جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


و انقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب: و رجع على عقبيه إذا انثنى راجعا، و انقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، و نحو ارتدا على آثارهما قصصا، و قولهم رجع عوده إلى بدئه، انتهى.

و حيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاء للشرط الذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو قتله، و إنما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.

و يدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله: و طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية إلى آخر الآيات، على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف و توليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين و خيبر و غيرهما و لم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب و لا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى: "و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين": البراءة - 25، فالحق أن المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.

فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الأمر شيئا، و إنما الأمر لله و الدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتخذتم الغواية بعد الهداية؟.

و هذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمي الوطيس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل فانسلوا عند ذلك و تولوا عن القتال، فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية و التاريخ - كما في ما رواه ابن هشام في السيرة -: أن أنس بن النضر - عم أنس بن مالك - انتهى إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار - و قد ألقوا بأيديهم - فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.

و بالجملة فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي: أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبقى ببقائه و يزول بموته، و هو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان و هذا هو الذي عاتبهم الله عليه، و يؤيد هذا المعنى قوله بعده: و سيجزي الله الشاكرين، فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله: و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، فافهم ذلك.

و قوله: و سيجزي الله الشاكرين، بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق، و هو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال و التولي و هم الشاكرون.

و حقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها، و إظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لسانا و هو الثناء و قلبا من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها و يوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها و لا يتعدى ذلك، و إن من شيء إلا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى: و ءاتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار،: إبراهيم - 34، فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيته عندها.

و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصية، فمعنى قوله: "و اشكروا لي و لا تكفرون": البقرة - 152، اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، و لا يصغى إلى قول من يقول: إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبودية.

و قد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما، بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس و صيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الذين أشركوا، و الذين صبروا، و الذين ظلموا، و الذين يعتدون، و بين قولنا.

المشركين، و الصابرين، و الظالمين، و المعتدين، فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرت فيهم هذه الفضيلة، و قد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا "و هو نعمة" إلا و ذكر الله معه، و لا يمس شيئا "و هو نعمة" إلا و يطيع الله فيه.



فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الإخلاص لله سبحانه علما و عملا، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم.

و يظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى: "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": ص - 83، و قال تعالى: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": الحجر - 40، فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين، و أمضاه الله سبحانه من غير رد، و قال تعالى: "قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين": الأعراف - 17، و قوله: و لا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين، و ليس إلا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم، و إنما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبية و الدعوة إلى المعصية.

و مما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم و الله غفور حليم، مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها: و سيجزي الله الشاكرين، و قوله فيما بعدها: و سنجزي الشاكرين، و قد عرفت أنه في معنى الاستثناء.

فتدبر فيها و اقض عجبا مما ربما يقال: إن الآية أعني قوله: إن الذين تولوا منكم ناظرة إلى ما روي: أن الشيطان نادى يوم أحد: "ألا قد قتل محمد" فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أي مهبط أهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟.

فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين، و صدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم، و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعني قوله: و ما محمد إلا رسول الآية، و قوله: و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله الآية، و لم يذكر ما يجازيهم به في شيء من الموردين إشعارا بعظمته و نفاسته.

قوله تعالى: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا" الخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا و قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا الآية، و قول طائفة منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا الآية، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قعدوا عن القتال.

فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهي و التدبير المتقن الرباني و سيجيء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام.

و لما كان لازم هذا القول ممن قال به إنه آمن لظنه أن الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مربیانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى: و من يرد ثواب الدنيا نؤته منها و من يرد ثواب الآخرة نؤته منها، و إنما قال: نؤته منها و لم يقل: نؤتها لأن الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا،: الإسراء - 19 و قال تعالى: "و أن ليس للإنسان إلا ما سعى": النجم - 39.

ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال: "و سنجزي الشاكرين" و ليس إلا لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدم.

قوله تعالى: "و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير" إلى آخر الآيات كأين كلمة تكثير و كلمة "من" بیانية و الربيون جمع ربي و هو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الألوف و الربي الألف، و الاستكانة هي التضرع.

و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبهم لإحسانهم كما أحبهم لذلك.
و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل و القول غير المرضيين لله تعالى و حتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لأولئك الربيين.

3 سورة آل عمران - 149 - 155

و قد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها و قدرها بالنسبة إليها يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكمْ عَلى أَعْقَبِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَسرِينَ (149) بَلِ اللّهُ مَوْلَامْ وَ هُوَ خَيرُ النّصرِينَ (150) سنُلْقِى فى قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْب بِمَا أَشرَكوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سلْطناً وَ مَأْوَاهُمُ النّارُ وَ بِئْس مَثْوَى الظلِمِينَ (151) وَ لَقَدْ صدَقَكمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسونَهُم بِإِذْنِهِ حَتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَزَعْتُمْ فى الأَمْرِ وَ عَصيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مّا تُحِبّونَ مِنكم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَ مِنكم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صرَفَكمْ عَنهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنكمْ وَ اللّهُ ذُو فَضلٍ عَلى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصعِدُونَ وَ لا تَلْوُنَ عَلى أَحَدٍ وَ الرّسولُ يَدْعُوكمْ فى أُخْرَاكُمْ فَأَثَبَكمْ غَمّا بِغَمٍّ لِّكيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكمْ وَ لا مَا أَصبَكمْ وَ اللّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشى طائفَةً مِّنكُمْ وَ طائفَةٌ قَدْ أَهَمّتهُمْ أَنفُسهُمْ يَظنّونَ بِاللّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظنّ الجَْهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شىْءٍ قُلْ إِنّ الأَمْرَ كلّهُ للّهِ يخْفُونَ فى أَنفُسِهِم مّا لا يُبْدُونَ لَك يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شىْءٌ مّا قُتِلْنَا هَهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فى بُيُوتِكُمْ لَبرَزَ الّذِينَ كُتِب عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلىَ اللّهُ مَا فى صدُورِكمْ وَ لِيُمَحِّص مَا فى قُلُوبِكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (154) إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَْمْعَانِ إِنّمَا استزَلّهُمُ الشيْطنُ بِبَعْضِ مَا كَسبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

بيان



من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيها حث و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أن الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم، و تعديهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم.

قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا" إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين - في صورة النصح - ما يثبطهم عن القتال: و يلقي التنازع و التفرقة و تشتت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم "إلى أن قال" ذلكم الشيطن يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين الآيات: "173 - 175".

و ربما قيل: إن الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم أحد: "إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم"، و ليس بشيء.

ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله: بل الله موليكم و هو خير الناصرين.

قوله تعالى: "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله" "الخ" وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكره فيما حباه الله تعالى و خصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.

و قوله: بما أشركوا، معناه: اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا، و مما يكرره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادة.

قوله تعالى: "و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم" إلى آخر الآية الحس - بالفتح -: القتل على وجه الاستيصال.

و لقد اتفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أول الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة.



فقوله تعالى: و لقد صدقكم الله وعده، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله: إذ تحسونهم بإذنه، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الأمر من الظهور على عدوهم يوم أحد، و قوله: حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أريكم ما تحبون، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللحوق بمن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال، و على هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة، و لو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم و يكون على هذا "ثم" في قوله: ثم صرفكم، مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني.

و يدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده: منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة.

قوله تعالى: "ثم صرفكم عنهم ليبتليكم"، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال، و مع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال: و لقد عفا عنكم.

قوله تعالى: "إذ تصعدون و لا تلون على أحد و الرسول يدعوكم في أخريكم" الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا، و صعد في السلم أي ارتقى، و قيل: إن الإصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود.

و الظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: صرفكم، أو بقوله ليبتليكم، - على ما قيل - و قوله: و لا تلون، من اللي بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى.

و قوله: و الرسول يدعوكم في أخريكم، الأخرى مقابل الأولى و كون الرسول يدعو و هو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم سواد ممتد على طوائف أولاهم مبتعدون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا أولاهم و لا أخراهم فتركوه - (صلى الله عليه وآله وسلم) - بين جموع المشركين و هم يصعدون فرارا من القتل.

نعم قوله تعالى قبيل هذا: و سيجزي الله الشاكرين - و قد مر تفسيره - يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أول الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يدل عليه قوله: أ فإن مات أو قتل انقلبتم الآية.

و مما يدل عليه قوله: و لا تلون على أحد و الرسول يدعوكم في أخريكم إن خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم.



قوله تعالى: "فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم الخ أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغم الذي أثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم، فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال: لكيلا تأسوا على ما فاتكم: "الحديد - 23" فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغم الطارىء عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغم الثاني في قوله: بغم، الغم الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدلية، و المعنى: جازاكم غما بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم.

و من الجائز أن يكون قوله: أثابكم مضمنا معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة و الحسرة مثيبا لكم، فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق.

و على كل من المعنيين يكون قوله: فأثابكم، تفريعا على قوله: و لقد عفا عنكم، و يتصل به ما بعده أعني قوله: ثم أنزل عليكم، أحسن اتصال، و الترتيب: أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا.

و هاهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: فأثابكم، على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله: إذ تصعدون، و المراد بقوله: بغم هو ما أدى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببية و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله: لكيلا تحزنوا "الخ": نبين لكم حقيقة الأمر لئلا تحزنوا، كما في قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما ءاتاكم الآية: "الحديد - 23".

فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتساق الجمل المتعاقبة، و للمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: فأثابكم، و من حيث معنى الغم الأول و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: لكيلا، ليست من الاستقامة على شيء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها.

و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم هو الغلبة و الغنيمة، و مما أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح.

قوله تعالى: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم" الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس ما يتقدم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاسا مفعول قوله: أنزل، و - الغشيان -: الإحاطة.

و الآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشي طائفة من القوم، و لم يعم الجميع بدليل قوله: طائفة منكم، و هؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال: و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مربیانه.

فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المحتفون به، و كان ذلك إنما كان حين فارق (صلى الله عليه وآله وسلم) جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل.

و أما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله: و طائفة قد أهمتهم أنفسهم.
قوله تعالى: "و طائفة قد أهمتهم أنفسهم" هذه طائفة أخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله: و ليعلم الذين نافقوا و قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم الآية و هم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبىء الله بذلك.
و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الأولى من العفو و إثابة الغم ثم الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم و نسوا كل شيء دونها.
و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم، و ليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كل ذي همة و إرادة لا يريد إلا نفسه البتة، بل المراد: أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب، و أن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى.
قوله تعالى: "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" إلى قوله: "لله" أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية، و هذا الظن أيا ما كان هو شيء يناسبه و يلازمه قولهم: هل لنا من الأمر من شيء، و يكشف عنه ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم به، و هو قوله: قل إن الأمر كله لله فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الأمر لهم و لذا لما غلبوا و فشا فيهم القتل تشككوا فقالوا: هل لنا من الأمر من شيء.

و بذلك يظهر أن الأمر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنما كانوا يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب و لا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به.

و هذا هو الظن بغير الحق، الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شيء و أن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدروا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته و كل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته.

و إذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو أول من يتحمله من ربه و يحمل أثقاله - لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا، و جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كله و ليس لأحد من الأمر شيء، و لذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، قطع الكلام بالاعتراض فقال - يخاطب نبيه -: ليس لك من الأمر شيء لئلا يتوهم أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلا في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب و المسببات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق و الباطل، و الخير و الشر، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمد و أبي سفيان.

نعم لله سبحانه عناية خاصة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين و تمهد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتقين.

و أمر النبوة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية، و لذلك كلما توافقت الأسباب العادية على تقدم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية و الظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريا، و مذبوح كيحيى، و مشرد كعيسى إلى غير ذلك.



نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية و بعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجته، و قد مر شطر من هذا البحث في القول على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

و لنرجع إلى ما كنا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: هل لنا من الأمر من شيء، تشكك في حقية الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مربیانه، فأمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم فقال: قل إن الأمر كله لله، و قد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله: ليس لك من الأمر شيء فبين بذلك أن ملة الفطرة و دين التوحيد هو الذي لا يملك فيه الأمر إلا الله جل شأنه، و باقي الأشياء و منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب و المسببات و السنة الإلهية التي تؤدي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.

قوله تعالى: "يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان" "إلخ"، و هذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم: هل لنا من الأمر من شيء، فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ترجيح في هيئة الاستدلال، و لذلك أبدوا قولهم الأول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.

فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم فقال: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم، فبين لهم: أولا: أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأن القضاء الإلهي و هو الذي لا مناص من نفوذه و مضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفر من الأجل المسمى الذي لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون.

و ثانيا: أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بد من خروجكم و وقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم و ينالوا درجاتهم، و تحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك.

و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين إن المراد بهذه الطائفة التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين، و أما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي.

اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا و الاعتراف به لسانا و هم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى: إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم -: الأنفال - 49، و قال: و فيكم سماعون لهم -: التوبة 47، أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة.

و أعجب منه قول بعض آخر إن هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنهم كانوا يظنون أن أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم: هل لنا من الأمر من شيء، و قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء "إلخ" اعتراف منهم بأن الأمر إلى الله لا إليهم و إلا لم يستأصلهم القتل.



و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى: قل إن الأمر كله لله، و قوله: قل لو كنتم في بيوتكم "إلخ"، و قد أحس بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحق من المعنى.

قوله تعالى: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة، و لم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإن السيئات يهدي بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشيء هوى لما يشاكله.

و أما احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر "ما كسبوا" تقدم الكسب على التولي و الاستزلال.

و كيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب و الآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي و الفرار، و من هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما في بعض الروايات ليس بشيء إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ.

قوله تعالى: "و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم" هذا العفو هو عن الذين تولوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس و الطائفة التي أهمتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الإكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بیانه.

و من هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله: و لقد عفا عنكم، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى: و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين حيث إنه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا، و بين قوله تعالى: و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به ثم ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجل في العقوبة و العفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط فإن قلت: إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا.

قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا، و قد بينا وجه الاختلاف.

معنى العفو و المغفرة في القرآن

العفو على ما ذكره الراغب - و هو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته - هو القصد لتناول الشيء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولا ما عنده، و عفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كان قولهم: عفت الدار إذ بلت مبني على عناية لطيفة و هي أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب.

و من هنا يظهر أن المغفرة - و هو الستر - متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشيء كالذنب مثلا يؤخذ و يتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى: و اعف عنا و اغفر لنا: "البقرة: 286"، و قال: و كان الله عفوا غفورا: "النساء: 99".

و قد تبين بذلك أن العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد، و أن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى: إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح: "البقرة: 237"، و قال تعالى: قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله: "الجاثية: 14"، و قال تعالى: فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر الآية فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - فيما يرجع إليه من آثار الذنب.



و قد تبين أيضا أن معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية و التشريعية و الدنيوية و الأخروية جميعا، قال تعالى: و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير: "الشورى: 30"، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيوية قطعا، و مثله قوله تعالى: و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض: "الشورى: 5"، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين: "الأعراف: 23"، بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهي إرشادي لا مولوي.

و الآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب و الزلفى من الله، و التنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون: "المطففين: 14" و قال تعالى: و من يؤمن بالله يهد قلبه: "التغابن: 11".

و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضاد، و قد عد الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيوي نورا كما قال: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: "الأنعام: 122"، و قال تعالى: و إن الدار الآخرة لهي الحيوان: "العنكبوت: 64"، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور: "النور: 40"، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهية.

فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره و إنما يتم بالمغفرة، قال تعالى: نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا: "التحريم - 8".

فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

3 سورة آل عمران - 156 - 164

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لاخْوَنِهِمْ إِذَا ضرَبُوا فى الأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزّى لّوْ كانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِك حَسرَةً فى قُلُوبهِمْ وَ اللّهُ يحْىِ وَ يمِيت وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئن قُتِلْتُمْ فى سبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيرٌ مِّمّا يجْمَعُونَ (157) وَ لَئن مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لالى اللّهِ تحْشرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنت لَهُمْ وَ لَوْ كُنت فَظاّ غَلِيظ الْقَلْبِ لانفَضوا مِنْ حَوْلِك فَاعْف عَنهُمْ وَ استَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكّلْ عَلى اللّهِ إِنّ اللّهَ يحِب الْمُتَوَكلِينَ (159) إِن يَنصرْكُمُ اللّهُ فَلا غَالِب لَكُمْ وَ إِن يخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الّذِى يَنصرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَ عَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَ مَا كانَ لِنَبىٍ أَن يَغُلّ وَ مَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ ثُمّ تُوَفى كلّ نَفْسٍ مّا كَسبَت وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (161) أَ فَمَنِ اتّبَعَ رِضوَنَ اللّهِ كَمَن بَاءَ بِسخَطٍ مِّنَ اللّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَ بِئْس المَْصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَتٌ عِندَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَث فِيهِمْ رَسولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الْحِكمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضلَلٍ مّبِينٍ (164)

بیان

الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا، و هي تتضمن التعرض لأمر آخر عرض لهم، و هو الأسف و الحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم و سراة قومهم، و معظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين - على ما قيل - إلا أربعة، و هذا يقوي الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، و أن الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.

و بالجملة الآيات تبين ما في هذا الأسف و الحسرة من الخطإ و الخبط، و تعطف على أمر آخر يستتبعه هذا الأسف و التحسر و هو سوء ظنهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنه هو الذي أوردهم هذا المورد و ألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه هذه الآيات: لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا الآية، و قول المنافقين فيما سيجيء: لو أطاعونا ما قتلوا الآية، أي أطاعونا و لم يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو الذي أهلكهم، فهي تبين أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، و يعفو عنهم و يستغفر لهم و يشاورهم في الأمر منه تعالى، و أن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.

قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا" "إ لخ" المراد بهؤلاء الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعني الكافرين دون المنافقين - كما قيل - لأن النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول - و إن كان المنافقون يقولون ذلك - و إنما منشؤه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.

و الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، و غزى جمع غاز كطالب و طلب و ضارب و ضرب، و قوله: ليجعل الله ذلك حسرة، أي ليعذبهم بها فهو من قبيل وضع المغيا موضع الغاية، و قوله: و الله يحي و يميت، بیان لحقيقة الأمر التي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، و هذا الموت يشمل الموت حتف الأنف و القتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدم، و قوله: و الله بما تعملون بصير في موضع التعليل للنهي في قوله: لا تكونوا "إلخ".

و قوله: "ما ماتوا و ما قتلوا"، قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللف في قوله: إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى، و لأن الموت أمر جار على الطبع و العادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره.

و محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، و فيمن قتل منهم في غزاة: لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا فإن هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبي و نقمة إلهية و هو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنه من الجهل فإن القرب و البعد منهم ليس بمحيي و مميت بل الإحياء و الإماتة من الشئون المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله و لا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير.

قوله تعالى: و لئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله و رحمة خير مما يجمعون الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال و ما يلحق به الذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.

و قد قدم القتل هاهنا على الموت لأن القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، و لذلك عاد في الآية التالية: و لئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون إلى الترتيب الطبعي بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.



قوله تعالى: "فبما رحمة من الله لنت لهم" إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسي، و غلظ القلب كناية عن عدم رقته و رأفته، و الانفضاض التفرق.

و في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا، و لذلك أمرناه أن يعفو عنكم و يستغفر لكم و يشاوركم في الأمر و أن يتوكل علينا إذا عزم.

و نكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب و توبيخ، و لذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد و منها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبیان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و رميه بأنه أوردهم مورد القتل و الاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم و التفت إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فخاطبه بقوله: فبما رحمة من الله لنت لهم.

و الكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق، و التقدير: و إذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا و التحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم و إلا لانفضوا من حولك.

و الله أعلم.

و قوله: "فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر" إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه كذلك كان يفعل، و قد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد، و فيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر و الله سبحانه عن فعله راض.

و قد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - و اللفظ و إن كان مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية و ما يناظرها و إلا لغا التشريع، على أن تعقيبه بقوله: و شاورهم في الأمر لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية و تدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم.

و قوله: "فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"، و إذا أحبك كان وليا و ناصرا لك غير خاذلك، و لذا عقب الآية بهذا المعنى و دعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال: إن ينصركم الله فلا غالب لكم و إن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال: و على الله فليتوكل المؤمنون أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر و لا معين إلا هو.

قوله تعالى: "و ما كان لنبي أن يغل"، الغل هو الخيانة، قد مر في قوله تعالى: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب": آل عمران - 79، إن هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبي عن السوء و الفحشاء بطهارته، و المعنى: حاشا أن يغل و يخون النبي ربه أو الناس و هو أيضا من الخيانة لله و الحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه ما كسبت.

ثم ذكر أن رمي النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله لا يعدو رضا ربه، و الخائن باء بسخط عظيم من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، و هذا هو المراد بقوله: أ فمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله الآية.

و يمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الأحوال من التعرض لسخط الله، و الله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، و ما هما سواء.

ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله و البائين بسخط من الله درجات مختلفة، و الله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في اتباع رضوانه أو البوء بسخطه.

قوله تعالى: "لقد من الله على المؤمنين"، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، و قد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات و الوجه الخاص بما هاهنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان و المن على المؤمنين لصفة إيمانهم و لذا قيل: على المؤمنين، و لا يفيده غير الوصف حتى لو قيل: الذين آمنوا، لأن المشعر بالعلية - على ما قيل - هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر.

و في الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.

3 سورة آل عمران - 165 - 171

أَ وَ لَمّا أَصبَتْكُم مّصِيبَةٌ قَدْ أَصبْتُم مِّثْلَيهَا قُلْتُمْ أَنى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (165) وَ مَا أَصبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَْمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَتِلُوا فى سبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَكُمْ هُمْ لِلْكفْرِ يَوْمَئذٍ أَقْرَب مِنهُمْ لِلايِمَنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مّا لَيْس فى قُلُوبهِمْ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بمَا يَكْتُمُونَ (167) الّذِينَ قَالُوا لاخْوَنهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكمُ الْمَوْت إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (168) وَ لا تحْسبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فى سبِيلِ اللّهِ أَمْوَتَا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ وَ يَستَبْشرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) * يَستَبْشرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَ فَضلٍ وَ أَنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

بيان


الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد، و فيها جواب ما قالوه في المقتولين، و وصف حال المستشهدين بعد القتل و أنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.

قوله تعالى: "أ و لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها" لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم و التحسر عليهم ببیان  أن أمر الحياة و الموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم و بعدهم و خروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بیان  سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم و هو معصية الرماة بتخلية مراكزهم، و معصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك، و بالجملة سببه معصيتهم الرسول - و هو قائدهم - و فشلهم و تنازعهم في الأمر و ذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة و العادة.

فالآية في معنى قوله: أ تدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم و هو إفسادكم سبب الفتح و الظفر بأيديكم و مخالفتكم قائدكم و فشلكم و اختلاف كلمتكم.

و قد وصفت المصيبة بقوله: قد أصبتم مثليها و هو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد، و هو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر و هو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا و أسروا سبعين رجلا.

و في هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم و تحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.

و قيل: إن معنى الآية: أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة، و ذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر، و كان الحكم فيهم القتل، و شرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا: رضينا فإنا نأخذ الفداء و ننتفع به، و إذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء.

و يؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله: إن الله على كل شيء قدير إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف، و سيجيء روايته عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: "و ما أصابكم يوم التقى الجمعان" إلى آخر الآيتين، الآية الأولى تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله: قل هو من عند أنفسكم، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر، و شرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله، و أما الوجه الأول المذكور و هو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه و بين نسبة المصيبة إلى إذن الله و هو ظاهر.

فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البیان  لقوله: هو من عند أنفسكم، و ليكون توطئة لانضمام قوله: و ليعلم المؤمنين، و بانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين و ما تكلموا به و جوابه و بیان  حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.

و قوله: أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم و أنفسكم و قوله: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح، و أما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك.

و قوله: "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"، ذكر الأفواه للتأكيد و للتقابل بينها و بين القلوب.

قوله تعالى: "الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا"، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب و هم القتلى، و إنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله: و قعدوا أوقع تعيير و تأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع، و قوله: قل فادرءوا جواب عن قولهم ذاك، و الدرء: الدفع.

قوله تعالى: "و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا" الآية، و في الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات، و يحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله: قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.

و المراد بالموت بطلان الشعور و الفعل، و لذا ذكرهما في قوله: بل أحياء "إلخ" حيث ذكر الارتزاق و هو فعل، و الفرح الاستبشار و معهما شعور.

قوله تعالى: فرحين بما ءاتاهم الله الآية، الفرح ضد الحزن و، البشارة و البشرى ما يسرك من الخبر و الاستبشار طلب السرور بالبشرى، و المعنى: أنهم فرحون بما وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، و يطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

و من ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم و يتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.

و ثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين و هو أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و ليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه و بين يوم القيامة، و قد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: "البقرة: 154".

قوله تعالى: "يستبشرون بنعمة من الله و فضل" الآية، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم و بحال أنفسهم و الدليل عليه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فإنه بإطلاقه شامل للجميع، و لعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار و كذا تكرار الفضل فتدبر في الآية.

و قد نكر الفضل و النعمة و أبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن، و لذا أبهم الخوف و الحزن ليدل في سياق النفي على العموم.

و التدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بیان  أجر المؤمنين أولا، و أن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا، و أن هذا الرزق نعمة من الله و فضل ثالثا، و أن الذي يشخص هذه النعمة و الفضل هو أنهم لا خوف عليهم و لا هم يحزنون رابعا.

و هذه الجملة أعني قوله: أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف و رقة و سهولة <B>بیان </b>، و أول ما يلوح من معناها أن الخوف و الحزن مرفوعان عنهم، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها، و كذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف و عرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع و لا حزن قبله.

فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، و ارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء و لا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف و الحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به و يستلذه، و أن لا يكون ذلك في معرض الزوال، و هذا هو خلود السعادة للإنسان و خلوده فيها.

و من هنا يتضح أن نفي الخوف و الحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول: و ما عند الله خير: "آل عمران: 198"، و يقول: و ما عند الله باق: "النحل: 96" فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة و لا يعرضها فناء.

و يتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة و الفضل و هو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب و سيجيء في قوله تعالى: مع الذين أنعم الله عليهم: "النساء: 69"، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، و على ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم و يخصهم بعطية منه.

و أما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، و النعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، و قد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: عند ربهم يرزقون و قوله: فرحين بما إلخ و قوله: يستبشرون بنعمة إلخ، و قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين مآلها إلى حقيقة واحدة.

و في الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات: "البقرة: 154"، و لعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجيء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.

3 سورة آل عمران - 172 - 175

الّذِينَ استَجَابُوا للّهِ وَ الرّسولِ مِن بَعْدِ مَا أَصابهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسنُوا مِنهُمْ وَ اتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس إِنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً وَ قَالُوا حَسبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَ فَضلٍ لّمْ يَمْسسهُمْ سوءٌ وَ اتّبَعُوا رِضوَنَ اللّهِ وَ اللّهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ (174) إِنّمَا ذَلِكُمُ الشيْطنُ يخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ فَلا تخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (175)

بيان


الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد، و يشعر بذلك قوله: من بعد ما أصابهم القرح و قد قال فيها: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله.

قوله تعالى: "الذين استجابوا لله و الرسول" الآية الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد - كما قيل - و هي أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول.

و لعل ذكر الله و الرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو لكونهم في وقعة أحد عصوا الله و الرسول، فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار و التولي و قد نهاهم الله عنه و أمر بالجهاد، و أما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذي أصدره على الرماة بلزوم مراكزهم و حين كانوا يصعدون و هو يدعوهم في أخراهم فلم يجيبوا دعوته، فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله و الرسول و قوله: "للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم"، قصر الوعد على بعض أفراد المستجيبين لأن الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الإحسان و التقوى اللذين عليهما مدار الأجر العظيم، و هذا من عجيب مراقبة القرآن في بیانه حيث لا يشغله شأن عن شأن، و من هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الأجر من الله سبحانه، و ربما يقال: إن "من" في قوله: "منهم"بیانية كما قيل مثله في قوله تعالى: محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار - إلى أن قال -: وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما: "الفتح: 29"، و هو تأول بما يدفعه السياق.

و يتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله: الذين قال لهم الناس إلى آخر الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية.

قوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" الآية، الناس هو الأفراد من الإنسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض، و الناس الأول غير الثاني، فإن الثاني هو العدو الذي كان يجمع الجموع، و أما الأول فهم الخاذلون المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين، فالناس الثاني أريد به المشركون، و الناس الأول أيديهم على المؤمنين و عيونهم فيهم، و ظاهر الآية كونهم عدة و جماعة لا واحدا، و هذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن بقي من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر الصغرى، و سيجيء القصتان في البحث الروائي الآتي.

و قوله: قد جمعوا لكم، أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا و الله أعلم.

و قوله: فزادهم إيمانا، و ذلك لما في طبع الإنسان أنه إذا نهي عما يريده و يعزم عليه، فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراء فأوجب انتباه قواه و اشتدت بذلك عزيمته، و كلما أصر عليه بالمنع أصر على المضي على ما يريده و يقصده، و هذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره، و لذا كان المؤمنون كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم و شدة في عزمهم و بأسهم.

و يمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر الوحي أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله و قد وعدهم النصر و لا يكون نصر إلا في نزال و قتال.

و قوله: و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل أي كافينا الله و أصل الحسب من الحساب لأن الكفاية بحساب الحاجة، و هذا اكتفاء بالله بحسب الإيمان دون الأسباب الخارجية الجارية في السنة الإلهية و الوكيل هو الذي يدبر الأمر عن الإنسان، فمضمون الآية يرجع إلى معنى قوله: "و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره": الطلاق - 3، و لذلك عقب قوله: و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل بقوله: فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء "إلخ" ليكون تصديقا لوعده تعالى، ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه فقال: و اتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم.

كلام في التوكل

و حقيقة الأمر أن مضي الإرادة و الظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب طبيعية و أخرى روحية و الإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمه و هيأ من الأسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه و بين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية كوهن الإرادة و الخوف و الحزن و الطيش و الشره و السفه و سوء الظن و غير ذلك و هي أمور هامة عامة، و إذا توكل على الله سبحانه و فيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة و هو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شيء من الأسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا و سعادة.

و في التوكل على الله جهة أخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله: "و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره" الآية، و قد تقدم شطر من البحث المتعلق بالمقام في الكلام على الإعجاز.

قوله تعالى: "ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" الآية، ظاهر الآية أن الإشارة إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا، فيكون هذا من الموارد التي أطلق فيها القرآن الشيطان على الإنسان كما يظهر ذلك من قوله: "من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس": الناس - 6، و يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: فلا تخافوهم أي الناس القائلين لكم ما قالوا لأن ذلكم الشيطان، و سنبحث في هذا المعنى بما يكشف القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى.

بحث روائي

الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية، و هي مختلفة اختلافا شديدا في جهات القصة ربما أدت إلى سوء الظن بها، و أكثرها اختلافا ما ورد منها في

نزول كثير من آيات القصة و هي تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب، و لا يلبث الناظر المتأمل فيها دون أن يقضي بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق بلسانها بما تنتفع به، و هذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه بجوامع الحديث و مطولات التفاسير.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الضحى قال: نزلت "و يتخذ منكم شهداء" فقتل منهم يومئذ سبعون منهم أربعة من المهاجرين منهم حمزة بن عبد المطلب، و مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، و الشماس بن عثمان المخزومي، و عبد الله بن جحش الأسدي، و سائرهم من الأنصار.

أقول: و ظاهر الرواية أن أبا الضحى أخذ الشهداء في الآية بمعنى المقتولين في المعركة، و على ذلك جرى جمهور المفسرين، و قد مر في البیان السابق أن لا دليل عليه من ظاهر الكتاب بل الظاهر أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله" الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله علم بما هو مكونه قبل أن يكونه و هم ذر و علم من يجاهد ممن لا يجاهد كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم، و لم ير موتهم و هم أحياء.

أقول: إشارة إلى ما تقدم أنه فرق بين العلم قبل الإيجاد و العلم الفعلي الذي هو الفعل و أن المراد ليس هو العلم قبل الإيجاد.

و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: "و لقد كنتم تمنون الموت" الآية: أن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك فقالوا: اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم الله يوم أحد إياه فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم فذلك قوله: و لقد كنتم تمنون الموت الآية: أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الحسن و السدي.

و في تفسير القمي، قال (عليه السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يوم أحد، و عهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله قد قتل، النجا، فلما رجعوا إلى المدينة أنزل الله: و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إلى قوله: انقلبتم على أعقابكم يقول: إلى الكفر و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا.



و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل و القرح و تداعوا نبي الله قالوا: قد قتل و قال أناس منهم: لو كان نبيا ما قتل، و قال أناس من علية أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به، و ذكر لنا أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار و هو يتشحط في دمه فقال: يا فلان أ شعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فأنزل الله: و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم يقول: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم.

و فيه أخرج ابن جرير عن السدي قال: فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء فشد بسيفه فقاتل حتى قتل فأنزل الله: و ما محمد إلا رسول الآية: أقول: و روي هذه المعاني بطرق أخر كثيرة.

و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) أنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أم سليم و أم عطية أن تداوياه فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان و قد خفنا عليه، و دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة، و جعل يمسحه بيده و يقول: إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى و أعذر، فكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتئم فقال علي: الحمد لله إذ لم أفر و لم أول الدبر فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن و هو قوله: و سيجزي الله الشاكرين، و سنجزي الشاكرين.

أقول: يعني شكر الله له ثباته لا قوله: الحمد لله الذي.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) أنه قرأ: و كأين من نبي قتل معه ربيون كثير، قال: ألوف و ألوف ثم قال: إي و الله يقتلون.

أقول: و روي هذه القراءة و المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود و غيره، و روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ربيون قال: جموع.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن مجاهد "من بعد ما أراكم ما تحبون" قال: نصر الله المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب و ذلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه أخرج ابن إسحاق و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه، و في ذلك أنزل الله: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا" إلى قوله:، ما قتلنا هاهنا" لقول معتب بن قشير: أقول: و قد روي هذا المعنى عن الزبير بن العوام بطرق كثيرة.

و فيه أخرج ابن مندة في معرفة الصحابة عن ابن عباس في قوله: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان الآية، قال: نزلت في عثمان و رافع بن المعلى و حارثة بن زيد: أقول: و روي ما يقرب منه في عدة طرق عن عبد الرحمن بن عوف و عكرمة و ابن إسحاق و أضيف إليهم في بعضها أبو حذيفة بن عقبة و الوليد بن عقبة و سعد بن عثمان و عقبة بن عثمان.

و على أي حال ذكر عثمان و من عد منهم بأسمائهم من باب ذكر المصداق و إلا فالآية نزلت في جميع من تولى من الأصحاب و عصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الذي يخص عثمان هو أنه و من معه فروا حتى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة مما يلي الأغوص فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.

و أما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم، و لم يبق مع رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين و سبعة من الأنصار ثم إن المشركين هجموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقتل دون الدفاع عنه الأنصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه منهم أحد.

و روي أن الذين ثبتوا معه أحد عشر، و روي ثمانية عشر حتى روي ثلاثون، و هو أضعف الروايات.

و لعل هذا الاختلاف بحسب اختلاف اطلاعات الرواة و غير ذلك، و الذي تدل عليه روايات دفاع نسيبة المازنية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لم يكن عنده ساعتئذ أحد، و كان من ثبت منهم و لم ينهزم مشغولا بالقتال، و لم يتفق كلمة الرواة في ذلك على أحد إلا علي (عليه السلام) و لعل أبا دجانة الأنصاري سماك بن خرشة كذلك إلا أنه قاتل بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا ثم وقى بنفسه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين جلى عنه أصحابه يدفع عنه النبال بمجنه و بظهره حتى أثخن رضي الله عنه.

و أما بقية أصحابه فمن ملحق به حين ما عرف (صلى الله عليه وآله وسلم) و علم أنه لم يقتل، و ملحق به بعد حين، و هؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم النعاس غير أن الله تعالى عفا عن الجميع و قد عرفت فيما تقدم من البیان معنى العفو، و ذكر بعض المفسرين أن معنى العفو في هذه الآية صرفه تعالى المشركين عنهم حيث لم يبيدوهم و لم يقتلوهم عن آخرهم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن عدي و البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت: و شاورهم في الأمر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما إن الله و رسوله لغنيان عنها و لكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، و من تركها لم يعدم غيا.

و فيه أخرج الطبراني في الأوسط، عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما خاب من استخار، و لا ندم من استشار.

و في نهج البلاغة،: من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها في عقولها.

و فيه،: الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استبد برأيه.

و في الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا وحدة أوحش من العجب، و لا مظاهرة أوثق من المشاورة.

أقول: و الروايات في المشاورة كثيرة جدا، و موردها ما يجوز للمستشير فعله و تركه بحسب المرجحات، و أما الأحكام الإلهية الثابتة فلا مورد للاستشارة فيها كما لا رخصة في تغييرها لأحد و إلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى.

و في المجالس، عن الصادق (عليه السلام): أن رضا الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوه يوم بدر أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء؟ حتى أظهره الله على القطيفة، و برأ نبيه من الخيانة، و أنزل في كتابه: و ما كان لنبي أن يغل، الآية.

أقول: و ذكر ذلك القمي في تفسيره، و فيه: فجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن فلانا غل قطيفة حمراء فاحفرها هنالك فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة: و قد روي هذا المعنى و ما يقرب منه في الدر المنثور بطرق كثيرة و لعل المراد بكون الآية نزلت فيها كون الآية مشيرة إليها و إلا فسياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة أحد كما تقدم بیانه.

و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار ثم يكلف أن يدخل إليه فيخرجه من النار.



أقول: و هو استفادة لطيفة من قوله تعالى: و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: هم درجات عند الله عن الصادق (عليه السلام): الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، و هم و الله درجات عند الله للمؤمنين، و بولايتهم و مودتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم، و يرفع الله لهم الدرجات العلى، و الذين باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا حق علي و حق الأئمة منا أهل البيت فباءوا لذلك بسخط من الله.

أقول: و هو من الجري و الانطباق.

و فيه، عن الرضا (عليه السلام): الدرجة ما بين السماء و الأرض.

و في تفسير العياشي، أيضا: في قوله تعالى: أ و لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها عن الصادق (عليه السلام): كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة و أربعين رجلا: قتلوا سبعين رجلا و أسروا سبعين فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا فاغتموا بذلك فنزلت.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن مردويه عن علي قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، و قد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم و بين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله عشائرنا و أقوامنا نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا، و يستشهد منا بعدتهم فليس في ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر: أقول: و رواه في المجمع عن علي (عليه السلام)، و أورده القمي في تفسيره.

و في المجمع، في قوله تعالى: و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله الآيات عن الباقر (عليه السلام) نزلت في شهداء بدر و أحد معا.

أقول: و على ذلك روايات كثيرة رواها في الدر المنثور و غيره و قد عرفت أن معنى الآيات عام شامل لكل من قتل في سبيل الله حقيقة أو حكما و ربما قيل: إن الآيات نازلة في شهداء بئر معونة، و هم سبعون رجلا أو أربعون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلهم لدعوة عامر بن الطفيل و قومه و كانوا على ذلك الماء فقدموا أبا ملحان الأنصاري إليهم بالرسالة فقتلوه أولا ثم تتابعوا على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقاتلوهم فقتلوهم جميعا رضي الله عنهم.

و في تفسير العياشي، عن الصادق قال: هم و الله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة، و استقبلوا الكرامة من الله عز و جل علموا و استيقنوا أنهم كانوا على الحق و على دين الله عز و جل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين.

أقول: و هو من الجري، و معنى علمهم و استيقانهم بأنهم كانوا على الحق أنهم ينالون ذلك بعين اليقين بعد ما نالوه في الدنيا بعلم اليقين لا أنهم كانوا في الدنيا شاكين مرتابين.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و هناد و عبد بن حميد و أبو داود و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، و في لفظ: قالوا: إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد و لا ينكلوا عن الحرب فقال الله: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء الآيات: و لا تحسبن الذين قتلوا الآية و ما بعدها.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة رووها عن أبي سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود و أبي العالية و ابن عباس و غيرهم، و في بعضها: في صور طير خضر كرواية أبي العالية، و في بعضها: في طير خضر كرواية أبي سعيد، و في بعضها: كطير خضر كرواية ابن مسعود، و الألفاظ متقاربة.

و قد ورد من طرق أئمة أهل البيت: أن الرواية عرضت عليهم فأنكروها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في بعضها: أنهم أولوها، و لا شك - بالنظر إلى الأصول الثابتة المسلمة - في لزوم تأويل الرواية لو لم تطرح.

و الروايات مع ذلك ليست في مقام بیان  حالهم في جنة الآخرة بل المراد بها جنة البرزخ و الدليل عليه ما في رواية ابن جرير عن مجاهد قال: يرزقون من ثمر الجنة و يجدون ريحها و ليسوا فيها، و ما في رواية ابن جرير عن السدي: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش فهي ترعى بكرة و عشية في الجنة، و تبيت في القناديل.

و قد عرفت فيما تقدم من البحث في البرزخ أن مضمون هاتين الروايتين إنما يستقيم في جنة الدنيا و هي البرزخ لا في جنة الآخرة.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: الذين استجابوا لله الآية أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحمراء الأسد و قد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه، و قالوا: رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم، فبلغه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في أصحاب يطلبهم فثنى ذلك أبا سفيان و أصحابه، و مر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان: بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم، فلما مر الركب برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله و المؤمنون معه: حسبنا الله و نعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: الذين استجابوا لله و الرسول الآيات.

أقول: و رواه القمي في تفسيره مفصلا و فيه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرج معه إلى حمراء الأسد من أصحابه من كان به جراحة، و في بعض الروايات أنه إنما أخرج معه من كان في أحد، و المآل واحد.

و فيه أخرج موسى بن عقبة في مغازيه و البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم، و قالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم فالحذر الحذر، فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله و رسوله، و خرجوا ببضائع لهم، و قالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، و إن لم نلقه ابتعنا بضائعنا، و كان بدر متجرا يوافى كل عام فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم، و أخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو و لا أصحابه، و مر عليهم ابن حمام فقال: من هؤلاء؟ قالوا: رسول الله و أصحابه ينتظرون أبا سفيان و من معه من قريش، فقدم على قريش فأخبرهم فأرعب أبو سفيان و رجع إلى مكة، و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة بنعمة من الله و فضل، فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق و كانت في شعبان سنة ثلاث: أقول: و رواه من غير هذا الطريق، و رواه في المجمع مفصلا عن الباقر (عليه السلام).

و فيها: أن الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى، و المراد بجيش السويق جيش أبي سفيان فإنه خرج من مكة في جيش من قريش و قد حملوا معهم أحمالا من سويق فنزلوا خارج مكة فاقتاتوا بالسويق ثم رجعوا إلى مكة لما أخذهم الرعب من لقاء المسلمين ببدر، فسماهم الناس جيش السويق تهكما و استهزاء.



و فيه أيضا أخرج النسائي و ابن أبي حاتم و الطبراني بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد أو بئر أبي عتبة شك سفيان فقال المشركون نرجع قابل فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت تعد غزوة فأنزل الله: الذين استجابوا لله و الرسول الآية، و قد كان أبو سفيان قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، و أما الشجاع فأخذ أهبة القتال و التجارة فأتوه فلم يجدوا به أحدا و تسوقوا فأنزل الله: فانقلبوا بنعمة من الله و فضل الآية.

أقول: و إنما أوردنا هذه الرواية مع مخالفته للاختصار و التلخيص المؤثر في المباحث الروائية بإيراد أنموذج جامع من كل باب ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول و ربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل و إن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات و بطلان سياقها، و هذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول.

و أضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث أن لاختلاف المذاهب تأثيرا في لحن هذه الروايات و سوقها إلى ما يوجه به المذاهب الخاصة.

على أن للأجواء السياسية و البيئات الحاكمة في كل زمان أثرا قويا في الحقائق من حيث إخفاؤها أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الأسباب الدخيلة في فهم الحقائق و الله الهادي.

بحث تاريخي

شهداء المسلمين يوم أحد سبعون رجلا و هاك فهرس أسمائهم: 1 - حمزة بن عبد المطلب بن هاشم.

2 - عبد الله بن جحش.

3 - مصعب بن عمير.

4 - شماس بن عثمان و هؤلاء الأربعة هم الشهداء من المهاجرين.

5 - عمرو بن معاذ بن النعمان.

6 - الحارث بن أنس بن رافع.

7 - عمارة بن زياد بن السكن.

8 - سلمة بن ثابت بن وقش.

9 - عمرو بن ثابت بن وقش.

10 - ثابت بن وقش.

11 - رفاعة بن وقش.

12 - حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان.

13 - صيفي بن قيظي.

14 - حباب بن قيظي.

15 - عباد بن سهل.

16 - الحارث بن أوس بن معاذ.

17 - إياس بن أوس.

18 - عبيد بن التيهان.

19 - حبيب بن يزيد بن تيم.

20 - يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع.

21 - أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد.

22 - حنظلة بن أبي عامر و هو غسيل الملائكة.

23 - أنيس بن قتادة.

24 - أبو حبة بن عمر بن ثابت.

25 - عبد الله بن جبير بن النعمان و هو أمير الرماة.

26 - أبو سعد خيثمة بن خيثمة.

27 - عبد الله بن سلمة.

28 - سبيع بن حاطب بن الحارث.

29 - عمرو بن قيس.

30 - قيس بن عمرو بن قيس.

31 - ثابت بن عمرو بن يزيد.

32 - عامر بن مخلد.

33 - أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو.

34 - عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو.

35 - أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت.

36 - أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

37 - قيس بن مخلد.

38 - كيسان عبد لبني النجار.

39 - سليم بن الحارث.

40 - نعمان بن عبد عمرو.



41 - خارجة بن زيد بن أبي زهير.

42 - سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير.

43 - أوس بن الأرقم.

44 - مالك بن سنان من بني خدرة و هو والد أبي سعيد الخدري.

45 - سعيد بن سويد.

46 - عتبة بن ربيع.

47 - ثعلبة بن سعد بن مالك.

48 - سقف بن فروة بن البدي.

49 - عبد الله بن عمرو بن وهب.

50 - ضمرة حليف لبني طريف.

51 - نوفل بن عبد الله.

52 - عباس بن عبادة.

53 - نعمان بن مالك بن ثعلبة.

54 - المجدر بن زياد.

55 - عبادة بن الحسحاس و قد دفن نعمان و المجدر و عبادة في قبر واحد.

56 - رفاعة بن عمرو.

57 - عبد الله بن عمرو من بني حرام.

58 - عمرو بن الجموح من بني حرام دفنا في قبر واحد.

59 - خلاد بن عمرو بن الجموح.

60 - أبو أيمن مولى عمرو بن الجموح.

61 - سليم بن عمرو بن حديدة.

62 - عنترة مولى سليم.

63 - سهل بن قيس بن أبي كعب.

64 - ذكوان بن عبد قيس.

65 - عبيد بن المعلى.

66 - مالك بن تميلة.

67 - حارث بن عدي بن خرشة.

68 - مالك بن إياس.

69 - إياس بن عدي.

70 - عمرو بن إياس.

3 سورة آل عمران - 176 - 180

فهؤلاء سبعون رجلا على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وَ لا يحْزُنك الّذِينَ يُسرِعُونَ فى الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضرّوا اللّهَ شيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلا يجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فى الاَخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنّ الّذِينَ اشترَوُا الْكُفْرَ بِالايمَنِ لَن يَضرّوا اللّهَ شيْئاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يحْسبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلى لَهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلى لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ (178) مّا كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتى يَمِيزَ الخَْبِيث مِنَ الطيِّبِ وَ مَا كانَ اللّهُ لِيُطلِعَكُمْ عَلى الْغَيْبِ وَ لَكِنّ اللّهَ يجْتَبى مِن رّسلِهِ مَن يَشاءُ فَئَامِنُوا بِاللّهِ وَ رُسلِهِ وَ إِن تُؤْمِنُوا وَ تَتّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَ لا يحْسبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ هُوَ خَيراً لّهُم بَلْ هُوَ شرّ لّهُمْ سيُطوّقُونَ مَا بخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ للّهِ مِيرَث السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللّهُ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

بيان

الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها و خاصة الآيات الأربع الأول منها تتمة لها لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء و الامتحان الإلهي لعباده، و على ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء و الامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر و لا مؤمن، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار و يتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.

قوله تعالى: "و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى آخر الآية تسلية و رفع للحزن ببیان  حقيقة الأمر فإن مسارعتهم في الكفر و تظاهرهم على إطفاء نور الله و غلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب و أنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية و التشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية و النعمة و القدرة - و هو الاستدراج و المكر الإلهي - إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان و المعصية، و المؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت و أئمة الكفر.

فمعنى الآية: لا يحزنك الذين يسرعون و لا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك و ليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لأنهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة و هو آخر حدهم في الكفر و لهم عذاب أليم فقوله: لا يحزنك، أمر إرشادي، و قوله: إنهم "إلخ" تعليل للنهي، و قوله: يريد الله "إلخ" تعليل و بیان  لعدم ضررهم.

ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر و غيرهم، و هو كالبیان  الكلي بعد البیان  الجزئي يصح أن يعلل به النهي لا يحزنك و أن يعلل به علته أنهم لن يضروا "إلخ" لأنه أعم يعلل به الأخص، و المعنى: و إنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لأن الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا.

قوله تعالى: "و لا يحسبن الذين كفروا"، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم إن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم، فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء و الإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم، و وراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلا الهوان، كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.

قوله تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين" "إلخ" ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره، و يتميز الخبيث من الطيب.

و لما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب و هو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن و البلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين و الذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي، و ذلك قوله تعالى: و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء.

ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء و التكميل محيد فآمنوا بالله و رسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء، غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله و يحفظ طيبه، و لذلك قال أولا: فآمنوا بالله و رسله ثم تممه ثانيا بقوله: و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم.

و قد ظهر من الآية أولا: أن قضية تكميل النفوس و إيصالها إلى غايتها و مقصدها من السعادة و الشقاء مما لا محيص عنه.

و ثانيا: أن الطيب و الخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران مدار الإيمان و الكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم، و هذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد، و يدل عليها قوله تعالى: و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات -: البقرة 148، إذا انضم إلى قوله: و لكن ليبلوكم فيما ءاتاكم فاستبقوا الخيرات -: المائدة 48، و سيجيء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض الآية -: الأنفال 37.

و ثالثا: أن الإيمان بالله و رسله مادة لطيب الحياة و هو طيب الذات، و أما الأجر فيتوقف على التقوى و العمل الصالح، و لذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب و الخبيث ثم فرع عليه قوله: فآمنوا بالله و رسله، ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال: و إن تؤمنوا و تتقوا فلكم أجر عظيم.

و بذلك يتبين في قوله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون: "النحل: 97"، إن الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه، و الجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيبة، و أما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها و تحققها إلى روح حيواني، و بقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى و الأعضاء، و لو سكنت الجميع بطلت و أبطلت الحياة.

و قد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية، و الثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر و ليس إلا للدلالة على مصدر الجلال و الجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو بألوهيته و هو الامتحان، و الاطلاع على الغيب، و اجتباء الرسل، و أهلية الإيمان به.

قوله تعالى: "و لا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله" الآية، لما بين حال إملاء الكافرين و كان الحال في البخل بالمال و عدم إنفاقه في سبيل الله مثله، فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم و بين أنه شر لهم، و في التعبير عن المال بقوله: بما ءاتاهم الله من فضله إشعار بوجه لومهم و ذمهم، و قوله: سيطوقون إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم، و قوله: و لله ميراث السموات، الظاهر أنه حال من يوم القيامة، و كذا قوله: و الله بما تعملون خبير.

و يحتمل على بعد أن يكون قوله: و لله ميراث حالا من فاعل قوله يبخلون، و قوله: و الله بما تعملون خبير حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال: الموت خير للمؤمن و الكافر لأن الله يقول: و ما عند الله خير للأبرار، و يقول: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير، الآية.

أقول: الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال: إن المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شيء من البر، و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود.

3 سورة آل عمران - 181 - 189

لّقَدْ سمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نحْنُ أَغْنِيَاءُ سنَكْتُب مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيقِ (181) ذَلِك بِمَا قَدّمَت أَيْدِيكُمْ وَ أَنّ اللّهَ لَيْس بِظلامٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسولٍ حَتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسلٌ مِّن قَبْلى بِالْبَيِّنَتِ وَ بِالّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (183) فَإِن كذّبُوك فَقَدْ كُذِّب رُسلٌ مِّن قَبْلِك جَاءُو بِالْبَيِّنَتِ وَ الزّبُرِ وَ الْكِتَبِ الْمُنِيرِ (184) كلّ نَفْسٍ ذَائقَةُ المَْوْتِ وَ إِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَوةُ الدّنْيَا إِلا مَتَعُ الْغُرُورِ (185) * لَتُبْلَوُنّ فى أَمْوَلِكمْ وَ أَنفُسِكمْ وَ لَتَسمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب مِن قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الّذِينَ أَشرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَ إِن تَصبرُوا وَ تَتّقُوا فَإِنّ ذَلِك مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب لَتُبَيِّنُنّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظهُورِهِمْ وَ اشترَوْا بِهِ ثمَناً قَلِيلاً فَبِئْس مَا يَشترُونَ (187) لا تحْسبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وّ يحِبّونَ أَن يحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تحْسبَنهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَ للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (189)

بيان

الآيات مرتبط بما قبلها، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس و ترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و تحذيرهم عن الوهن و الفشل و البخل فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير و نحن أغنياء، و تقليبهم الأمر على المسلمين، و تكذيبهم آيات الرسالة، و كتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبیانه، و هذه هي التي تتعرض الآيات لبیانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة و الصبر و الثبات، و التحريض على الإنفاق في سبيل الله.

قوله تعالى: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء" القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء و غير ذلك.

و إنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية: "البقرة: 245" و يشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: و لا يحسبن الذين يبخلون، الآية.

أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين و فاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم و أغناهم فليس إلا فقيرا و نحن أغنياء.

قوله تعالى: "سنكتب ما قالوا و قتلهم الأنبياء بغير حق" الآية، المراد بالكتابة الحفظ و التثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، و المآل واحد، و المراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان و العمد دون السهو و الخطإ و الجهالة، و قد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما، و قوله: عذاب الحريق، الحريق النار أو اللهب و قيل: هو بمعنى المحرق.

قوله تعالى: "ذلك بما قدمت أيديكم" الآية، أي بما قدمتم أمامكم من العمل و نسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا، و قوله: و أن الله ليس بظلام للعبيد عطف على قوله: ما قدمت، و تعليل للكتابة و العذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال و في ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك.

قوله تعالى: "الذين قالوا إن الله عهد إلينا" الآية، نعت للذين قبله و العهد هو الأمر، و القربان ما يتقرب به من النعم و غيره، و أكل النار كناية عن إحراقها، و المراد بقوله: قد جاءكم رسل من قبلي، أمثال زكريا و يحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.

قوله تعالى: "فإن كذبوك فقد كذب" الآية، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكذيبهم له، و الزبر جمع زبور و هو كتاب الحكم و المواعظ، و قد أريد بالزبر و الكتاب المنير مثل كتاب نوح و صحف إبراهيم و التوراة و الإنجيل.

قوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت"، الآية تتضمن الوعد للمصدق و الوعيد للمكذب و قد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس، و التوفية هو الإعطاء الكامل، و قد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء و أن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، و هو استدلال حسن، و الزحزحة هو الإبعاد، و أصله تكرار الجذب بعجلة، و الفوز الظفر بالبغية، و الغرور مصدر غر أو هو جمع غار.

قوله تعالى: "لتبلون في أموالكم و أنفسكم" الآية، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء و الإبلاء على المؤمنين، ثم ذكر قول اليهود و هو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي و الأقاويل المؤذية من أهل الكتاب و المشركين ستتكرر على المؤمنين، و يكثر استقبالها إياهم و قرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا و يتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل و الفشل، و يكونوا أرباب عزم و إرادة، و هذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم، و يوطنوا عليه أنفسهم.

و قد وضع في قوله: و لتسمعن إلى قوله: أذى كثيرا، الأذى الكثير موضع القول و هو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.

قوله تعالى: "و إذ أخذ الله ميثاق"، النبذ الطرح، و نبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك و عدم الاعتناء كما أن قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ و اللزوم.

قوله تعالى: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال و لازمه حب المال و البخل به، و المفازة النجاة و إنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.

ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات و الأرض، و قدرته على كل شيء، و هذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة: في قوله: لقد سمع الله الآية، قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا - فيضاعفه له أضعافا كثيرة، قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.
و في تفسير العياشي،: في الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: و الله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير، و لكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.
و في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.
أقول: أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية، و أما الثالثة فهي من الجري.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين القائلين و القاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.
أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي.
و في الدر المنثور، في قوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله و بركاته كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك، و دركا من كل ما فات فبالله فثقوا، و إياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي: هذا الخضر.
و فيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ثم تلا هذه الآية: فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز.
أقول: و رواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره، و اعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري.
<<        الفهرس        >>