مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون و نحوه، و في الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم و هم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه أخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة و هم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله و هم غير مسلمين له مستكبرون عنه، و لهذا أخذ بالمحاذاة بين الكلامين، و عبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله: إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه "الخ" دون أن يقال: إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.

و المعنى - و الله أعلم - أنهم يتولون و يعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم و استكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه و هو يوم القضاء الفصل، و الحكم الحق و وفيت كل نفس ما كسبت و الحكم حكم عدل و هم لا يظلمون، و إذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا و يعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله و ما هي إلا أيام مهلة و فتنة.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألته عن قوله إن الدين عند الله الإسلام فقال: الذي فيه الإيمان.

و عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام الآية قال التسليم: لعلي بن أبي طالب بالولاية.

أقول: و هو من الجري، و لعل ذلك هو المراد أيضا من الرواية السابقة.

و عنه أيضا عن علي (عليه السلام) قال: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، و لا ينسبها أحد بعدي الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل، المؤمن أخذ دينه عن ربه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره. أيها الناس! دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر، و إن الحسنة في غيره لا تقبل.

أقول: قوله (عليه السلام): لأنسبن الإسلام نسبة، المراد بالنسبة التعريف كما سميت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الرب و الذي عرف به تعريف باللازم في غير الأول أعني قوله: الإسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه، و يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحي له و هو هذا الدين الذي أتى به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام، و بالتسليم الخضوع و الانقياد ذاتا و فعلا فيعود الجميع إلى التعريف باللازم.

و المعنى: أن هذا الدين المسمى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه ذاتا و فعلا، و وضعه نفسه و أعماله تحت أمره و إرادته و هو التسليم و التسليم، لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه و اليقين يستتبع التصديق و إظهار صدق الدين، و التصديق يستتبع الإقرار و هو الإذعان بقراره و كونه ثابتا لا يتزلزل في مقره و لا يزول عن مكانه، و إقراره يستتبع أداءه و أداؤه يستتبع العمل.

و قوله (عليه السلام): و إن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة، أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحيوة و في الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشيء من حسنات الدنيا، قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره": الزلزال - 7.

و في المجمع، عن أبي عبيدة الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرأ: الذين يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيا في ساعة فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، و نهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا آخر النهار من ذلك اليوم و هو الذي ذكره الله.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة.

و في الدر المنثور،: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو و حرث بن زيد على أي دين أنت يا محمد قال: على ملة إبراهيم و دينه، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهلما إلى التوراة فهي بيننا و بينكم فأبيا عليه فأنزل الله: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله: و غرهم في دينهم ما كانوا يفترون.

أقول: و روى بعضهم: أن قوله تعالى: أ لم تر نزل في قصة الرجم و سيجيء ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية: المائدة - 15، و الروايتان من الآحاد و ليستا بتلك القوة.

3 سورة آل عمران - 26 - 28

قُلِ اللّهُمّ مَلِك الْمُلْكِ تُؤْتى الْمُلْك مَن تَشاءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْك مِمّن تَشاءُ وَ تُعِزّ مَن تَشاءُ وَ تُذِلّ مَن تَشاءُ بِيَدِك الْخَيرُ إِنّك عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ الّيْلَ فى النّهَارِ وَ تُولِجُ النّهَارَ فى الّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَىّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ الْحَىِّ وَ تَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ (27)

بيان

الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب و خاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم و تهديدهم بعذاب الدنيا و الآخرة و من العذاب ما سلب الله عنهم الملك و ضرب عليهم الذل و المسكنة إلى يوم القيامة و أخذ أنفاسهم و ذهب باستقلالهم في السؤدد.

على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم و تدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء و يعز من يشاء و بالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء و هو الآخذ النازع للملك و العزة و لكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.

قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق و له القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين و المتمردين من الحق من المشركين و أهل الكتاب فضلوا و هلكوا بما قدروه لأنفسهم من الملك و العزة و الغنى من الله سبحانه و يعرض الملتجىء نفسه على إفاضة مفيض الخير و الرازق لمن يشاء بغير حساب.

و الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا و نعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك بكسر الميم ما هو حقيقي و هو كون شيء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين و الوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها و إهمالها بأي نحو شاء و أراد و كذا في يده بالقبض و البسط، و الأخذ بها و الترك و نحو ذلك و لا محالة بين المالك و ملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه و لا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر و اليد إذا فارقا الإنسان و من هذا القبيل ملكه تعالى بكسر الميم للعالم و لجميع أجزائه و شئونه على الإطلاق، فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.

و من الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري و هو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات و الأغراض الاجتماعية، و إنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي و آثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع و الدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان و الأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.

و لكون الرابطة بين المالك و المملوك في هذا النوع من الملك بالوضع و الاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير و التحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع و الهبة و سائر أسباب النقل.

و أما الملك بالضم فهو و إن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، و لا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك، و هو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد و ما في يده، و لهذا كان للملك بالضم من الأقسام ما ذكرناه للملك بالكسر.

و الله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة و القيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء و إله كل شيء، قال تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو": المؤمن - 62 و قال تعالى: "له ما في السموات و ما في الأرض": البقرة - 255، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها و فيها شيء و هذا هو الملك بالكسر كما مر.

و أما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، و الأشياء تملك قواها الفعالة، و القوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك اعضاءه و قواه الفعالة من سمع و بصر و غير ذلك، و هي تملك أفعالها، و إذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، و يملك ما يملكه، و هذا هو الملك بالضم فهو مليك على الإطلاق، قال تعالى: "له الملك و له الحمد": التغابن - 1، و قال تعالى: "عند مليك مقتدر": القمر - 55، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك و الملك.

و أما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال، و لو لم يملك لم يصح منه ذلك و لكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال تعالى: "و آتوهم من مال الله الذي آتاكم": النور - 33.

و هو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: "قل أعوذ برب الناس ملك الناس": الناس - 2، و قال تعالى: "و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها": إبراهيم - 34، و قال تعالى: "و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه": الحديد - 7، و قال تعالى: "و ما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله و لله ميراث السموات و الأرض": الحديد - 10، و قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": المؤمن - 16، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا و يملكه معنا و سيراه بعدنا عز ملكه.

و من التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى: اللهم مالك الملك، مسوق: أولا: لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم و مالكية الملك بالضم هو الملك على الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى: "أن آتاه الله الملك": البقرة - 258، و قال تعالى: "و آتيناهم ملكا عظيما": النساء - 54.

و ثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبرياؤه و هو ظاهر.

و ثالثا: أن المراد بالملك في الآية الشريفة و الله أعلم ما هو أعم من الحقيقي و الاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء على ما سنوضحه من شئون الملك الاعتباري و ما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا.

قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء، الملك بإطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن الملك كما تقدم بيانه في قوله: "أن آتاه الله الملك "الآية": البقرة - 258 في نفسه موهبة من مواهب الله و نعمة يصلح لأن يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني و قد جبل الله النفوس على حبه و الرغبة فيه، و الملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، و إنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا و غصبا، و إما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، و يرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول.

و بوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، و بالنسبة إلى غير أهله نقمة و هو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه و فتنة يمتحن به عباده.

و قد تقدم: أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه و إن جرى فعله على المصلحة دائما.

قوله تعالى: و تعز من تشاء و تذل من تشاء، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله، و لذا يقال للشيء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، و يقال عزيز القوم لمن يصعب قهره و الغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر و الغلبة، و صعب المنال من حيث مقامه فيهم و وجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل صعوبة كما يقال: يعز علي كذا.

قال تعالى: "عزيز عليه ما عنتم": التوبة - 128، أي صعب عليه.

و استعمل في كل غلبة كما يقال.



من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: "و عزني في الخطاب": (صلى الله عليه وآله وسلم) - 23، أي غلبني و الأصل في معناه ما مر.

و يقابله الذل و هو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: "ضربت عليهم الذلة و المسكنة": البقرة - 61، و قال تعالى: "و اخفض لهما جناح الذل": الإسراء - 24، و قال تعالى أذلة على المؤمنين": المائدة - 54.

و العزة من لوازم الملك على الإطلاق و كل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك و ملكه، و إن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا و ما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه و إفضاله.

قال تعالى: "أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا": النساء - 139 و قال تعالى: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين": المنافقون - 8 و هذه هي العزة الحقيقية و أما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز.

قال تعالى: "بل الذين كفروا في عزة و شقاق": ص - 2 و لذا أردفه بقوله "كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص": ص - 3.

و للذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى تعز من تشاء و تذل من تشاء.

قوله تعالى: بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب و إنما نسمي الشيء خيرا لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير و لا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده و نقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة، و إن كنا أردناه أيضا لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، و غيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، و هو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها و ترددنا في اختياره من بينها.

فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شيء آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير و لذا قيل: إنه صيغة التفضيل و أصله أخير.

و ليس بأفعل التفضيل، و إنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، و زيد أفضلهما، و يقال: زيد خير من عمرو، و زيد خيرهما.

و لو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، و يقال أفضل و أفاضل و فضلى و فضليات، و لا يجري ذلك في خير بل يقال: خير و خيرة و أخيار و خيرات كما يقال: شيخ و شيخة و أشياخ و شيخات فهو صفة مشبهة.

و مما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: "قل ما عند الله خير من اللهو": الجمعة - 11، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل، و قد اعتذروا عنه و عن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، و هو كما ترى.

فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، و اشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.

و يظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء، و يرجع إليه كل شيء، و يطلبه و يقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، و إنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: "و الله خير و أبقى": طه - 73، و كقوله تعالى: "أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار": يوسف - 39.

نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: "و الله خير الرازقين": الجمعة - 11، و قوله: "و هو خير الحاكمين": الأعراف - 87، و قوله "و هو خير الفاصلين": الأنعام - 57، و قوله: "و هو خير الناصرين": آل عمران - 150، و قوله "و الله خير الماكرين": آل عمران - 54، و قوله: "و أنت خير الفاتحين": الأعراف - 89، و قوله: "و أنت خير الغافرين": الأعراف - 155، و قوله: "و أنت خير الوارثين": الأنبياء - 89، و قوله: "و أنت خير المنزلين": المؤمنين - 29، و قوله: "و أنت خير الراحمين": المؤمنون - 109.

و لعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق و قد عنت الوجوه لجنابه، و أما التسمية عند الإضافة و النسبة، و كذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.

و الجملة أعني قوله تعالى: بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام و تقديم الظرف الذي هو الخبر، و المعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، و أنت المعطي المفيض إياه.

فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء "الخ" من قبيل تعليل الخاص بما يعمه و غيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك و العزة، و هو ظاهر.

و كما يصح تعليل إيتاء الملك و الإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك و الإذلال فإنهما و إن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد و قبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان و عدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.

و بالجملة هناك خير و شر تكوينيان كالملك و العزة و نزع الملك و الذلة، و الخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، و الشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير و لا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر و له الحمد، و إن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن إعطاءه و منعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

و هناك خير و شر تشريعيان و هما أقسام الطاعات و المعاصي، و هما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، و لا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا، و هذه النسبة هي الملاك لحسنها و قبحها و لو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن و لا قبح، و هي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى و عدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.

فقد تبين: أن الخير كله بيد الله و بذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل وجدان و حرمان و خير و شر.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: بيدك الخير إيجازا بالحذف، و التقدير: بيدك الخير و الشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: "و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر": النحل - 81، أي و البرد.



و كان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: و هو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، و المعتزلة و إن أخطئوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، و قد تقدم البحث عن ذلك و بيان حقيقة الأمر.

قوله تعالى: إنك على كل شيء قدير في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى إياه على ذلك، و لو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شيء، و إذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، و كان أيضا كل خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده، و هذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: بيدك الخير.

قوله تعالى: تولج الليل في النهار و تولج النهار في الليل، الولوج هو الدخول، و الظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، و إيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع و الأمكنة على بسيط الأرض، و اختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول و الليالي في القصر و هو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول و الأيام في القصر و هو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء، كل ذلك في البقاع الشمالية، و الأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار و النهار في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء و القطبين فإنما هو بحسب الحس و أما في الحقيقة فحكم التغيير دائم و شامل.

قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي و ذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر، و إخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة و نورا و الكفر موتا و ظلمة كما قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام - 122، و يمكن أن يراد الأعم من ذلك و من خلق الأحياء كالنبات و الحيوان من الأرض العديمة الشعور و إعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي و الحي إلى الميت، قال تعالى: "ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون": المؤمنون - 15، إلى غيرها من الآيات.

و أما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور، و ذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما، و لبقية الكلام مقام آخر.

و الآية أعني قوله تعالى "تولج" الليل في النهار الخ تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء "الخ" تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي و توابعه.

و قد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك و نزعه و بحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار و عكسه، و وضع الإعزاز و الإذلال و بحذائهما إخراج الحي من الميت و عكسه، و في ذلك من عجيب اللطف و لطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم و إطلاقهم الغريزي و إذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، و نزع الملك بالعكس من ذلك، و كذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج الحي من الميت، و الإذلال بالعكس من ذلك، و في العزة حيوة و في الذلة ممات.

و هنا وجه آخر: و هو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة و الليل آية ممحوة قال تعالى: "فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة": الإسراء - 12، و مظهر هذا الإثبات و الإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك و السلطنة و زواله، و عد الحيوة و الموت مصدرين للآثار من العلم و القدرة كما قال تعالى: "أموات غير أحياء و ما يشعرون أيان يبعثون: النحل - 21، و خص العزة لنفسه و لرسوله و للمؤمنين حيث قال: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين": المنافقون - 8، و هم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة و الذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة و الموت، و لهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك و نزعه و الإعزاز و الإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار و عكسه و إخراج الحي من الميت و عكسه.

ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: و ترزق من تشاء بغير حساب، و ما ذكره في الآية الأولى: بيدك الخير، كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: و ترزق "الخ" بيانا لما سبقه من إيتاء الملك و العز و الإيلاج و غيره، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: بيدك الخير، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، و المعنى: أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.

معنى الرزق في القرآن

الرزق معروف و الذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي و يقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، و كان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: "و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف،: البقرة - 233، فلم يعد الكسوة رزقا.

ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ و الجد و إن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا و إن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحيوة من مال و جاه و عشيرة و أعضاد و جمال و علم و غير ذلك، قال تعالى: "تسألهم خرجا فخراج ربك خير و هو خير الرازقين": المؤمنون - 72، و قال فيما يحكي عن شعيب "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و رزقني منه رزقا حسنا: هود - 88، و المراد به النبوة و العلم، إلى غير ذلك من الآيات.

و المتحصل من قوله تعالى: "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين": الذاريات - 58، و المقام مقام الحصر: أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: "و الله خير الرازقين": الجمعة - 11، حيث أثبت رازقين و عده تعالى خيرهم، و قوله: "و ارزقوهم فيها و اكسوهم": النساء - 5، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك و العزة لله تعالى لذاته و لغيره بإعطائه و إذنه فهو الرزاق لا غير.

و ثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم و الله رازقه، و يدل على ذلك - مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها - آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق و الأمر و الحكم و الملك بكسر الميم و المشية و التدبير و الخير لله محضا عز سلطانه.

و ثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع.

قال تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون": الأعراف - 28، و قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل و الإحسان إلى أن قال: و ينهى عن الفحشاء و المنكر": النحل - 90 و حاشاه سبحانه أن ينهى عن شيء ثم يأمر به أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه.

و لا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع و كونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، و ما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين، و ليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، و في القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون.

قال تعالى: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا": الإسراء - 82.



على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود و فرعون و الأموال و الزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا و إتماما للحجة و خذلانا و استدراجا و نحو ذلك و هذا كله نسب تشريعية، و إذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن و القبح العقلائيين فيها أوضح.

ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر - 21، و ذكر أيضا أن ما عنده فهو خير.

قال تعالى: "و ما عند الله خير": القصص - 60، و انضمام الآيتين و ما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم و يتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه و هو خير له ينتفع به و يتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": الم السجدة - 7، مع قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو": المؤمن - 64.

و أما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته و إضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين و بالنسبة إلى علله و أسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: "و ما أصابك من سيئة فمن نفسك": النساء - 79، و قد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.

و بالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير و كله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، و ربما أشار إليه قوله تعالى و رزق ربك خير": طه - 131.

و من هنا يظهر أن الرزق و الخير و الخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير و مخلوق، و كل خلق رزق و خير، و إنما الفرق: أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، و الغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، و الواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، و كذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه:" طه - 50.

و الخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه و تختاره إذا أصابته، و القوة الغاذية خير للإنسان، و وجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا.

و أما الخلق و الإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، و كذا القوة الغاذية مخلوقة، و الإنسان مخلوق.

و لما كان كل رزق لله، و كل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، و ما أفاضه من خير و ما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، و بلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا، و لا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: "و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها": هود - 6، و قال: "فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون": الذاريات - 23.

فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.

و من هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه و يعاقبه عليه.

و توضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه، و كما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن و كافر، و متق و فاجر، و إنسان و غير إنسان، و رحمة خاصة و هي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان و التقوى و الجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، و هو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، و منه ما هو رزق خاص، و هو الواقع في مجرى الحل.

و كما أن الرحمة العامة و الرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى و خلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان - 2، كذلك الرحمة الخاصة و الرزق الخاص مكتوبان مقدران، و كما أن الهدى - و هو رحمة خاصة - مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، و لذلك أرسل الرسل و أنزل الكتب، قال تعالى: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين": الذاريات - 58، و قال تعالى: "و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه": الإسراء - 23، فالعبادة و هي تستلزم الهدى و تتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا، كذلك الرزق الخاص - و هو الذي عن مجرى الحل - مقضي مقدر، قال تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم و حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين": الأنعام - 140، و قال تعالى "و الله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء": النحل - 71، و الآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر و المؤمن و من يرتزق بالحلال و من يرتزق بالحرام.

و من الواجب أن يعلم: أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال و هو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله و الزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق و ضيقه غير كثرة المال مثلا و قلته، و للكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين": هود - 6.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض و لا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.

و أما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود و لا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر": القمر - 49، و قوله: "و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق - 3، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.

و قد تحصل من الآيتين أولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر الميم كله لله.

و ثانيا: أن الخير كله بيده و منه تعالى.

و ثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض و استحقاق.

و رابعا أن الملك و العزة و كل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال و الجاه و القوة و غير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.

بحث روائي

في الكافي، عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قل اللهم مالك الملك - تؤتي الملك من تشاء - و تنزع الملك ممن تشاء أ ليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب، إن الله عز و جل آتانا الملك، و أخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه: أقول: و روى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام): و إيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني، و هو انبساط السلطنة على الناس، و نفوذ القدرة فيهم، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود: "أن آتاه الله الملك" و أثره نفوذ الكلمة و مضي الأمر و الإرادة، و سنبحث عن معنى كونه تكوينيا، و إيتاء تشريعي، و هو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا": البقرة - 247، و أثره افتراض الطاعة، و ثبوت الولاية، و لا يكون إلا العدل، و هو مقام محمود عند الله سبحانه، و الذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الأول و أثره و قد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأول و أخذ معه أثر المعنى الثاني و هو المقام الشرعي، و الحمد الديني فنبهه (عليه السلام) أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم و لهم أثره، و بعبارة أخرى: الملك الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم (عليهم السلام)، و أما في أيدي بني أمية فليس إلا مذموما لأنه مغصوب و على هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر و الاستدراج كما في ملك نمرود و فرعون.



و قد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الإرشاد، في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رءوس شهداء الطف قال المفيد: و لما وضعت الرءوس و فيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد: نفلق هاما من رجال أعزة.

علينا و هم كانوا أعق و أظلما.

قال: ثم أقبل على أهل مجلسه فقال: إن هذا كان يفخر علي و يقول: أبي خير من أب يزيد، و أمي خير من أمه، و جدي خير من جده، و أنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، و أما قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، و أما قوله: جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد، و أما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية: قل اللهم مالك الملك الآية.

و ردت زينب بنت علي (عليه السلام) عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام) في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس و غيره: فقالت فيما خاطبته: أ ظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا و بك عليه كرامة، و إن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، و الأمور متسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، مهلا مهلا، أ نسيت قول الله: و لا يحسبن الذين كفروا - أنما نملي لهم خير لأنفسهم - إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين الخطبة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت الآية، قيل معناه: و تخرج المؤمن من الكافر و تخرج الكافر من المؤمن، قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و روى قريبا منه الصدوق عن العسكري (عليه السلام).

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي قال: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن و فيه، أيضا بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما خلق الله آدم (عليه السلام) أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة و لا أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال. هؤلاء أهل النار و لا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله: تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي.

أقول: و روي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا، و الرواية من أخبار الذر و الميثاق، و سيجيء بيانها في موضع يليق بها إن شاء الله.

و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال، و حوسب عليه.

و في النهج، قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و لن يبطىء عنك ما قد قدر لك.

و في قرب الإسناد:، ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها، و لكن لله فضول فاسألوا الله من فضله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و سيجيء استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إن شاء الله تعالى.

بحث علمي

قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة: أن اعتبار أصل الملك بالكسر من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا، و أن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك بالكسر.

و أما الملك بالضم و هو السلطنة على الأفراد فهو أيضا من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتداء هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متباينة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الأفراد المجتمعين لتباين إراداتهم و اختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم، و التعدي على حومة حدودهم و هضم حقوقهم فيقع الهرج و المرج، و يصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء و الهلاك، و يعود الدواء داء، و لا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط، و ترفع الدانية المستهلكة إليه أيضا فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص و تعطي كل ذي حق حقه.

و لما لم تكن الإنسانية في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية و التملك على النفوس و الأموال، و كانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه - و هو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض - يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة و إن كانوا هم أنفسهم و أعضادهم و جلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي، و ذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة و الاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.

و بالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي و إنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين إذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم و يتظلمون و يشتكون إذا بلغ بهم الجهد، و حمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.

نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك و الرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك، و أحسوا بالفتنة و الفساد، و هددهم اختلال النظم و وقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض أولي الطول و القوة منهم، و ألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي و التحميل.

و لم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي و إطلاقهم فيما يشاءون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم و أجبرت الملوك باتباعها و صار الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا، و اتحد الناس على التحفظ على ذلك، و كان الملك موروثا.



ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم و سوء سيرهم و لا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك، و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط، و ربما وجد في الأقوام و الأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم، و ربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.

لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعي التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها، و يجمع شتات إراداتها المتضادة و قواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام و هو مقام الملك و إن تغيرت أسماؤه، و تبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم، و مرور الأيام فإن طروق الهرج و المرج، و اختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات و المقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.

و هذا هو الذي تقدم في أول الكلام أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني.

و هو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها و إصلاحها و رفع نواقصها و آثارها المضادة لسعادة الإنسانية.

و للنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع: أن انتشار قول ما من الأقوال بين العامة و خاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة، و يستحسنه القريحة، و يطمئن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة و جعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض و تبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شيء.

و من الضروري: أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل، و تمنعهم عن الظلم، و تندبهم إلى عبادة الله و التسليم له، و تنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين، و النماردة المستكبرين المتغلبين، و لم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل، و أمة بعد أمة و إن اختلفت بحسب السعة و الضيق باختلاف الأمم و الأزمنة، و من المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوي بين الاجتماعات الإنسانية قرونا متمادية و هو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.

و قد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه: "رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا و مكروا مكرا كبارا و قالوا لا تذرن آلهتكم": نوح - 23، و كذا ما وقع بينه و بين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن، قال تعالى: "قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون": الشعراء - 113، و قول هود (عليه السلام) لقومه: "أ تبنون بكل ريع آية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون و إذا بطشتم بطشتم جبارين": الشعراء - 130، و قول صالح (عليه السلام) لقومه: "فاتقوا الله و أطيعون و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون": الشعراء - 152.

و لقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل و معارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة، و انتهض قبله إبراهيم (عليه السلام) لمعارضة نمرود و من بعده عيسى بن مريم (عليهما السلام) و سائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك و العظماء، و تقبيح سيرهم الظالمة، و دعوة الناس إلى رفض طاعة المفسدين و اتباع الطاغين.

و أما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد و الإباء عن الضيم، و إنباؤه عن عواقب الظلم و الفساد و العدوان و الطغيان مما لا يخفى قال تعالى: "أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد": الفجر - 14، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما أن الملك بالضم من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت: "و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين": البقرة - 251، و قد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام.

و في القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك و الولاية و افتراض الطاعة و نحو ذلك، و أخرى تعده نعمة و موهبة كقوله تعالى: "و آتيناهم ملكا عظيما": النساء - 54، و قوله تعالى: "و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين": المائدة - 20، و قوله تعالى: "و الله يؤتي ملكه من يشاء": البقرة - 247، إلى غير ذلك من الآيات.

غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شيء من الكرامة من مزايا الحيوة، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم": الحجرات - 13، و التقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشيء لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لأمر دنيوي، و لا قدر إلا للدين و إن كان أمرا أخرويا فأمره إلى الله سبحانه، و على الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد و مشقة التقلد و الأعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر و مزيد الثواب إن لازم صراط العدل و التقوى.

و هذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين، و سنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة، و أنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض و يعارضوهم في طغيانهم و استكبارهم.

و لذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك، و تشييد بنيان القيصرية و الكسروية، و إنما تلقى الملك شأنا من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار.

بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع و الاتحاد و الاتفاق على الدين، و نهاهم عن التفرق و الشقاق فيه، و جعله هو الأصل، فقال تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله": الأنعام - 153، و قال تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون": آل عمران - 64، فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده و يعتبر من المجتمع المجتمع الديني، و يدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد، و الخضوع لكل قصر مشيد، و منتدى رفيع و ملك قيصري و كسروي و التفرق بإفراز الحدود و تفريق الأوطان و غير ذلك.

بحث فلسفي

لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم، و إن الرابطة بينه و بين العالم جزءا و كلا هي رابطة العلية، و قد تبين في أبحاث العلة و المعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته، و أما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح و الصدور و الافتقار إلى العلة، و ينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول و لا منته إلى الواجب تعالى.

و يشكل الأمر في استناد الأمور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها و ثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار و الوضع و حيطة الفرض، و ما يشتمل عليه الشريعة من الأمر و النهي و الأحكام و الأوضاع كلها أمور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى، و كذا أمثال الملك و العز و الرزق و غير ذلك.

و الذي تحل به العقدة أنها و إن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثارا هي الحافظة لأسمائها كما مر مرارا، و هذه الآثار أمور حقيقية مقصودة بالاعتبار و لها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع و إن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي، و إنما هو معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لو لا فرض هذا المعنى الموهوم و تقديره، و هي قهر المتغلبين و أولي السطوة و القوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء و الخاملين، و وضع كل من الأفراد في مقامه الذي له، و إعطاء كل ذي حق حقه، و غير ذلك.

لكن لما كان حقيقة معنى الملك و اسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه، و كذلك القول في العزة الاعتبارية، و آثارها الخارجية و استنادها إلى عللها الحقيقة، و كذلك الأمر في غيرها كالأمر و النهي و الحكم و الوضع و نحو ذلك.

و من هنا يتبين: أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه و عزه.

3 سورة آل عمران - 28 - 32

لا يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك فَلَيْس مِنَ اللّهِ فى شىْءٍ إِلا أَن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكمُ اللّهُ نَفْسهُ وَ إِلى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فى صدُورِكمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَت مِنْ خَيرٍ محْضراً وَ مَا عَمِلَت مِن سوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكمُ اللّهُ نَفْسهُ وَ اللّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ الرّسولَ فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ لا يحِب الْكَفِرِينَ (32)

بيان


الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب و المشركين و التعريض لهم، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم و الامتزاج الروحي بالمشركين و بهم جميعا، و إن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم و دعوة إلى تركهم و الاتصال بحزب الله، و حب الله و طاعة رسوله.

قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، الأولياء جمع الولي من الولاية و هي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم و أمور أموالهم فالمال لهم و تدبير أمره لوليهم، ثم استعمل و كثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين في أمور الآخر لإفضائه إلى التقرب و التأثر عن إرادة المحبوب و سائر شئونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حيوته.

فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم و التأثر منهم في الأخلاق و سائر شئون الحيوة و تصرفهم في ذلك، و يدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: من دون المؤمنين، فإن فيه دلالة على إيثار حبهم على حب المؤمنين، و إلقاء أزمة الحيوة إليهم دون المؤمنين، و فيه الركون إليهم و الاتصال بهم و الانفصال عن المؤمنين.

و قد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين و اليهود و النصارى و اتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه، و يعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله: من دون المؤمنين بعد قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، و اشتمال قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء" الآية: المائدة - 51، على قوله: بعضهم أولياء بعض، و تعقب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء" الآية: الممتحنة - 1، بقوله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.

و على هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للدلالة على سبب الحكم و علته، و هو أن صفتي الكفر و الإيمان مع ما فيهما من البعد و البينونة و لا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف و الأخلاق و طريق السلوك إلى الله تعالى و سائر شئون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الاتحاد و الامتزاج، و هاتان الصفتان توجبان التفرق و البينونة، و إذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان و آثاره ثم فساد أصله، و لذلك عقبه بقوله: و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، ثم عقبه أيضا بقوله: إلا أن تتقوا منهم تقية، فاستثنى التقية فإن التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

و دون في قوله: من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة و القصور، و المعنى: مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا.

و الظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك و أخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله: "إلهين من دون الله": المائدة - 116، و قوله: "و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء - 48، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك و أهون، كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيدا أي الزمه، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي.

قوله تعالى: و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، أي و من يتخذهم أولياء من دون المؤمنين، و إنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به إلا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح، و هو شائع في اللسان، و لذلك أيضا لم يقل: و من يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.

و من في قوله: من الله، للابتداء، و يفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى: "و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون": المائدة - 56، و كما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله: "فمن تبعني فإنه مني": إبراهيم - 36، أي من حزبي، و كيف كان فالمعنى و الله أعلم: ليس من حزب الله مستقرا في شيء من الأحوال و الآثار.

قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقية، الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب و لعل التقية في المورد من هذا القبيل.

و الاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب و الولاية ليس من التولي في شيء لأن الخوف و الحب أمران قلبيان متباينان و متنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.

و في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار و أبويه ياسر و سمية و هي قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم": النحل - 106.

و بالجملة الكتاب و السنة متطابقان في جوازها في الجملة، و الاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين، و لا هم لشارعه إلا ظهور الحق و حياته، و ربما يترتب على التقية و المجاراة مع أعداء الدين و مخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين و حيوة الحق ما لا يترتب على تركها، و إنكار ذلك مكابرة و تعسف، و سنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي، و في الكلام على قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان": النحل - 106.

قوله تعالى: و يحذركم الله نفسه و إلى الله المصير، التحذير تفعيل من الحذر و هو الاحتراز من أمر مخيف و قد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى: "إن عذاب ربك كان محذورا": إسراء - 57، و حذر من المنافقين و فتنة الكفار فقال: "هم العدو فاحذرهم": المنافقين - 4، و قال: "و احذرهم أن يفتنوك": المائدة - 49، و حذرهم من نفسه كما في هذه الآية و ما يأتي بعد آيتين، و ليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية، أي ليس بين هذا المجرم و بينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن، و إنما هو الله الذي لا عاصم منه، و لا أن بينه و بين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي و لا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، و يزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد و يؤكده تذييله أولا بقوله: و إلى الله المصير، و ثانيا بقوله: و الله رءوف بالعباد على ما سيجيء من بيانه.

و من جهة أخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية و سائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية، و رفض لولاية الله سبحانه، و دخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، و بالجملة هو طغيان و إفساد لنظام الدين الذي هو أشد و أضر بحال الدين من كفر الكافرين و شرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء و الحذر، و أما الصديق و الحميم إذا استأنس مع الأعداء و دب فيه أخلاقهم و سننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة و أهلها من حيث لا يشعرون، و هو الهلاك الذي لا رجاء للحياة و البقاء معه.

و بالجملة هو طغيان، و أمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى: "أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد": الفجر - 14، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب و لا مانع.

و من هنا يظهر: أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: و يحذركم الله نفسه، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه و إفساده.



و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون": هود - 113، و هذه آية ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنها شيبته - على ما في الرواية - فإن الآيتين - كما هو ظاهر للمتدبر - ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه، و هو الانتقام الإلهي لا عاصم منه و لا دافع له كما تقدم بيانه.

و من هنا يظهر أيضا: أن في قوله: و يحذركم الله نفسه، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضاء حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم حائل يحول في البين، و لا عاصم من الله سبحانه و قد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود: فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.

و في قوله: و إلى الله المصير دلالة على أن لا مفر لكم منه و لا صارف له، ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.

و الآيات أعني قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية و ما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن، و سيجيء بيانه إن شاء الله في سورة المائدة.

قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، الآية نظيرة قوله تعالى: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة - 284، غير أنه لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء، و جرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.

و قد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة - و هو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام، و ليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله: و من يفعل ذلك.

و في قوله تعالى: و يعلم ما في السموات و ما في الأرض و الله على كل شيء قدير مضاهاة لما مر من آية البقرة و قد مر الكلام فيه.

قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الظرف متعلق بمقدر أي و اذكر يوم تجد، أو متعلق بقوله: يعلمه الله و يعلم، و لا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى، و ذلك كظهور ملكه و قدرته و قوته في اليوم، قال تعالى: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": المؤمن - 16، و قال: "لا عاصم اليوم من الله": هود - 43، و قال: "و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا": البقرة - 165، و قال: "و الأمر يومئذ لله": الانفطار - 19، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك و القدرة و القوة و الأمر دائما - قبل القيامة و فيها و بعدها - و إنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه.

و من ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله: يعلمه الله، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة.

على أن في قوله تعالى: محضرا، دون أن يقول: حاضرا دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة، و لا حافظ لها إلا الله سبحانه، قال تعالى: "و ربك على كل شيء حفيظ": سبأ - 21 و قال: "و عندنا كتاب حفيظ": ق - 4.

و قوله: تجد، من الوجدان خلاف الفقدان، و من في قوله: من خير و من سوء للبيان، و التنكير للتعميم، أي تجد كل ما عملت من الخير و إن قل و كذا من السوء و قوله: و ما عملت من سوء، معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق و الآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، و قد مر البحث عنها في سورة البقرة.

قوله تعالى: تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا، الظاهر أنه خبر لمبتدإ محذوف و هو الضمير الراجع إلى النفس، و لو للتمني، و قد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.

و الأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد و الأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، و لا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا، و الفرق بين الزمان و الأمد، أن الأمد يقال باعتبار الغاية، و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذا قال بعضهم: الأمد و المدى يتقاربان، انتهى.

و في قوله: تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا، دلالة على أن حضور سيىء العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها، و إنما تود الفاصلة الزمانية بينها و بينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلا أن تحب بعده و عدم حضوره في أشق الأحوال، و عند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك، قال تعالى: "نقيض له شيطانا فهو له قرين إلى أن قال: حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين": الزخرف - 38.

قوله تعالى: و يحذركم الله نفسه و الله رءوف بالعباد ذكر التحذير ثانيا يعطي من أهمية المطلب و البلوغ في التهديد ما لا يخفى، و يمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية، و التحذير الأول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا و الآخرة.

و أما قوله: و الله رءوف بالعباد فهو - على كونه حاكيا عن رأفته و حنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية و الرقية - دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف و التحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف و إيجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد إلا الخير و الصلاح، تقول: إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه، إنما أخبرك بهذا رأفة بك و شفقة.

فيئول المعنى - و الله أعلم - إلى مثل أن يقال: إن الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع و لا دفع دافع.

قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، قد تقدم كلام في معنى الحب، و أنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى: "و الذين آمنوا أشد حبا لله" الآية: البقرة - 165.

و نزيد عليه هاهنا: أنه لا ريب أن الله سبحانه - على ما ينادي به كلامه - إنما يدعو عبده إلى الإيمان به و عبادته بالإخلاص له و الاجتناب عن الشرك كما قال تعالى: "ألا لله الدين الخالص": الزمر - 3، و قال تعالى: "و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين": البينة - 5، و قال تعالى: "فادعوا الله مخلصين له الدين و لو كره الكافرون": المؤمن - 14، إلى غير ذلك من الآيات.

و لا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان - الذي لا يريد شيئا و لا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي و تعلق قلبي - بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل و لا مطلوب أخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار و إنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى.



ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه و كل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده و يتم بالمحبوب ما للمحب من النقص و لا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه، و عند ذلك يتلاقى حبان، و يتعاكس دلالان.

فالإنسان إنما يحب الغذاء و ينجذب ليجده و يتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع، و كذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق و كذا يريد لقاء الصديق ليجده و يملك لنفسه الأنس و له يضيق صدره، و كذا العبد يحب مولاه و الخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية، و مخدوما له حق المخدومية، و لو تأملت موارد التعلق و الحب أو قرأت قصص العشاق و المتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله و يكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا و الحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به، و يوجب الخضوع و التسليم لكل ما هو في جانبه، و الله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شئون وجوده و يبتغي إليه الوسيلة و يصير إليه كل ما دق و جل، فمن الواجب أن يكون حبه و الإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد و طريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان و شعوره، و إن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو الدين الذي يندب إليه سفراؤه، و يدعو إليه أنبياؤه و رسله، و خاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه، و هو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع و طرق النبوة كما يختم بصادعه الأنبياء (عليهم السلام)، و هذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.

و قد عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، و طريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين": يوسف - 108، فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة و الإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة و إخلاص، و اتباعه و اقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.

ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة و الإخلاص فقال: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها": الجاثية - 18، و ذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن": آل عمران - 20، ثم نسبه إلى نفسه و بين أنه صراطه المستقيم فقال: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه": الأنعام - 153، فتبين بذلك كله أن الإسلام و هو الشريعة المشرعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو مجموع المعارف الأصلية و الخلقية و العملية و سيرته في الحيوة هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد و يبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، و هو دين الحب.

و من جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها، أعني قوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فالمراد - و الله أعلم - إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص و الإسلام و هو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي و شأنه هذا الشأن أحبكم الله و هو أعظم البشارة للمحب، و عند ذلك تجدون ما تريدون، و هذا هو الذي يبتغيه محب بحبه، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

و أما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء و ارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان و بين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله و أنهم من حزبه فإن ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم و لا ولاية إلا باتباع و ابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز و مال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين": الجاثية - 19، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهي ذلك إلى ولاية الله له بحبه.

و إنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتني عليه الولاية، و إنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي و المؤمنين تئول بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى: و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم، الرحمة الواسعة الإلهية و ما عنده من الفيوضات المعنوية و الصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده و أصنافهم، و لا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، و لا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره، قال تعالى: "و ما كان عطاء ربك محظورا": إسراء - 20.

و الذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب و الزلفى و جميع الأمور التي هي من توابعها كالجنة و ما فيها، و إزالة رينها عن قلب الإنسان و مغفرتها و سترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة و الدخول في دار الكرامة، و لذلك عقب قوله: يحببكم الله بقوله: و يغفر لكم ذنوبكم، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب، و كما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له و قصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد، و كشفه حجب البعد و سبحات الغيبة، و لا حجاب إلا الذنب فيستدعي ذلك مغفرة الذنوب، و أما ما بعده من الكرامة و الإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا.

و التأمل في قوله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين - 15 مع قوله تعالى في هذه الآية: "يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم" كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى: قل أطيعوا الله و الرسول، الخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى اتباع الرسول، و الاتباع و هو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع اسم مفعول سالك سبيل، و السبيل الذي يسلكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه، و هو الشريعة التي شرعها لنبيه و افترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر و نواه و دعوة و إرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله و رسوله في الشريعة المشرعة.

و لعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد، و ذكر الرسول معه سبحانه لأن الكلام في اتباعه.

و من هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أن المعنى: أطيعوا الله في كتابه و الرسول في سنته.

و ذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله: قل أطيعوا الله و الرسول "الخ" كالمبين لقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني"، على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، و لذا لم يكرر الأمر، و لو كان مورد الإطاعة مختلفا في الله و رسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم": النساء - 59، كما لا يخفى.

و اعلم أن الكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها و من حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى: فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار و فيه أيضا إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة، و قد كانت الآية الأولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.

<<        الفهرس        >>