جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج3 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


و يمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم و الأمن و الحج ثم وضع قوله: و من دخله، و قوله: و لله على الناس، و هما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين، و هذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، و يحفظ الجهتين كحكاية الكلام في موضع الإخبار كقوله: "كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله": البقرة - 285، و كما مر في قوله تعالى "أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" الآية: البقرة - 258، و قوله: "أو كالذي مر على قرية" الآية: البقرة - 259، و قد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، و كما في قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم": الشعراء - 89، و كما في قوله تعالى: "و لكن البر من آمن بالله الآية: البقرة - 177، حيث وضع صاحب البر، مكان البر، و كما في قوله تعالى: "و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع" الآية: البقرة - 171 و مثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

و على هذا فوزان قوله: فيه آيات بينات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردد بين الإنشاء و الإخبار، وزان قوله: "و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب و وهبنا له أهله و مثلهم معهم رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب": ص - 44.

و هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية، و إن كان بدلا و لا بد فالأولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلا و جعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالتين على بدلين محذوفين.

و التقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم و أمن الداخل و حج المستطيع للبيت.

و لا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه، و أي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم و أجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم و من حرم آمن يأمن من دخله و من مناسك و عبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، و لا تنسخ بانتساخ الليالي و الأيام، و أما كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنة الطبيعة فليس من الواجب، و لا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، و لا استعماله في القرآن ينحصر فيه.

قال تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها" الآية: البقرة - 106، و هي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، و قال تعالى: "أ تبنون بكل ريع آية تعبثون": الشعراء - 128، إلى غير ذلك من الآيات.

و من هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة، و كون الأمن و الحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.

و كذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور أخر من خواص الكعبة و قد أغمضنا عن ذكرها، و من أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة و خوارق العادة، و لا دليل على ذلك كما مر.

فالحق أن قوله: و من دخله كان آمنا: مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم و البقرة و قد كان هذا الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية و يتصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

و أما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن و الحوادث العظام لا تقع و لا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب و المقاتلات و اختلال الأمن فيه، و خاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، و قوله تعالى "أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم": العنكبوت - 67، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن و استمراره في الحرم، و ليس ذلك إلا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت و وجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) و ينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه و تشريعه.

و كذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: "رب اجعل هذا البلد آمنا": إبراهيم - 35، و قوله: "رب اجعل هذا بلدا آمنا": البقرة - 126، حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن و سوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك و قبوله زمانا بعد زمان.

قوله تعالى: و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، الحج بالكسر و قرىء بالفتح هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه الشرع، و قوله: سبيلا تمييز من قوله: استطاع.

و الآية تتضمن تشريع الحج إمضاء لما شرع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم: "و أذن في الناس بالحج" الآية: الحج - 27، و من هنا يظهر أن وزان قوله: و لله على الناس "الخ" وزان قوله تعالى: و من دخله كان آمنا في كونه إخبارا عن تشريع سابق و إن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.

قوله تعالى: و من كفر فإن الله غني عن العالمين، الكفر هاهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة و الزكوة فالمراد بالكفر الترك.

و الكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشإ كما أن قوله: فإن الله غني "الخ" من قبيل وضع العلة موضع المعلول، و التقدير: و من ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين.

بحث روائي

عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس: الآية فقال له رجل أ هو أول بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى و الرحمة و البركة. و أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب: في قوله "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال: كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.

أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير عن مطر مثله، و الروايات في هذه المعاني كثيرة.

و في العلل، عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكة، و القرية مكة.

و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

و فيه، عن الباقر (عليه السلام): إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال و النساء، و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك، و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.



و فيه، عن الباقر (عليه السلام) قال: لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحى الأرض من تحته و هو قول الله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها.

أقول: و الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، و ليست مخالفة للكتاب، و لا أن هناك برهانا يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم، و قد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

و هذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت أي بقعة في الأرض و إن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الأوليان.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فيه آيات بينات: أنه سئل ما هذه الآيات البينات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه، و الحجر الأسود، و منزل إسماعيل.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و لعل ذكره هذه الأمور من باب العد و إن لم تشتمل على بعضها الآية.

و في تفسير العياشي، عن عبد الصمد، قال: طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم لنزيد في المسجد و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لم يغمك ذلك و حجتك عليهم فيه ظاهرة، فقال: و بما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة، و قد أخبرك الله: أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، و إن كان البيت قديما فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

و فيه، عن الحسن بن علي بن النعمان، قال: لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له: إنه لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا، فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) لأخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر (عليه السلام) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟. فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فلا بد من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بد منه، فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، و إن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها. فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتابا في ثمن دارهم فكتب إليه أن أوضح لهم شيئا فأرضاهم.

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، و كان أبو جعفر المنصور كان هو البادىء بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لله على الناس حج البيت "الخ"، يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان.

أقول: و رواه العياشي في تفسيره، و قد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي و هو القصد.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): و من كفر قال: ترك.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و قد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان، و أن المراد منه الكفر بالفروع.

و في الكافي، عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال: لا، و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و الكفر في الرواية بمعنى الرد، و الآية تحتمله، فالكفر فيها بمعناه اللغوي و هو الستر على الحق، و على حسب الموارد تتعين له مصاديق.


بحث تاريخي

من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل و جرهم من قبائل اليمن و هي بناء مربع تقريبا و زواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح و لا تضرها مهما اشتدت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم أو بالعكس كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرن الثاني قبل الهجرة هدمها و بناها فأحكم بناءها، و سقفها بخشب الدوم و جذوع النخل و بنى إلى جانبها دار الندوة، و كان في هذه الدار حكومته و شوراه مع أصحابه، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، و فتحوا عليه أبواب دورهم.

و قبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها و كان الذي يبنيها ياقوم الرومي، و يساعده عليه نجار مصري، و لما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، و سنه إذ ذاك خمس و ثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله و سداد رأيه، فطلب رداء و وضع عليه الحجر، و أمر القبائل فأمسكوا بأطرافه و رفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

و كانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليه الآن و قد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

و كان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة، و أصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت و أحرقت كسوتها و بعض أخشابها، ثم انكشف عنها لموت يزيد، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة و يعيد بناءها فأتى لها بالجص النقي من اليمن، و بناها به و أدخل الحجر في البيت، و ألصق الباب بالأرض، و جعل قبالته بابا آخر ليدخل الناس من باب و يخرجوا من آخر، و جعل ارتفاع البيت سبعة و عشرين ذراعا و لما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك و العبير داخلا و خارجا، و كساها بالديباج، و كان فراغه من بنائها 17 رجب سنة 64 هجرية.

ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله، و دخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع و شبرا، و بنى ذلك الجدار على أساس قريش، و رفع الباب الشرقي و سد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.

و لما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين و تسعمائة غير سقفها، و لما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى و عشرين بعد الألف أحدث فيها ترميما و لما حدث السيل العظيم سنة تسع و ثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية و الشرقية و الغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها و لم يزل على ذلك حتى اليوم و هو سنة ألف و ثلاث مائة و خمس و سبعين هجرية قمرية و سنة ألف و ثلاثمائة و ثمانية و ثلاثين هجرية شمسية.

شكل الكعبة:

شكل الكعبة مربع تقريبا و هي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة و يبلغ ارتفاعها ستة عشر مترا، و قد كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام التي كانت على الكعبة و كسرها.

و طول الضلع الذي فيه الميزاب و الذي قبالته عشرة أمتار و عشرة سانتي مترات، و طول الضلع الذي فيه الباب و الذي قبالته اثنا عشر مترا، و الباب على ارتفاع مترين من الأرض، و في الركن الذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر و نصف من أرض المطاف، و الحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم لونه أسود ضارب إلى الحمرة، و فيه نقط حمراء، و تعاريج صفراء، و هي أثر لحام القطع التي كانت تكسرت منه، قطرة نحو ثلاثين سانتي مترا.

و تسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي، و الغربي بالشامي و الجنوبي باليماني، و الشرقي الذي فيه الحجر الأسود بالأسود، و تسمى المسافة التي بين الباب و ركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه و استغاثته، و أما الميزاب على الحائط الشمالي و يسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم غيره السلطان سليمان سنة 954 إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021 بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية، ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة 1273 ميزابا من الذهب فنصب مكانه و هو الموجود الآن.

و قبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم، و هو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية و الغربية، و يبعدان عنهما مقدار مترين و ثلاثة سانتي مترات، و يبلغ ارتفاعه مترا، و سمكه مترا و نصف متر، و هو مبطن بالرخام المنقوش، و المسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار و أربعة و أربعون سانتي مترا.

و الفضاء الواقع بين الحطيم و بين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل، و قد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريبا في الكعبة في بناء إبراهيم، و الباقي كان زريبة لغنم هاجر و ولدها، و يقال: إن هاجر و إسماعيل مدفونان في الحجر.

و أما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير و ترميم، و ما للبيت من السنن و التشريفات فلا يهمنا التعرض له.

كسوة الكعبة:

قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر و إسماعيل و نزولهما أرض مكة أن هاجر علق كساءها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

و أما كسوة البيت نفسه فيقال: إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة، و تبعه خلفاؤه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، و كلما بلي منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصي، و وضع قصي على العرب رفادة لكسوتها سنويا و استمر ذلك في بنيه و كان أبو ربيعة بن المغيرة يكسوها سنة و قبائل قريش سنة.

و قد كساها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالثياب اليمانية، و كان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، و ذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، و إبدالها بكسوة واحدة كل سنة، و جرى العمل على ذلك حتى اليوم، و للكعبة كسوة من داخل، و أول من كساها من داخل أم العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.

منزلة الكعبة:

كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الأمم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها، و يقولون: إن روح "سيفا" و هو الأقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

و كانت الصابئة من الفرس و الكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة، و ربما قيل: إنه بيت زحل لقدم عهده و طول بقائه.

و كانت الفرس يحترمون الكعبة أيضا زاعمين أن روح هرمز حلت فيها، و ربما حجوا إليها زائرين.

و كانت اليهود يعظمونها و يعبدون الله فيها على دين إبراهيم، و كان بها صور و تماثيل منها تمثال إبراهيم و إسماعيل، و بأيديهما الأزلام، و منها صورتا العذراء و المسيح، و يشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضا كاليهود.

و كانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم، و تعدها بيتا لله تعالى، و كانوا يحجون إليها من كل جهة و هم يعدون البيت بناء لإبراهيم، و الحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة:

كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق و هم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، و قد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة و فيهم ملوكهم.

ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحو من ثلاثمائة سنة، و زادوا في بناء البيت و رفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثم لما نشأت ولد إسماعيل و كثروا و صاروا ذوي قوة و منعة و ضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم و أخرجوهم من مكة و مقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحي، و هو كبير خزاعة فاستولى على مكة و تولى أمر البيت، و هو الذي وضع الأصنام على الكعبة و دعى الناس إلى عبادتها، و أول صنم وضعه عليها هو "هبل"، حمله معه من الشام إلى مكة و وضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت و شاعت عبادتها بين العرب، و هجرت الحنيفية.

و في ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحي.

{يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة --- شتى بمكة حول البيت أنصابا}

{و كان للبيت رب واحد أبدا --- فقد جعلت له في الناس أربابا}



لتعرفن بأن الله في مهل.

سيصطفي دونكم للبيت حجابا.

و كانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته و كانت تحت قصي بن كلاب، و جعل فتح الباب و غلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير و زق خمر، و في ذلك يضرب المثل السائر "أخسر ممن صفقة أبي غبشان".

فانتقلت الولاية إلى قريش، و جدد قصي بناء البيت كما قدمناه و كان الأمر على ذلك حتى فتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة، و دخل الكعبة و أمر بالصور و التماثيل فمحيت، و أمر بالأصنام فهدمت و كسرت، و قد كان مقام إبراهيم و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن، و هو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة.

و أخبار الكعبة و ما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج و الكعبة.

و من خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه و جعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الإسلام.

3 سورة آل عمران - 98 - 101

قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ اللّهُ شهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونهَا عِوَجاً وَ أَنتُمْ شهَدَاءُ وَ مَا اللّهُ بِغَفِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ (100) وَ كَيْف تَكْفُرُونَ وَ أَنتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ ءَايَت اللّهِ وَ فِيكمْ رَسولُهُ وَ مَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِى إِلى صرَطٍ مّستَقِيمٍ (101)

بيان


الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب فريق منهم و هم اليهود أو فريق من اليهود كانوا يكفرون بآيات الله، و يصدون المؤمنين عن سبيل الله بإراءته إياهم عوجا غير مستقيم، و تمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلا لله، و ذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلا، و الباطل الذي يدعونهم إليه حقا، و الآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة، و إنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة، و كون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار و التوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات و تفتينهم المؤمنين في دينهم، و تحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، و ترغيب و تحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان و تدوم هدايتهم.

و قد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول، على ما قيل: أن شاش بن قيس و كان يهوديا مر على نفر من الأوس و الخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شابا معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا و تفاخروا حتى وثب رجلان. أوس بن قرظي من الأوس، و جبار بن صخر من الخزرج فتقاولا و غضب الفريقان، و تواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء حتى وعظهم و أصلح بينهم فسمعوا و أطاعوا فأنزل الله في أوس و جبار: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا - من الذين أوتوا الكتاب الآية، و في شاش بن قيس: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله الآية.

و الرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم مفصلا و روي ما يقرب منها عن ابن عباس و غيره.

و كيف كان، الآيات أقرب انطباقا على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر، على أن الآيات يذكر الكفر و الإيمان، و شهادة اليهود، و تلاوة آيات الله على المؤمنين، و نحو ذلك، و كل ذلك لما ذكرناه أنسب، و يؤيد ذلك قوله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم" الآية: البقرة - 109 فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.

قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله "الخ"، المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة، و كون القبلة هي الكعبة في الإسلام.

قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله إلى قوله: عوجا، الصد الصرف، و قوله: تبغونها أي تطلبون السبيل، و قوله: عوجا: العوج المعطوف المحرف، و المراد طلب سبيل الله معوجا من غير استقامة.

قوله تعالى: و أنتم شهداء، أي تعلمون أن الطعام كان حلا قبل نزول التوراة و أن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة، و قد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيدا على فعلهم و كفرهم، و فيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقيقة ما ينكرونه و الله شهيد على إنكارهم و كفرهم.

و لما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله: و الله شهيد على ما تعملون من قوله في ذيل هذه الآية. و ما الله بغافل عما تعملون فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية، و الله سبحانه شهيد على الجميع.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا - إلى قوله: - و فيكم رسوله، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم، و قوله تعالى: و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله و التدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم و لا بعيد عنكم، و استظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبهة ألقتها اليهود إليكم و التمسك بآيات الله و برسوله و الاعتصام بهما اعتصام بالله، و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

فالمراد بالكفر في قوله: و كيف تكفرون، الكفر بعد الإيمان، و قوله: و أنتم تتلى عليكم، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله و برسوله، و قوله: و من يعتصم بالله، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك و المراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت و هو الصراط الذي لا يختلف و لا يتخلف أمره، و يجمع سالكيه في مستواه و لا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.

و في تحقيق الماضي في قوله: فقد هدي، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.

و يتبين من الآية أن الكتاب و السنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.

3 سورة آل عمران - 102 - 110

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَ لا تمُوتُنّ إِلا وَ أَنتُم مّسلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَت اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّف بَينَ قُلُوبِكُمْ فَأَصبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَ كُنتُمْ عَلى شفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنهَا كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلّكمْ تهْتَدُونَ (103) وَ لْتَكُن مِّنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَْيرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالمَْعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَت وَ أُولَئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَض وُجُوهٌ وَ تَسوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسوَدّت وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمّا الّذِينَ ابْيَضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (107) تِلْك ءَايَت اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظلْماً لِّلْعَلَمِينَ (108) وَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ إِلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) كُنتُمْ خَيرَ أُمّةٍ أُخْرِجَت لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكتَبِ لَكانَ خَيراً لّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكثرُهُمُ الْفَسِقُونَ (110)

بيان

الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب و تفتينهم، و أن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا و لا يسقطوا في حفر المهالك، و هي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، و لا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، و الدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: لن يضروكم إلا أذى "الخ".

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، قد مر فيما مر أن التقوى و هو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا و تحرزا من عذابه كما قال تعالى: "فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة": البقرة - 24، و ذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده و يرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، و الانتهاء عن نواهيه، و الشكر لنعمه، و الصبر عند بلائه، و يرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه و بالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع و لا يعصى و يخضع له فيما أعطى أو منع.

لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية و غفلة و هي الطاعة من غير معصية، و الشكر من غير كفر، و الذكر من غير نسيان، و هو الإسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته، و على هذا يرجع معنى قوله: و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون إلى نحو قولنا: و دوموا على هذه الحال حق التقوى حتى تموتوا.

و هذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم": التغابن - 16، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص و أفهامهم و هممهم، و لا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس، فإن في هذا المسير الباطني مواقف و معاهد و مخاطر لا يعقلها إلا العالمون، و دقائق و لطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة و إن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم، و أقبلوا بهممهم على ما هو أشق و أصعب.

فقوله: فاتقوا الله ما استطعتم الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله، اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى، و يقصدوا نيل هذا المقام و الشخوص و المثول فيه، و ذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون، و مع ذلك يدعى إليه جميع الناس، فيكون محصل الآيتين: اتقوا الله حق تقاته - فاتقوا الله ما استطعتم أن يندب جميع الناس و يدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا و استطاعوا، و ينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة، و على درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام و الهمم، و على ما يفاض عليهم من توفيق الله و تأييده و تسديده، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.

و منه يظهر: أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، و لا أن الآية الأولى أعني قوله: اتقوا الله حق تقاته الآية، أريد بها عين ما أريد من قوله: فاتقوا الله ما استطعتم الآية، بل الآية الأولى تدعو إلى المقصد و الثانية تبين كيفية السلوك.

قوله تعالى: و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون الموت من الأمور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا، و لذلك يكون الأمر و النهي المتعلقان به و بأمثاله أمرا و نهيا تكوينيين كقوله: "فقال لهم الله موتوا": البقرة - 243، و قوله: "أن يقول له كن فيكون": يس - 82، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافا إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو و ينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر و النهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى: "فلا تكونن من الممترين": البقرة - 147، و قوله: "و لا تكن مع الكافرين": هود - 42، و قوله: "و كونوا مع الصادقين": التوبة - 119، و غير ذلك، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء و الكفر و التزام الصدق مثلا يعد أمرا اختياريا فيؤمر به و ينهى عنه أمرا و نهيا مولويين.

و بالجملة النهي عن الموت إلا مع الإسلام إنما هو لمكان عده اختياريا و يرجع بالأخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميت مات في حال الإسلام.

قوله تعالى: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا، ذكر سبحانه فيما مر من قوله: و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله و من يعتصم بالله الآية أن التمسك بآيات الله و برسوله الكتاب و السنة اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم، مضمون له الهدى، و التمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا: الحشر - 7.

و قد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله، و هو الذي يصل ما بين العبد و الرب و يربط السماء بالأرض، و إن شئت قلت: إن حبل الله هو القرآن و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.

و القرآن و إن لم يدع إلا إلى حق التقوى و الإسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى و الموت على الإسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد، و هذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة و الدليل عليه قوله: "جميعا" و قوله: "و لا تفرقوا فالآيات تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب و السنة كما تأمر الفرد بذلك.



قوله تعالى: "و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" جملة إذ كنتم، بيان لما ذكر من النعمة، و عليه يعطف قوله: "و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.

و الأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل و الأسباب، و يدعو إلى الخير و الهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمي، و حاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة و هي العلم النافع و العمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد و ظلمة الجهل.

لكن يجب أن لا يشتبه الأمر و لا يختلط الحال على المتدبر الباحث، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم، و يعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، و أن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين و اعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومىء إليه ما في آخر الآيات من قوله: تلك آيات الله نتلوها عليك، الآيتان.

و بالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولا، و لا يطيعوا أمرا إلا عن علم بوجهه، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه و بين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم و تصرف فيه منهم، و أمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله و بين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف، و بيان طرق السعادة، و بين الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف و طرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد، و ليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح، و يعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحرارا من التقليد، و نتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به، و لو لم يعرفوا وقفوا عن الرد و رجعوا نيله بالبحث و التدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته.

و هذا غير أن يقال: إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله و رسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي و أردإ القول، و مرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته و ملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم و نفوذ الحكم.

و رسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته و ليس إلا التناقض، و الحاصل أن المسلك الإسلامي و الطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.

و لعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة نعمة الله عليكم هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد و الاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة و حلاوة المحبة و الألفة و الأخوة و الإشراف على حفرة النار و التخلص منها، و إنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقا فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم و راحتكم و مفازتكم.

و ما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما و هو قوله: إذ كنتم أعداء، مبتن على أصل التجربة، و الثاني و هو قوله: و كنتم على شفا حفرة، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر

<<        الفهرس        >>