جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


بيان


تتضمن الآية الأولى حكم الطهارات الثلاث: الوضوء و غسل الجنابة و التيمم و الآية التالية كالمتممة أو المؤكدة لحكم الآية الأولى، و في بيان حكم الطهارات الثلاث آية أخرى تقدمت في سورة النساء، و هي قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون و لا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم و أيديكم إن الله كان عفوا غفورا": النساء: 43.

و هذه الآية أعني آية المائدة أوضح و أبين من آية النساء، و أشمل لجهات الحكم و لذلك أخرنا بيان آية النساء إلى هاهنا لسهولة التفهم عند المقايسة.

قوله تعالى.

"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" القيام إذا عدي بإلى ربما كني به عن إرادة الشيء المذكور للملازمة و القران بينهما، فإن إرادة الشيء لا تنفك عن الحركة إليه، و إذا فرض الإنسان مثلا قاعدا لأنه حال سكونه و لازم سباته عادة، و فرض الشيء المراد فعلا متعارفا يتحرك إليه عادة كان مما يحتاج في إتيانه إلى القيام غالبا، فأخذ الإنسان في ترك السكون و الانتصاب لإدراك العمل هو القيام إلى الفعل، و هو يلازم الإرادة.

و نظيره قوله تعالى: "و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة": النساء: 120 أي أردت أن تقيم لهم الصلاة.

و عكسه من وجه قوله تعالى: "و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و ءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا": النساء: 20 أي إذا طلقتم زوجا و تزوجتم بأخرى، فوضعت إرادة الفعل و طلبه مقام القيام به.

و بالجملة الآية تدل على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل و المسح أعني الوضوء و لو تم لها إطلاق لدل على اشتراط كل صلاة بوضوء مع الغض عن قوله: "و إن كنتم جنبا فاطهروا" لكن الآيات المشرعة قلما يتم لها الإطلاق من جميع الجهات.

على أنه يمكن أن يكون قوله الآتي: "و لكن يريد ليطهركم" مفسرا لهذا الاشتراط على ما سيجيء من الكلام.

هذا هو المقدار الذي يمكن أن يبحث عنه في تفسير الآية، و الزائد عليه مما أطنب فيه المفسرون بحث فقهي خارج عن صناعة التفسير.

قوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق" الغسل بفتح الغين إمرار الماء على الشيء، و يكون غالبا لغرض التنظيف و إزالة الوسخ و الدرن و الوجه ما يستقبلك من الشيء، و غلب في الجانب المقبل من رأس الإنسان مثلا، و هو الجانب الذي فيه العين و الأنف و الفم، و يعين بالظهور عند المشافهة، و قد فسر في الروايات المنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بما بين قصاص الشعر من الناصية و آخر الذقن طولا، و ما دارت عليه الإبهام و الوسطى و السبابة، و هناك تحديدات أخر ذكرها المفسرون و الفقهاء.

و الأيدي جمع يد و هي العضو الخاص الذي به القبض و البسط و البطش و غير ذلك، و هو ما بين المنكب و أطراف الأصابع، و إذ كانت العناية في الأعضاء بالمقاصد التي يقصدها الإنسان منها كالقبض و البسط في اليد مثلا، و كان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون المرفق إلى أطراف الأصابع سمي أيضا باليد، و لذلك بعينه ما سمي ما دون الزند إلى أطراف الأصابع فصار اللفظ بذلك مشتركا أو كالمشترك بين الكل و الأبعاض.

و هذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعينة إذا أريد به أحد المعاني، و لذلك قيد تعالى قوله: "و أيديكم" بقوله: "إلى المرافق" ليتعين أن المراد غسل اليد التي تنتهي إلى المرافق، ثم القرينة أفادت أن المراد به القطعة من العضو التي فيها الكف، و كذا فسرتها السنة.

و الذي يفيده الاستعمال في لفظة "إلى" أنها لانتهاء الفعل الذي لا يخلو من امتداد الحركة، و أما دخول مدخول "إلى" في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج عن معنى الحرف، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظة "إلى" بل إلى ما بينه السنة من الحكم.

و ربما ذكر بعضهم أن "إلى" في الآية بمعنى مع كقوله تعالى: "و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم": النساء: 2 و قد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يغسلهما إذا توضأ، و هو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله، فإن ما ورد من السنة في ذلك إما فعل و الفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصل بها معنى لفظ من الألفاظ حتى يعد ذلك أحد معاني اللفظ؟ و إما قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الآية، و من الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدمة العلمية أو مما زاده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان له ذلك كما فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة.

و أما قوله تعالى: "و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم" فهو من قبيل تضمين الأكل معنى الضم و نحوه مما يتعدى بإلى لا أن لفظة "إلى" هنالك بمعنى مع.

و قد تبين بما مر أن قوله "إلى المرافق" قيد لقوله "أيديكم" فيكون الغسل المتعلق بها مطلقا غير مقيد بالغاية يمكن أن يبدأ فيه من المرفق إلى أطراف الأصابع و هو الذي يأتي به الإنسان طبعا إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الأحوال أو يبدأ من أطراف الأصابع و يختم بالمرفق، لكن الأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تفتي بالنحو الأول دون الثاني.

و بذلك يندفع ما ربما يقال: إن تقييد الجملة بقوله "إلى المرافق" يدل على وجوب الشروع في الغسل من أطراف الأصابع و الانتهاء إلى المرافق.

وجه الاندفاع أن الإشكال مبني على كون قوله "إلى المرافق" قيدا لقوله "فاغسلوا" و قد تقدم أنه قيد للأيدي، و لا مناص منه لكونه مشتركا محتاجا إلى القرينة المعينة، و لا معنى لكونه قيدا لهما جميعا.

على أن الأمة أجمعت على صحة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق و انتهى إلى أطراف الأصابع كما في المجمع، و ليس إلا لأن الآية تحتمله: و ليس إلا لأن قوله "إلى المرافق" قيد للأيدي دون الغسل.

قوله تعالى: "و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين" المسح: إمرار اليد أو كل عضو لامس على الشيء بالمباشرة، يقال.

مسحت الشيء و مسحت بالشيء، فإذا عدي بنفسه أفاد الاستيعاب، و إذا عدي بالباء دل على المسح ببعضه من غير استيعاب و إحاطة.

فقوله: "و امسحوا برءوسكم" يدل على مسح بعض الرأس في الجملة، و أما أنه أي بعض من الرأس فمما هو خارج من مدلول الآية، و المتكفل لبيانه السنة، و قد صح أنه جانب الناصية من الرأس.

و أما قوله: "و أرجلكم" فقد قرىء بالجر، و هو لا محالة بالعطف على رءوسكم.

و ربما قال القائل: إن الجر للإتباع، كقوله: "و جعلنا من الماء كل شيء حي": الأنبياء: 30 و هو خطأ فإن الإتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى.

و أما قوله: "كل شيء حي" فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، و ليس من الإتباع في شيء.



على أن الإتباع - كما قيل - إنما ثبت في صورة اتصال التابع و المتبوع كما قيل في قولهم: جحر ضب خرب بجر الخرب، إتباعا لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين.

و قرأ: و أرجلكم - بالنصب و أنت إذا تلقيت الكلام مخلي الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن "أرجلكم" معطوف على موضع "رءوسكم" و هو النصب، و فهمت من الكلام وجوب غسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين، و لم يخطر ببالك أن ترد "أرجلكم" إلى "وجوهكم" في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: "فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق" بحكم آخر و هو قوله: "و امسحوا بوجوهكم"، فإن الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك، و كيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا: قبلت وجه زيد و رأسه و مسحت بكتفه و يده بنصب يد عطفا على "وجه زيد" مع انقطاع الكلام الأول، و صلاحية قوله "يده" لأن يعطف على محل المجرور المتصل به، و هو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم.

و على ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و أما الروايات من طرق أهل السنة فإنها و إن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية، و إنما تحكي عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فتوى بعض الصحابة، لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، و منها ما يوجب غسلهما.

و قد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، و لا كلام لنا معهم في هذا المقام لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه، خارج عن صناعة التفسير.

لكنهم مع ذلك حاولوا تطبيق الآية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهي بتوجيهات مختلفة ذكروها في المقام، و الآية لا تحتمل شيئا منها إلا مع ردها من أوج بلاغتها إلى مهبط الرداءة.

فربما قيل: إن "أرجلكم" عطف على "وجوهكم" كما تقدم هذا على قراءة النصب، و أما على قراءة الجر فتحمل على الإتباع، و قد عرفت أن شيئا منهما لا يحتمله الكلام البليغ الذي يطابق فيه الوضع الطبع.

و ربما قيل في توجيه قراءة الجر: إنه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا.

و فيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر.

و هذا المقدر في الآية إما "اغسلوا" و هو يتعدى بنفسه لا بحرف الجر، و إما غيره و هو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة و أيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، و إما بتضمين علفت معنى أعطيت و أشبعت و نحوهما.

و أيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير و نحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، و أما الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ يقطع بها.

و ربما قيل في توجيه الجر بناء على وجوب غسل الأرجل: أن العطف في محله غير أن المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، و يقوي ذلك أن التحديد و التوقيت أنما جاء في المغسول و هو الوجه، و لم يجىء في الممسوح فلما رفع التحديد في المسح و هو قوله: "و أرجلكم إلى الكعبين" علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد.

و هذا من أردإ الوجوه، فإن المسح غير الغسل و لا ملازمة بينهما أصلا.

على أن حمل مسح الأرجل على الغسل دون مسح الرءوس ترجيح بلا مرجح.

و ليت شعري ما ذا يمنعه أن يحمل كل ما ورد فيه المسح مطلقا في كتاب أو سنة على الغسل و بالعكس و ما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، و روايات المسح على الغسل فتعود الأدلة عن آخرها مجملات لا مبين لها؟.

و أما ما قواه به فهو من تحميل الدلالة على اللفظ بالقياس، و هو من أفسد القياسات.

و ربما قيل إن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم فإذا فعل ذلك بهما المتوضىء كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء، و مسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، فالنصب في قوله: "أرجلكم" بعناية أن الواجب هو غسلهما، و الجر بعناية أنه ماسح بالماء غسلا، انتهى ملخصا.

و ما أدري كيف يثبت بهذا الوجه أن المراد بمسح الرأس في الآية هو المسح من غير غسل، و بمسح الرجلين هو المسح بالغسل؟ و هذا الوجه هو الوجه السابق بعينه و يزيد عليه فسادا، و لذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك.

و يزيد عليه إشكالا أن قوله: إن الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء إلخ الذي قاس فيه الوضوء على التيمم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعني ما ثبت عنده بالروايات فأي دلالة له على دلالة الآية على ذلك؟ و ليست الروايات - كما عرفت - بصدد تفسير لفظ الكتاب، و إن أراد به قياس قوله: "و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين" في الوضوء على قوله: "فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه" في التيمم فهو ممنوع في المقيس و المقيس عليه جميعا فإن الله تعالى عبر في كليهما بالمسح المتعدي بالباء، و قد تقدم أن المسح المتعدي بالباء لا يدل في اللغة على استيعاب المسح الممسوح، و أن الذي يدل على ذلك هو المسح المتعدي بنفسه.

و هذه الوجوه و أمثالها مما وجهت بها الآية بحملها على خلاف ظاهرها حفظا للروايات فرارا من لزوم مخالفة الكتاب فيها، و لو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الآية بتأويل الآية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقق لمخالفة الكتاب مصداق.

فالأحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس و الشعبي و غيرهما على ما نقل عنهم: أنه نزل جبرئيل بالمسح و السنة الغسل، و معناه نسخ الكتاب بالسنة.

و ينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الأصولية: هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز، و البحث فيه من شأن الأصولي دون المفسر، و ليس قول المفسر بما هو مفسر: أن الخبر الكذائي مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذي هو شأن الفقيه.

و أما قوله تعالى: "إلى الكعبين" فالكعب هو العظم الناتىء في ظهر القدم.

و ربما قيل: إن الكعب هو العظم الناتىء في مفصل الساق و القدم، و هما كعبان في كل قدم في المفصل.

قوله تعالى: "و إن كنتم جنبا فاطهروا" الجنب في الأصل مصدر غلب عليه الاستعمال بمعنى اسم الفاعل، و لذلك يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و غيره، يقال: رجل جنب و امرأة جنب و رجلان أو امرأتان جنب، و رجال أو نساء جنب، و اختص الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة.



و الجملة أعني قوله: "و إن كنتم جنبا فاطهروا" معطوفة على قوله: "فاغسلوا وجوهكم" لأن الآية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير: و تطهروا إن كنتم جنبا، فيئول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء و تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم و أيديكم و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إن لم تكونوا جنبا و إن كنتم جنبا فاطهروا و يستفاد من ذلك أن تشريع الوضوء إنما هو في حال عدم الجنابة، و أما عند الجنابة فالغسل فحسب كما دلت عليه الأخبار.

و قد بين الحكم بعينه في آية النساء بقوله: "و لا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا" فهذه الآية تزيد على تلك الآية بيانا بتسمية الاغتسال تطهرا، و هذا غير الطهارة الحاصلة بالغسل، فإنها أثر مترتب، و هذا نفس الفعل الذي هو الاغتسال و قد سمي تطهرا كما يسمى غسل أوساخ البدن بالماء تنظفا.

و يستفاد من ذلك ما ورد في بعض الأخبار من قوله (عليه السلام): "ما جرى عليه الماء فقد طهر".

قوله تعالى: "و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا" شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتى يغسل أو يغتسل.

و الذي ذكر من الموارد و عد بالترديد ليس بعضها يقابل بعضا مقابلة حقيقية، فإن المرض و السفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثا مستدعيا للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنما يوجبانه إذا أحدث المكلف معهما حدثا صغيرا أو كبيرا، فالشقان الأخيران لا يقابلان الأولين بل كل من الأولين كالمنقسم إلى الأخيرين، و لذلك احتمل بعضهم أن يكون "أو" في قوله: "أو جاء أحد منكم"، بمعنى الواو كما سيجيء، على أن العذر لا ينحصر في المرض و السفر بل له مصاديق أخر.

لكن الله سبحانه ذكر المرض و السفر و هما مظنة عدم التمكن من الماء غالبا، و ذكر المجيء من الغائط و ملامسة النساء و فقدان الماء معهما اتفاقي، و من جهة أخرى - و هي عكس الجهة الأولى - عروض المرض و السفر للإنسان بالنظر إلى بنيته الطبيعية أمر اتفاقي بخلاف التردد إلى الغائط و ملامسة النساء فإنهما من حاجة الطبيعة: أحدهما يوجب الحدث الأصغر الذي يرتفع بالوضوء، و الآخر الحدث الأكبر الذي يرتفع بالغسل.

فهذه الموارد الأربع موارد يبتلى الإنسان ببعضها اتفاقا و ببعضها طبعا.

و هي تصاحب فقدان الماء غالبا كالمرض و السفر أو اتفاقا كالتخلي و المباشرة إذا انضم إليها عدم وجدان الماء فالحكم هو التيمم.

و على هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال.

كنى به عنه لأن الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان، و لازم ذلك أن يكون عدم الوجدان قيدا لجميع الأمور الأربعة المذكورة حتى المرض.

و قد تبين بما قدمناه أولا: أن المراد بالمرض في قوله: "كنتم مرضى" هو المرض الذي يتحرج معه الإنسان من استعمال الماء و يتضرر به على ما يعطيه التقييد بقوله: "فلم تجدوا ماء" و يفيده أيضا سياق الكلام في الآية.

و ثانيا: أن قوله: "أو على سفر" شق برأسه يبتلى به الإنسان اتفاقا و يغلب عليه فيه فقدان الماء، فليس بمقيد بقوله: "أو جاء أحد منكم" إلخ بل هو معطوف على قوله: "فاغسلوا" و التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم على سفر و لم تجدوا ماء فتيمموا، فحال هذا الفرض في إطلاقه و عدم تقيده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعني قوله: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" إلخ فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداء لم يحتج إليه ثانيا عند العطف.

و ثالثا: أن قوله: "أو جاء أحد منكم من الغائط" شق آخر مستقلا و ليس كما قيل: إن "أو" فيه بمعنى الواو كقوله تعالى: "و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون": الصافات: 174 لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك.

على أن "أو" في الآية المستشهد بها ليس إلا بمعناها الحقيقي، و إنما الترديد راجع إلى كون المقام مقاما يتردد فيه بالطبع لا لجهل في المتكلم كما يقال بمثله في الترجي و التمني الواقعين في القرآن كقوله: "لعلكم تتقون": البقرة: 21، و قوله: "لو كانوا يعلمون": البقرة: 120.

و حكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها، و التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة و كان جاء أحد منكم من الغائط و لم تجدوا ماء فتيمموا.

و ليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب إعادة التيمم أو الوضوء لمن لم تنتقض طهارته بالحدث الأصغر إن كان على طهارة بناء على مفهوم الشرط فيتأيد به من الروايات ما يدل على عدم وجوب التطهر لمن كان على طهارة.

و في قوله تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط" من الأدب البارع ما لا يخفى للمتدبر حيث كنى عن المراد بالمجيء من الغائط، و الغائط هو المكان المنخفض من الأرض و كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستروا به من الناس تأدبا، و استعمال الغائط في معناه المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أن لفظ العذرة كذلك، و الأصل في معناها عتبة الباب سميت بها لأنهم كانوا يخلون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهري في الصحاح،.

و لم يقل: أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه، و كذا لم يقل: أو جاء أحدكم من الغائط لما فيه من الإضافة التي فيها شوب التعيين بل بالغ في الإبهام فقال: "أو جاء أحد منكم من الغائط" رعاية لجانب الأدب.

و رابعا: أن قوله: "أو لامستم النساء" كسابقه شق من الشقوق المفروضة مستقل و حكمه في العطف و المعنى حكم سابقه، و هو كناية عن الجماع أدبا صونا للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به.

فإن قلت: لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبر به عنه سابقا بقوله: "و إن كنتم جنبا" أولى لكونه أبلغ في رعاية الأدب.

قلت: نعم لكنه كان يفوت نكتة مرعية في الكلام، و هي الدلالة على كون الأمر مما يقتضيه الطبيعة كما تقدم بيانه، و التعبير بالجنابة فاقد للإشعار بهذه النكتة.

و ظهر أيضا فساد ما نسب إلى بعضهم: أن المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع.

وجه فساده أن سياق الآية لا يلائمه، و إنما يلائم الكناية فإن الله سبحانه ابتدأ في كلامه ببيان حكم الحدث الأصغر بالوضوء و حكم الجنابة بالغسل في الحال العادي، و هو حال وجدان الماء، ثم انتقل الكلام إلى بيان الحكم في الحال غير العادي، و هو حال فقدان الماء فبين فيه حال بدل الوضوء و هو التيمم فكان الأحرى و الأنسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضا، و هو قرين الوضوء، و قد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه، و هو قوله: "أو لامستم النساء" على سبيل الكناية، فالمراد به ذلك لا محالة، و لا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء و هو أحد القرينين، و إهمال حكم بدل القرين الآخر و هو الغسل رأسا.

و خامسا: يظهر بما تقدم فساد ما أورد على الآية من الإشكالات: فمنها أن ذكر المرض و السفر مستدرك، فإنهما أنما يوجبان التيمم بانضمام أحد الشقين الأخيرين و هو الحدث و الملامسة، مع أنهما يوجبانه و لو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الأخيرين يغني عن ذكر الأولين.

و الجواب أن ذكر الشقين الأخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد الأولين بل كل من الأربعة شق مستقل مذكور لغرض خاص به يفوت بحذفه من الكلام على ما تقدم بيانه.



و منها: أن الشق الثاني و هو قوله: "أو على سفر" مستدرك و ذلك بمثل ما وجه به الإشكال السابق غير أن المرض لما كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم التمكن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللازم أن يقدر له ذلك في الكلام، و لا يغني عن ذكره ذكر الشقين الأخيرين مع عدم وجدان الماء، و نتيجة هذا الوجه كون السفر مستدركا فقط.

و الجواب أن عدم الوجدان في الآية كناية عن عدم التمكن من استعمال الماء أعم من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدم.

و منها: أن قوله: "فلم تجدوا ماء" يغني عن ذكر جميع الشقوق، و لو قيل مكان قوله: "و إن كنتم مرضى" إلخ: "و إن لم تجدوا ماء" لكان أوجز و أبين، و الجواب: أن فيه إضاعة لما تقدم من النكات.

و منها: أن لو قيل: و إن لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى، لشموله عذر المرض مضافا إلى عذر غيره.

و الجواب: أنه أفيد بالكناية، و هي أبلغ.

قوله تعالى: "فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه" التيمم هو القصد، و الصعيد هو وجه الأرض، و توصيفه بالطيب - و الطيب في الشيء كونه على حال يقتضيه طبعه - للإشارة إلى اشتراط كونه على حاله الأصلي كالتراب و الأحجار العادية دون ما خرج من الأرضية بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجص و النورة و الخزف و المواد المعدنية، قال تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا": الأعراف: 58 و من ذلك يستفاد الشروط التي أخذت السنة في الصعيد الذي يتيمم به.

و ربما يقال: إن المراد بالطيب الطهارة، فيدل على اشتراط الطهارة في الصعيد.

و قوله: "فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه" ينطبق ما ذكره في التيمم للمسح على ما ذكره في الوضوء للغسل، فالتيمم في الحقيقة وضوء أسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس و مسح الرجلين، و أبدلت فيه الغسلتان: غسلة الوجه و اليدين إلى المرفقين بالمسحتين، و أبدل الماء بالتراب تخفيفا.

و هذا يشعر بأن العضوين في التيمم هما العضوان في الوضوء، و لما عبر تعالى بالمسح المتعدي بالباء دل ذلك على أن المعتبر في التيمم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء أعني بعض الوجه، و بعض اليد إلى المرفق، و ينطبق على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين و الممسوح من اليد بما دون الزند منها.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الإبطين.

و ما ذكره آخرون أن المعتبر من اليد في التيمم عين ما اعتبر في الوضوء و هو ما دون المرفق، و ذلك أنه لا يلائم المسح المتعدي بالباء الدال على مرور الماسح ببعض الممسوح.

و "من" في قوله: "منه" كأنها ابتدائية و المراد أن يكون المسح بالوجه و اليدين مبتدأ من الصعيد، و قد بينته السنة بأنه بضرب اليدين على الصعيد و مسحهما بالوجه و اليدين.

و يظهر من بعضهم: أن "من" هاهنا تبعيضية فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب بقية من الصعيد كغبار و نحوه بمسح الوجه و اليدين و استنتج منه وجوب كون الصعيد المضروب عليه مشتملا على شيء من الغبار يمسح منه بالوجه و اليدين فلا يصح التيمم على حجر أملس لم يتعلق به غبار، و الظاهر ما قدمناه - و الله أعلم - و ما استنتجه من الحكم لا يختص بما احتمله.

قوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم" دخول "من" على مفعول "ما يريد" لتأكيد النفي، فلا حكم يراد به الحرج بين الأحكام الدينية أصلا، و لذلك علق النفي على إرادة الجعل دون نفس الحرج.

و الحرج حرجان: حرج يعرض ملاك الحكم و مصلحته المطلوبة، و يصدر الحكم حينئذ حرجيا بذاته لتبعية ملاكه كما لو حرم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة الزهد، فالحكم حرجي من رأس، و حرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتفاقية فيكون بعض أفراده حرجيا و يسقط الحكم حينئذ في تلك الأفراد الحرجية لا في غيرها مما لا حرج فيه، كمن يتحرج عن القيام في الصلاة لمرض يضره معه ذلك، و يسقط حينئذ وجوب القيام عنه لا عن غيره ممن يستطيعه.

و إضرابه تعالى بقوله: "و لكن يريد ليطهركم"، عن قوله: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" يدل على أن المراد بالآية نفي الحرج الذي في الملاك أي أن الأحكام التي يجعلها عليكم ليست بحرجية شرعت لغرض الحرج، و ذلك لأن معنى الكلام أن مرادنا بهذه الأحكام المجعولة تطهيركم و إتمام النعمة و هو الملاك، لا أن نشق عليكم و نحرجكم، و لذلك لما وجدنا الوضوء و الغسل حرجيين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء و الغسل إلى إيجاب التيمم الذي هو في وسعكم، و لم يبطل حكم الطهارة من رأس لإرادة تطهيركم و إتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون.

قوله تعالى: "و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون" لازم ما تقدم من معنى نفي إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله: "يريد ليطهركم" أن تشريع الوضوء و الغسل و التيمم إنما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسبابا لذلك، و هذه الطهارة أيا ما كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنوية حاصلة بأحد هذه الأعمال الثلاثة، و هي التي تشترط بها الصلاة في الحقيقة.

و من الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى كل صلاة إذا كان المصلي على طهارة غير منقوضة، و لا ينافي ذلك ظهور صدر الآية في الإطلاق لأن التشريع أعم مما يكون على سبيل الوجوب.

و أما قوله.

"و ليتم نعمته عليكم"، فقد مر معنى النعمة و إتمامها في الكلام على قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي": المائدة: 3 و معنى الشكر في الكلام على قوله تعالى: و سيجزي الله الشاكرين: آل عمران: 144 في الجزء الرابع من الكتاب.

فالمراد بالنعمة في الآية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف و الأحكام، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشئون، و هو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم، و إنما يتم ذلك باستيفاء التشريع جميع الأحكام الدينية التي منها حكم الطهارات الثلاث.

و من هنا يظهر أن بين الغايتين أعني قوله: "ليطهركم" و قوله: "ليتم نعمته" فرقا، و هو أن الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنه غاية لتشريع جميع الأحكام، و ليس للطهارات الثلاث منها إلا سهمها، فالغايتان خاصة و عامة.

و على هذا فالمعنى: و لكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصة لكم، و لأنها بعض الدين الذي يتم بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلكم تشكرون الله على نعمته فيخلصكم لنفسه، فافهم ذلك.



قوله تعالى: و اذكروا نعمة الله عليكم و ميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا و أطعنا، هذا هو الميثاق الذي كان مأخوذا منهم على الإسلام كما تشهد به تذكرته لهم بقوله: "إذ قلتم سمعنا و أطعنا" فإنه السمع المطلق، و الطاعة المطلقة، و هو الإسلام لله فالمعني بالنعمة في قوله: "و اذكروا نعمة الله عليكم" هو المواهب الجميلة التي وهبهم الله سبحانه إياها في شعاع الإسلام، و هو التفاضل الذي بين حالهم في جاهليتهم و حالهم في إسلامهم من الأمن و العافية و الثروة و صفاء القلوب و طهارة الأعمال كما قال تعالى: "و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها": آل عمران: 130.

أو أن الإسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة، فإنه أم النعم ترتضع منها كل نعمة كما تقدم بيانه، و غير مخفي عليك أن المراد بكون النعمة هي الإسلام بحقيقته أو الولاية أنما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللفظ، فإن المفهوم هو الذي يشخصه اللغة، و لا كلام لنا فيه.

ثم ذكرهم نفسه و أنه عالم بخفايا زوايا القلوب، فأمرهم بالتقوى بقوله: "و اتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور".

بحث روائی


في التهذيب، مسندا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة" قال: إذا قمتم من النوم قال الراوي: و هو ابن بكير قلت: ينقض النوم الوضوء فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع و لا يسمع الصوت.

أقول: و هذا المعنى مروي في غيره من الروايات، و رواه السيوطي في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم و النحاس: و هذا لا ينافي ما قدمنا أن المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها، لأن ما ذكرناه هو معنى القيام من حيث تعديه بإلى، و ما في الرواية معناه من حيث تعديه بمن.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): من أين علمت و قلت: إن المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك ثم قال؟ يا زرارة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و نزل به الكتاب من الله، لأن الله عز و جل يقول: "فاغسلوا وجوهكم" فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال: "و أيديكم إلى المرافق" فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغي لهما أن تغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: "و امسحوا برءوسكم" فعرفنا حين قال: "برءوسكم" أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: "و أرجلكم إلى الكعبين" فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس فضيعوه ثم قال: "فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا - فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه" فلما وضع الوضوء إن لم يجدوا ماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال: "بوجوهكم" ثم وصل بها "و أيديكم" ثم قال: "منه" أي من ذلك التيمم، لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف و لا يعلق ببعضها، ثم قال الله: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" و الحرج الضيق.

أقول: قوله: "ثم قال: فإن لم تجدوا ماء"، نقل الآية بالمعنى.

و فيه، بإسناده عن زرارة و بكير: أنهما سألا أبا جعفر (عليه السلام) عن وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على وجهه فغسل بها وجهه، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرافق إلى الكف لا يردها إلى المرافق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، و صنع بها ما صنع باليمنى، ثم مسح رأسه و قدميه ببلل كفه لا يحدث لهما ماء جديدا، ثم قال: و لا يدخل أصابعه تحت الشراك. ثم قال: إن الله عز و جل يقول: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم" فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلا غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلا غسله لأن الله يقول: "اغسلوا وجوهكم - و أيديكم إلى المرافق"، ثم قال: "و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين" فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه. قال: فقلنا: أين الكعبان؟ قال: هنا يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق، و الكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله و الغرفة الواحدة تجزي للوجه و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و اثنتان تأتيان على ذلك كله.

أقول: و الرواية من المشهورات، و رواها العياشي عن بكير و زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله، و في معناها و معنى الرواية السابقة روايات أخر.

في تفسير البرهان، العياشي عن زرارة بن أعين، و أبو حنيفة عن أبي بكر بن حزم قال: توضأ رجل فمسح على خفيه فدخل المسجد فصلى فجاء علي (عليه السلام) فوطأ على رقبته فقال: ويلك تصلي على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطاب قال: فأخذ بيده فانتهى به إليه، فقال: انظر ما يروي هذا عليك، و رفع صوته، فقال: نعم أنا أمرته أن رسول الله مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي و أنت لا تدري؟ سبق الكتاب الخفين.

أقول: و قد شاع على عهد عمر الخلاف في المسح على الخفين و قول علي (عليه السلام) بكونه منسوخا بآية المائدة على ما يظهر من الروايات، و لذلك روي عن بعضهم كالبراء و بلال و جرير بن عبد الله أنهم رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسح على الخفين بعد نزول المائدة و لا يخلو من شيء فكأنه ظن أن النسخ إنما ادعي بأمر غير مستند إلى الآية، و ليس كذلك فإن الآية إنما تثبت المسح على القدمين إلى الكعبين و ليس الخف بقدم البتة، و هذا معنى الرواية التالية.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن أحمد الخراساني رفع الحديث قال: أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل فسأله عن المسح على الخفين فأطرق في الأرض مليا ثم رفع رأسه فقال: إن الله تبارك و تعالى أمر عباده بالطهارة، و قسمها على الجوارح فجعل للوجه منه نصيبا، و جعل للرأس منه نصيبا، و جعل للرجلين منه نصيبا، و جعل لليدين منه نصيبا فإن كانتا خفاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما و فيه، أيضا عن الحسن بن زيد عن جعفر بن محمد: أن عليا خالف القوم في المسح على الخفين على عهد عمر بن الخطاب قالوا: رأينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح على الخفين قال: فقال علي (عليه السلام): قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: و لكني أدري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك المسح على الخفين حين نزلت المائدة، و لأن أمسح على ظهر حمار أحب إلي من أن أمسح على الخفين، و تلا هذه الآية: "يا أيها الذين ءامنوا - إلى قوله المرافق و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين". و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و النحاس في ناسخه عن علي: أنه كان يتوضأ عند كل صلاة و يقرأ: "يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية.

أقول: و قد تقدم توضيحها.



و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "أو لامستم النساء" قال: هو الجماع و لكن الله ستير يحب الستر فلم يسم كما تسمون. و في تفسير العياشي، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التيمم فقال: إن عمار بن ياسر أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أجنبت و ليس معي ماء، فقال: كيف صنعت يا عمار؟ قال: نزعت ثيابي ثم تمعكت على الصعيد فقال: هكذا يصنع الحمار إنما قال الله: "فامسحوا بوجوهكم و أيديكم منه" ثم وضع يديه جميعا على الصعيد ثم مسحهما ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، ثم دلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكف، بدأ باليمين. و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: فرض الله الغسل على الوجه و الذراعين و المسح على الرأس و القدمين فلما جاء حال السفر و المرض و الضرورة وضع الله الغسل و أثبت الغسل مسحا فقال: "و إن كنتم مرضى أو على سفر - أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - إلى قوله و أيديكم منه". و فيه، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: فقال (عليه السلام): يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله تبارك و تعالى: "ما جعل عليكم في الدين من حرج" أقول: إشارة إلى آية سورة الحج النافية للحرج، و في عدوله عن ذيل آية الوضوء إلى ما في آخر سورة الحج دلالة على ما قدمناه من معنى نفي الحرج.

و فيما نقلناه من الأخبار نكات جمة تتبين بما قدمناه في بيان الآيات فليتلق بمنزلة الشرح للروايات.

5 سورة المائدة - 8 - 14

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوّمِينَ للّهِ شهَدَاءَ بِالْقِسطِ وَ لا يَجْرِمَنّكمْ شنَئَانُ قَوْمٍ عَلى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب لِلتّقْوَى وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُم مّغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب الجَْحِيمِ (10) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَت اللّهِ عَلَيْكمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَن يَبْسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَف أَيْدِيَهُمْ عَنكمْ وَ اتّقُوا اللّهَ وَ عَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَقَ بَنى إِسرءِيلَ وَ بَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنىْ عَشرَ نَقِيباً وَ قَالَ اللّهُ إِنى مَعَكمْ لَئنْ أَقَمْتُمُ الصلَوةَ وَ ءَاتَيْتُمُ الزّكوةَ وَ ءَامَنتُم بِرُسلى وَ عَزّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسناً لأُكفِّرَنّ عَنكُمْ سيِّئَاتِكُمْ وَ لأُدْخِلَنّكمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ فَمَن كفَرَ بَعْدَ ذَلِك مِنكمْ فَقَدْ ضلّ سوَاءَ السبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعَنّهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَةً يحَرِّفُونَ الْكلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَ نَسوا حَظّا مِّمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزَالُ تَطلِعُ عَلى خَائنَةٍ مِّنهُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنهُمْ فَاعْف عَنهُمْ وَ اصفَحْ إِنّ اللّهَ يحِب الْمُحْسِنِينَ (13) وَ مِنَ الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصرَى أَخَذْنَا مِيثَقَهُمْ فَنَسوا حَظّا مِّمّا ذُكرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَ سوْف يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كانُوا يَصنَعُونَ (14)

بيان


اتصال الآيات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من كليات أمورهم في آخرتهم و دنياهم منفردين و مجتمعين.

قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" الآية نظيره الآية التي في سورة النساء "يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا": النساء: 153.

و إنما الفرق بين الآيتين أن آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة و نحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، و هذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن و بغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه و دحض لحقه.

و هذا الاختلاف في غرض البيان هو الذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال في آية النساء: "كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" و في آية المائدة: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط.

و ذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة و أن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لأحد بغير الحق لسابق حب و هوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة و انحرافا عن العدل و إن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم و حيف، و لذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، و فرعه على الأمر بالقيام لله، و أمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، و فرعه على الأمر بالقيام بالقسط.

و لذلك أيضا فرع في آية المائدة على الأمر بالشهادة بالقسط قوله: "اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله" فدعا إلى العدل، و عده ذريعة إلى حصول التقوى، و عكس الأمر في آية النساء ففرع على الأمر بالشهادة لله قوله: "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا" فنهى عن اتباع الهوى و ترك التقوى، و عده وسيلة سيئة إلى ترك العدل.

ثم حذر في الآيتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: "و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" أي إن لم تتقوا، و قال في آية المائدة: "و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" و أما معنى القوامين لله شهداء بالقسط إلخ فقد ظهر في الكلام على الآيات السابقة.

قوله تعالى: "اعدلوا هو أقرب للتقوى"، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: "اعدلوا" و المعنى ظاهر.



قوله تعالى: "وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم" الجملة الثانية أعني قوله: "لهم مغفرة"، إنشاء للوعد الذي أخبر عنه بقوله: "وعد الله"، و هذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: "وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما": الفتح: 29 لا لما قيل: إنه لكونه خبرا، بعد خبر فإن ذلك خطأ، بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا كآية سورة الفتح.

قوله تعالى: "و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم" قال الراغب: الجحمة شدة تأجج النار و منه الجحيم، و الآية تشتمل على نفس الوعيد، و تقابل قوله تعالى في الآية السابقة: "لهم مغفرة و أجر عظيم".

و تقييد الكفر بتكذيب الآيات للاحتراز عن الكفر الذي لا يقارن تكذيب الآيات الدالة، و لا ينتهي إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن أمره إلى الله إن يشأ يغفره و إن يشأ يعذب عليه فهاتان الآيتان وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات، و إيعاد شديد للذين كفروا و كذبوا بآيات الله، و بين المرحلتين مراحل متوسطة و منازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها و عقباها.

قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا" إلخ هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار و المسلمين كغزوات بدر و أحد و الأحزاب و غير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون من قتل المؤمنين و إمحاء أثر الإسلام و دين التوحيد.

و ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - و سيجيء قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى.

قوله تعالى: "و اتقوا الله و على الله فليتوكل المؤمنون" أمر بالتقوى و التوكل على الله، و المراد بالحقيقة النهي و التحذير الشديد عن ترك التقوى و ترك التوكل على الله سبحانه، و الدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة أخذ الميثاق من بني إسرائيل و من الذين قالوا إنا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الإلهي و ابتلاء الله إياهم باللعن و تقسية القلوب، و نسيان حظ من دينهم، و إغراء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة.

و لم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، و يجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها و ينتبهوا بأن اليهود و النصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه و لم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله، واثقوه بالسمع و الطاعة، و كان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم و أن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، و يتركون ما يكرهه لهم، و طريقه طاعة رسلهم بالإيمان بهم، و ترك متابعة غير الله و رسله، ممن يدعو إلى نفسه و الخضوع لأمره من الجبابرة و الطغاة و غيرهم حتى الأحبار و الرهبان فلا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.

لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فأبعدوا من رحمة الله و حرفوا الكلم عن مواضعه و فسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين و لم يكن إلا حظا و سهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير و سعادة و أفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين فإن الدين مجموع من معارف و أحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الأركان و الأصول و ذلك كمن يصلي لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحق.



فلا ما بقي في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، و لا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، و لا غنى عن الدين و لا سيما أصوله و أركانه.

فمن هنا يعلم أن المقام يقتضي أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى و ترك التوكل على الله بذكر هذه القصة و دعوتهم إلى الاعتبار بها.

و من هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الأمور التشريعية و التكوينية جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله و رسوله في أحكامه الدينية و ما أتاهم به و بينه لهم رسوله و يكلوا أمر الدين و القوانين الإلهية إلى ربهم، و يكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، و التصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الأسباب و المسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد بها و إعطاء استقلال و ربوبية لها، و ينتظروا ما يريده الله و يختاره لهم من النتائج بتدبيره و مشيئته.

قوله تعالى: "و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا" الآية قال الراغب: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب.

قال: و النقيب الباحث عن القوم و عن أحوالهم، و جمعه نقباء.

و الله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الأمة ما جرى على بني إسرائيل من إحكام دينهم و تثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، و بعث النقباء، و إبلاغ البيان، و إتمام الحجة ثم ما قابلوه به من نقض الميثاق، و ما قابلهم به الله سبحانه من اللعن و تقسية القلوب إلخ.

فقال: "و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" و هو الذي يذكره كثيرا في سورة البقرة و غيرها: "و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا" و الظاهر أنهم رؤساء الأسباط الاثني عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولون أمورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولي الأمر إلى الأفراد في هذه الأمة لهم المرجعية في أمور الدين و الدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، و لا يشرعون شريعة و إنما ذلك إلى الله و رسوله "و قال الله إني معكم" إيذان بالحفظ و المراقبة فيتفرع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه و يخذلهم إن عصوه و لذلك ذكر الأمرين جميعا فقال: "لئن أقمتم الصلاة و ءاتيتم الزكاة و ءامنتم برسلي و عزرتموهم" و التعزير هو النصرة مع التعظيم، و المراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته و دعوته كعيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر من بعثه الله بين موسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) "و أقرضتم الله قرضا حسنا" و هو الإنفاق المندوب دون الزكاة الواجبة "لأكفرن عنكم سيئاتكم و لأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد.



ثم قال: "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل". قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية"، ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، و هو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الآية من أنواع النقم التي نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن و تقسية القلوب مما تستقيم فيه النسبة، و بعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذي يعني بقوله: "و لا تزال تطلع على خائنة منهم" فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التي على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذي ضلوه هو سبيل السعادة التي بها عمارة دنياهم و أخراهم.

فقوله: "فبما نقضهم ميثاقهم" الظاهر أنه هو الكفر الذي توعد الله عليه في الآية السابقة، و لفظة "ما" في قوله: "فبما" للتأكيد، و يفيد الإبهام لغرض التعظيم أو التحقير أو غيرهما، و المعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم "لعناهم" و اللعن هو الإبعاد من الرحمة "و جعلنا قلوبهم قاسية" و قسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة و هي صلابتها و القسي من القلوب ما لا يخشع لحق و لا يتأثر برحمة، قال تعالى: "أ لم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم و كثير منهم فاسقون": الحديد: 16.

و بالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا "يحرفون الكلم عن مواضعه" بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه و بإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، و أفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين "و نسوا حظا مما ذكروا به" و لم يكن إلا حظا من الأصول التي تدور على مدارها السعادة، و لا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، و خاتمية نبوة موسى، و دوام شريعة التوراة، و بطلان النسخ و البداء إلى غير ذلك.

"و لا تزال تطلع على خائنة منهم" أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم "إلا قليلا منهم فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين" و قد تقدم مرارا أن استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن و العذاب للجماعة التي هي الشعب و الأمة.

قوله تعالى: "و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا"، قال الراغب: غري بكذا أي لهج به و لصق، و أصل ذلك من الغراء و هو ما يلصق به، و أغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.

و قد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح و السلم، و يندبهم إلى الإشراف على الآخرة، و الإعراض عن ملاذ الدنيا و زخارفها، و ينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم و الصلح حربا، و بدل المؤاخاة و الموادة التي ندبوا إليها معاداة و مباغضة كما يقول: "فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة".

و هذه العداوة و البغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الأمم المسيحية و كالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.

و لم يزل منذ رفع عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و اختلف حواريوه و الدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، و لم يزل ينمو و يكثر حتى تبدل إلى الحروب و المقاتلات و الغارات و أنواع الشرد و الطرد و غير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى تهدد الأرض بالخراب و الإنسانية بالفناء و الانقراض.

كل ذلك من تبدل النعمة نقمة و إنتاج السعي ضلالا "و سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.

5 سورة المائدة - 15 - 19

يَأَهْلَ الْكتَبِ قَدْ جَاءَكمْ رَسولُنَا يُبَينُ لَكُمْ كثِيراً مِّمّا كنتُمْ تخْفُونَ مِنَ الْكتَبِ وَ يَعْفُوا عَن كثِيرٍ قَدْ جَاءَكم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَ كتَبٌ مّبِينٌ (15) يَهْدِى بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضوَنَهُ سبُلَ السلَمِ وَ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلُمَتِ إِلى النّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صرَطٍ مّستَقِيمٍ (16) لّقَدْ كفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِك مِنَ اللّهِ شيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِك الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمّهُ وَ مَن فى الأَرْضِ جَمِيعاً وَ للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قَالَتِ الْيَهُودُ وَ النّصرَى نحْنُ أَبْنَؤُا اللّهِ وَ أَحِبّؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشرٌ مِّمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَ يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَأَهْلَ الْكِتَبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسولُنَا يُبَينُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِّنَ الرّسلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (19)

بيان


لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله و تعزيرهم و على حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الذي أرسله و كتابه الذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم و إقامة البينة على صدق الرسالة و حقية الكتاب، و إتمام الحجة عليهم في ذلك: أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا" إلخ، و قوله: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة" إلخ.

و أما إقامة البينة فما في قوله: "يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون" إلخ فإن ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء من علمائهم، و كذا قوله: "يهدي به الله من اتبع رضوانه" إلخ فإن المطالب الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة و حقية الكتاب.

و أما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: "أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير".

و قد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض: "إن الله هو المسيح بن مريم" و قول اليهود و النصارى.

"نحن أبناء الله و أحباؤه". قوله تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفوا عن كثير" أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة و بشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل": الآية الأعراف: 175 و قوله تعالى: "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" الآية: البقرة: 164 و قوله: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل" الآية : الفتح: 29 و كبيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" الآيات: المائدة: 41 و هذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.

و أما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، و يشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد و النبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم و الحلول في المكان و نحو ذلك، و ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر و الفجور و الزلات، و كفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس و لا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، و كاشتمال ما عندهم من الأناجيل و لا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.



قوله تعالى: "قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين" ظاهر قوله: "قد جاءكم من الله" كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين و المتكلم و هذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، و على هذا فيكون قوله: "و كتاب مبين" معطوفا عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعا القرآن، و قد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: "و اتبعوا النور الذي أنزل معه": الأعراف: 175 و قوله: "فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا": التغابن: 8 و قوله: "و أنزلنا إليكم نورا مبينا": النساء: 147.

و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية، و قد عده الله تعالى نورا في قوله: "و سراجا منيرا": الأحزاب: 46.

قوله تعالى: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" الباء في قوله: "به" للآلة و الضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، و كذا القرآن و حقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء": القصص: 56، و قال: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى: 53 و الآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن و إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة و غيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.

و قد قيد تعالى قوله: "يهدي به الله" بقوله: "من اتبع رضوانه" و يئول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب، و هو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.

و قد أطلق تعالى السلام فهو السلامة و التخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله و الإيمان و التقوى بالفلاح و الفوز و الأمن و نحو ذلك، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم": الحمد: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين": العنكبوت: 69، و قال تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله": الأنعام:. 135 فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها و يبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.

فمعنى الآية - و الله العالم -: يهدي الله سبحانه و يورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا و الآخرة، و كل ما تتكدر به العيشة السعيدة.



فأمر الهداية إلى السلام و السعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، و قد قال تعالى: "و لا يرضى لعباده الكفر": الزمر: 7، و قال: "فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين": التوبة: 96 و يتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى الله سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: "و الله لا يهدي القوم الظالمين": الجمعة: 5 فالآية أعني قوله: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" تجري بوجه مجرى قوله: "و الذين ءامنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82.

قوله تعالى: "و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه" في جمع الظلمات و إفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه و لا تفرق و إن تعددت بحسب المقامات و المواقف بخلاف طريق الباطل.

و الإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه كما قال تعالى: "كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم": إبراهيم: 1 فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه و قال: "و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور": إبراهيم: 5 فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.

و إذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه و قد جاء الإذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، و من هذا الباب قوله تعالى: "و أذان من الله و رسوله": التوبة: 3: "فقل ءاذنتكم على سواء": الأنبياء: 190، و قوله: "و أذن في الناس بالحج": الحج: 27 إلى غيرها من الآيات.

و أما قوله تعالى: "و يهديهم إلى صراط مستقيم، فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله: "و يخرجهم"، بين قوله "يهدي به الله"، و بين هذه الجملة، و لأن الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.

و لا ينافي تنكير قوله: "صراط مستقيم" كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لأن قرينة المقام تدل على ذلك، و إنما التنكير لتعظيم شأنه و تفخيم أمره.

قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم" هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، و هي القائلة باتحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله و بشر بعينه، و يمكن تطبيق الجملة أعني قولهم: "إن الله هو المسيح بن مريم" على القول بالبنوة و على القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالإتحاد.

قوله تعالى: "قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم" و أمه و من في الأرض جميعا" الآية هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض، و هم جميعا كسائر أجزاء السماوات و الأرض و ما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه و سلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، و أن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه و من في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، و كيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة.
<<        الفهرس        >>