جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


4 سورة النساء - 77 - 80

أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ قِيلَ لهَُمْ كُفّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزّكَوةَ فَلَمّا كُتِب عَلَيهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُمْ يخْشوْنَ النّاس كَخَشيَةِ اللّهِ أَوْ أَشدّ خَشيَةً وَ قَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْت عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْ لا أَخّرْتَنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَ الاَخِرَةُ خَيرٌ لِّمَنِ اتّقَى وَ لا تُظلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككّمُ الْمَوْت وَ لَوْ كُنتُمْ فى بُرُوجٍ مّشيّدَةٍ وَ إِن تُصِبْهُمْ حَسنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَ إِن تُصِبْهُمْ سيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِك قُلْ كلّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَك مِنْ حَسنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصابَك مِن سيِّئَةٍ فَمِن نّفْسِك وَ أَرْسلْنَك لِلنّاسِ رَسولاً وَ كَفَى بِاللّهِ شهِيداً (79) مّن يُطِع الرّسولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَ مَن تَوَلى فَمَا أَرْسلْنَك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)

بيان


الآيات متصلة بما قبلها، و هي جميعا ذات سياق واحد، و هذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان و فيها عظة و تذكير بفناء الدنيا، و بقاء نعم الآخرة، و بيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات و السيئات.

قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين قيل لهم - - إلى قوله - أو أشد خشية" كف الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الذي يقع فيه من عمل الأيدي، و هذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدي الكفار و بغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك و لا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و إقامة شعائر الدين من صلاة و زكاة ليشتد عظم الدين و يقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، و لو لا ذلك لانفسخ هيكل الدين، و انهدمت أركانه، و تلاشت أجزاؤه.

ففي الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار، و لا يصبرون على الإمساك و تحمل الأذى حين لم يكن لهم من العدة و القوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو و هم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية.

قوله تعالى: "و قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال:، ظاهره أنه عطف على قوله إذا فريق منهم"، و خاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع يخشون الناس إلى الماضي قالوا فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقعون للقتال، و يستصعبون الصبر فأمروا بكف أيديهم.

و من الجائز أن يكون قولهم "ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب" محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فإن القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع.

و توصيف الأجل الذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل، و العيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا و أجلا قريبا فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، و يعجل لهم الموت؟ و هذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضي سريعا و يعفى أثره، و دونه الحياة الآخرة التي هي الحياة الباقية الحقيقية فهي خير، و لذلك أجيب عنهم بقوله "قل" إلخ.

قوله تعالى: "قل متاع الدنيا قليل" إلخ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد و القتل في سبيل الله تعالى، و محصله أنهم ينبغي أن يكونوا متقين في إيمانهم، و الحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، و الآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنهم مؤمنون و على صراط التقوى، و لا يبقى لهم إلا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم و يظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، و ليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.

و قد ظهر بهذا البيان أن قوله.

"لمن اتقى" من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم، و دعوى انطباقه على المورد، و التقدير - و الله أعلم -: و الآخرة خير لكم لأنكم ينبغي أن تكونوا لإيمانكم أهل تقوى، و التقوى سبب للفوز بخير الآخرة فقوله "لمن اتقى" كالكناية التي فيها تعريض.

قوله تعالى: "أين ما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيدة" البروج جمع برج و هو البناء المعمول على الحصون، و يستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به و عنه، و أصل معناه الظهور، و منه التبرج بالزينة و نحوها، و التشييد الرفع، و أصله من الشيد و هو الجص لأنه يحكم البناء و يرفعه و يزينه فالبروج المشيدة الأبنية المحكمة المرتفعة التي على الحصون يأوي إليها الإنسان من كل عدو قادم.

و الكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه، و جعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره، و محصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه، و لو لجأتم منه إلى أي ملجإ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال و لم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت، و فاته إدراككم فإن أجل الله لآت.

قوله تعالى: "و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله" إلى آخر الآية جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم، و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الأمر فيما يصيب الإنسان من حسنة و سيئة.

و اتصال السياق يقضي بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلون ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم، و لا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون": الأعراف: 131 و هو مأثور عن سائر الأمم في خصوص أنبيائهم، و هذه الأمة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الأمم، و قد قال تعالى: "تشابهت قلوبهم": البقرة: 118 و هم مع ذلك أشبه الأمم ببني إسرائيل، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه" و قد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.

و قد تمحل في الآيات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود و المنافقين، و أنت ترى أن السياق يدفعه.

و كيف كان فالآية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة و السيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه، و قد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى و هو الحسنة، و قسما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو السيئة فهذه الحسنات و السيئات هي الحوادث التي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخذ في ترفيع مباني الدين و نشر دعوته و صيته بالجهاد، فهي الفتح و الظفر و الغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب و المغازي، و القتل و الجرح و البلوى في غير ذلك، و إسنادهم السيئات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأي و رداءة التدبير إليه.

فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بقوله "قل كل من عند الله" فإنها حوادث و نوازل ينظمها ناظم النظام الكوني، و هو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنما تنقاد في وجودها و بقائها و جميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير.

على ما يعطيه تعليم القرآن.



ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم و خمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة و فهمها فقال: "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا".: "قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك"، لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الأمر، صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم، و وجه وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيئة لذاك الشأن، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التي هي من الأحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات، و لا أقل بين جميع الأفراد من الإنسان من مؤمن أو كافر، أو صالح أو طالح، و نبي أو من دونه.

فالحسنات و هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع كالعافية و النعمة و الأمن و الرفاهية كل ذلك من الله سبحانه، و السيئات و هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض و الذلة و المسكنة و الفتنة كل ذلك يعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضمونا من قوله تعالى "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و أن الله سميع عليم:" الأنفال: 53 و لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات و السيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: "و أرسلناك للناس رسولا"، أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ، و شأنك الرسالة لا شأن لك سواها و ليس لك من الأمر شيء حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمة، أو تجر إلى الناس السيئات، و تدفع عنهم الحسنات، و فيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات "هذه من عندك" تشؤما به (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أيد ذلك بقوله "و كفى بالله شهيدا". قوله تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، استئناف فيه تأكيد و تثبيت لقوله في الآية السابقة "و أرسلناك للناس رسولا"، و بمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله، و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا.

و من هنا يظهر أن قوله "من يطع الرسول"، من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للإشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله "و الآخرة خير لمن اتقى و لا تظلمون فتيلا" و على هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله "و أرسلناك"، إلى الغيبة في قوله "من يطع الرسول"، ثم إلى الخطاب في قوله "فما أرسلناك".

كلام في استناد الحسنات و السيئات إليه تعالى

يشبه أن يكون الإنسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الذي هو اعتدال الخلقة، و تناسب نسب الأعضاء و خاصة في الوجه ثم في سائر الأمور المحسوسة من الطبيعيات و يرجع بالآخرة إلى موافقة الشيء لما يقصد من نوعه طبعا.

فحسن وجه الإنسان كون كل من العين و الحاجب و الأذن و الأنف و الفم و غيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها، و كذا نسبة بعضها إلى بعض، و حينئذ تنجذب النفس و يميل الطبع إليه، و يسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء و المساءة و القبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي.

ثم عمم ذلك إلى الأفعال و المعاني الاعتبارية و العناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع و هو سعادة الحياة الإنسانية أو التمتع من الحياة، و عدم ملاءمتها فالعدل حسن، و الإحسان إلى مستحقه حسن، و التعليم و التربية و النصح و ما أشبه ذلك في مواردها حسنات، و الظلم و العدوان و ما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الأول لسعادة الإنسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه و عدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك، و هذا القسم من الحسن و ما يقابله تابع للفعل الذي يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الأفعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم.

و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات فالضحك و الدعابة حسن عند الخلان لا عند الأعاظم، و في محافل السرور دون المأتم، و دون المساجد و المعابد، و الزنا و شرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إن الحسن و القبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات و لا دوام و لا كلية، و يستدل على ذلك في مثل العدل و الظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شيء معين فالجلد للزاني عدل في الإسلام و ليس كذلك عند الغربيين، و هكذا.

و ذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، و اشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، و لا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه.

و الإنسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا و لا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل، و يسمى ظالما، و لا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه، و للكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه.

ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التي تستقبل الإنسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل و هي الحوادث الفردية أو الاجتماعية التي منها ما يوافق آمال الإنسان، و يلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء، و تسمى حسنات، و منها ما ينافي ذلك كالبلايا و المحن من فقر أو مرض أو ذلة أو إسارة و نحو ذلك، و تسمى سيئات.

فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة و السيئة يتصف بهما الأمور أو الأفعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن و القبح وصفان إضافيان، و إن كانت الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة، و في بعضها متغيرة كبذل المال الذي هو حسن بالنسبة إلى مستحقه و سيىء بالنسبة إلى غير المستحق.

و أن الحسن أمر ثبوتي دائما و المساءة و القبح معنى عدمي و هو فقدان الأمر صفة الملاءمة و الموافقة المذكورة، و إلا فمتن الشيء أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة و عدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا.

فالزلزلة و السيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم و هما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم، و كل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الأرض أو الفجار العتاة، و هو بعينه ضراء إذا نزل بالأمة المؤمنة الصالحة.

و أكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا، و هو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله، و المباشرة بين الرجل و المرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا، و سيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الإلهي فالحسنات عناوين وجودية في الأمور و الأفعال، و السيئات عناوين عدمية فيهما، و متن الشيء المتصف بالحسن و السوء واحد.

و الذي يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشيء ما خلا الله - عز اسمه - مخلوق لله قال تعالى: "الله خالق كل شيء": الزمر: 62 و قال تعالى: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان: 2. و الآيتان تثبتان الخلقة في كل شيء، ثم قال تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة: 7 فأثبت الحسن لكل مخلوق، و هو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.



فكل شيء له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة و الوجود، و التأمل في معنى الحسن على ما تقدم يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشيء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه، و أجزاء الوجود و أبعاض هذا النظام الكوني متلائمة متوافقة، و حاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه، و يبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب، أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذي يبهت العقل و يحير الفكرة.

و قد قال تعالى: "هو الله الواحد القهار": الزمر: 4 و قال تعالى: "و هو القاهر فوق عباده": الأنعام: - 18 و قال تعالى "و ما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات و لا في الأرض إنه كان عليما قديرا": فاطر: 44 فهو تعالى لا يقهره شيء و لا يعجزه شيء في ما يريده من خلقه و يشاؤه في عباده.

فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى، و كذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى و إن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة، و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: "و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا": النساء: - 78 و قوله فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون": الأعراف: 131 إلى غير ذلك من الآيات.

و أما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الإنسان إلى نفس الإنسان بقوله تعالى في هذه السورة: "ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:" الآية النساء: 79 و قوله تعالى "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": الشورى: 30 و قوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": " الرعد: 11، و قوله تعالى "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الأنفال: 53 و غيرها من الآيات.

و توضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات أمورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الأشياء التي تتضرر بها فيرجع الأمر بالآخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه و تشتاق إليه بحسب طباعها، فإمساك الجود هذا هو الذي يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الأشياء المتضررة كما يوضحه كل الإيضاح قوله تعالى: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده و هو العزيز الحكيم": فاطر: 2.

ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة و النقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه، و ما يمكنه أن يستوفيه من ذلك، قال تعالى فيما ضربه من المثل: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها": الرعد: 17 و قال: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21 فهو تعالى إنما يعطي على قدر ما يستحقه الشيء و على ما يعلم من حاله، قال: "ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير": الملك: 14.

و من المعلوم أن النعمة و النقمة و البلاء و الرخاء بالنسبة إلى كل شيء ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: "و لكل وجهة هو موليها": البقرة: 148 فإنما يولي كل شيء و يطلب وجهته الخاصة به و غايته التي تناسب حاله.

و من هنا يمكنك أن تحدس أن السراء و الضراء و النعمة و البلاء بالنسبة إلى هذا الإنسان الذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهي به بحسن السلوك و عدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.

و القرآن الكريم يصدق هذا الحدس، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الأنفال: 53 فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة و الأعمال الصالحة دخل في النعمة التي خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته و قال: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": الشورى -: 30 فلأعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل و يصيبهم من المصائب، و الله يعفو عن كثير منها.

و قال تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك": الآية النساء: 79.

و إياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: "الله خالق كل شيء": الزمر: 62 و قوله: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة: 7 فعد كل شيء مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه و قد قال: "و ما كان ربك نسيا": مريم: 64 و قال: "لا يضل ربي و لا ينسى": طه: 52 فمعنى قوله "ما أصابك من حسنة" الآية أن ما أصابك من حسنة - و كل ما أصابك حسنة - فمن الله، و ما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده و تشتهيه و إن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيىء، و استدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر.

و الآية كما تقدم و إن كانت خصت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب لكن المعنى عام للجميع، و بعبارة أخرى هذه الآية كالآيتين الأخريين "ذلك بأن الله لم يك مغيرا" الآية "و ما أصابكم من مصيبة" الآية متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردي.

فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية و إرادة و اختيارا غير ما للفرد من ذلك.

فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون و الغابرون من أفراده، و يؤاخذ متأخروهم بسيئات المتقدمين، و الأموات بسيئات الأحياء، و الفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب و هكذا، و ليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا، و قد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب في غزوة أحد في وجهه و ثناياه، و أصيب المسلمون بما أصيبوا، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه و قد خالفوا أمر الله و رسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة و هو فيهم، و إن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله، و في طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات.

و كذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن و لا يرى إلا الحق، و أما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.

نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء": الأعراف: 96 و قوله: "و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون": السجدة: 24 و قوله: "و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين": الأنبياء: 86 و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.



إلا إن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شيء مما يقصده من الغاية، و لا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله و هدايته قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50 و قال تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": النور: 21 و يتبين بهاتين الآيتين و ما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه، و هو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله و إيصال منه فالحسنات كلها لله و السيئات للإنسان، و به يظهر معنى قوله تعالى "ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك" الآية.

فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له، و الخلق و الحسن لا ينفكان، و له الحسنات بما أنها خيرات، و بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه، و لا ينسب إليه شيء من السيئات فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة و شأنه الخلق، و إنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدي الناس، و أما الحسنة و السيئة بمعنى الطاعة و المعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": البقرة: 26 في الجزء الأول من هذا الكتاب.

و أنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام، وجدت من شتات القول و مختلف الآراء و الأهواء و أقسام الإشكالات ما يبهتك، و أرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبر في كلامه تعالى، و عليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض، و تفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة و السيئة، و النعمة و النقمة، و الفرق بين شخصية المجتمع و الفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.

بحث روائي


و في الدر المنثور،: في قوله تعالى "أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا" الآية: أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف و أصحابا له أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي الله كنا في عز و نحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: "أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم" الآية.

و فيه:، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم يومئذ بمكة قبل الهجرة، يسارعون إلى القتال فقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين، و ذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك، فنهاهم نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك قال: لم أومر بذلك، فلما كانت الهجرة و أمروا بالقتل كره القوم ذلك، و صنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى، "قل متاع الدنيا قليل و الآخرة خير لمن اتقى و لا تظلمون فتيلا". و في تفسير العياشي، عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء و تقول، و بقوتي أديت إلي فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذاك أني أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذاك أني لا أسأل عما أفعل، و هم يسألون.

أقول و قد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا": البقرة: 26 و تقدم البحث عنها هناك.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء و ما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أشد الناس بلاء في الدنيا،؟ فقال النبيون ثم الأمثل فالأمثل، و يبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه و حسن أعماله،: فمن صح إيمانه و حسن عمله اشتد بلاؤه، و من سخف إيمانه و ضعف عمله قل بلاؤه. أقول: و من الروايات المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر. و فيه، أيضا بعدة طرق عنهما (عليهما السلام): أن الله عز و جل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا. 1 و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه. و فيه، أيضا عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، و يحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض. و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب. و في العلل، عن علي بن الحسين عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و لو كان المؤمن على جبل، لقيض الله عز و جل له من يؤذيه ليأجره على ذلك. و في كتاب التمحيص، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا تزال الهموم و الغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا. و عنه (عليه السلام) قال: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة، إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه. و في النهج، قال (عليه السلام): لو أحبني جبل لتهافت و قال (عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا. أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه، قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: لا يحبك إلا مؤمن، و لا يبغضك إلا منافق" و قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور" هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت انتهى.

و اعلم أن الأخبار في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه من البيان.

و في الدر المنثور،: أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر، قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء أ لستم تعلمون أني رسول الله إليكم، قالوا: بلى قال: أ لستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه، أنه من أطاعني فقد أطاع الله،؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، و أن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، و إن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم، و إن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين.

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إن صلوا إلخ كناية عن وجوب كمال الاتباع.

4 سورة النساء - 81 - 84

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِك بَيّت طائفَةٌ مِّنهُمْ غَيرَ الّذِى تَقُولُ وَ اللّهُ يَكْتُب مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِض عَنهُمْ وَ تَوَكلْ عَلى اللّهِ وَ كَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) أَ فَلا يَتَدَبّرُونَ الْقُرْءَانَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَفاً كثِيراً (82) وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدّوهُ إِلى الرّسولِ وَ إِلى أُولى الأَمْرِ مِنهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَستَنبِطونَهُ مِنهُمْ وَ لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشيْطنَ إِلا قَلِيلاً (83) فَقَتِلْ فى سبِيلِ اللّهِ لا تُكلّف إِلا نَفْسك وَ حَرِّضِ المُْؤْمِنِينَ عَسى اللّهُ أَن يَكُف بَأْس الّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّهُ أَشدّ بَأْساً وَ أَشدّ تَنكِيلاً (84)

بيان


الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين و فائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا و استبصروا.

قوله تعالى و يقولون طاعة إلخ طاعة مرفوع على الخبرية على ما قيل و التقدير أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة و البروز الظهور و الخروج و التبييت من البيتوتة و معناه إحكام الأمر و تدبيره ليلا و الضمير في تقول راجع إلى طائفة أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المعنى و الله أعلم و يقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به و قالوا لك أو غير ما قلته أنت لهم و هو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم أمر الله رسوله بالإعراض عنهم و التوكل في الأمر و العزيمة فقال فأعرض عنهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا و لا دليل في الآية يدل على كون المحكي عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الأمر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك.

قوله تعالى أ فلا يتدبرون القرآن الآية تحضيض في صورة الاستفهام التدبير هو أخذ الشيء بعد الشيء و هو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه و ذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول أعني التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة و إن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضا.

فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية و يراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها و مدينتها و محكمها و متشابهها و يضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها فالآيات يصدق قديمها حديثها و يشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا و لا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني و المقاصد بكون البعض أحكم بيانا و أشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود.

فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله و ليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف و ذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية و لا سيما الإنسان الذي يرتاب أهل الريب أنه من كلامه كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية و طبيعة الكون على التحرك و التغير و التكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.

ما من إنسان إلا و هو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس و أن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم و أمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شيء من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب و الشعر يقوله الشاعر و الخطبة يخطبها الخطيب و هكذا يوجد عند الإمعان آخره خيرا من أوله و بعضه أفضل من بعض.

فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه و ما يأتي به من العمل من الاختلاف، و ليس هو بالواحد و الاثنين من التفاوت و التناقض بل الاختلاف الكثير، و هذا ناموس كلي جار في الإنسان و ما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول و التكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته و أحواله.

و من هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: "اختلافا كثيرا" فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، و المعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا و كان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذي في كل ما هو من عند غير الله، و ليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.

و بالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشئون المرتبطة بالإنسانية من معارف المبدأ و المعاد و الخلق و الإيجاد، ثم الفضائل العامة الإنسانية، ثم القوانين الاجتماعية و الفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق و لا جليل، ثم القصص و العبر و المواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، و بآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا و عشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل و نهار، و من حضر و سفر، و من حرب و سلم، و من ضراء و سراء، و من شدة و رخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، و لا في معارفه العالية و حكمه السامية، و لا في قوانينه الاجتماعية و الفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه و أصوله، يعود تفاصيل شرائعه و حكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، و ينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.

و الإنسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضي بشعوره الحي، و قضائه الجبلي أن المتكلم بهذا الكلام ليس ممن يحكم فيه مرور الأيام و التحول و التكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهار.

و قد تبين من الآية أولا: أن القرآن مما يناله الفهم العادي.

و ثانيا: أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا.

و ثالثا: أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا و لا إبطالا و لا تكميلا و لا تهذيبا، و لا أي حاكم يحكم عليه أبدا، و ذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول و التغير بالضرورة، و إذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف فليس يقبل التحول و التغير فليس يقبل نسخا و لا إبطالا و لا غير ذلك، و لازم ذلك أن الشريعة الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: "و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" الإذاعة هي النشر و الإشاعة، و في الآية نوع ذم و تعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، و في قوله في ذيل الآية "و لو لا فضل الله" إلخ دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، و ليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، و يؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال و لو بقي وحده بلا ناصر.

و يظهر به أن الأمر الذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت تأتي بها أيدي الكفار و رسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق و الخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر و تبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.



فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، و قد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، و الآيات هاهنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: "الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين": آل عمران: - 175.

الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - و هو محنة - أحد - إلى الخروج إلى الكفار، و أن أناسا كانوا يخزلون الناس و يخذلونهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يخوفونهم جمع المشركين.

ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، و تعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم و يخافوا الله أن كانوا مؤمنين.

و المتدبر فيها و في الآيات المبحوث عنها أعني قوله "و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" الآية لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى و يعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله "فلما كتب عليهم القتال" الآية و قوله "و قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال" الآية و قوله "و إن تصبهم حسنة" الآية و قوله "و يقولون طاعة" الآية ثم يجري على هذا المجرى قوله "و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" الآية.

قوله تعالى: "و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" لم يذكر هاهنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول": الآية النساء: 59 لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، و لا صنع فيه لغير الله و رسوله.

و أما الرد المذكور هاهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، و لا معنى لرده إلى الله و كتابه، بل الصنع فيه للرسول و لأولي الأمر منهم، لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه و يذكروا للرادين صحته أو سقمه و صدقه أو كذبه.

فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، و الصدق من الكذب على حد قوله تعالى "ليعلم الله من يخافه بالغيب": المائدة: 94 "و قوله و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين": العنكبوت. - 11.

و الاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز و المعرفة، و أصله من النبط محركة، و هو أول ما يخرج من ماء البئر، و على هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول و أولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الأمر فيحصلون على الحق و الصدق و أن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعلمون حق الأمر و صدقه بإنباء الرسول و أولي الأمر لهم.

فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول و أولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول و أولي الأمر أي إذا استصوبه المسئولون و رأوه موافقا للصلاح، و إن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه و يبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.

و أما أولوا الأمر في قوله: و إلى أولي الأمر منهم "فالمراد بهم هو المراد بأولي الأمر في قوله "و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم": النساء: 59 على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره و قد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أن الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.

أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الإمارة على سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم و دائرة عملهم، و أما أمثال ما هو مورد الآية و هو الإخلال في الأمن و إيجاد الخوف و الوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون و إرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.

و أما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء و هم يومئذ المحدثون و الفقهاء و القراء و المتكلمون في أصول الدين - إنما خبرتهم في الفقه و الحديث و نحو ذلك، و مورد قوله "و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف"، هي الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما أفضى قبولها أو ردها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيوية و المضار الاجتماعية إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأي مصلح آخر، أو يبطل مساعي أمة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذل و المسكنة و القتل و الأسر عليهم، و أي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها و ردها إليهم؟ و أي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟ و أما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر و عمر و عثمان و عليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عام يشمله و ما بعده، و على الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس و من بين الصحابة خاصة، و الحديث و التاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، و على الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، و كان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا أثر في الآية من ذلك.

و أما القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد، و هذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة مشخصة هم أهل الحل و العقد على حد ما يوجد بين الأمم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، و جمعية المبعوثين إلى المنتدى و غير ذلك فإن الأمة لم يكن يجري فيها إلا حكم الله و رسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة و خاصة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم.

و كيف كان، يرد عليه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجمع في مشاورته المؤمنين و المنافقين كعبد الله بن أبي و أصحابه، و حديث مشاورته يوم أحد معروف، و كيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله.

على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعده عبد الرحمن بن عوف، و هذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين و تعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به و بأصحابه أعني قوله "أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا" الآيات فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف و أصحاب له، رواه النسائي في صحيحه و رواه الحاكم في مستدركه و صححه و رواه الطبري و غيره في تفاسيرهم، و قد مرت الرواية في البحث الروائي السابق.

و إذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر و رده إلى مثل هؤلاء؟.

فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" الآية.



قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا" قد تقدم أن الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى، و بعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف و الوحشة بين الناس و إخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبإ، و اتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.

و بذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع و جهز الجيوش فاخشوهم و لا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع، و قد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، و لم يسلم من ذلك إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعض خاصته و هو المراد بقوله تعالى "إلا قليلا، فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل و ساروا.

و هذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة.

و للمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شيء منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: المراد بالفضل و الرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته و طاعة رسوله و أولي الأمر منهم، و المراد بالمستثنى هم المؤمنون أولو الفطرة السليمة و القلوب الطاهرة، و معنى الآية: و لو لا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، و إرجاع الأمر إلى الرسول و إلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق و الصلاح.

و فيه أنه تخصيص الفضل و الرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، و هو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الآية أنه امتنان في أمر ماض منقض.

و قيل، إن الآية على ظاهرها، و المؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل و رحمة زائدين و إن كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية، و فيه أن الذي يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه و لم يدفع في الآية.

و قد قال تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": النور: 21 و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو خير الناس: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات": الإسراء: 75.

و قيل: إن المراد بالفضل و الرحمة القرآن و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قيل: المراد بهما الفتح و الظفر، فيستقيم الاستثناء لأن الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح و ظفر و ما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية، و لا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم.

و قيل الاستثناء إنما هو من قوله "أذاعوا به"، و قيل الاستثناء من قوله "الذين يستنبطونه"،. و قيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ و هو دليل على الجمع و الإحاطة فمعنى الآية: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، و هذا نظير قوله تعالى "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله": الأعلى: 7 فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، و جميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.

قوله تعالى: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين"، التكليف من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف، و التنكيل من النكال، و هو على ما في المجمع:، ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله و لعيتبر به غيره من المكلفين.

و الفاء في قوله "فقاتل في سبيل الله"،. للتفريع و الأمر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الآيات السابقة.

و هو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو و تبطئتهم في ذلك، و يدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله "لا تكلف إلا نفسك" إلخ فإن المعنى: فإذا كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد و يكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك، و لا يشق عليك تثاقلهم و مخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك، و إنما يتوجه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم، و إنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل و حرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. و قوله "لا تكلف إلا نفسك" أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.

و قوله "عسى الله أن يكف" إلخ قد تقدم أن "عسى" تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن "عسى" من الله حتم.

و في الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، و أن يعرض عن المتثاقلين و لا يلح عليهم بالإجابة و يخليهم و شأنهم، و لا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه و تحريض المؤمنين أطاع من أطاع، و عصى من عصى.

بحث روائي


في الكافي، بإسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عير أقواما بالإذاعة في قوله عز و جل: "و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" فإياكم و الإذاعة.

و فيه، بإسناده عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز و جل:، "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم"، و قال "و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم، الذين أمر بطاعتهم و الرد إليهم.

أقول و الرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد بأولي الأمر في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله "و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم" قال: هم الأئمة.

أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا (عليه السلام) في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، و روى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص، عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قوله "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته"، قال: الفضل رسول الله، و رحمته أمير المؤمنين.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لو لا فضل الله عليكم و رحمته"، قال: فضل الله رسوله، و رحمته ولاية الأئمة. و فيه، عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام).

أقول: و الروايات من باب الجري، و المراد النبوة و الولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال و مصيدة الشيطان، إحداهما: سبب مبلغ، و الأخرى: سبب مجر، و الرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه بالرحمة حيث قال: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين": الآية الأنبياء: 107.



و في الكافي، بإسناده عن علي بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه، و إن لم يجد فئة تقاتل معه، و لم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله و لا بعده، ثم تلا هذه الآية: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك". ثم قال: و جعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز و جل: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" و جعل الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر حسنات و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الناس لعلي (عليه السلام)، إن كان له حق فما منعه أن يقوم به،؟ قال فقال إن الله لا يكلف هذا لإنسان واحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين" فليس هذا إلا للرسول، و قال لغيره: "إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة" فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره. و فيه، عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا قط فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، و إن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، و لا كافي بالسيئة قط، و ما لقي سرية مذ نزلت عليه، "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" إلا ولى بنفسه.

أقول: و في هذه المعاني روايات أخر.

4 سورة النساء - 85 - 91

مّن يَشفَعْ شفَعَةً حَسنَةً يَكُن لّهُ نَصِيبٌ مِّنهَا وَ مَن يَشفَعْ شفَعَةً سيِّئَةً يَكُن لّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ مّقِيتاً (85) وَ إِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسنَ مِنهَا أَوْ رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كانَ عَلى كلِّ شىْءٍ حَسِيباً (86) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لا رَيْب فِيهِ وَ مَنْ أَصدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً (87) * فَمَا لَكمْ فى المُْنَفِقِينَ فِئَتَينِ وَ اللّهُ أَرْكَسهُم بِمَا كَسبُوا أَ تُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضلّ اللّهُ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَلَن تجِدَ لَهُ سبِيلاً (88) وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتى يهَاجِرُوا فى سبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْث وَجَدتّمُوهُمْ وَ لا تَتّخِذُوا مِنهُمْ وَلِيّا وَ لا نَصِيراً (89) إِلا الّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنهُم مِّيثَقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصرَت صدُورُهُمْ أَن يُقَتِلُوكُمْ أَوْ يُقَتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَسلّطهُمْ عَلَيْكمْ فَلَقَتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكمْ عَلَيهِمْ سبِيلاً (90) ستَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كلّ مَا رُدّوا إِلى الْفِتْنَةِ أُرْكِسوا فِيهَا فَإِن لّمْ يَعْتزِلُوكمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكمُ السلَمَ وَ يَكُفّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْث ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولَئكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيهِمْ سلْطناً مّبِيناً (91)

بيان


الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا 85 - 91 لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين و هم المنافقون منهم، و يظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم و شاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، و اختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم، و آخر يمنع منه و يشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، و الله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال و يحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.

و يلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال، و يستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، و ببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.

قوله تعالى: "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، النصيب و الكفل بمعنى واحد، و لما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية و نحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة و المثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، و هو مقصد الشفيع و المشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، و هو قوله تعالى "من يشفع شفاعة" إلخ.

و في ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، و تنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، و يجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر و فساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإن في ترك الفساد القليل على حاله، و إمهاله في أن ينمو و يعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء، و يهلك به الحرث و النسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة و هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و النفاق و الشرك المفسدين في الأرض.

قوله تعالى: "و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها" الآية أمر بالتحية قبال التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، و هو حكم عام لكل تحية حيي بها، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم و الصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.

قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو ليجمعنكم" إلخ معنى الآية ظاهر، و هي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة و السيئة، و لا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض و الرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه و يجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه و رده.

قوله تعالى: "فما لكم في المنافقين فئتين و الله أركسهم" الآية الفئة الطائفة، و الإركاس الرد.



و الآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة و التمهيد أعني قوله "من يشفع شفاعة" الآية، و المعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين، و تحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، و فئة تشفع لهم و تحرض على ترك قتالهم، و الإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم، و تثمر برشدهم، و الله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال، أ تريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ و من يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.

و في قوله "و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا" التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، و لو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به و ألقى إلى من هو بين واضح عنده و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" إلخ هو بمنزلة البيان لقوله "و الله أركسهم بما كسبوا أ تريدون أن تهدوا من أضل الله"، و المعنى: أنهم كفروا و زادوا عليه أنهم ودوا و أحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.

ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم و قتلهم حيث وجدتموهم، و الاجتناب عن ولايتهم و نصرتهم، و في قوله "فإن تولوا"،. دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، و إن تولوا فيقتلوهم.

قوله تعالى: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم" استثنى الله سبحانه من قوله "فإن تولوا فخذوهم و اقتلوهم"، طائفتين: إحداهما الذين يصلون إلخ أي بينهم و بين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف و نحوه، و الثانية الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين و مقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين و يلقون إليهم السلم لا للمؤمنين و لا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، و قوله "حصرت صدورهم"، أي ضاقت.

قوله تعالى: "ستجدون آخرين"، إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم و موادعتهم، و لذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم" بالشرط المنفي أعني قوله "فإن لم يعتزلوكم و يلقوا إليكم السلم و يكفوا أيديهم" إلخ و هذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم و معنى الآية ظاهر.

كلام في معنى التحية

الأمم و الأقوام على اختلافها في الحضارة و التوحش و التقدم و التأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها و أنواعها من الإشارة بالرأس و اليد و رفع القلانس و غير ذلك، و هي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.

و أنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها و على اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع و الهوان و التذلل يبديه الداني للعالي، و الوضيع للشريف، و المطيع لمطاعه، و العبد لمولاه، و بالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، و إن اختلفت ألوانه، و لذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع و تنتهي إلى المطاع، و تشرع من الداني الوضيع و تختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.



و الإسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية و كل رسم من الرسوم ينتهي إليها، و يتولد، منها و لذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية و سنة مقابلة لسنة الوثنية و رسم الاستعباد، و هو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، و دحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه و عرضه و ماله، و كل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.

و هذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: "فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة": النور: 61 و قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون": النور: 27 و قد أدب الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسليم للمؤمنين و هو سيدهم فقال: "و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة": الأنعام: 54 و أمره بالتسليم لغيرهم في قوله: "فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون": الزخرف: 89.

و التحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر و نحوه، و في لسان العرب: و كانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، و أبيت اللعن، و يقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، و أنه لا حرب هنالك.

ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، و أمروا بإفشائه.

انتهى.

إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه (عليه السلام) كثيرا: و لا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج و نحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه: "قال سلام عليك سأستغفر لك ربي": مريم: 47 و قال تعالى "و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام": هود: 69 و القصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.

و لقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، و استعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: "سلام على نوح في العالمين": الصافات: 79 و قال: "سلام على إبراهيم:" الصافات: 109 و قال: "سلام على موسى و هارون": الصافات: 120 و قال "سلام على آل ياسين": الصافات: 130 و قال: "و سلام على المرسلين": الصافات: 181.

و ذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم": النحل: 32 و قال: "و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم": الرعد: 24 و ذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: "و تحيتهم فيها سلام": يونس: 10، و قال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما": الواقعة: 26.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى "و إذا حييتم الآية: قال: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره، عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الآية السلام و غيره من البر. و في الكافي، بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام تطوع و الرد فريضة. و فيه، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يسلم الصغير على الكبير، و المار على القاعد، و القليل على الكثير. و فيه، بإسناده عن عيينة عن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القليل يبدءون الكثير بالسلام، و الراكب يبدأ الماشي، و أصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير، و أصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال. و فيه، بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، و الماشي على القاعد، و إذا لقيت جماعة سلم الأقل على الأكثر، و إذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة: أقول: و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، بالإسناد عنه (عليه السلام) قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، و إذا سلم على القوم و هم جماعة، أجزأهم أن يرد واحد منهم.

و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) و هو في الصلاة فقلت: السلام عليك، فقال: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أ يرد السلام و هو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.

و فيه، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سلم عليك الرجل و أنت تصلي، قال: ترد عليه خفيا كما قال و في الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: لا تسلموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شراب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنث، و لا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، و لا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع و الرد فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط و لا على الذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه.

أقول: و الروايات في معنى ما تقدم كثيرة، و الإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، و نشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة و التعادل من استعلاء و إدحاض، و ما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، و القليل للكثير، و الواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة و إنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، و إهمال أمر الفضائل و المزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، و حق صاحب الحق، و إنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، و يتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.

و أما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم و الركون إليهم كما قال تعالى: "لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء": المائدة: 51 و قال: "لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء": الممتحنة: 1 و قال و لا تركنوا إلى الذين ظلموا": هود: 113 إلى غير ذلك من الآيات.

نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس و تمتزج النفوس كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في قوله "فاصفح عنهم و قل سلام": الزخرف: 89 و كما في قوله يصف المؤمنين "و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما": الفرقان: 63.

و تفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: و عليك السلام و رحمة الله، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله، فقال: و عليك السلام و رحمة الله و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله "و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها" الآية فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لم تترك فضلا و رددت عليك مثله: أقول: و روي مثله في الدر المنثور، عن أحمد في الزهد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي.

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا:، عليك السلام و رحمة الله و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام):، لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت. أقول: و فيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، و هو قول المسلم "السلام عليك و رحمة الله و بركاته" مأخوذة من حنيفية إبراهيم، (عليه السلام) و تأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن من تمام التحية للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة. و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، و هو يقول: يغفر الله لكم و يرحمكم، قال الله تعالى: "و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها" الآية و في المناقب: جاءت جارية للحسن (عليه السلام) بطاق ريحان، فقال لها، أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام):، أدبنا الله تعالى فقال:، "إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها" الآية و كان أحسن منها إعتاقها.

أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.

و في المجمع،: في قوله تعالى "فما لكم في المنافقين فئتين" الآية قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه، فقيل،: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا،: فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون، و قال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في تفسير القمي، في قوله تعالى "ودوا لو تكفرون كما كفروا" الآية أنها نزلت في أشجع و بني ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هادن بني ضمرة، و واعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا إنهم أبر العرب بالوالدين، و أوصلهم للرحم، و أوفاهم بالعهد.

و كان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه و بين بني ضمرة فأنزل الله: "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم و لا تتخذوا منهم وليا و لا نصيرا.



ثم استثنى بأشجع فقال: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم و لو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لك عليهم سبيلا".

و كانت أشجع محالها البيضاء و الحل و المستباح، و قد كانوا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهابوا لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة، و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.

فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلم على أسيد و على أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع أسيد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم.

ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، و ليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، و ضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم و وادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا".



و في الكافي، بإسناده عن الفضل أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل "أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم" قال: نزلت في بني مدلج، لأنهم جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا،: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك لرسول الله، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، و إلا قاتلهم. و في تفسير العياشي، عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) "أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم و لو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم" قال: كان أبي يقول:، نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لم يكونوا مع قومهم. قلت: فما صنع بهم،: قال لم يقاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال،: و "حصرت صدورهم" هو الضيق. و في المجمع: المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: المراد بقوله تعالى "قوم بينكم و بينهم ميثاق" هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قال في موادعته،: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا و لا تخيف من أتاك فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم: أقول: و قد روي هذه المعاني و ما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس و غيره. و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله "إلا الذين يصلون إلى قوم"، الآية قال: نسختها براءة،: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم".

4 سورة النساء - 92 - 94

وَ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطئاً وَ مَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مّسلّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصدّقُوا فَإِن كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لّكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَ إِن كانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكمْ وَ بَيْنَهُم مِّيثَقٌ فَدِيَةٌ مّسلّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكيماً (92) وَ مَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خَلِداً فِيهَا وَ غَضِب اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضرَبْتُمْ فى سبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكمُ السلَمَ لَست مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَض الْحَيَوةِ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كثِيرَةٌ كَذَلِك كنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكمْ فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

بيان


قوله تعالى: "و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" الخطأ بفتحتين من غير مد، و مع المد على فعال: خلاف الصواب، و المراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية التالية "و من يقتل مؤمنا متعمدا".

و المراد بالنفي في قوله "و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا"، نفي الاقتضاء أي ليس و لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان و حماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطإ، و الاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، و نظير هذه الجملة في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى "و ما كان لبشر أن يكلمه الله": الشورى: 51 و قوله "ما كان لكم أن تنبتوا شجرها": النمل: 60 و قوله "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل": يونس: 74 إلى غير ذلك.

و الآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، و لا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا و حرم ذلك إلا في قتل الخطإ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد و لكن بزعم أن المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.

و قد ذكر جمع من المفسرين: أن الاستثناء في قوله "إلا خطأ" منقطع، قالوا: و إنما لم يحمل قوله "إلا خطأ" على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطإ أو إباحته.

انتهى و قد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطإ، أو عدم وضع الحرمة فيه، و لا محذور فيه قطعا.

فالحق أن الاستثناء متصل.

قوله تعالى: "و من قتل مؤمنا خطأ - إلى قوله - يصدقوا" التحرير جعل المملوك حرا! و الرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازا! و الدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، و المعنى: و من قتل مؤمنا بقتل الخطإ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، و إعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها و يعفوا عنها فلا تجب الدية.

قوله تعالى: "فإن كان من قوم عدو لكم"، الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، و القوم العدو هم الكفار المحاربون، و المعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا و أهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير و لا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.

قوله تعالى: "و إن كان من قوم بينكم و بينهم ميثاق"، الضمير في "كان" يعود إلى المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، و الميثاق مطلق العهد أعم من الذمة و كل عهد، و المعنى: و إن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم و بينهم عهد وجبت الدية و تحرير الرقبة، و قد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.

قوله تعالى: "فمن لم يجد فصيام"، أي من لم يستطع التحرير - لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين.

قوله تعالى: "توبة من الله" إلخ أي هذا الحكم و هو إيجاب الصيام توبة و عطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، و ينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، و يمكن أن يكون قوله "توبة" قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة أعني قوله "فتحرير رقبة" إلخ و المعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة و عناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا.

و ليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى "و لكم في القصاص حياة": البقرة: 179.

و كذا هو توبة من الله للمجتمع و عناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، و يرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة.

و من هنا يظهر أن الإسلام يرى الحرية حياة و الاسترقاق نوعا من القتل، و يرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة.

و سنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.

و أما تشخيص معنى الخطإ و العمد و التحرير و الدية و أهل القتيل و الميثاق و غيره المذكورات في الآية فعلى السنة.

من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.

قوله تعالى: "و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له، و حيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان و كان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح و هو يزعم أنه من الصيد و هو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان، و كذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطإ، و على هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل و أن المقتول مؤمن.

و قد أغلظ الله سبحانه و تعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به": النساء: 48 أن تلك الآية، و كذا قوله تعالى "إن الله يغفر الذنوب جميعا": الزمر: 53 تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الضرب هو السير في الأرض و المسافرة، و تقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد، و التبين هو التمييز و المراد به التمييز بين المؤمن و الكافر بقرينة قوله "و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا" و المراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الإيمان، و قرىء: "لمن ألقى إليكم السلم" بفتح اللام و هو الاستسلام.

و المراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال و الغنيمة، و قوله "فعند الله مغانم كثيرة" جمع مغنم و هو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه لكثرتها و بقائها فهي التي يجب عليكم أن تؤثروها.

قوله تعالى: "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا" إلخ أي على هذا الوصف.

و هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل أن تؤمنوا فمن الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم أن تبينوا، و في تكرار الأمر بالتبين تأكيد في الحكم.

و الآية مع اشتمالها على العظة و نوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر أنه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه إنما يظهر الإيمان خوفا على نفسه، و الآية توبخه بأن الإسلام إنما يعتبر بالظاهر، و يحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير.



و على هذا فقوله "تبتغون عرض الحياة الدنيا" موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره و تبين في شأنه حال من يريد المال و الغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالإيمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من موجه العذر، و هذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان، و من عليهم بالإسلام كان الواجب عليهم أن يتبينوا فيما يصنعون و لا ينقادوا لأخلاق الجاهلية و ما بقي فيهم من إثارتها.

بحث روائي


في الدر المنثور،: في قوله تعالى "و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" الآية: أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة، من بني عامر بن لؤي يعذب، عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجرا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلقيه عياش بالحرة، فعلاه بالسيف و هو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره فنزلت، "و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" الآية، فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر.

أقول: و روي هذا المعنى بغيره من الطرق، و في بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عياش و كان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم و هم يعذبونه و لقي حارثا و قد أسلم و عياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك.

و ما أثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار و أنسب لتاريخ نزول سورة النساء.

و روى الطبري في تفسيره عن ابن زيد: أن الذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء، كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال لا إله إلا الله، فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأخبره فنزلت الآية و روي في الدر المنثور، أيضا عن الروياني و ابن مندة و أبي نعيم عن بكر بن حارثة الجهني: أنه هو الذي نزلت فيه الآية، لقصة نظيرة قصة أبي الدرداء، و الروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق.

و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل، فإن الله تعالى يقول: "فتحرير رقبة مؤمنة"، يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث الحديث.

و في تفسير العياشي، عن موسى بن جعفر (عليه السلام): سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة. و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): في رجل مسلم في أرض الشرك، فقتله المسلمون ثم علم به الإمام بعد، فقال (عليه السلام): يعتق مكانه رقبة مؤمنة و ذلك قول الله عز و جل: "فإن كان من قوم عدو لكم".: أقول: و روى مثله العياشي.

و في قوله "يعتق مكانه"، إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الإشارة إليه.

و ربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية.

فافهم ذلك.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، فأفطر أو مرض في الشهر الأول فإن عليه أن يعيد الصيام، و إن صام الشهر الأول، و صام من الشهر الثاني شيئا، ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضي. أقول: أي يقضي ما بقي عليه كما قيل، و قد استفيد من التتابع.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عنه (عليه السلام): أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة؟ فقال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا، فإن توبته أن يقاد منه، و إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول، فأقر عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية، و أعتق نسمة و صام شهرين متتابعين، و أطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز و جل. و في التهذيب، بإسناده عن أبي السفاتج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل "و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" قال: جزاؤه جهنم إن جازاه:. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و غيره عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و الروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الآيات، و في باب القتل و القود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.

و في المجمع،: في قوله تعالى "و من يقتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم" الآية قال، نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني، وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، و قال له: قل لبني النجار،: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته،. فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية، فلما انصرف و معه الفهري وسوس إليه الشيطان، فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك، اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس و الدية فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيرا، و رجع إلى مكة كافرا، و أنشد يقول، قتلت به فهرا و حملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع. فأدركت ثاري و اضطجعت موسدا و كنت إلى الأوثان أول راجع. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أؤمنه في حل و لا حرم: رواه الضحاك و جماعة من المفسرين انتهى.

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و سعيد بن جبير و غيرهما.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله" الآية أنها نزلت لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزاة خيبر، و بعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود، في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جمع أهله و ماله في ناحية الجبل فأقبل يقول، أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلما رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبره بذلك، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، و أني رسول الله،؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلا كشفت الغطاء عن قلبه، و لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك، أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، فتخلف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه فأنزل في ذلك: "و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا" الآية: أقول: و روى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدي، و روي في الدر المنثور، روايات كثيرة في سبب نزول الآية، في بعضها: أن القصة لمقداد بن الأسود و في بعضها لأبي الدرداء، و في بعضها لمحلم بن جثامة، و في بعضها لم يذكر اسم للقاتل و لا المقتول و أبهمت القصة إبهاما، هذا، و لكن حلف أسامة بن زيد و اعتذاره إلى علي (عليه السلام) في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ و الله أعلم.

4 سورة النساء - 95 - 100

لا يَستَوِى الْقَعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولى الضرَرِ وَ المُْجَهِدُونَ فى سبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ فَضلَ اللّهُ المُْجَهِدِينَ بِأَمْوَلِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ عَلى الْقَعِدِينَ دَرَجَةً وَ ُكلاً وَعَدَ اللّهُ الحُْسنى وَ فَضلَ اللّهُ الْمُجَهِدِينَ عَلى الْقَعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَتٍ مِّنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً (96) إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلَئكَةُ ظالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنّا مُستَضعَفِينَ فى الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْض اللّهِ وَسِعَةً فَتهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئك مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ ساءَت مَصِيراً (97) إِلا الْمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدَنِ لا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يهْتَدُونَ سبِيلاً (98) فَأُولَئك عَسى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنهُمْ وَ كانَ اللّهُ عَفُواّ غَفُوراً (99) * وَ مَن يهَاجِرْ فى سبِيلِ اللّهِ يجِدْ فى الأَرْضِ مُرَغَماً كَثِيراً وَ سعَةً وَ مَن يخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلى اللّهِ وَ رَسولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَْوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً (100)

بيان


قوله تعالى: "لا يستوي القاعدون - إلى قوله - و أنفسهم" الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد و القتال كالعمى و العرج و المرض، و المراد بالجهاد بالأموال إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين، و بالأنفس القتال.

و قوله "و كلا وعد الله الحسنى"، يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس و تحريضهم على القيام بأمر الجهاد و التسابق فيه و المسارعة إليه.

و من الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولي الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله و إن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد و الشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم، و بالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين و تهييج لهم، و إيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير و الفضيلة.

قوله تعالى: "فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة" الجملة في مقام التعليل لقوله "لا يستوي"، و لذا لم توصل بعطف و نحوه، و الدرجة هي المنزلة، و الدرجات المنزلة بعد المنزلة، و قوله "و كلا وعد الله الحسنى" أي وعد الله كلا من القاعدين و المجاهدين، أو كلا من القاعدين غير أولي الضرر و القاعدين أولي الضرر و المجاهدين الحسنى، و الحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك، و الجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله "لا يستوي - إلى قوله - درجة" إنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من إيمانه و سائر أعماله فدفع ذلك بقوله "و كلا وعد الله الحسنى".

قوله تعالى: "و فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه و مغفرة و رحمة" هذا التفضيل بمنزلة البيان و الشرح لإجمال التفضيل المذكور أولا، و يفيد مع ذلك فائدة أخرى، و هي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمنه قوله "و كلا وعد الله الحسنى" فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله و الواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق و إزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة و الرحمة.

و أمر الآية في سياقها عجيب، أما أولا: فلأنها قيدت المجاهدين أولا بقوله "في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم" و ثانيا بقوله "بأموالهم و أنفسهم" و ثالثا أوردته من غير تقييد.

و أما ثانيا: فلأنها ذكرت في التفضيل أولا أنها درجة، و ثانيا أنها درجات منه.



أما الأول فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، و الفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس، و بالسماحة و الجود بأعز الأشياء عند الإنسان و هو المال، و بما هو أعز منه، و هو النفس، و لذلك قيل أولا: "و المجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم" ليتبين بذلك الأمر كل التبين، و يرتفع به اللبس، ثم لما قيل: "و فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة"، لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله "و كلا وعد الله الحسنى" مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل، و هو إنفاق المال و بذل النفس على حبهما فلذا اكتفي بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: "المجاهدين بأموالهم و أنفسهم" و أما قوله ثالثا "و فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما" فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها و لا بعضها و لذلك تركت كلا.

و أما الثاني فقوله "فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة" "درجة" منصوب على التمييز، و هو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة و المنزلة من غير أن يعترض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر، و قوله "و فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه" كان لفظة "فضل" فيه مضمنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه، و قوله "درجات منه" بدل أو عطف بيان لقوله "أجرا عظيما" و المعنى: و أعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما و هو الدرجات من الله، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة، و يبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل و درجات كثيرة، و هي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون.

و لعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا "درجة" و ثانيا "درجات منه"، و قد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.

منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر بدرجة و في ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.

و منها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة و حسن الذكر و نحوهما و بالدرجات في آخر الآية المنازل الأخروية و هي أكثر بالنسبة إلى الدنيا، قال تعالى.

"و للآخرة أكبر درجات": إسراء - 21.

و منها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله، و هي أمر معنوي، و بالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة و درجاتها الرفيعة و هي حسية، و أنت خبير بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.

و الضمير في قوله "منه" لعله راجع إلى الله سبحانه، و يؤيده "قوله و مغفرة و رحمة" بناء على كونه بيانا للدرجات، و المغفرة و الرحمة من الله، و يمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلا.

و قوله "و مغفرة و رحمة" ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات و هي المنازل من الله سبحانه أيا ما كانت فهي مصداق المغفرة و الرحمة، و قد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة - و هي الإفاضة الإلهية للنعمة - تتوقف على إزالة الحاجب و رفع المانع من التلبس بها، و هي المغفرة، و لازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم، و كل درجة و منزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها، و الدرجة التي فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الأخروية كائنة ما كانت مغفرة و رحمة من الله سبحانه، و غالب ما تذكر الرحمة و ما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله "مغفرة و أجر عظيم": المائدة: 9 و قوله "و مغفرة و رزق كريم": الأنفال: 4، و قوله "مغفرة و أجر كبير": هود: 11، و قوله "و مغفرة من الله و رضوان": الحديد: 20، و قوله "و اغفر لنا و ارحمنا": البقرة: 286 إلى غير ذلك من الآيات.



ثم ختم الآية بقوله: "و كان الله غفورا رحيما" و مناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها "و مغفرة و رحمة".

قوله تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" لفظ "توفاهم" صيغة ماض أو صيغة مستقبل - و الأصل تتوفاهم حذفت إحدى التاءين من اللفظ تخفيفا - نظير قوله تعالى "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء": النحل: 28.

و المراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالإعراض عن دين الله و ترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك و التوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، و القيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، و هذا هو الذي يدل عليه السياق في قوله "قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض" إلى آخر الآيات الثلاث.

و قد فسر الله سبحانه الظالمين إذا أطلق في قوله "لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا": الأعراف: 45، هود: 19، و محصل الآيتين تفسير الظلم بالإعراض عن دين الله و طلبه عوجا و محرفا، و ينطبق على ما يظهر من الآية التي نحن فيها.

قوله تعالى: "قالوا فيم كنتم" أي فيما ذا كنتم من الدين، و كلمة "م" هي ما الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفا.

و في الآية دلالة في الجملة على ما تسميه الأخبار بسؤال القبر، و هو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا: "الآيات النحل: 30.

قوله تعالى: "قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" كان سؤال الملائكة فيم كنتم سؤالا عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه من الدين، و لم يكن هؤلاء المسئولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب و هو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم و بين الأخذ بشرائع الدين و العمل بها.

و لما كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، و كان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الأرض التي ذكروها، و لم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج و المهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه و لزموه، و كان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، و إنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.

فقوله "أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله "فيم كنتم" و يمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين و المتقين جميعا، و ثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.



و قد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، و لا يخلو من إيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الإيمان و العمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين "و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا و سعة" الآية.

و وصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله "فتهاجروا فيها" أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، و لو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.

ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المساءلة بقوله "فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا".

قوله تعالى: "إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان"، الاستثناء منقطع، و في إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم و إنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، و في تفصيل بيانهم بالرجال و النساء و الولدان إيضاح للحكم الإلهي و رفع للبس.

و قوله "لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا" الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الآلة فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء و شيء أو حال للحصول على شيء أو حال آخر، و غلب استعماله في ما يكون على خفية و في الأمور المذمومة، و في مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته.

و المعنى: لا يستطيعون و لا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة، و السبيل المعنوي و هو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، و استضعافهم لهم بالعذاب و الفتنة.

كلام في المستضعف

يتبين بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور و ضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه.

توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين و كل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثني من ذلك المستضعفين و يقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم و غيرهم من الوصف، و هو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، و هذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج و الهجرة إلى دار الإسلام و الالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي و نحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية و لم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق و لا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.

فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة و لا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق و الدين بالسيف و السوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، و لا قدرة مع الغفلة، و لا سبيل مع هذا الجهل.



هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة، و هو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت": البقرة: 286 فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان كما أن الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان.

و هذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر و تمييزه من غيره، و هو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، و لا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو، بشيء من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه و أساء الاختيار استند إليه الترك و كان معصية، و إذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، و لم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة، مستكبرا عن الحق جاحدا له، فله ما كسب و عليه ما اكتسب، و إذا لم يكسب فلا له و لا عليه.

و من هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له و لا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا" و قوله تعالى "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم": براءة: 106 و رحمته سبقت غضبه.

قوله تعالى: "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، هؤلاء و إن لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الإنسان يدور بين السعادة و الشقاوة و كفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، و لذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.

و إنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله "و كان الله عفوا غفورا" اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم و ساءت مصيرا.

قوله تعالى: "و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا و سعة" قال الراغب: الرغام بفتح الراء التراب الرقيق، و رغم أنف فلان رغما وقع في الرغام، و أرغمه غيره، و يعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر: إذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها و لم أطلب العتبي و لكن أزيدها.

فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط، و على هذا قيل: أرغم الله أنفه، و أرغمه أسخطه، و راغمه ساخطه، و تجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: "يجد في الأرض مراغما كثيرا" أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه أن يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا و رغمت إليه انتهى.

فالمعنى: و من يهاجر في سبيل الله، أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما و عملا يجد في الأرض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع و إسخاطه أو لمنازعته المانع و مساخطته، و يجد سعة في الأرض.
<<        الفهرس        >>