جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 

و قد قال تعالى في سابق الآيات: "أ لم تكن أرض الله واسعة"، و لازم التفريع عليه أن يقال: و من يهاجر يجد في الأرض سعة إلا أنه لما زيد قوله "مراغما كثيرا" و هو من لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، و هو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك و تهييجهم و تشجيعهم على المهاجرة و تطييب نفوسهم.

قوله تعالى: "و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله" إلخ المهاجرة إلى الله و رسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله و سنة رسوله، و العمل به.

و إدراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجاته فإن الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، و كذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر و الثواب له تعالى و أخذه ذلك في عهدته، فهناك أجر جميل و ثواب جزيل سيوافي به العبد لا محالة، و الله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شيء و لا يعجزها شيء و لا يمتنع عليها ما أرادته، و لا تخلف الميعاد.

و ختم الكلام بقوله "و كان الله غفورا رحيما" تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفيه الأجر و الثواب.

و قد قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان و دار الشرك إلى أقسام، و بين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة و تنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الإيمان، و الاجتماع هناك، و تقوية المجتمع الإسلامي، و الاتحاد و التعاون على البر و التقوى و إعلاء كلمة الحق و رفع راية التوحيد و أعلام الدين.

فطائفة أقامت في دار الإسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و قاعدين غير أولي الضرر، و قاعدين أولي الضرر، و كلا وعد الله الحسنى و فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة.

و طائفة أقامت في دار الشرك، و هي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله و مأواهم جهنم و ساءت مصيرا، و طائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، و طائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله و رسوله ثم أدركها الموت فقد وقع أجرها على الله.

و الآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات و الأزمنة و إن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين هجرته إلى المدينة و فتح مكة و كانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام و هي المدينة و ما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم و جماعة من المشركين و غيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد و نحوه، و إلى أرض الشرك و هي مكة و ما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، و يزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، و يفتنونهم لردهم عن دينهم.

لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، و يستطيع إقامة شعائره و العمل بأحكامه، و أن يهجر الأرض التي لا علم فيها بمعارف الدين، و لا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الإسلام أو دار شرك فإن الأسماء تغيرت اليوم و هجرت مسمياتها و صار الدين جنسية، و الإسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.



و القرآن الكريم إنما يرتب الأثر على حقيقة الإسلام دون اسمه و يكلف الناس من العمل ما فيه شيء من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا": النساء: 124، و قال تعالى: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون": البقرة: 62.

بحث روائي


في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، و كانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، و قتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، و أكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية،: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى آخر الآية،. قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، و أنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الآية، "و من الناس من يقول آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله،" إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا، و أيسوا من كل خير فنزلت فيهم، "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا، ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا، فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا و قتل من قتل. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحاك: في الآية قال هم أناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، و خرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يوم بدر فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية. و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن زيد: في الآية قال: لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ظهر، و نبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال، فقالوا: يا رسول الله لو لا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا، و يفعلون و يفعلون لأسلمنا، و لكن نشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له، فلما كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره و استبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، معهم فقتلت طائفة منهم، و أسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله:، إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، الآية كلها، أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، و تتركوا، هؤلاء الذين يستضعفونكم، أولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا"،. ثم عذر الله أهل الصدق فقال: "إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان، لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" إقامتهم بين ظهري المشركين،. و قال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله، و أن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا، فقال الله: "يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى، إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا، مما أخذ منكم و يغفر لكم صنيعكم الذي صنعتم، خروجكم مع المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل، خرجوا مع المشركين فأمكن منهم.



و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و ابن جرير عن عكرمة: في قوله "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم - - إلى قوله و ساءت مصيرا"، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبي العاص بن منبه بن الحجاج، و علي بن أمية بن خلف،. قال: لما خرج المشركون من قريش و أتباعهم، لمنع أبي سفيان بن حرب و عير قريش، من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه، و أن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، و اجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا، و رجعوا عن الإسلام و هم هؤلاء الذين سميناهم.

أقول: و الروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، و هي و إن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن.

و من أهم ما يستفاد منها، و كذا من الآيات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة و بعدها.

فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر، و كان مريضا، فقال لأهله أخرجوني من مكة فإني أجد الحر، فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الآية، "و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت".

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا الذي أدركه الموت، ففي بعضها ضمرة بن جندب، و في بعضها أكثم بن صيفي، و في بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقي، و في بعضها ضمرة بن العيص من بني ليث، و في بعضها جندع بن ضمرة الجندعي، و في بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات.

و في بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي.

قال الراوي: قلت فأين الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، و هي خاصة عامة.

أقول: يعني أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، و المتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، و ليثي، و خالد بن حزام، و أما نزول الآية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوي.



و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المستضعف، فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن، و لا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان، و من الرجال و النساء، على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم: أقول و الحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني، و الصدوق، و العياشي، بعدة طرق عنه. و فيه، بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله،. قال: الدين واسع، و لكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: نعم،. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند الله تعالى، و أتولاكم، و أبرأ من أعدائكم و من ركب رقابكم، و تأمر عليكم، و ظلمكم حقكم. فقال: و الله ما جهلت شيئا، هو و الله الذي نحن عليه،. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال نساؤكم و أولادكم،. ثم قال: أ رأيت أم أيمن؟، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه. و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها، و الخادم تقول لها:، صلي فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها، و الجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له، و الكبير الفاني، و الصبي، و الصغير، هؤلاء المستضعفون، فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء و البيع، لا تستطيع أن تعينه في شيء تقول،: هذا المستضعف؟ لا، و لا كرامة و في المعاني، عن سليمان: عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال،: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون، و يصلون، تعف بطونهم و فروجهم، و لا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، إذا كانوا آخذين بالأغصان، و أن يعرفوا أولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته، و إن عذبهم فبضلالتهم.

أقول: قوله "لا يرون أن الحق في غيرنا"، يريد صورة النصب أو التقصير المؤدي إليه كما يدل عليه الروايات الآتية.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، و من لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف و فيه، و في تفسير العياشي،: عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال،: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، و لا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه، هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، و باجتناب المحارم التي نهى الله عنها، و لا ينالون منازل الأبرار و في تفسير القمي، عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين، المقرين بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المذنبين، الذين يموتون و ليس لهم إمام، و لا يعرفون ولايتكم،؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها،. فمن كان له عمل صالح، و لم يظهر منه عداوة، فإنه يخد له خد إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة، حتى يلقى الله فيحاسبه بحسناته و سيئاته، فإما إلى الجنة، و إما إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله،. قال و كذلك يفعل بالمستضعفين و البله، و الأطفال و أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم. فأما النصاب من أهل القبلة، فإنه يخد لهم خد إلى النار التي خلقها الله بالمشرق، فيدخل عليه اللهب و الشرر و الدخان، و فورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم و في الخصال، عن الصادق عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا، إلى أن قال و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله، و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت (عليهم السلام). و في المعاني، و تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله "إلا المستضعفين"،، قال: هم أهل الولاية. قلت: أي ولاية،؟ قال: أما إنها ليست بولاية في الدين، و لكنها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفار، و هم المرجون لأمر الله عز و جل.

أقول: و هو إشارة إلى قوله تعالى "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم": الآية التوبة: 106 و سيأتي ما يتعلق به من الكلام إن شاء الله.



و في النهج، قال (عليه السلام): و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة، فسمعتها أذنه، و وعاها قلبه. و في الكافي، عن الكاظم (عليه السلام): أنه سئل عن الضعفاء، فكتب (عليه السلام): الضعيف من لم ترفع له حجة،. و لم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل: ما تقول في المستضعفين،؟ فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا،؟ و أين المستضعفون، فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق، إلى العواتق في خدورهن، و تحدثت به السقاءات في طريق المدينة و في المعاني، عن عمر بن إسحاق قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام)، ما حد المستضعف الذي ذكره الله عز و جل،؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، و قد خلقه الله عز و جل خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن.

أقول: و هاهنا روايات أخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، و الروايات و إن كانت بحسب بادىء النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى إطلاق الآية على ما قدمناه، و هو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير.

4 سورة النساء - 101 - 104
وَ إِذَا ضرَبْتُمْ فى الأَرْضِ فَلَيْس عَلَيْكمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصرُوا مِنَ الصلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إِنّ الْكَفِرِينَ كانُوا لَكمْ عَدُوّا مّبِيناً (101) وَ إِذَا كُنت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمُ الصلَوةَ فَلْتَقُمْ طائفَةٌ مِّنهُم مّعَك وَ لْيَأْخُذُوا أَسلِحَتهُمْ فَإِذَا سجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائكمْ وَ لْتَأْتِ طائفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصلّوا فَلْيُصلّوا مَعَك وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسلِحَتهُمْ وَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مّيْلَةً وَحِدَةً وَ لا جُنَاحَ عَلَيْكمْ إِن كانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مّطرٍ أَوْ كُنتُم مّرْضى أَن تَضعُوا أَسلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً (102) فَإِذَا قَضيْتُمُ الصلَوةَ فَاذْكرُوا اللّهَ قِيَماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكمْ فَإِذَا اطمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصلَوةَ إِنّ الصلَوةَ كانَت عَلى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مّوْقُوتاً (103) وَ لا تَهِنُوا فى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

بيان


الآيات تشرع صلاة الخوف و القصر في السفر، و تنتهي إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين و ابتغائهم، و هي مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد و ما لها من مختلف الشئون.

قوله تعالى: "و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" الجناح الإثم و الحرج و العدول، و القصر النقص من الصلاة، قال في المجمع:، في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها و هي لغة القرآن، و قصرتها تقصيرا، أقصرتها إقصارا.

و المعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج و إثم أن تنقصوا شيئا من الصلاة، و نفي الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى "إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما": البقرة: 158 مع كون الطواف واجبا، و ذلك أن المقام مقام التشريع، و يكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم و خصوصياته، و نظير الآية بوجه قوله تعالى "و أن تصوموا خير لكم" الآية: البقرة: 184.

قوله تعالى: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، الفتنة و إن كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفار و المشركين التعذيب من قتل أو ضرب و نحوهما، و قرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى: إن خفتم أن يعذبوكم بالحملة و القتل.

و الجملة قيد لقوله "فليس عليكم"، جناح و تفيد أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنما كان عند خوف الفتنة، و لا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي و إن لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، و السنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.

قوله تعالى: "و إذا كنت فيهم - إلى قوله - و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم" الآية، تذكر كيفية صلاة الخوف، و توجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفرضه إماما في صلاة الخوف، و هذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه أوجز و أجمل.

فالمراد بقوله "أقمت لهم الصلاة" هو الصلاة جماعة، و المراد بقوله "فلتقم طائفة منهم معك" قيامهم في الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو الايتمام، و هم المأمورون بأخذ الأسلحة، و المراد بقوله "فإذا سجدوا إلخ إذا سجدوا و أتموا الصلاة ليكون هؤلاء بعد إتمام سجدتهم من وراء القوم، و كذا المراد بقوله "و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم" أن تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حذرهم و أسلحتهم.

و المعنى - و الله أعلم -: و إذا كنت أنت يا رسول الله فيهم و الحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك و ليأخذوا معهم أسلحتهم، و من المعلوم أن الطائفة الأخرى يحرسونهم و أمتعتهم فإذا سجد المصلون معك و فرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم و الأمتعة و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، و ليأخذ هؤلاء المصلون أيضا كالطائفة الأولى المصلية حذرهم و أسلحتهم.

و توصيف الطائفة بالأخرى، و إرجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ و أخرى لجانب المعنى، كما قيل.

و في قوله تعالى "و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم" نوع من الاستعارة لطيف، و هو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الأخذ الذي نسب إلى الأسلحة، كما قيل.

قوله تعالى: "ود الذين كفروا لو تغفلون - إلى قوله - واحدة" في مقام التعليل للحكم المشرع، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و لا جناح عليكم" إلى آخر الآية.

تخفيف آخر و هو أنهم إن كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم، و لا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم.

قوله تعالى: "فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما و قعودا و على جنوبكم" و القيام و القعود جمعان أو مصدران، و هما حالان و كذا قوله "على جنوبكم" و هو كناية عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الأحوال.

قوله تعالى: "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة" إلخ المراد بالاطمينان الاستقرار، و حيث قوبل به قوله "و إذا ضربتم في الأرض"، على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الأوطان، و على هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك.

قوله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" الكتابة كناية عن الفرض و الإيجاب كقوله تعالى "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم: البقرة: 183 و الموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ أن الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدي في أوقاتها و نجومها.

و الظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات و عدم التغير بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، و ذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادىء ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله "إن الصلاة"، في مقام التعليل لقوله "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة" فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، و لا تتغير و لا تتبدل إلى شيء آخر كالصوم إلى الفدية مثلا.

قوله تعالى: "و لا تهنوا في ابتغاء القوم"، الوهن الضعف، و الابتغاء الطلب، و الألم مقابل اللذة، و قوله "و ترجون من الله ما لا يرجون" حال من ضمير الجمع الغائب، و المعنى: أن حال الفريقين في أن كلا منهما يألم واحد، فلستم أسوأ حالا من أعدائكم، بل أنتم أرفه منهم و أسعد حيث إن لكم رجاء الفتح و الظفر و المغفرة من ربكم الذي هو وليكم، و أما أعداؤكم فلا مولى لهم و لا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم، و ينشطهم في عملهم.

و يسوقهم إلى مبتغاهم، و كان الله عليما بالمصالح، حكيما متقنا في أمره و نهيه.

بحث روائي




في تفسير القمي،: نزلت يعني آية صلاة الخوف، لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحديبية يريد مكة، فلما وقع الخبر إلى قريش، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس، ليستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان يعارض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجبال، فلما كان في بعض الطريق، و حضرت صلاة الظهر أذن بلال، و صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس، فقال خالد بن الوليد،: لو كنا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فإنهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن يجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصلاة الخوف في قوله "و إذا كنت فيهم" و في المجمع،: في قوله "و لا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر" الآية أنها نزلت و النبي بعسفان و المشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه، يعنون صلاة العصر، فأنزل الله عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد القصة.

و فيه:، ذكر أبو حمزة يعني الثمالي في تفسيره: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غزا محاربا ببني أنمار فهزمهم الله، و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمون و لا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقضي حاجته، و قد وضع سلاحه فجعل بينه و بين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته، و قد درأ الوادي، و السماء ترش فحال الوادي بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين أصحابه و جلس في ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله إن لم أقتله، و انحدر من الجبل و معه السيف، و لم يشعر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سله من غمده، و قال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): الله. فانكب عدو الله لوجهه فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ سيفه، و قال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال. لا أحد. قال: أ تشهد أن لا إله إلا الله، و أني عبد الله و رسوله؟ قال: لا، و لكني أعهد أن لا أقاتلك أبدا، و لا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه، فقال له غورث: و الله لأنت خير مني. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إني أحق بذلك. و خرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلجني بين كتفي؟ فخررت لوجهي، و خر سيفي، و سبقني إليه محمد و أخذه، و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، و قرأ عليهم "إن كان بكم أذى من مطر" الآية كلها.

و في الفقيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة بإزاء العدو و فرقة خلفه، فكبر و كبروا، فقرأ و أنصتوا، فركع و ركعوا، فسجد و سجدوا، ثم استمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو. و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكبر و كبروا، و قرأ فأنصتوا، و ركع فركعوا، و سجد و سجدوا، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتشهد ثم سلم عليهم فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، و قد قال تعالى لنبيه "و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة إلى قوله كتابا موقوتا" فهذه صلاة الخوف التي أمر الله عز و جل بها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). و قال: من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الأولى ركعة، و بالطائفة الثانية ركعتين الحديث.

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن صلاة الخوف و صلاة السفر تقصران جميعا؟ قال: نعم، و صلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف و في الفقيه، بإسناده عن زرارة و محمد بن مسلم. أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في صلاة السفر؟ كيف هي و كم هي؟ فقال: إن الله عز و جل يقول: "و إذا ضربتم في الأرض - فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا: قلنا: إنما قال الله عز و جل "فليس عليكم جناح" و لم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): أ و ليس قد قال الله "إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" أ لا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأن الله عز و جل ذكره في كتابه، و صنعه نبيه، و كذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره الله تعالى في كتابه. قالا: فقلنا له: فمن صلى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: إن كان قد قرئت عليه آية التقصير و فسرت له فصلى أربعا أعاد، و إن لم تكن قرئت عليه و لم يكن يعلمها فلا إعادة عليه. و الصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر و الحضر ثلاث ركعات الحديث.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن الجارود و ابن خزيمة و الطحاري و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن حبان عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" و قد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. و فيه، أخرج عبد بن حميد و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و البيهقي في سننه عن أمية بن خالد بن أسد: أنه سأل ابن عمر: أ رأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن الله أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعل و قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه:، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و صححه و النسائي عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين مكة و المدينة و نحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين. و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر و العصر بمنى أكثر ما كان الناس و آمنه ركعتين. و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا"؟ قال: كتابا ثابتا، و ليس إن عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضع تلك الإضاعة فإن الله عز و جل يقول. "أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا".

أقول: إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهة الوقت كما يدل عليه روايات أخر.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): قال في صلاة المغرب في السفر: لا تترك إن تأخرت ساعة، ثم تصليها إن أحببت أن تصلي العشاء الآخرة، و إن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى صلاة الهاجرة و العصر جميعا، و المغرب و العشاء الآخرة جميعا، و كان يؤخر و يقدم أن الله تعالى قال: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" إنما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا، و كان أعلم و أخبر و كان كما يقولون، و لو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و قد فات الناس مع أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، و أمرهم علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فكبروا و هللوا و سبحوا رجالا و ركبانا لقول الله "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" فأمر علي (عليه السلام) فصنعوا ذلك.

أقول: و الروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق و الروايات في المعاني السابقة و خاصة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة جدا، و إنما أوردنا أنموذجا مما ورد منها.

و اعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات أخرى تعارض ما تقدم، و هي مع ذلك تتدافع في أنفسها، و النظر فيها و في سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف خاصة و صلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه.

و في تفسير القمي، في قوله "و لا تهنوا في ابتغاء القوم" الآية إنه معطوف على قوله في سورة آل عمران "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله". و قد ذكرنا هناك سبب نزول الآية

4 سورة النساء - 105 - 126
إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْك الْكِتَب بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَينَ النّاسِ بمَا أَرَاك اللّهُ وَ لا تَكُن لِّلْخَائنِينَ خَصِيماً (105) وَ استَغْفِرِ اللّهَ إِنّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رّحِيماً (106) وَ لا تجَدِلْ عَنِ الّذِينَ يخْتَانُونَ أَنفُسهُمْ إِنّ اللّهَ لا يحِب مَن كانَ خَوّاناً أَثِيماً (107) يَستَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَ لا يَستَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ محِيطاً (108) هَأَنتُمْ هَؤُلاءِ جَدَلْتُمْ عَنهُمْ فى الْحَيَوةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَدِلُ اللّهَ عَنهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَم مّن يَكُونُ عَلَيهِمْ وَكيلاً (109) وَ مَن يَعْمَلْ سوءاً أَوْ يَظلِمْ نَفْسهُ ثُمّ يَستَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً (110) وَ مَن يَكْسِب إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَن يَكْسِب خَطِيئَةً أَوْ إِثماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بهْتَناً وَ إِثْماً مّبِيناً (112) وَ لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْك وَ رَحْمَتُهُ لهََمّت طائفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلّوك وَ مَا يُضِلّونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَضرّونَك مِن شىْءٍ وَ أَنزَلَ اللّهُ عَلَيْك الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ عَلّمَك مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَ كانَ فَضلُ اللّهِ عَلَيْك عَظِيماً (113) * لا خَيرَ فى كثِيرٍ مِّن نّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلَح بَينَ النّاسِ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللّهِ فَسوْف نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَ مَن يُشاقِقِ الرّسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتّبِعْ غَيرَ سبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلى وَ نُصلِهِ جَهَنّمَ وَ ساءَت مَصِيراً (115) إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشرَك بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك لِمَن يَشاءُ وَ مَن يُشرِك بِاللّهِ فَقَدْ ضلّ ضلَلا بَعِيداً (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَثاً وَ إِن يَدْعُونَ إِلا شيْطناً مّرِيداً (117) لّعَنَهُ اللّهُ وَ قَالَ لأَتخِذَنّ مِنْ عِبَادِك نَصِيباً مّفْرُوضاً (118) وَ لأُضِلّنّهُمْ وَ لأُمَنِّيَنّهُمْ وَ لاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكنّ ءَاذَانَ الأَنْعَمِ وَ لاَمُرَنهُمْ فَلَيُغَيرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَ مَن يَتّخِذِ الشيْطنَ وَلِيّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسرَاناً مّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشيْطنُ إِلا غُرُوراً (120) أُولَئك مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ لا يجِدُونَ عَنهَا محِيصاً (121) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ سنُدْخِلُهُمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّا وَ مَنْ أَصدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) لّيْس بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لا أَمَانىِّ أَهْلِ الْكتَبِ مَن يَعْمَلْ سوءاً يجْزَ بِهِ وَ لا يجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَن يَعْمَلْ مِنَ الصلِحَتِ مِن ذَكرٍ أَوْ أُنثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئك يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَ لا يُظلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسنُ دِيناً مِّمّنْ أَسلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَ هُوَ محْسِنٌ وَ اتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَ اتخَذَ اللّهُ إِبْرَهِيمَ خَلِيلاً (125) وَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ محِيطاً (126)

بيان


الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في القضاء، و النهي عن أن يميل القاضي في قضائه، و الحاكم في حكمه إلى المبطلين، و يجور على المحقين كائنين من كانوا.

و ذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية و الأمر بلزومها و رعايتها، و تنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، و إنما ينفع التلبس به دون التسمي.

و الظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى "و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا" حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار و نحوها، و أنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حكمه و الله عاصمه.

و الظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى "و لا تكن للخائنين خصيما" الآية و قوله "يستخفون من الناس" الآية و قوله "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم" إلخ فإن الخيانة و إن كان ظاهرها ما يكون في الودائع و الأمانات لكن سياق قوله "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس" كما سيجيء بيانه يعطي أن المراد بها ما يتحقق في سرقة و نحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، و ما لبعضهم من المال مسئول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه، و الاهتمام بحفظه و حمايته، فتعدى بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.

فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرمى بها السارق غيره ممن هو بريء منها، ثم ألح قوم السارق عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي لهم، و بالغوا في أن يغيروه (صلى الله عليه وآله وسلم) على المتهم البريء فأنزلت الآيات و برأه الله مما قالوا.

فالآيات أشد انطباقا على ما روي في سبب النزول من قصة سرقة أبي طعمة بن الأبيرق، و إن كانت أسباب النزول - كما سمعت مرارا - في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.

و يستفاد من الآيات حجية قضائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عصمته و حقائق أخر سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم و منازعاتهم مما يرجع إلى الأمور القضائية و رفع الاختلافات بالحكم، و قد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": الآية البقرة: 213 و قد مر تفصيل القول فيه.

فهذه الآية إنا أنزلنا إليك الكتاب إلخ في خصوص موردها نظيرة تلك الآية كان الناس أمة واحدة، في عمومها، و تزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الحجية لرأيه و نظره فإن الحكم و هو القطع في القضاء و فصل الخصومة لا ينفك عن إعمال نظر من القاضي الحاكم و إظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامة و القوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الأحكام و حقوق الناس أمر، و القطع و الحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.

فالمراد بالإراءة في قوله "لتحكم بين الناس بما أراك الله" إيجاد الرأي و تعريف الحكم لا تعليم الأحكام و الشرائع كما احتمله بعضهم.

و مضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب و علمك أحكامه و شرائعه و حكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي و عرفك من الحكم فتحكم بين الناس، و ترفع بذلك اختلافاتهم.

قوله تعالى: "و لا تكن للخائنين خصيما" عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الإنشاء كأنه قيل: فاحكم بينهم و لا تكن للخائنين خصيما.

و الخصيم هو الذي يدافع عن الدعوى و ما في حكمها، و فيه نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين و يبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى.

و ربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله "و لا تكن للخائنين"، على ما تقدمه و هو أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع و إن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، و سيجيء لهذا الكلام تتمة.

قوله تعالى: "و استغفر الله إن الله كان غفورا رحيما" الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق و الميل إلى الهوى و مغفرة ذلك، و قد مر مرارا أن العفو و المغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شئون مختلفة يجمعها جامع الذنب، و هو التباعد من الحق بوجه.

فالمعنى - و الله أعلم -: و لا تكن للخائنين خصيما و لا تمل إليهم، و اطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك و يستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم و يتسلط عليك هوى النفس.

و الدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات "الكريمة و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء" فإن الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل و إظهاره على الحق فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمن إلهي من الضرر، و الله يعصمه فهو لا يجور في حكمه و لا يميل إلى الجور، و لا يتبع الهوى، و من الجور و الميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوي و ضعيف، أو صديق و عدو، أو مؤمن و كافر ذمي، أو قريب و بعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال و تبعة منه، و لا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، و لا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه و عدم استغنائه عنه و إن كان على عصمة، فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.



و هذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة و معصية، و ما يحمد أو يذم عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي، و بعبارة أخرى الآيات تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمن من اتباع الهوى، و الميل إلى الباطل، و أما إن الذي يحكم و يقضي به بما شرعه من القواعد و قوانين القضاء الظاهرية كقوله "البينة على المدعي و اليمين على من أنكر" و نحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، و مغلوبية المبطل في دعواه، فالآيات لا تدل على ذلك أصلا، و لا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعا فإنها أمارات مميزة بين الحق و الباطل غالبا لا دائما، و لا معنى لاستلزام الغالب الدائم و هو ظاهر.

و مما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى "و استغفر الله، إنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدفاع و الذب عن هذا الخائن المذكور في الآية، و قد سأله قومه أن يدفع عنه و يكون خصيما له على يهودي.

و ذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، و قد نفى الله سبحانه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كل ضرر.

قوله تعالى "و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو يعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما لها، و قد قال تعالى.

"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم": البقرة: 187.

و يمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، و أن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه و صونه عن الضيعة و التلف، كون تعدي بعضهم على بعض بسرقة و نحوها اختيانا لأنفسهم.

و في قوله تعالى "إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، و يؤكده قوله "أثيما" فإن الأثيم آكد في المعنى من الإثم و هو صفة مشبهة تدل على الثبوت.

على أن قوله "يختانون أنفسهم" لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، و كذا قوله "للخائنين" حيث عبر بالوصف و لم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله "فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم": الأنفال: 71.

فمن هذه القرائن و أمثالها يظهر أن معنى الآية - بالنظر إلى مورد النزول -: و لا تكن خصيما لهؤلاء، و لا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم، و الله لا يحب من كان خوانا أثيما.

و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الأبيرق.

كما سيجيء.

و معنى الآية - مع قطع النظر عن المورد -: و لا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم، و كما أنه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، و لو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها و إذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها و أما من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر و هو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور و لا ممنوع منه، و لا ينهى عنه قوله "و لا تكن للخائنين خصيما" الآية.

قوله تعالى: "يستخفون من الناس و لا يستخفون من الله"، و هذا أيضا من الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات 105 126 جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، و هي التي يشير إليها قوله "و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا" الآية، و ذلك أن الاستخفاء إنما يناسب الأعمال التي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة و أمثال ذلك فيتأيد به أن الذي تشير إليه هذه الآية و ما تقدمها من الآيات هو الذي يشير إليه قوله "و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به" الآية.



و الاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض و لا في السماء فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطراري غير مقدور، و إذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم و لا تعيير كما هو ظاهر الآية.

لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء و لذلك قيد قوله "و لا يستخفون من الله" أولا بقوله "و هو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول" فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبري من هذه الخيانة المذمومة، و يبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه ثم قيده ثانيا بقوله "و كان الله بما يعملون محيطا" و دل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال و منها حال الجرم الذي أجرموه، و التقييد بهذين القيدين أعني قوله "و هو معهم"، و قوله "و كان الله"، تقييد بالعام بعد الخاص، و هو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.

قوله تعالى: "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" الآية بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، و أنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام و المراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، و لا قدر لها عند الله، و أما الحياة الأخروية التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين و لا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم و إصلاح شئونهم.

قوله تعالى. "و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه" الآية فيه ترغيب و حث لأولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، و الظاهر أن الترديد بين السوء و ظلم النفس و التدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، و بالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، و الله أعلم.

و هذه الآية و الآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، و هو بيان أمر الإثم الذي يكسبه الإنسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالآية الأولى تبين أن المعصية التي يقترفها الإنسان فيتأثر بتبعتها نفسه و تكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها و يستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.

و الآية الثانية تذكر الإنسان أن الإثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه و ليس بالذي يمكن أن يتخطاه و يلحق غيره برمي أو افتراء و نحو ذلك.

و الآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الإثم الذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.

قوله تعالى: "و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه و كان الله عليما حكيما" قد تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة و الإثم فهذه كالمقدمة لتلك، و على هذا فقوله "فإنما يكسبه على نفسه" مسوق لقصر التعيين، و في الآية عظة لمن يكسب الإثم ثم يرمي به بريئا غيره.



و المعنى - و الله أعلم -: أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الإثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، و أنه هو الذي فعله لا غيره و إن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه و كان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، و أنه الذي فعله لا غيره المرمي به، حكيما لا يؤاخذ بالإثم إلا آثمه، و بالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: "لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت" البقرة: 286، و قال: "و لا تزر وازرة وزر أخرى" الأنعام: 164 و قال: "و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون" العنكبوت: 12.

قوله تعالى: "و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا"، قال الراغب في المفردات،: إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ و إن وقع منه كما أراده يقال أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ.

و لهذا يقال: أصاب الخطأ، و أخطأ الصواب، و أصاب الصواب، و أخطأ الخطأ.

و هذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.

قال: و الخطيئة و السيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، و السبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر و ما يتولد عنه من الخطإ غير متجاف عنه، و سبب غير محظور كرمي الصيد، قال تعالى:، ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم" و قال تعالى: "و من يكسب خطيئة أو إثما" فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها انتهى.

و أظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة و الرزية و السليقة و نحوها، و وزن فعيل يدل على اختزان الحدث و استقراره، فالخطيئة هي العمل الذي اختزن و استقر فيه الخطأ و الخطأ، الفعل الواقع الذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطإ، هذا في الأصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية و أثر معصية من مصاديق الخطإ على هذا التوسع، و الخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الإنسان و لا يعد حينئذ معصية أو لم يكن ينبغي أن يقصده و يعد حينئذ معصية أو وبال معصية.

لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله "و من يكسب خطيئة" إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها و إن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.

و قد مر في قوله تعالى "قل فيهما إثم": البقرة: 219 أن الإثم هو العمل الذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر و القمار و السرقة مما يصد الإنسان عن حيازة الخيرات الحيوية، و يوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الإنسان عن وزنه الاجتماعي و يسلب عنه الاعتماد و الثقة العامة.

و على هذا فاجتماع الخطيئة و الإثم على نحو الترديد و نسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله "و من يكسب خطيئة أو إثما" الآية يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى، و المعنى - و الله أعلم -: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق و السرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا.



و في تسمية نسبة العمل السيىء إلى الغير رميا - و الرمي يستعمل في مورد السهم - و كذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفتري يفتك بالمتهم البريء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه.

و من ما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم و أخرى بالخطيئة و السوء و الظلم و الخيانة و الضلال، فكل واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.

قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت" إلى آخر الآية السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين و الجدال عنهم و على هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" الآية و ينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجيء.

و أما قوله "و ما يضلون إلا أنفسهم" فالمراد به بقرينة قوله بعده "و ما يضرونك من شيء"، إن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم و لا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لأنه معصية و كل معصية ضلال.

و لهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله "و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون: آل عمران: 69 في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.

و أما قوله "و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك"، ففيه نفي إضرارهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله "و أنزل الله عليك الكتاب"، على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله "يضرونك" و إن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة، و على هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علم أو عمل.

قوله تعالى: "و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم"، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنه في مقام التعليل لقوله "و ما يضرونك من شيء" أو لمجموع قوله "و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء" و كيف كان فهذا الإنزال و التعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو الملاك في عصمته.

كلام في معنى العصمة

ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية و الخطإ، و بعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة و العفة و السخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن و التهور و الخمود و الشره و البخل و التبذير.

و العلم النافع و الحكمة البالغة و إن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، و التلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم و الحكمة و الفضلاء من أهل التقوى و الدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص و يصونه عن الخطإ صونا دائميا من غير تخلف، سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها و نشاهدها.



و الوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية، و يجري على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة و انجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى و يختار سفساف الشره، و على هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان و إلا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق، و لا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى و الأسباب، و تغلب بعضها على بعض.

و من هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، و لو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك لتسرب إليها التخلف، و خبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم و الإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب و التعلم.

و قد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله "و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم" و هو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم و الشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك": البقرة: 97 و قوله "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين": الشعراء: 195 أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، و يظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي و التكليم كما يظهر من قوله "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى": الآية الشورى: 13 و قوله "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده": النساء: 163 و قوله "إن أتبع إلا ما يوحى إلي": الأنعام: 50، و قوله "إنما أتبع ما يوحى إلي": الأعراف: 203.

و يستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب و الحكمة و هو نوع تعليم إلهي لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أن الذي يشير إليه بقوله "و علمك ما لم تكن تعلم" ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب و الحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحوادث الواقعة و الدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشيء و إن كان متوقفا عليهما بل رأيه و نظره الخاص به.

و من هنا يظهر أن المراد بالإنزال و التعليم في قوله "و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم" نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي و نزول الروح الأمين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و، الآخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب و الإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك و هذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و على هذا فالمراد بقوله "و علمك ما لم تكن تعلم" آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.



فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم و الشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، و لذلك كانت تصون صاحبها من الضلال و الخطيئة مطلقا، و قد ورد في الروايات أن للنبي و الإمام روحا تسمى روح القدس تسدده و تعصمه عن المعصية و الخطيئة، و هي التي يشير إليها قوله تعالى "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا": الشورى: 52 بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نظيره قوله تعالى "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين": الأنبياء: 73 بناء على ما سيجيء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات و عبادة الله سبحانه.

و بان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله "و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم" هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": الآية البقرة: 213 و قد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و المراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي، النافعة للدنيا و الآخرة، و المراد بقوله "و علمك ما لم تكن تعلم" غير المعارف الكلية العامة من الكتاب و الحكمة.

و بذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية.

فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، و الحكمة بما فيه من الأحكام، و "ما لم تكن تعلم" بالأحكام و الغيب و فسر بعضهم الكتاب و الحكمة بالقرآن و السنة، و "ما لم تكن تعلم" بالشرائع و أنباء الرسل الأولين و غير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، و قد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد.

قوله تعالى: "و كان فضل الله عليك عظيما" امتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -.

قوله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" قال الراغب: و ناجيته أي ساررته و أصله أن تخلو به في نجوة من الأرض انتهى فالنجوى المسارة في الحديث، و ربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: "و إذ هم نجوى": الإسراء: 47 أي متناجون.

و في الكلام أعني قوله "لا خير في كثير من نجواهم" عود إلى ما تقدم من قوله تعالى "إذ يبيتون ما لا يرضى من القول" الآية بناء على اتصال الآيات و قد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لأن الحكم المذكور و هو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة و إن لم تكن على نحو التبييت، و نظيره قوله "و من يشاقق"، دون أن يقول: و من يناج للمشاقة، لأن الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أو لا.

و ظاهر الاستثناء أنه منقطع، و المعنى: لكن من أمر بكذا و كذا فيه ففيما أمر به شيء من الخير، و قد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا و ذلك من قبيل الاستعارة، و قد عد تعالى هذا الخير الذي يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس.

و لعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، و هو كذلك غالبا.

قوله تعالى: "و من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله"، تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة و العقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، و عدم الخير فيما ليس بخير منه.

و محصله أن فاعل النجوى على قسمين: أحدهما من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، و لا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله، و سوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الأجر، و ثانيهما أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول و اتخاذ طريق غير طريق المؤمنين و سبيلهم، و جزاؤه الإملاء و الاستدراج الإلهي ثم إصلاء جهنم و ساءت مصيرا.



قوله تعالى: "و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين، المشاقة من الشق و هو القطعة المبانة من الشيء فالمشاقة و الشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، و هو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته و عدم إطاعته، و على هذا فقوله "و يتبع غير سبيل المؤمنين" بيان آخر لمشاقة الرسول، و المراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله قال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" النساء: 80.

فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الله و رسوله - و إن شئت فقل على طاعة رسوله - فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى: "و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله و من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا": آل عمران: 103 و قد تقدم الكلام في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، و قال تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" الأنعام: 153 و إذا كان سبيله سبيل التقوى، و المؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى: "و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان": المائدة: 2 و الآية - كما ترى - تنهى عن معصية الله و شق عصا الاجتماع الإسلامي، و هو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.

فمعنى الآية أعني قوله "و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين"، يعود إلى معنى قوله "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم و العدوان و معصية الرسول و تناجوا بالبر و التقوى": الآية المجادلة: 9.

و قوله "نوله ما تولى"، أي نجره على ما جرى عليه، و نساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: "كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء: 20.

و قوله "و نصله جهنم و ساءت مصيرا" عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى و إصلاءه جهنم أمر واحد إلهي بعض أجزائه دنيوي و هو توليته ما تولى، و بعضها أخروي و هو إصلاؤه جهنم و ساءت مصيرا.

قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" إلى آخر الآية ظاهر الآية أنها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة "نوله ما تولى و نصله جهنم"، بناء على اتصال الآيات فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، و أن الله لا يغفر أن يشرك به، و ربما استفيد ذلك من قوله تعالى "إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم": محمد: 34 فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية من الأمر بطاعة الله و طاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله و طاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، و هو الشرك.

و المقام يعطي أن إلحاق قوله "و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" بقوله "إن الله لا يغفر أن يشرك به" إنما هو لتتميم البيان، و إفادة عظمة هذه المعصية المشئومة أعني مشاقة الرسول، و قد تقدم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.



قوله تعالى: "إن يدعون من دونه إلا إناثا" الإناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل و لان، و أنث المكان أسرع في الإنبات و جاد، ففيه معنى الانفعال و التأثر، و بذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى و قد سميت الأصنام و كل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها - كما قيل - قال تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز": الحج: 74 و قال: "و اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا": الفرقان: 3.

فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق عز اسمه، و هذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات و العزى و منات الثالثة و نحوها، و قد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بني فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات و الجمادات تؤنث في اللفظ.

و وجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله "إن يدعون من دونه إلا إناثا" كثير ملاءمة، و بين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح و برهما و بوذا.

قوله تعالى: "و إن يدعون إلا شيطانا مريدا" المريد هو العاري من كل خير أو مطلق العاري، قال البيضاوي: المارد و المريد الذي لا يعلق بخير، و أصل التركيب للملامسة، و منه صرح ممرد، و غلام أمرد، و شجرة مرداء للتي تناثر ورقها انتهى.

و الظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، و قد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني": يس: 61 فيئول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة و دعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.

قوله تعالى: "لعنه الله" اللعن هو الإبعاد عن الرحمة، و هو وصف ثان للشيطان و بمنزلة التعليل للوصف الأول.

قوله تعالى: "و قال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا" كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": ص: 83 و في قوله "من عبادك" تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، و هو ربهم يحكم فيهم بما شاء.

قوله تعالى: "و لأضلنهم و لأمنينهم" إلى آخر الآية التبتيل هو الشق، و ينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر و السوائب لتحريم لحومها.

و هذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة به، يقول: لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله و اقتراف المعاصي، و لأغرنهم بالاشتغال بالآمال و الأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم و ما يهمهم من أمرهم، و لآمرنهم بشق آذان الأنعام و تحريم ما أحل الله سبحانه، و لآمرنهم بتغيير خلق الله و ينطبق على مثل الإخصاء و أنواع المثلة و اللواط و السحق.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدين الحنيف، قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم": الروم: 30.

ثم عد تعالى دعوة الشيطان و هي طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: "و من يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا" و لم يقل: و من يكن الشيطان له وليا إشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله، و لا ولاية لغيره على شيء و إن اتخذ وليا.



قوله تعالى: "يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا" ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الآية السابقة "فقد خسر خسرانا مبينا" و أي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقية و كمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة و الأماني الموهومة، قال تعالى: "و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد الله عنده فوفاه حسابه و الله سريع الحساب": النور.

39.

أما المواعيد فهي الوساوس الشيطانية بلا واسطة، و أما الأماني فهي المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، و لذلك قال: "و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا" فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.

ثم بين عاقبة حالهم بقوله "أولئك مأواهم جهنم و لا يجدون عنها محيصا" أي معدلا و مفرا من "حاص" إذا عدل.

ثم ذكر ما يقابل حالهم و هو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات" إلى آخر الآية و في الآيات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة، و الوجه العام فيه الإيماء إلى جلالة المقام و عظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذي كان هو الأصل، و ذلك في قوله "سندخلهم جنات"، و في ذلك نكتة أخرى، و هي الإيماء إلى قرب الحضور و عدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين و هو وليهم.

قوله تعالى: "وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا" فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، و قوله صدقا.

قوله تعالى: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب" عود إلى بدء الكلام و بمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، و ذلك أنه يتحصل من المحكي من أعمال بعض المؤمنين و أقوالهم، و إلحاحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يراعي جانبهم، و يعاضدهم و يساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع و المشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه و حقا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب به على الله و رسوله مراعاة جانبهم، و تغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه اتباع أئمة الضلال، و حواشي رؤساء الجور و بطائنهم و أذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه و رئيسه في عين أنه يخضع له و يطيعه، و يرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه و تقديمه على غيره تحكما.

و كذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: "و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه": المائدة: 18، و قال تعالى: "و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا": البقرة: 135، و قال تعالى: "قالوا ليس علينا في الأميين سبيل": آل عمران: 75.

فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، و أتبعهم بأهل الكتاب و سمى هذه المزاعم بالأماني استعارة لأنها كالأماني ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الأعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين و لا بأماني أهل الكتاب بل الأمر يدور مدار العمل إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و قدم ذكر السيئة على الحسنة لأن عمدة خطإهم كانت فيها.



قوله تعالى: "من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا" جيء في الكلام بالفصل من غير وصل لأنه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره إذا لم يكن الدخول في حمى الإسلام و الإيمان يجر للإنسان كل خير، و يحفظ منافعه في الحياة، و كذا اليهودية و النصرانية فما هو السبيل؟ و إلى ما ذا ينجر حال الإنسان؟ فقيل: "من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا و من يعمل من الصالحات" إلخ.

و قوله "من يعمل سوءا يجز به" مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذي تقرره الشريعة الإسلامية كالقصاص للجاني، و القطع للسارق، و الجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات و غيرها و يشمل الجزاء الأخروي الذي أوعده الله تعالى في كتابه و بلسان نبيه.

و هذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة و المنطبق عليه، و قد ورد في سبب النزول أن الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، و رمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي على المتهم.

و قوله "و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا" يشمل الولي و النصير في صرف الجزاء السيىء عنه في الدنيا كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولي الأمر و كالتقرب منهما و كرامة الإسلام و الدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، و يشمل الولي و النصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلا ما تشمله الآية التالية.

قوله تعالى: "و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا" هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح و هو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء و عمم فيه من جهة أخرى توجب السعة.

فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح و لا عمل للكافر، قال تعالى: و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون": الأنعام: 88، و قال تعالى: "أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا": الكهف: 105.

قال تعالى: "و من يعمل من الصالحات" فأتى بمن التبعيضية، و هو توسعة في الوعد بالجنة، و لو قيل: و من يعمل الصالحات - و المقام مقام الدقة في الجزاء - أفاد أن الجنة لمن آمن و عمل كل عمل صالح، لكن الفضل الإلهي عمم الجزاء الحسن لمن آمن و أتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقي من الصالحات أو اقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء: 116 و قد تقدم تفصيل الكلام في التوبة و في قوله تعالى: "إنما التوبة على الله": النساء: 17 في الجزء الرابع، و في الشفاعة في قوله تعالى "و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا": البقرة: 48 في الجزء الأول من هذا الكتاب.

و قال تعالى: "من ذكر أو أنثى" فعمم الحكم للذكر و الأنثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل و النحل كالهند و مصر و سائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن و لا ثواب لحسناتهن، و ما كان يظهر من اليهودية و النصرانية أن الكرامة و العزة للرجال، و أن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الأجر و المثوبة، و العرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله "من ذكر أو أنثى".



و لعل هذا هو السر في تعقيب قوله "فأولئك يدخلون الجنة" بقوله "و لا يظلمون نقيرا" لتدل الجملة الأولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، و الجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة و النقيصة كما قال تعالى: "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض": آل عمران: 195.

قوله تعالى: "و من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله و هو محسن" إلى آخر الآية كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه و حفظ منافعه و بالجملة إذا كان الإيمان بالله و آياته لا يعدل شيئا و يستوي وجوده و عدمه فما هو كرامة الإسلام و ما هي مزية الإيمان؟.

فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، و لا يداخله شك و لا يخفى حسنه على ذي لب و هو قوله "و من أحسن دينا"، حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الإنسان لا مناص له عن الدين، و أحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض، و الخضوع له خضوع العبودية، و العمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا و هو الملة الفطرية، و قد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله محسنا و اتبع الملة الحنيفية خليلا.

لكن لا ينبغي أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق و باطل التي يفتح لهم باب المجازفة و التحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك و محيط غير محاط بخلاف الموالي و الرؤساء و الملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم و رعاياهم شيئا إلا و يملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، و يقهرون البعض بالبعض، و يحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة أخرى و لذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم و بان ضعفهم.

و من هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله "و من أحسن دينا إلخ بقوله "و لله ما في السماوات و ما في الأرض و كان الله بكل شيء محيطا".

بحث روائي




في تفسير القمي،: أن سبب نزولها يعني قوله تعالى "إنا أنزلنا إليك الكتاب" الآيات أن قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، و بشر، و مبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان و كان قتادة بدريا و أخرجوا طعاما كان أعده لعياله و سيفا و درعا. فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمي، و أخذوا طعاما كان أعده لعياله و سيفا و درعا، و هم أهل بيت سوء، و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له: "لبيد بن سهل" فقال بنو أبيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه و خرج عليهم فقال: يا بني أبيرق أ ترمونني بالسرقة؟ و أنتم أولى به مني، و أنتم المنافقون تهجون رسول الله، و تنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك بريء من ذلك. فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: "أسيد بن عروة" و كان منطقيا بليغا فمشى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرق و اتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك، و جاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة، و عاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك، و رجع إلى عمه و قال له: يا ليتني مت و لم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته. فقال عمه: الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - إلى أن قال إذ يبيتون ما لا يرضى من القول" قال القمي يعني الفعل فوقع القول مقام الفعل "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا - إلى أن قال - و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا" قال القمي لبيد بن سهل "فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا".

و في تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قالوا: نكلمه في صاحبنا أو نعذره أن صاحبنا بريء فلما أنزل الله يستخفون من الله - إلى قوله - وكيلا" أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله و تب إليه من الذنوب. فقال: و الذي أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت "و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا - فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا". ثم إن بشرا كفر و لحق بمكة، و أنزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا و أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعذروه قوله "و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك إلى قوله و كان فضل الله عليك عظيما".



و في الدر المنثور: أخرج الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و صححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم "بنو أبيرق"، بشر، و بشير، و مبشر. و كان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا و كذا، قال فلان كذا و كذا، و إذا سمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الشعر قالوا: و الله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أ و كلما قال الرجال قصيدة. أضموا فقالوا ابن الأبيرق قالها. قال: و كانوا أهل بيت حاجة و فاقة في الجاهلية و الإسلام، و كان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر و الشعير، و كان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر و الشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، و في المشربة سلاح له: درعان، و سيفاهما، و ما يصلحهما. فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة، و أخذ الطعام و السلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا و سلاحنا؟. قال: فتجسسنا في الدار و سألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، و لا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: و قد كان بنو أبيرق قالوا و نحن نسأل في الدار: و الله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح و إسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق و قال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له!. قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، و أخذوا سلاحه و طعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له "أسير بن عروة" فكلموه في ذلك و اجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان و عمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام و صلاح يرميانهم بالسرقة من غير بينة و لا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام و صلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة و لا ثبت؟. قال قتادة: فرجعت و لوددت أني خرجت من بعض مالي، و لم أكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال، يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما - بني أبيرق و استغفر الله - أي مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما - و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم و من يكسب خطيئة أو إثما - إلى قوله فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا - قولهم للبيد و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - يعني أسير بن عروة و أصحابه إلى قوله فسوف نؤتيه أجرا عظيما" فلما نزل القرآن أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، و كان شيخا قد عسا في الجاهلية و كنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: "و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى - و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى إلى قوله ضلالا بعيدا" فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟ ما كنت تأتيني بخير.

أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخر.

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طرحه على يهودي: فقال اليهودي و الله ما سرقتها يا أبا القاسم، و لكن طرحت علي و كان الرجل الذي سرق جيران يبرءونه و يطرحونه على اليهودي و يقولون: يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله و بما جئت به حتى مال عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض القول. فعاتبه الله في ذلك فقال: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما - و استغفر الله - مما قلت لهذا اليهودي إن الله كان غفورا رحيما" ثم أقبل على جيرانه فقال: "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم إلى قوله وكيلا" ثم عرض التوبة فقال: "و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله غفورا رحيما - و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه" فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه "و من يكسب خطيئة أو إثما - ثم يرم به بريئا - و إن كان مشركا فقد احتمل بهتانا - إلى قوله و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له، و خرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله.

أقول: و هذا المعنى أيضا مروي بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها.



و في تفسير العياشي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد أذنب ذنبا فقام و توضأ و استغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لأنه يقول: "من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله غفورا رحيما". و قال: إن الله ليبتلي العبد و هو يحبه ليسمع تضرعه، و قال ما كان الله ليفتح باب الدعاء و يغلق باب الإجابة لأنه يقول: "ادعوني أستجب لكم" و ما كان ليفتح باب التوبة و يغلق باب المغفرة و هو يقول: "من يعمل سوءا أو يظلم نفسه - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما". و فيه، عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله "فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا" و في تفسير القمي،: في قوله تعالى "لا خير في كثير من نجواهم" الآية: قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله فرض التمحل في القرآن قلت: و ما التمحل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له، و هو قول الله "لا خير في كثير من نجواهم" و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال و كثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة - أو معروف أو إصلاح بين الناس" و قال: "و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" و قال: "لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". و في تفسير العياشي، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة - أو معروف أو إصلاح بين الناس" يعني بالمعروف القرض.

أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره بهذا الإسناد، و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، و على أي حال فهو من قبيل الجري و ذكر بعض المصاديق.

و في الدر المنثور: أخرج مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و البيهقي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله مرني بأمر أعتصم به في الإسلام قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا، و أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرف لسان نفسه.

أقول: و الأخبار في ذم كثرة الكلام و مدح الصمت و السكوت و ما يتعلق بذلك كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة و أهل السنة.

و فيه: أخرج أبو نصر السجزي في "الإبانة" عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله أنزل علي في القرآن يا أعرابي "لا خير في كثير من نجواهم إلى قوله فسوف نؤتيه أجرا عظيما" يا أعرابي الأجر العظيم الجنة. قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام و فيه،: في قوله تعالى "و من يشاقق الرسول" الآية: أخرج الترمذي و البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا و يد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار و فيه: أخرج الترمذي و البيهقي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يجمع الله أمتي أو قال هذه: الأمة على الضلالة أبدا و يد الله على الجماعة.

أقول: الرواية من المشهورات و قد رواها الهادي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته إلى أهل الأهواز على ما في ثالث البحار، و قد تقدم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق.



و في تفسير العياشي، عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان. فقال: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس و كرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون ليصلي بهم من شاء و ائتم قال: "فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - و نصله جهنم و ساءت مصيرا". و في الدر المنثور،: في قوله تعالى "و من أصدق من الله قيلا" الآية: أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر في حديث: خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك، و فيه فأصبح بتبوك فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، و أوثق العرى كلمة التقوى، و خير الملل ملة إبراهيم، و خير السنن سنة محمد، و أشرف الحديث ذكر الله، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور عوازمها، و شر الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف الموت قتل الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير العلم ما نفع، و خير الهدى ما اتبع، و شر العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى، و شر المعذرة حين يحضر الموت، و شر الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا و منهم من لا يذكر الله إلا هجرا، و أعظم الخطايا اللسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة الله عز و جل، و خير ما وقر في القلوب اليقين، و الارتياب من الكفر، و النياحة من عمل الجاهلية، و الغلول من جثا جهنم، و الكنز كي من النار، و الشعر من مزامير إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبالة الشيطان، و الشباب شعبة من الجنون، و شر المكاسب كسب الربا، و شر المأكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقي من شقي في بطن أمه، و إنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، و الأمر بآخره، و ملاك العمل خواتمه، و شر الروايا روايا الكذب، و كل ما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية الله، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من يتأل على الله يكذبه، و من يغفر يغفر له، و من يعف يعف الله عنه، و من يكظم الغيظ يأجره الله، و من يصبر على الرزية يعوضه الله، و من يبتغ السمعة يسمع الله به، و من يصبر يضعف الله له و من يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي و لأمتي قالها ثلاثا أستغفر الله لي و لكم. و في تفسير العياشي، عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) و عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله "و لآمرنهم فليغيرن خلق الله" قال: أمر الله بما أمر به. و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: "و لآمرنهم فليغيرن خلق الله" قال: دين الله.

أقول: و مآل الروايتين واحد، و هو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة.

و في المجمع،: في قوله "فليبتكن ءاذان الأنعام" قال: ليقطعوا الأذان من أصلها. قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى "ليس بأمانيكم" الآية: عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية "من يعمل سوءا يجز به" قال بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أ ما تبتلون في أموالكم و أنفسكم و ذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات و يمحو به السيئات.

أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة.

و في الدر المنثور: أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن و لا أذى و لا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه.

أقول: و هذا المعنى مستفيض عن النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و في العيون، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا، و لم يسأل أحدا قط غير الله عز و جل.

أقول: و هذا أصح الروايات في تسميته (عليه السلام) بالخيل لموافقته لمعنى اللفظ، و هو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، و هناك وجوه أخر مروية

4 سورة النساء - 127 - 134
وَ يَستَفْتُونَك فى النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكمْ فِيهِنّ وَ مَا يُتْلى عَلَيْكمْ فى الْكِتَبِ فى يَتَمَى النِّساءِ الّتى لا تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِب لَهُنّ وَ تَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَ الْمُستَضعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَنِ وَ أَن تَقُومُوا لِلْيَتَمَى بِالْقِسطِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيرٍ فَإِنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَ إِنِ امْرَأَةٌ خَافَت مِن بَعْلِهَا نُشوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن يُصلِحَا بَيْنهُمَا صلْحاً وَ الصلْحُ خَيرٌ وَ أُحْضرَتِ الأَنفُس الشحّ وَ إِن تُحْسِنُوا وَ تَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَ لَن تَستَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَينَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصتُمْ فَلا تَمِيلُوا كلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَ إِن تُصلِحُوا وَ تَتّقُوا فَإِنّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رّحِيماً (129) وَ إِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كلاّ مِّن سعَتِهِ وَ كانَ اللّهُ وَسِعاً حَكِيماً (130) وَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصيْنَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب مِن قَبْلِكمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اتّقُوا اللّهَ وَ إِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ غَنِياّ حَمِيداً (131) وَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ كَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشأْ يُذْهِبْكمْ أَيهَا النّاس وَ يَأْتِ بِئَاخَرِينَ وَ كانَ اللّهُ عَلى ذَلِك قَدِيراً (133) مّن كانَ يُرِيدُ ثَوَاب الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَاب الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ كانَ اللّهُ سمِيعَا بَصِيراً (134)

بيان


الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج و التحريم و الإرث و غير ذلك، الذي يفيده السياق أن هذه الآيات إنما نزلت بعد تلك الآيات، و أن الناس كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال و المعاشرات و غير ذلك.

فأمره الله سبحانه أن يجيبهم أن الذي قرره لهن على الرجال من الأحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الأمر شيء، و لا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء أيضا حكم إلهي ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه شيء من الأمر، و لا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط.

ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة و بعلها يعم به البلوى.

قوله تعالى. "و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" قال الراغب: الفتيا و الفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام، و يقال: استفتيته فأفتاني بكذا انتهى.

و المحصل من موارد استعماله أنه جواب الإنسان عن الأمور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى.

و الآية و إن احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله "و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء" إلخ إلا أن ضم الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الآية إنما نزلت بعد تلك.

و لازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الإسلام و أبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية و ليس إلا ما يتعلق بحقوق النساء في الإرث و الازدواج دون أحكام يتاماهن و غير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فإن هذا المعنى إنما يتكفله قوله "و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء" إلخ فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الإرث.

و على هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله "قل الله يفتيكم فيهن" ما بينه تعالى في آيات أول السورة، و يفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه و صرفه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله و قد أفتاكم فيهن بما أفتى فيما أنزل من آيات أول السورة.

قوله تعالى: "و ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء - إلى قوله - و المستضعفين من الولدان" تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء و المستضعفين من الولدان أنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه و إنهم إنما استفتوا في النساء فحسب.



و لازمه أن يكون قوله "و ما يتلى عليكم"، معطوفا على الضمير المجرور في قوله "فيهن" على ما جوزه الفراء و إن منع عنه جمهور النحاة، و على هذا يكون المراد من قوله "ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء" إلخ الأحكام و المعاني التي تتضمنها الآيات النازلة في يتامى النساء و الولدان، المودعة في أول السورة.

و التلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، و المعنى: قل الله يفتيكم في الأحكام التي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

و ربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله "و ما يتلى عليكم"، على موضع قوله "فيهن" بعناية أن المراد بالإفتاء هو التبيين، و المعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب.

و ربما ذكروا للكلام تراكيب أخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله "و ما يتلى عليكم" معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله "قل الله"، أو على ضمير المستكن في قوله "يفتيكم"، و قول بعضهم: إنه معطوف على "النساء" في قوله "في النساء"، و قول بعضهم: إن الواو في قوله "و ما يتلى عليكم في الكتاب" للاستيناف، و الجملة مستأنفة، و ما يتلى عليكم" مبتدأ خبره قوله "في الكتاب" و الكلام مسوق للتعظيم، و قول بعضهم إن الواو في قوله "و ما يتلى عليكم" للقسم و يكون قوله في يتامى النساء" بدلا من قوله "فيهن" و المعنى: قل الله يفتيكم - أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب - في يتامى النساء إلخ و لا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر.

و أما قوله "اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون أن تنكحوهن" فوصف ليتامى النساء، و فيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذي هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الأحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، و رفع الحرج بذلك عنهن، و ذلك أنهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن فإن كانت ذات جمال و حسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها و مالها، و إن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها و عضلوها عن التزوج بالغير طمعا في مالها.

و من هنا يظهر أولا.

أن المراد بقوله "ما كتب لهن" هو الكتابة التكوينية و هو التقدير الإلهي فإن الصنع و الإيجاد هو الذي يخد للإنسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، و أن يتصرف حرا في ماله من المال و القنية، فمنعه من الازدواج و التصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.

و ثانيا: أن الجار المحذوف في قوله "أن تنكحوهن" هو لفظة "عن" و المراد الراغبة عن نكاحهن، و الإعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله "لا تؤتونهن ما كتب لهن"، و قوله بعده "و المستضعفين من الولدان".

و أما قوله "و المستضعفين من الولدان" فمعطوف على قوله "يتامى النساء" و قد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، و يحرمونهم من الإرث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، و لا يدفعون عن الحريم.

قوله تعالى: "و أن تقوموا لليتامى بالقسط" معطوف على محل قوله "فيهن" و المعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، و هذا بمنزلة الإضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء و الولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله و غير ماله.



قوله تعالى: "و ما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما" تذكرة لهم بأن ما عزم الله عليهم في النساء و في اليتامى من الأحكام فيه خيرهم، و أن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لأن خيرهم فيه، و تحذيرا عن مخالفته لأن الله عليم بما يعملون.

قوله تعالى: "و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا"، حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية "و لن تستطيعوا أن تعدلوا".

و إنما اعتبر خوف النشوز و الإعراض دون نفس تحققهما لأن الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم و الآثار المعقبة للخوف، و السياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الأنس و الألفة و الموافقة، و التحفظ عن وقوع المفارقة، و الصلح خير.

و قوله، و أحضرت الأنفس الشح" الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، و تصونها عن الضيعة، فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بما لها من الحقوق في الزوجية كالكسوة و النفقة و الفراش و الوقاع، و الرجل يبخل بالموافقة و الميل إذا أحب المفارقة، و كره المعاشرة، و لا جناح عليهما حينئذ أن يصلحا ما بينهما بإغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.

ثم قال تعالى: "و إن تحسنوا و تتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" و هو موعظة للرجال أن لا يتعدوا طريق الإحسان و التقوى و ليتذكروا أن الله خبير بما يعملونه، و لا يحيفوا في المعاشرة، و لا يكرهوهن على إلغاء حقوقهن الحقة و إن كان لهن ذلك.

قوله تعالى: "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم" بيان الحكم العدل بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة "و إن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة": النساء: 3 و كذا يومىء إليه قوله في الآية السابقة "و إن تحسنوا و تتقوا" إلخ فإنه لا يخلو من شوب تهديد، و هو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهن، و العدل هو الوسط بين الإفراط و التفريط، و من الصعب المستصعب تشخيصه، و خاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبي مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما.

فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، و هو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للإنسان و لو حرص عليه، و إنما الذي يجب على الرجل أن لا يميل كل الميل إلى أحد الطرفين و خاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، و لا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها.

فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوي بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن من غير تطرف، و المندوب عليه أن يحسن إليهن و لا يظهر الكراهة لمعاشرتهن و لا يسيء إليهن خلقا، و كذا كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

و هذا الذيل أعني قوله "فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" هو الدليل على أن ليس المراد بقوله "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم" نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى "و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" الآية إلغاء تعدد الأزواج في الإسلام كما قيل.

و ذلك أن الذيل يدل على أن المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، و أن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج.



على أن السنة النبوية و رواج الأمر بمرأى و مسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و السيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم.

على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الأزواج "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع": النساء: 3 إلى مجرد الفرض العقلي الخالي عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه.

ثم قوله "و إن تصلحوا و تتقوا فإن الله كان غفورا رحيما" تأكيد و ترغيب للرجال في الإصلاح عند بروز أمارات الكراهة و الخلاف ببيان أنه من التقوى، و التقوى يستتبع المغفرة و الرحمة، و هذا بعد قوله "و الصلح خير"، و قوله "و إن تحسنوا و تتقوا"، تأكيد على تأكيد.

قوله تعالى: "و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته"، أي و إن تفرق الرجل و المرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، و الإغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف و الاستيناس و المس و كسوة الزوجة و نفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للآخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته.

و قوله "و كان الله واسعا حكيما و لله ما في السموات و ما في الأرض" تعليل للحكم المذكور في قوله "يغن الله كلا من سعته".

قوله تعالى: "و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله"، تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، و في كل حال، و أن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذي يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لأنعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار و المشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين.

و بهذا الذي بيناه يظهر معنى قوله "و إن تكفروا فإن لله ما في السموات و ما في الأرض"، أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم و الذين من قبلكم و أضعتم هذه الوصية و لم تتقوا و هو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم و إلى تقواكم، و له ما في السماوات و الأرض، و كان الله غنيا حميدا.

فإن قلت: ما وجه تكرار قوله "لله ما في السموات و ما في الأرض"؟ فقد أورد ثلاث مرات.

قلت: أما الأول فإنه تعليل لقوله "و كان الله واسعا حكيما"، و أما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله "و إن تكفروا"، و التقدير: و إن تكفروا فإنه غني عنكم، و تعليل للجواب و قد ظهر في قوله "و كان الله غنيا حميدا".

و أما الثالث فإنه استيناف و تعليل بوجه لقوله "إن يشأ".

قوله تعالى: "و لله ما في السموات و ما في الأرض و كفى بالله وكيلا" قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، و هو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده و شئونهم و كفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد و إسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم و أسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم و يأتي بآخرين، أو يؤخرهم و يقدم آخرين، و بهذا المعنى الذي يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية "إن يشأ يذهبكم أيها الناس.



قوله تعالى: "إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين، السياق و هو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذي أوصى الله به هذه الأمة و من قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن إظهار الاستغناء و عدم الحاجة المدلول عليه بقوله "إن يشأ"، إنما هو في أمر التقوى.

و المعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، و إن كفرتم فإنه غني عنكم و هو المالك لكل شيء المتصرف فيه كيفما شاء و لما شاء إن يشأ أن يعبد و يتقى و لم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم و يقدم آخرين يقومون لما يحبه و يرتضيه، و كان الله على ذلك قديرا.

و على هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس إن كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، و قد روي أن الآية لما نزلت ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على ظهر سلمان و قال: إنهم قوم هذا.

و هو يؤيد هذا المعنى، و عليك بالتدبر فيه.

و أما ما احتمله بعض المفسرين.

أن المعنى: إن يشأ يفنكم و يوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الإنس، فمعنى بعيد عن السياق.

نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى: "أ لم تر أن الله خلق السموات و الأرض بالحق إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك على الله بعزيز": إبراهيم: 20.

قوله تعالى: "من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا و الآخرة و كان الله سميعا بصيرا" بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله و يضيع وصيته بأنه إن فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا و مغنمها فقد اشتبه عليه الأمر فإن ثواب الدنيا و الآخرة معا عند الله و بيده، فما له يقصر نظره بأخس الأمرين و لا يطلب أشرفهما أو إياهما جميعا؟ كذا قيل.

و الأظهر أن يكون المراد - و الله أعلم - أن ثواب الدنيا و الآخرة و سعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا و سعادتها فإن السعادة لا توجد للإنسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذي شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى و إفاضته من عنده و كان الله سميعا بصيرا.

بحث روائي


في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال و يعمل فيه، لا يرث الصغير و لا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس و قالوا: أ يرث الصغير الذي لا يقوم في المال، و المرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله "و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن - و ما يتلى عليكم في الكتاب - في أول السورة في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن - و ترغبون أن تنكحوهن" الحديث.

و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، و حبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا.

أقول: و هذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و قد مر بعضها في أوائل السورة.



و في المجمع،: في قوله تعالى "لا تؤتونهن ما كتب لهن" الآية. ما كتب لهن من الميراث: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و في تفسير القمي،: في قوله تعالى "و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا"" الآية: نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، و كانت امرأة قد دخلت في السن، و تزوج عليها امرأة شابة و كانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له بنت محمد بن مسلمة: أ لا أراك معرضا عني مؤثرا علي؟ فقال رافع: هي امرأة شابة، و هي أعجب إلي فإن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا مني و لك يوم واحد فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها أخرى فقالت: لا و الله لا أرضى أو تسوي بيني و بينها يقول الله: "و أحضرت الأنفس الشح" و ابنة محمد لم تطلب نفسها بنصيبها، و شحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، و إما أن يطلقها الثالثة فشحت على زوجها و رضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: و لا جناح عليها أن يصلحا بينهما صلحا و الصلح خير" فلما رضيت و استقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت. "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" أن يأتي واحدة، و يذر الأخرى لا أيم و لا ذات بعل و هذه السنة فيما كان كذلك إذا أقرت المرأة و رضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج و لا على المرأة، و إن أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه إلا ذلك: أقول: و رواها في الدر المنثور، عن مالك و عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه باختصار. و في الدر المنثور: أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة و عند الأخرى ليالي و لا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما. و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل "و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا" فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إني أريد أن أطلقك. فتقول له: لا تفعل إني أكره أن تشمت بي و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، و دعني على حالتي فهو قوله تبارك و تعالى "فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا و هذا هو الصلح. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي، و في تفسير العياشي.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى "و أحضرت الأنفس الشح" قال: قال: أحضرت الشح فمنها ما اختارته، و منها ما لم تختره. و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم" قال: في المودة. و في الكافي، بإسناده عن نوح بن شعيب و محمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أ ليس الله حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع - فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" أ ليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: في غير وقت حج و لا عمرة، قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمني إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: و ما هي؟ قال: فأخبره بالقصة. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله عز و جل "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع - فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة"" يعني في النفقة، و أما قوله "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" يعني في المودة. قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال: و الله ما هذا من عندك أقول: و روي أيضا نظير الحديث عن القمي،: أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال هذا حملته من الحجاز. و في المجمع،: في قوله تعالى "فتذروها كالمعلقة" أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج و لا أيم: قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك. أقول: و رواه الجمهور بعدة طرق - و المراد بقوله "ما تملك و لا أملك" المحبة القلبية لكن الرواية لا تخلو عن شيء فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا و قد قال تعالى.

"لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها": الطلاق: 7. و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرف بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود.



و في الكافي، مسندا عن ابن أبي ليلى قال: حدثني عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فسأله عن حاله فقال: اشتدت بي الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: أثريت و حسن حالي فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز و جل: "و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم إلى قوله - و الله واسع عليم" و قال: "و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته".

4 سورة النساء - 135
* يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوّمِينَ بِالْقِسطِ شهَدَاءَ للّهِ وَ لَوْ عَلى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَلِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياّ أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَْوَى أَن تَعْدِلُوا وَ إِن تَلْوُا أَوْ تُعْرِضوا فَإِنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

بيان


قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" القسط هو العدل، و القيام بالقسط العمل به و التحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم قيام و أكمله، من غير انعطاف و عدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى و عاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك.

و هذه الصفة أقرب العوامل و أتم الأسباب لاتباع الحق و حفظه عن الضيعة، و من فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة و القيام بها.

و من هنا يظهر أن الابتداء بهذه الصفة في هذه الآية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه قيل.

كونوا شهداء لله، و لا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله.

و قوله "شهداء لله" اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى: "و أقيموا الشهادة لله": الطلاق: 2 و معنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق و لأجل إظهاره و إحيائه كما يوضحه قوله "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا". قوله تعالى.

"و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين" أي و لو كانت على خلاف نفع أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين و الأقربين أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين و الأقربين أن يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه و أقربيه سواء كان المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطة كما إذا تخاصم أبوه و إنسان آخر فشهد له على أبيه، أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان و كان الشاهد متحملا لأحدهما ما لو أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا - كالمتخاصم الآخر -.

قوله تعالى: "إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما" إرجاع ضمير التثنية إلى الغني و الفقير مع وجود "أو" الترديدية لكون المراد بالغني و الفقير هو المفروض المجهول الذي يتكرر بحسب وقوع الوقائع و تكررها فيكون غنيا في واقعة، و فقيرا في أخرى، فالترديد بحسب فرض البيان و ما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله أولى بالغني في غناه، و بالفقير في فقره: و المراد - و الله أعلم -: لا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحق إليه، و لا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثم خلوا بينه و بين الغني و الفقير فهو أولى بهما و أرحم بحالهما، و من رحمته أن جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، و القسط هو المندوب إلى إقامته، و في قيام القسط و ظهور الحق سعادة النوع التي يقوم بها صلب الغني، و يصلح بها حال الفقير.

و الواحد منهما و إن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق و يميت العدل، و في ذلك قوة الباطل و حياة الجور و الظلم، و في ذلك الداء العضال و هلاك الإنسانية.

قوله تعالى: "و لا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، أي مخافة أن تعدلوا عن الحق و القسط باتباع الهوى و ترك الشهادة لله فقوله "إن تعدلوا" مفعول لأجله و يمكن أن يكون مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لأن تعدلوا.

قوله تعالى: "و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" اللي بالشهادة كناية عن تحريفها من لي اللسان.

و الإعراض ترك الشهادة من رأس.

و قرىء "و إن تلوا" بضم اللام و إسكان الواو من ولي يلي ولاية، و المعنى: و إن وليتم أمر الشهادة و أتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.

بحث روائي


في تفسير القمي، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقا و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق، ثم قال: "فلا تتبعوا الهوى - أن تعدلوا و إن تلووا أو تعرضوا" يعني عن الحق.

أقول: و فيه تعميم معنى الشهادة لقول الحق مطلقا بمعرفة عموم قوله "كونوا قوامين بالقسط".
و في المجمع:، قيل: معناه إن تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)

4 سورة النساء - 136 - 147
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ الْكِتَبِ الّذِى نَزّلَ عَلى رَسولِهِ وَ الْكتَبِ الّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَ مَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلَئكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسلِهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضلّ ضلَلا بَعِيداً (136) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ءَامَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لهَُمْ وَ لا لِيهْدِيهُمْ سبِيلا (137) بَشرِ الْمُنَفِقِينَ بِأَنّ لهَُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزّةَ فَإِنّ الْعِزّةَ للّهِ جَمِيعاً (139) وَ قَدْ نَزّلَ عَلَيْكمْ فى الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سمِعْتُمْ ءَايَتِ اللّهِ يُكْفَرُ بهَا وَ يُستهْزَأُ بهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتى يخُوضوا فى حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنّكمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَفِقِينَ وَ الْكَفِرِينَ فى جَهَنّمَ جَمِيعاً (140) الّذِينَ يَتَرَبّصونَ بِكُمْ فَإِن كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُوا أَ لَمْ نَكُن مّعَكُمْ وَ إِن كانَ لِلْكَفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَ لَمْ نَستَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يحْكُمُ بَيْنَكمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَ لَن يجْعَلَ اللّهُ لِلْكَفِرِينَ عَلى المُْؤْمِنِينَ سبِيلاً (141) إِنّ الْمُنَافِقِينَ يخَدِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خَدِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلى الصلَوةِ قَامُوا كُسالى يُرَاءُونَ النّاس وَ لا يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً (142) مّذَبْذَبِينَ بَينَ ذَلِك لا إِلى هَؤُلاءِ وَ لا إِلى هَؤُلاءِ وَ مَن يُضلِلِ اللّهُ فَلَن تجِدَ لَهُ سبِيلاً (143) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتّخِذُوا الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَن تجْعَلُوا للّهِ عَلَيْكمْ سلْطناً مّبِيناً (144) إِنّ المُْنَفِقِينَ فى الدّرْكِ الأَسفَلِ مِنَ النّارِ وَ لَن تجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلا الّذِينَ تَابُوا وَ أَصلَحُوا وَ اعْتَصمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصوا دِينَهُمْ للّهِ فَأُولَئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سوْف يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكمْ إِن شكَرْتُمْ وَ ءَامَنتُمْ وَ كانَ اللّهُ شاكراً عَلِيماً (147)

بيان


قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله"، أمر المؤمنين بالإيمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الإيمان الثاني أعني قوله "بالله و رسوله و الكتاب" إلخ و أيضا بقرينة الإيعاد و التهديد على ترك الإيمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها ببعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي الموجبة لأن يخلق خلقا و يهديهم إلى ما يرشدهم و يسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، و لا يتم ذلك إلا بإرسال رسل مبشرين و منذرين، و إنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، و تبين لهم معارف المبدأ و المعاد، و أصول الشرائع و الأحكام.

فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم إلا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، و الرد لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو أظهر، و نفاق لو كتم و أخفى، و من النفاق أن يتخذ المؤمن مسيرا ينتهي به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين و يتقرب إلى مجتمع الكفار و يواليهم، و يصدقهم في بعض ما يرمون به الإيمان و أهله، أو يعترضوا أو يستهزءون به الحق و خاصته، و لذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين و وعيدهم بالعذاب الأليم.

و ما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية و هو أوجه مما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله "يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا"،: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم.

و كذا ما ذكره بعضهم أن معنى "ءامنوا" اثبتوا على إيمانكم، و كذا ما ذكره آخرون أن الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله و هو القرآن.

و هذه المعاني و إن كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، و أردأ الوجوه آخرها.

قوله تعالى: "و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا" لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله "يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا - إلى قوله - من قبل" دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أن أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد و المعنى: و من يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشيء من أجزاء الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا.

و ليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم واحد بمعنى أن الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض.

على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على وجه التفصيل.



قوله تعالى: "إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا" الآية لو أخذت وحدها منقطعة عما قبلها و ما بعدها كانت دالة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم - و حالهم هذا الحال - بأنه لا يغفر لهم، و لا يهديهم سبيلا، و ليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، و جعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، و من كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدي يقبل منه، و إن كانوا لو آمنوا إيمانا جديا شملتهم المغفرة و الهداية فإن التوبة بالإيمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، و قد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى "إنما التوبة على الله": الآية النساء: 17 في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع و العادة، و لا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان و استقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى: "كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين إلى أن قال إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم الضالون": آل عمران: 90.

و الآيات - كما ترى - تستثني ممن كفر بعد إيمانه، و قوبل بنفي المغفرة و الهداية، و هي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفرا بعد الإيمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان و الشهادة بحقية الرسول و ظهور الآيات البينات، فهو ردة عنادا و لجاجا، و الازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد و العتو في قلوبهم، و تمكن الطغيان و الاستكبار في نفوسهم، و لا يتحقق الرجوع و التوبة ممن هذا حاله عادة.

هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، و على هذا التقدير يكون قوله "إن الذين آمنوا ثم كفروا"، في مقام التعليل "لقوله و من يكفر بالله - إلى قوله - فقد ضل ضلالا بعيدا" و يكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، و يكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد "بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما" إلى آخر الآيات.

و على هذا يختلف المعنى المراد بقوله "إن الذين آمنوا ثم كفروا" إلى آخر الآيات بحسب ما فسر به قوله "يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله" و رسوله على ما تقدم من تفاسيره المختلفة: فإن فسر بأن آمنوا بالله و رسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين و إذا لقوا الكفار.

و إن فسر بأن اثبتوا على الإيمان الذي تلبستم به كان المراد من الإيمان ثم الكفر و هكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.

و إن فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله و رسوله كان المراد بالإيمان ثم الكفر و هكذا الإيمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الإيمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما جاء به من عند ربه، كما قيل.



و إن فسر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله "إن الذين ءامنوا ثم كفروا"، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم و الاستيناس بهم، و الشركة في محاوراتهم، و التصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، و ينسبونه إلى الدين و أوليائه من المطاعن و المساوىء و يستهزءون و يسخرون به.

فهو كلما لقي المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، و كلما لقي الكفار و أمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا و يكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر و الله أعلم.

و إذ كان مبتلى باختلاف الحال و عدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، إلا أن يتوب و يستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الأحوال، و لا تحركه عواصف الأهواء، و لذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالا للتغير و التحول فقال في الاستثناء الآتي: "إلا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله الآية.

قوله تعالى: "بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون" إلخ تهديد للمنافقين، و قد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، و هذا وصف أعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، و إنما يتظاهرون بالإيمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و الاتصال بهم باطنا و اتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

و هذا يؤيد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، و يؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة "و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم إلى قوله - إنكم إذا مثلهم" فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، و الخطاب فيه للمؤمنين، و يؤيده أيضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله "و لا يذكرون الله إلا قليلا" فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، و هو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.

قوله تعالى: "أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا" استفهام إنكاري ثم جواب بما يقرر الإنكار فإن العزة من فروع الملك، و الملك لله وحده، قال تعالى "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء": آل عمران: 26.

قوله تعالى: "و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم - إلى قوله - مثلهم" يريد ما نزله في سورة الأنعام: "و إذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره و إما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين: الأنعام: 68 فإن سورة الأنعام مكية، و سورة النساء مدنية.

و يستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، و المراد بها ما يعم الأمة.

و قوله "إنكم إذا مثلهم تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم - و الحال هذه - تكونون مثلهم، و قوله "إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم". قوله تعالى: "الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله"، التربص: الانتظار.



و الاستحواذ: الغلبة و التسلط، و هذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم إنما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين و الكافرين، يستدرون الطائفتين و يستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة و نحوها، و إن كان للكافرين نصيب قالوا: أ لم نغلبكم و نمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به و الاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.

قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، و للكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح و أن الله وليهم، و لعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.

قوله تعالى: "فالله يحكم بينكم يوم القيامة و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" الخطاب للمؤمنين و إن كان ساريا إلى المنافقين و الكافرين جميعا، و أما قوله "و لن يجعل الله"، فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، و لن ينعكس الأمر أبدا، و فيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.

و يمكن أن يكون نفي السبيل أعم من النشأتين: الدنيا و الآخرة، فإن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: "و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين": آل عمران: 139.

قوله تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم" المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

و قوله "و هو خادعهم" في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم و يئول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، و الاقتراب من المؤمنين، و الحضور في محاضرهم و مشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين فيستدروا منهم بظاهر إيمانهم و أعمالهم من غير حقيقة، و لا يدرون أن هذا الذي خلى بينهم و بين هذه الأعمال و لم يمنعهم منها هو الله سبحانه، و هو خدعة منه لهم و مجازاة لهم بسوء نياتهم و خباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.

قوله تعالى: "و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا" هذا وصف آخر من أوصافهم و هو القيام إلى الصلاة - إذا قاموا إليها - كسالى يراءون الناس، و الصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، و لو كانت قلوبهم متعلقه بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل و التواني في التوجه إليه و ذكره، و لم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، و لذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب و اشتغال البال.

قوله تعالى: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء"، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق انتهى.

فكون الشيء مذبذبا أن يتردد بين جانبين من غير تعلق بشيء منهما، و هذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الذي ذكر من الإيمان و الكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، و لا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا.

و قوله "و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا" في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما أن الله أضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.

و لهذه العلة بعينها قيل: "مذبذبين بين ذلك" و لم يقل: متذبذبين أي القهر الإلهي هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنة.

<<        الفهرس        >>