جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و قال "هيجين" في كتاب "الإنكلوساكسون" كان الفرس يدعون متروسا الكلمة و الوسيط و مخلص الفرس.

و نقل عن كتاب سكان أوروبة الأولين: أنه كان الوثنيون القدماء يقولون: إن الإله مثلث الأقانيم.

و نقل عن اليونان و الرومان و الفنلنديين و الإسكندناويين قضية الثالوث السابق الذكر، و كذا القول بالكلمة عن الكلدانيين و الآشوريين و الفينيقيين.

و قال دوان في كتابه "خرافات التوراة و ما يقابلها من الديانات الأخرى" ص 181 182 ما ترجمته بالتلخيص: "إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا عند الهنود الوثنيين و غيرهم" و ذكر شواهد على ذلك: منها قوله: يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر - الذي هو نفس الآلهة فشنو الذي لا ابتداء له و لا انتهاء على رأيهم - تحرك حنوا كي يخلص الأرض من ثقل حملها فأتاها و خلص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

و ذكر أن "مستر مور" قد صور كرشنا مصلوبا كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين و الرجلين، و على قميصه صورة قلب الإنسان معلقا، و وجدت له صورة مصلوبا و على رأسه إكليل من الذهب، و النصارى تقول: إن يسوع صلب و على رأسه إكليل من الشوك.

و قال "هوك" في ص 326 من المجلد الأول من رحلته: و يعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة، و تقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

و قال "موريفورليمس" في ص 26 من كتابه الهنود و يعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية، و مما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم و توسلاتهم التي يتوسلون بها بعد "الكياتري" و هو، إني مذنب و مرتكب الخطيئة، و طبيعتي شريرة، و حملتني أمي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام و الذنوب.

و قال القس "جورجكوكس" في كتابه الديانات القديمة في سياق الكلام عن الهنود: و يصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتا لأنه قدم شخصه ذبيحة.

و نقل "هيجين" عن "اندارادا الكروزوبوس" و هو أول أوروبي دخل بلاد التيبال و التبت: أنه قال في الإله "اندرا" الذي يعبدونه: أنه سفك دمه بالصلب و ثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم، و أن صورة الصلب موجودة في كتبهم.

و في كتاب "جورجيوس" الراهب صورة الإله "اندرا" هذا مصلوبا، و هو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي أقصرها - و فيه صورة وجهه - و السفلي أطولها، و لو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصا، هذا.

و أما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح، و المولود الوحيد، و مخلص العالم، و يقولون إنه إنسان كامل و إله كامل تجسد بالناسوت، و أنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر و يخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، و يجعلهم وارثين لملكوت السماوات، بين ذلك كثير من علماء الغرب: منهم "بيل" في كتابه، و "هوك" في رحلته، و "موالر" في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية، و غيرهم.

فهذه نبذة أو أنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت، و حديث الصلب و الفداء في الديانات القديمة التي كانت الأمم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت الديانة النصرانية تنبسط على الأرض، و أخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها، فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أصول المسيحية و أفرغوها في قالب الوثنية و استمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل دعوتهم و هضم تعليمهم؟.

و يؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس و غيره من الطعن في حكمة الحكماء و فلسفتهم و الإزراء بطرق الاستدلالات العقلية، و أن الإله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

و ليس ذلك إلا لأنهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل و الاستدلال فرده أهله بأنه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة و الامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثم إن الدعاة منهم ترهبوا و جالوا في البلاد على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل و التواريخ و بسطوا الدعوة المسيحية و استقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد، كان من سر موفقيتهم و خاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت البلاد من فشو الظلم و التعدي، و شمول أحكام الاسترقاق و الاستعباد، و البون البعيد في حيوة الطبقة الحاكمة و المحكومة و الآمرة و المأمورة و الفصل الشاسع بين عيشة الأغنياء و أهل الإتراف و الفقراء و المساكين و الأرقاء.

و قد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة و المحابة و التساوي و المعاشرة الجميلة بين الناس، و رفض الدنيا و عيشتها الكدرة الفانية، و الإقبال على الحيوة الصافية السعيدة التي في ملكوت السماء، و لهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك و القياصرة كل العناية، و لا يقصدونهم بالأذى و السياسة و الطرد.

فلم يزالوا يزيدون عددا من غير تظاهر و تنافس و ينمون قوة و شدة حتى حصل لهم جم غفير في إمبراطورية الروم و إفريقية و الهند و غيرها من البلاد، و لم يزالوا كلما بنوا كنيسة و فتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحدا من بيوت الأوثان أغلقوا بابه.

و كانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم، و لا بملوك الوقت و حكامه في التعالي عن خضوعهم و في مخالفة أحكامهم و دساتيرهم، و ربما كان ذلك يؤديهم إلى الهلاك و القتل و الحبس و العذاب فكان لا تزال تقتل طائفة و تسجن أخرى و تشرد ثالثة.

و كان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر "كنستانتين" فآمن بالملة المسيحية و أعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية و بنيت الكنائس في الروم و ما يتبع إمبراطوريته من الممالك، و ذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي.

تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم و أخذت تبعث القسيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس و الديرات و مدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي.

و الذي يجب إلفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على أصول مسلمة إنجيلية فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب و الابن و الروح، و مسألة الصلب و الفداء و غير ذلك أصولا مسلمة و بنوا البحث و التنقير عليها.

و هذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن و الوهاء فإن استحكام البناء المبني و إن بلغ ما بلغ و استقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئا، و ما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة و الصلب و الفداء أمر غير معقول.

و قد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبدا فكم في الأديان من مسألة تعبدية تحيلها العقول.



و هو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد، و كيف يتصور وقوع مسألة مستحيلة في دين حق؟ و نحن إنما نقبل الدين و نميز كونه دين حق بالعقل و كيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل و يحيله؟ و هل هذا إلا تناقض صريح؟.

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، و السنة الطبيعية القائمة، و أما المحال الذاتي فلا البتة.

و هذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف و المشاجرة بين الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية و انكباب المحصلين على الأبحاث المذهبية في مدارس الروم و الإسكندرية و غيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة و تهيىء مجمعا مشكلا عند ظهور كل قول حديث و بدعة جديدة من البطارقة و الأساقفة لإقناعهم بالمذهب العام و تكفيرهم و نفيهم و طردهم و قتلهم إذا لم يقنعوا.

و أول مجمع عقدوه مجمع نيقيه لما قال أريوس: إن أقنوم الابن غير مساو لأقنوم الأب، و إن القديم هو الله و المسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة و المطارفة و الأساقفة في قسطنطينية بمحضر من القيصر كنستانتين و كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و اتفقوا على هذه الكلمة "نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء، و صانع ما يرى و ما لا يرى، و بالإبن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، و ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم و كل شيء، الذي من أجلنا و من أجل خلاصنا نزل من السماء، و تجسد من روح القدس، و ولد من مريم البتول، و صلب أيام فيلاطوس، و دفن ثم قام في اليوم الثالث، و صعد إلى السماء، و جلس عن يمين أبيه، و هو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات و الأحياء، و نؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، و بمعمودية واحدة لغفران الخطايا، و بجماعة واحدة قدسية مسيحية - جاثليقية، و بقيام أبداننا و الحيوة أبد الآبدين".

هذا هو المجمع الأول و كم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطورية و اليعقوبية و الأليانية و اليليارسية و المقدانوسية و السباليوسية و النوئتوسية و البولسية و غيرها.

و مع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها و لا تتوانى و لا تهن في دعوتها و تزيد كل يوم في قوتها و سيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول أوروبا إلى التنصر كفرنسا و الإنجليز و النمسا و البروس و الإسبانيا و البرتغال و البلجيك و هولندا و غيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاد سنة 496.

و لم تزل تتقدم و ترتقي الكنيسة من جانب و من جانب آخر كانت تهاجم الأمم الشمالية و العشائر البدوية على الروم و الحروب و الفتن تضعف سلطنة القياصرة و آل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم و الأمم المتغلبة على إلقاء زمام أمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام أمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية و الجسمانية لرئيس الكنيسة اليوم و هو البابا جريجوار و كان ذلك سنة 590 الميلادية.

و صارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما و الروم الشرقي الذي عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما و هذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك أتباع كنيسة روما و الأورثوذكس و هم غيرهم.

و كان الأمر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان و قتل القيصر بالياولوكوس و هو آخر قياصرة الروم الشرقي و قسيس الكنيسة اليوم قتل في كنيسة أياصوفيا.

و ادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببية كانت بينهم و بين قياصرة الروم و كانت الروس تنصرت في القرن العاشر الميلاد فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما و كان ذلك سنة 1454 الميلادية.

و بقي الأمر على هذا الحال نحوا من خمسة قرون حتى قتل تزار نيكولا و هو آخر قياصرة الروسيا قتل هو و جميع أهل بيته سنة 1918 الميلادية بيد الشيوعيين فعادت كنيسة روما تقريبا إلى حالها قبل الانشعاب.

لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤساؤها السلطة على جميع جهات حيوة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها و ارتفاعها ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصا من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة و الباباوات و طاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم و يقرره اتفاق علمائهم و قسيسهم و هؤلاء هم الأورثوذكس.

و طائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلا فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي لكنيسة روما و لا معتنين للأوامر الصادرة منها و هؤلاء هم البروتستانت.

فانشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق الكاثوليك و هي التابعة لكنيسة روما و تعليمها و الأورثوذكس و هي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها و قد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة و خاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى مسكو بروسيا كما تقدم و البروتستانت و هي الخارجة عن تبعية الكنيسة و تعليمها جميعا و قد استقلت طريقتهم و تظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاد.

هذا إجمال ما جرى عليه أمر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرنا و البصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم أولا أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم و المعاني التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الألف و العادة من عقائد الوثنية و الأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

و ثانيا أن اقتدار الكنيسة و خاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين و الدنيا و انقادت لهم كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا و نصب من شاءوا.

يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافيا على باب قصره في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد أن يغفرها له.

و رفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جاءه جاثيا يطلب المغفرة.

و قد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفا لم يدعهم إلا أن يروا دين الإسلام دين الوثنية يستفاد ذلك من الشعارات و الأشعار التي نظموها في استنهاض النصارى و تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم و بين المسلمين سنين متطاولة.



فإنهم كانوا يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام و أن لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب ماهوم و يسمى بافوميد و ماهومند و هو أول الآلهة و هو محمد و بعده ايلين و هو الثاني و بعده ترفاجان و هو الثالث و ربما يظهر من بعض كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين و هما مارتوان و جوبين و لكنهما بعد الثلاثة المتقدمة رتبة و كانوا يقولون إن محمدا بنى دعوته على دعوى الألوهية و ربما قالوا إنه كان اتخذ لنفسه صنما من ذهب.

و في أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين قوموا و قلبوا ماهومند و ترفاجان و ألقوهما في النار تقربا من إلهكم.

و في أشعار رولان في وصف ماهوم إله المسلمين أنه مصنوع تاما من الذهب و الفضة و لو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم يصنعه عظيمة جثته جيدة صنعته و في سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب و الفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر و قد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات و أجودها بطنه خال و ربما أحس الناظر من بطنه ضوءا هو مرصعة بالأحجار الثمينة المتلألئة يرى باطنه من ظاهره و لا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

و لما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة و قد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحدا في طلب إلههم الذي كان بمكة يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يروي بعض من شاهد الواقعة أن الإله يعني محمدا جاءهم و قد أحاط به جم غفير من أتباعه و هم يضربون الطبول و العيدان و المزامير و البوقات المعمولة من فضة و يتغنون و يرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور و ترح و مرح و قد كان خليفته منتظرا لقدومه فلما رآه قام على ساقه و اشتغل بعبادته بخضوع و خشوع.

و يذكر "ريشار" أيضا في وصف وحي الإله ماهوم الذي سمعت وصفه فيقول: "إن السحرة سخروا واحدا من الجن و جعلوه في بطن ذلك الصنم، و كان ذلك الجني يرعد و يعربد أولا ثم يأخذ في تكليم المسلمين و هم ينصتون له".

و أمثال هذه الطرف توجد كثيرا 004 في بطن ذلك الصنم و كان ذلك الجني يرعد و يعربد أولا ثم يأخذ في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو المتعرضة لشئونها و إن كان ربما أبهتت القارىء و أدهشته تعجبا و حيرة، و كاد أن لا يصدق صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة و لا رآها في نومة أو نعسة.

و ثالثا: أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم، فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي دبيبها أولا بالغلو في حق المسيح (عليه السلام) ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب و الابن و الروح، و القول بالصلب و الفداء، و استلزم ذلك القول برفض العمل و الاكتفاء بالاعتقاد.

و كان ذلك أولا في صورة الدين و كان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم و صلاة و تعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه و يقوى روحه و يبرز الانشعابات حتى ظهرت البروتستانت، و قامت القوانين الرسمية مقام الهرج و المرج في السياسات مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون الأحكام العملية المضمونة الإجراء فلم يزل التعليم الديني يضعف أثرا و يخيب سعيا حتى انثلمت تدريجا أركان الأخلاق و الفضائل الإنسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة.

و ظهرت الشيوعية و الاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك و رفض القول باللاهوت و الأخلاق الفاضلة الثابتة و الأعمال الدينية فانهدمت الإنسانية المعنوية، و ورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية و بهيمية، و انتهضت الدنيا تسير إليها سيرا حثيثا.

و أما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيرا فليست إلا ملاعب سياسية يلعب بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم و أمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق كل باب و تدب كل جحر و ثقب.

ذكر الدكتور جوزفشيتلر" أستاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو: "أن النهضة الدينية الجديدة في إمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شئون الحيوة في المدنية الحديثة، و تثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين.

و أن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من نتائج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت يوما بينهم فلا يلتفتوا إليها".

و ذكر الدكتور جرجفلوروفسكى أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أن التعليمات الدينية بإمريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية دينية لكان من الواجب أن تتكىء على تعليمات عميقة واقعية.

فانظر من أين خرج وفد الدين و في أين نزل.

بدأت الدعوة باسم إحياء الدين العقيدة و الأخلاق الملكات الحسنة و الشريعة الأعمال و اختتمت بإلغاء الجميع و وضع التمتع الحيواني موضعها.

و ليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس، بولس الحواري و أعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد الإنسانية بالفناء "مدنية بولسية" كان أحق بالتصديق من قولهم: إن المسيح هو قائد الحضارة و المدنية الحاضرة و حامل لوائها.

بحث روايي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية: إن عيسى لم يقل للناس: إني خلقتكم فكونوا عبادا لي من دون الله، و لكن قال لهم: كونوا ربانيين أي علماء.

أقول: و قد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن، و قوله: لم يقل للناس: إني خلقتكم، بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنه خلقهم و لم يخبر و لم يفعل.

و فيه، أيضا: في قوله تعالى: و لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أربابا الآية، قال: كان قوم يعبدون الملائكة، و قوم من النصارى زعموا أن عيسى رب، و اليهود قالوا: عزير ابن الله فقال الله: و لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أربابا.

أقول: و قد تقدم بيانه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، و النصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و دعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني، يقال له الرئيس: أ و ذاك تريد منا يا محمد؟. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني و لا بذلك أمرني، فأنزل الله من قولهما: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلى قوله: بعد إذ أنتم مسلمون.

و فيه، أيضا و أخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله يسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أ فلا نسجد لك؟ قال: لا و لكن أكرموا نبيكم و اعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول و قد روي في سبب النزول غير هذين السببين و الظاهر أن ذلك من الاستنباط النظري و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك و من الممكن أن تجتمع عدة أسباب في نزول آية و الله أعلم.

3 سورة آل عمران - 81 - 85

وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَقَ النّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكم مِّن كتَبٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكمْ رَسولٌ مّصدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَ لَتَنصرُنّهُ قَالَ ءَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إِصرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُم مِّنَ الشهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلى بَعْدَ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ (82) أَ فَغَيرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسلَمَ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ طوْعاً وَ كرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنّا بِاللّهِ وَ مَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَ مَا أُنزِلَ عَلى إِبْرَهِيمَ وَ إِسمَعِيلَ وَ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب وَ الأَسبَاطِ وَ مَا أُوتىَ مُوسى وَ عِيسى وَ النّبِيّونَ مِن رّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسلِمُونَ (84) وَ مَن يَبْتَغ غَيرَ الاسلَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فى الاَخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ (85)

بيان


الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها و السياق سياق واحد مستمر جار على وحدته و كأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب و الدين يحرفون الكلم عن مواضعه، و يستغشون بتلبيس الأمر على الناس و التفرقة بين النبيين و إنكار آيات نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و نفي أن يكون نبي من الأنبياء كموسى و عيسى (عليهما السلام) يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين و الملائكة أربابا على ما هو صريح قول النصارى، و ظاهر قول اليهود.

شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك و قد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم و ينصروه، و ذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء، و تبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى و شريعته، و تبشيره بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أممهم و أشهدهم عليهم، و بين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السماوات و الأرض.

ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول و طاعة فيؤمن بالله و بجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، و أن يسلم لله سبحانه، و أن يأتي بذلك عن نفسه و عن أمته، و هو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة و من أمته بواسطته كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه، الآية تنبىء عن ميثاق مأخوذ، و قد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى: ثم جاءكم رسول "الخ" كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله: أ أقررتم و أخذتم على ذلكم إصري "الخ"، و قوله بعد: قل آمنا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين و مأخوذ منهم و إن كان مأخوذا من غيرهم أيضا بواسطتهم.

و على هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ميثاق النبيين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم و الميثاق واحد، و بعبارة أخرى يجوز أن يراد بالنبيين، المأخوذ لهم الميثاق و المأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد: أن النبيين بعد ما آتاهم الله الكتاب و الحكم و النبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك و كيف يتأتى لهم ذلك؟ و قد أخذ منهم الميثاق على الإيمان و النصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.

و قوله: لما آتيتكم من كتاب و حكمة القراءة المشهورة، و هي قراءة غير حمزة بفتح اللام و التخفيف في لما و عليها فما موصولة و آتيتكم، - و قرأ آتيناكم - صلته، و الضمير محذوف، يدل عليه قوله: من كتاب و حكمة، و الموصول مبتدأ خبره قوله: لتؤمنن به "الخ" و اللام في لما ابتدائية، و في لتؤمنن به لام القسم، و المجموع بيان للميثاق المأخوذ، و المعنى: للذي آتيتكموه من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به و نصرتموه البتة.

و يمكن أن يكون ما شرطية و جزاؤها قوله لتؤمنن به، و المعنى مهما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه، و هذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر، و المعنى عليه أسلس و أوضح، و الشرط في موارد المواثيق أعرف، و أما قراءة كسر اللام في "لما" فاللام فيها للتعليل و ما موصولة، و الترجيح لقراءة الفتح.

و الخطاب في قوله: آتيتكم، و قوله: جاءكم، و إن كان بحسب النظر البدوي للنبيين لكن قوله بعد: أ أقررتم و أخذتم على ذلكم إصري، قرينة على أن الخطاب للنبيين و أممهم جميعا أي أن الخطاب مختص بهم و حكمه شامل لهم و لأممهم جميعا فعلى الأمم أن يؤمنوا و ينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا و ينصروا.

و ظاهر قوله: ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، التراخي الزماني أي إن على النبي السابق أن يؤمن و ينصر النبي اللاحق، و أما ما يظهر من قوله: قل آمنا بالله "الخ" أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق و اللاحق للآخر، و أن على اللاحق أن يؤمن و ينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيء إن شاء الله العزيز.

و قوله: لتؤمنن به و لتنصرنه، الضمير الأول و إن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر، قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله" الآية: البقرة - 285، لكن الظاهر من قوله: قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل على إبراهيم "الخ"، رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب و حكمة، و رجوع الضمير الثاني إلى الرسول، و المعنى لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب و حكمة و لتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقا لما معكم.

قوله تعالى: قال أ أقررتم و أخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا، الاستفهام للتقرير، و الإقرار معروف، و - الإصر - هو العهد، و هو مفعول أخذتم، و أخذ العهد يستلزم مأخوذا منه غير الأخذ و ليس إلا أمم الأنبياء، فالمعنى أ أقررتم أنتم بالميثاق، و أخذتم على ذلكم عهدي من أممكم قالوا: أقررنا.

و قيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: و أخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم، و يؤيده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب، و على هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الأمم و يبعده قوله: قال فاشهدوا، لظهور الشهادة في أنها على الغير، و كذا قوله بعد: قل آمنا بالله "الخ" من غير أن يقول: قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل نفسه و أمته إلا أن يقال: إن اشتراك الأمم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا، و قوله: قل آمنا بالله، من غير أن يفيد قوله: و أخذتم، في ذلك شيئا.

قوله تعالى: قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء و أممهم جميعا، و يشهد لذلك كما مر قوله: قل آمنا بالله، و يشهد لذلك السياق أيضا، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى و موسى (عليهما السلام) و غيرهما كما يدل عليه قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون، و غيره.

و ربما يقال: إن المراد بقوله: فاشهدوا، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال: إن المخاطبين بقوله: فاشهدوا، هم الملائكة دون الأنبياء.

و المعنيان و إن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شيء منهما بغير قرينة، و قد عرفت أن القرينة على الخلاف.

و من اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله: و إذ أخذ الله ميثاق النبيين - إلى قوله: - ثم جاءكم رسول، و قد مر في ذيل قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة" الآية: البقرة - 213، الفرق بين النبوة و الرسالة و أن الرسول أخص مصداقا من النبي.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.



و بذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، و يأمر بعضهم بالإيمان ببعض، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء، و هو ظاهر.

فمحصل معنى الآية على ما مر: أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء و أممهم أن لو آتاهم الله الكتاب و الحكمة و جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم و ينصرن الرسول و ذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم و المعاصر، و بشارة من المتقدم بالمتأخر و توصية الأمة، و من الأمة الإيمان و التصديق و النصرة، و لازم ذلك وحدة الدين الإلهي.

و ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يبشروا أممهم بمبعثه، فهو و إن كان صحيحا إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب و لومهم و عتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم و كتمان آيات النبوة و العناد و العتو مع صريح الحق.

قوله تعالى: فمن تولى بعد ذلك "الخ" تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور، و المعنى واضح.

قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون و له أسلم، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين، و المعنى فإذا كان دين الله واحدا و هو الذي أخذ عليه الميثاق من عامة النبيين و أممهم و كان على المتقدم من الأنبياء و الأمم أن يبشروا بالرسول المتأخر و يؤمنوا بما عنده و يصدقوه فما ذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب و قد كفروا بك و ظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد؟ و لذلك لا يصدقونك و لا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنه الدين الذي يبتني على الفطرة، و كذلك يجب أن يكون الدين، و الدليل عليه أن من في السماوات و الأرض من أولي العقل و الشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى: و له أسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها، هذا الإسلام الذي يعم من في السماوات و الأرض و منهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين، و لفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي و التحقق لا محالة و هو التسليم التكويني لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي، و يؤيده أو يدل عليه قوله طوعا و كرها.

و على هذا فقوله: و له أسلم، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل و السبب عن ذكر المدلول و المسبب، و تقدير الكلام: أ فغير الإسلام يبغون؟ و هو دين الله لأن من في السماوات و الأرض مسلمون له منقادون لأمره، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعا من أنفسهم، و إن كرهوا ما شاءه و أرادوا غيره كان الأمر أمره و جرى عليهم كرها من غير طوع.

و من هنا يظهر أن الواو في قوله: طوعا و كرها، للتقسيم، و أن المراد بالطوع و الكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه، و كراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت و الفقر و المرض و نحوها.

قوله تعالى: و إليه يرجعون هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام دينا فإن مرجعهم إلى الله مولاهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى: قل آمنا بالله و ما أنزل علينا، أمر النبي أن يجري على الميثاق الذي أخذ منه و من غيره فيقول عن نفسه و عن المؤمنين من أمته: آمنا بالله و ما أنزل علينا "الخ".

و هذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء و أممهم جميعا كما مرت الإشارة إليه آنفا.

قوله تعالى: و ما أنزل على إبراهيم و إسماعيل إلى آخر الآية، هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم، و لا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود و سليمان و يونس و أيوب و غيرهم.

و قوله: و النبيون من ربهم، تعميم للكلام ليشمل آدم و نوحا و من دونهما، ثم جمع الجميع بقوله: لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون.

قوله تعالى: و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه "الخ" نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ، و فيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.

بحث روايي

في المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته، و يبشروهم به و يأمروهم بتصديقه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه، و يأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا: و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة الآية.

أقول: و الروايتان تفسران الآية بمجموع ما يدل عليه اللفظ و السياق كما مر.

و في المجمع، و الجوامع، عن الصادق (عليه السلام): في الآية معناه و إذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين كل أمة بتصديق نبيها، و العمل بما جاءهم به فما وفوا به و تركوا كثيرا من شرائعهم و حرفوا كثيرا.

أقول: و ما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء و أممهم جميعا.

و في المجمع، أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: أ أقررتم و أخذتم الآية، قال: أ أقررتم و أخذتم العهد بذلك على أممكم، قالوا أي قال الأنبياء و أممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به قال الله: فاشهدوا بذلك على أممكم، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و على أممكم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله قال فاشهدوا يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و عليهم فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر.

أقول: و قد مر توجيه معنى الرواية.

و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): قال لهم في الذر: أ أقررتم و أخذتم على ذلكم إصري أي عهدي قالوا: أقررنا، قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول: لفظ الآية لا يأباه و إن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدم.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و من يبتغ غير الإسلام دينا الآية:، أخرج أحمد و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلوة فتقول: يا رب أنا الصلوة فيقول: إنك على خير، و تجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله: إنك على خير، بك اليوم آخذ، و بك أعطي. قال الله في كتابه: و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه - و هو في الآخرة من الخاسرين. و في التوحيد، و تفسير العياشي،: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عز و جل.



أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الذي قدمناه في البيان.

و لو أريد به مجرد نفي الشريك كان الطوع و الكره هما الدلالة الاختيارية و الاضطرارية.

و اعلم: أن هاهنا عدة روايات أخر رواها العياشي و القمي في تفسيريهما، و غيرهما في معنى قوله: و إذ أخذ الله ميثاق النبيين الآية، و فيها لتؤمنن برسول الله، و لتنصرن أمير المؤمنين (عليه السلام)، و ظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمنن به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير و لتنصرنه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير دليل يدل عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقد تسموا باسم ما سمى الله به أحدا إلا علي بن أبي طالب و ما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجيء تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيين و المؤمنين حتى ينصروه و هو قول الله: و إذ أخذ الله ميثاق النبيين - لما آتيتكم من كتاب و حكمة إلى قوله و أنا معكم من الشاهدين.

و بذلك يهون أمر الإشكال فإنه إنما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير و أما التأويل فقد عرفت أنه ليس من قبيل المعنى، و لا مرتبطا باللفظ في ما تقدم من تفسير قوله: "هو الذي أنزل عليك الكتاب" الآية: آل عمران - 7.

3 سورة آل عمران - 86 - 91

كَيْف يَهْدِى اللّهُ قَوْماً كفَرُوا بَعْدَ إِيمَنهِمْ وَ شهِدُوا أَنّ الرّسولَ حَقّ وَ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَت وَ اللّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (86) أُولَئك جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلَئكَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَلِدِينَ فِيهَا لا يخَفّف عَنْهُمُ الْعَذَاب وَ لا هُمْ يُنظرُونَ (88) إِلا الّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِك وَ أَصلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (89) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَنِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولَئك هُمُ الضالّونَ (90) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَ مَا لَهُم مِّن نّصِرِينَ (91)

بيان


الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب و إن كان يمكن أن تستقل بنفسها و تنفصل عما تقدمها، و هو ظاهر.

قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم، الاستفهام يفيد الاستبعاد و الإنكار، و المراد به استحالة الهداية، و قد ختم الآية بقوله: و الله لا يهدي القوم الظالمين، و قد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، و ذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم و توبتهم منه.

و أما قوله: و شهدوا أن الرسول حق، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يفيده قوله: و جاءهم البينات، و إن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة و الحمية و نحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: و جاءهم البينات.

و كيف كان الأمر فانضمام قوله: و شهدوا "الخ" إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق و لجاج مع أهله و هو البغي بغير الحق و الظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة و الفلاح.

و قد قيل في قوله: و شهدوا "الخ" إنه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل، و التقدير كفروا بعد أن آمنوا و شهدوا "الخ" أو أن الواو للحال، و الجملة حالية بتقدير "قد".

قوله تعالى: أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله - إلى قوله -: و لا هم ينظرون، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى: "أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون": البقرة - 159.

قوله تعالى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا "الخ" أي دخلوا في الصلاح، و المراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر و تطهر باطنهم بالإيمان، و أما الإتيان بالأعمال الصالحة فهو و إن كان مما يتفرع على ذلك و يلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة و لا ركنا منها، و لا في الآية دلالة عليه.

و في قوله: فإن الله غفور رحيم وضع العلة موضع المعلول و التقدير فيغفر الله له و يرحمه فإن الله غفور رحيم.

قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أولا.

كيف يهدي الله قوما كفروا "الخ" و هو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص، و المعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة عليه، و لا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد كفرا فيطغى، و لا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله و لا يقبل توبته لأنه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، و لا مطمع في اهتدائه.

و إما كافر يموت على كفره و عناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه و لا بدل لذلك حتى يفتدي به، و لا شفيع و لا ناصر حتى يشفع له أو ينصره.

و من هنا يظهر أن قوله: و أولئك هم الضالون باشتماله على اسمية الجملة، و الإشارة البعيدة في أولئك، و ضمير الفصل، و الاسمية و اللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

و كذا يظهر أن المراد بقوله: و ما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة آية 48 من سورة البقرة فارجع إليه.

و قد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء و الناصرين لكونهما كالبدل، و البدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان و قد فاتتهم التوبة في الدنيا و لا بدل لها يحل محلها في الآخرة.

و من هنا يظهر أن قوله: و ماتوا و هم كفار في معنى: و فاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله: "و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما": النساء - 18 فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة و انقطاع الدنيا و تفوت عند ذلك التوبة.

و الملء في قوله: ملء الأرض ذهبا مقدار ما يسعه الإناء من شيء فاعتبر الأرض إناء يملؤه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية.

بحث روايي

في المجمع،: في قوله تعالى كيف يهدي الله قوما الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، و كان قتل المجدر بن زياد البلوي غدرا، و هرب و ارتد عن الإسلام، و لحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية إلى قوله: إلا الذين تابوا، فحملها إليه رجل من قومه فقال: إني لأعلم أنك لصدوق، و رسول الله أصدق منك، و إن الله أصدق الثلاثة، و رجع إلى المدينة و تاب و حسن إسلامه:، عن مجاهد و السدي و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر عن ابن عباس: أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد و قيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثم لحق بقريش فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدي الله قوما إلى آخر القصة.

أقول: و روي القصة بطرق أخرى و فيها اختلافات، و من جملتها ما رواه عن عكرمة: أنها نزلت في أبي عامر الراهب و الحارث بن سويد بن الصامت و وحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام و لحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

و منها ما في المجمع،: في قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا الآية، أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلما افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافرا، إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار الآية، نسبها إلى بعضهم.

و قيل إنها نزلت في أهل الكتاب، و قيل: إن قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قيل غير ذلك.

و التأمل في هذه الأقوال و الروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم.

و أما الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات، و الله أعلم.

3 سورة آل عمران - 92 - 95

لَن تَنَالُوا الْبرّ حَتى تُنفِقُوا مِمّا تحِبّونَ وَ مَا تُنفِقُوا مِن شىْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كلّ الطعَامِ كانَ حِلاّ لِّبَنى إِسرءِيلَ إِلا مَا حَرّمَ إِسرءِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (93) فَمَنِ افْترَى عَلى اللّهِ الكَذِب مِن بَعْدِ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الظلِمُونَ (94) قُلْ صدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُوا مِلّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كانَ مِنَ المُْشرِكِينَ (95)

بيان


ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح و من الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، و قد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا" الآية: آل عمران - 64، من حيث تاريخ النزول.

و ربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، و لا يزال موجها إليهم، و محصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم و لومهم على حب الدنيا و إيثار المال و المنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه و أنبيائه و أنكم أهل البر و التقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم و تبخلون في بذلها و لا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله و فقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، و لا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: و فيه تمحل ظاهر!.

و أما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، النيل هو الوصول، و البر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر خلاف البحر، و تصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، انتهى.

و مراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق و النية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله و الإنفاق في سبيل الله تعالى، و قد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلوة و آتى الزكوة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس" الآية: البقرة - 177.

و من انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البر الآية، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية و الاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، و عده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات و الأعمال التي لا يظهر معها فوت و لا زوال منه.

و من هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، و كان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، و نحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية.

و يتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية و العملية، و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله و إنعامه، و ما في قول آخرين: إن المراد به الجنة.

قوله تعالى: و ما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم، تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم و ما ينفقونه.

قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، الطعام كل ما يطعم و يتغذى به و كان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة و ينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق، و الحل مقابل الحرمة، و كأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد و العقل فيفيد معنى الإطلاق، و إسرائيل هو يعقوب النبي (عليه السلام) سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، و يقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه على ما في التوراة و هو مما يكذبه القرآن و يحيله العقل.

و قوله: إلا ما حرم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفا، و قوله: من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى، و المعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.

و في قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و يدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع و يحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها" الآية: البقرة - 106، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم": النساء - 160.

و كذا يدل قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، و كون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، و الاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، و هي ملة فطرية لا إفراط فيها و لا تفريط، كيف؟ و هم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، و النسخ غير جائز؟.

فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، و يظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: "و قالت اليهود يد الله مغلولة": المائدة - 64، و قوله: "و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة": البقرة - 80، و قوله "و قالوا قلوبنا غلف": البقرة - 88 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و كذا قوله تعالى بعد عدة آيات: "قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ": آل عمران" 98100.

و بالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون و يتحاورون.

و حاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا و هو يخبر بالنسخ، و أن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، و هذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، و حاصل الجواب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة و اتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، و هو قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب و أنكم الظالمون، و ذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله الظالمون.

و قد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي و هي ملة إبراهيم حنيفا، و ذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم إلى آخر الآية.

و للمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.

و أعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ، و تقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم و النبيين بعده - كما تدعي - فكيف تستحل ما كان محرما عليه و عليهم كلحم الإبل؟ أما و قد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، و موافق في الدين، و لا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به.



و محصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس و منهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، و السيئات كما قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية: النساء - 160، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، و معنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم و اجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، و قوله: من قبل أن تنزل التورية متعلق بقوله: حرم إسرائيل، و لو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزل التورية لغوا زائدا من الكلام لبداهه أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره.

هذا محصل ما ذكره و ذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال: إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.

و قد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه، و عمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزل التورية على أنه متعلق بقوله: حرم إسرائيل، مع كونه متعلقا بقوله: كان حلا، في صدر الكلام و قوله إلا ما حرم، استثناء معترض.

و من ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أن إطلاق إسرائيل و إرادة بني إسرائيل و إن كان جائزا على حد قولهم: بكر و تغلب و نزار و عدنان يريدون بني بكر و بني تغلب و بني نزار و بني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، و لا أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة في غير هذا المورد الذي يدعيانه مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، و من جملتها نفس هذه الآية: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: إسرائيل، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، و ناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.

و من أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل و لو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: قل فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صادقين أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، و هذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و على هذا ففيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، و تعريض لليهود، و الكلام يجري مجرى الكناية.

و أما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك، و على هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية و الستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: "إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين": سبأ - 24، و المشار إليه بذلك هو البيان و الحجة.

و إنما قال: من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، و القصر في قوله: فأولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال.

قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا "الخ" أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به و دعوتكم إليه فاتبعوا ديني و اعترفوا بحلية لحم الإبل و غيره من الطيبات التي أحلها الله، و إنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم و ظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتبعوا "الخ" كالكناية عن اتباع دينه، و إنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم و سائر الرزق.

بحث روايي

في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله.

أقول: و ما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة و الجماعة.

و قوله في الرواية: لم يحرمه و لم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه، و المعنى لم يحرمه موسى و لم يأكله، و يحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل، و يظهر من التاج، أن التفعيل و المفاعلة فيه بمعنى واحد.

3 سورة آل عمران - 96 - 97

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِى بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَ هُدًى لِّلْعَلَمِينَ (96) فِيهِ ءَايَت بَيِّنَتٌ مّقَامُ إِبْرَهِيمَ وَ مَن دَخَلَهُ كانَ ءَامِناً وَ للّهِ عَلى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ استَطاعَ إِلَيْهِ سبِيلاً وَ مَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنىّ عَنِ الْعَلَمِينَ (97)

بيان


الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ، و هي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، و قد مر في تفسير قوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام" الآية: البقرة - 144 أن تحويل، القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية و معنوية في حيوة أهل الكتاب - و خاصة اليهود - مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ، و لذلك طالت المشاجرات و المشاغبات بينهم و بين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

و المستفاد من الآية - إن أول بيت "الخ" - أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ و بين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة و هل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا؟.

و الجواب: أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك و وضعها للعبادة، و فيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، و أما بيت المقدس فبانيه سليمان و هو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة إلى آخر الآية، البيت معروف، و المراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم و هو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، و يستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، و بقصده و المسير إليه و غير ذلك، و الدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا و هدى للعالمين و غير ذلك، و يشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس عنده في الطواف و الصلوة و غيرهما من العبادات و المناسك، و أما كونه أول بيت بني على الأرض و وضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

و المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، و ربما قيل إن بكة هي مكة، و أنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم و لازب و راتم و راتب و نحو ذلك، و قيل: هو اسم للحرم، و قيل: المسجد، و قيل: المطاف.

و المباركة مفاعلة من البركة و هي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه و جعله فيه، و هي و إن كانت تشمل البركات الدنيوية و الأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: هدى للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية و عمدتها وفور الأرزاق و توفر الهمم و الدواعي إلى عمرانه بالحج إليه و الحضور عنده و الاحترام له و إكرامه فيئول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون": إبراهيم - 37.

و كونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، و إيصاله إياهم إلى الكرامة و القرب و الزلفى بما وضعه الله للعبادة، و بما شرع عنده من أقسام الطاعات و النسك و لم يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين و معبدا للعابدين.

و قد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه، قال تعالى: "و عهدنا إلى إبراهيم و إسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود": البقرة - 125، و قال: خطابا لإبراهيم: "و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق": الحج - 27، و الآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان و الدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين و الأبعدين من العشائر و القبائل.

و دل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره و معروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى (عليه السلام): "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك": القصص - 27، فقد أراد بالحج سنة و ليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره.

و كذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا بالعبادة آية في الهداية راجع سورة إبراهيم.

و كان عرب الجاهلية يعظمونه و يأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم، و قد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه، و هذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه و ذكره، و أما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح، و قد ملأ ذكره مشارق الأرض و مغاربها، و هو يعرض نفسه لأفهام الناس و قلوبهم بنفسه و بذكره، و في عبادات المسلمين و طاعاتهم و قيامهم و قعودهم و مذابحهم و سائر شئونهم.

فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين.

على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة و ائتلاف الأمة و شهادة منافعهم، و يهدي عالم غيرهم بإيقاظهم و تنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة و ائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.

و من هنا يظهر أولا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا و الآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.

و ثانيا: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص و جماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين و ذلك لما فيه من سعة الهداية.

قوله تعالى: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، الآيات و إن وصفت بالبينات، و أفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، و المقام مقام بيان مزايا البيت و مفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف و لا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح، و الوصف بما لا غبار عليه بالإبهام و الإجمال، و هذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا و لله على الناس إلى آخر الآية بيانا لقوله: آيات بينات فالآيات هي: مقام إبراهيم، و تقرير الأمن فيه، و إيجاب حجة على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يتراءى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، و الأمن لمن دخله، و حجة لمن استطاع إليه سبيلا، و في ذلك إرجاع قوله: و من دخله، سواء كان إنشاء أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن و إرجاع قوله: و لله على الناس، و هي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة و تأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.

و إنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم "الخ"، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان و يقري الضيف و يجب علينا أن نتبعه.

قوله تعالى: مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف و التقدير فيه مقام إبراهيم، و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، و قد استفاض النقل بأن الحجر مدفون في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم، و قد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية: و موطىء إبراهيم في الصخر رطبة.

على قدميه حافيا غير ناعل.

و ربما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.
<<        الفهرس        >>